«أراك تقسو على ابنك في تأديبه يا شيخ حسن، مع أن الرفق لمن هو في سنه أفعل في تهذيبه.» قال هذه العبارة الأمير نعيم لوكيل أملاكه في ق. الشيخ حسن النعمان، إذ كان ذات يوم عنده يتفقد أملاكه، وقد لاحظه مرارا يكلم الغلام يوسف إذ يأمره أن يلبي أمرا. - إنه بليد يا مولاي ... - بل أراه رخصا ضعيفا لا يحتمل ما تحمله، ولا يقدر على ما تكلفه، فخليق بك أن تطلق له العنان في ميدان اللعب، لا أن تقيد حريته بقيد الواجبات؛ لأنه حديث السن جدا. كم عمره؟ - أظن خمسة أعوام. - تظن؟! عجيب، ألا تعلم كم عمر ابنك؟
قال هذا الكلام ضاحكا، أما الشيخ حسن فامتقع وجهه حياء من هذا التأنيب اللطيف، وتردد في الجواب. - ليس هذا ابني يا مولاي؛ ولذلك أجهل ميلاده. - ابن من هو إذن؟ - لا أدري، وإنما المرحومة عائشة القابلة - الداية - دفعته إلي منذ 4 أعوام، إذ كان طفلا يدرج على الأرض، وقالت: «ألك أن تربي هذا اللقيط لعل خيرا منه يرجى؟» فقلت: «أنى لك هذا؟» فامتعضت وأبت أن تجيب لو استطاعت ولكنها لم تر بدا من الجواب، فقالت: «لا أعلم أبويه، فما هو إلا لقيط، أما فهمت؟!» قلت: «فهمت، ولكن لا بد أنك تعلمين أمه على الأقل.» فاقتضبت اعتراضي قائلة: «حسبك ما فهمت، فلا تسل عن أمه إن كنت تشاء أن تربيه.» ففهمت من فحوى كلامها أنه ابن بغاء، فقلت لها: «أربيه، فلا بد أن ينفع ولو خادما.»
وكان الأمير نعيم يسمع حكاية هذا الغلام وهو ينظر إليه مبهوتا، فقال: ولكن إذا لم يكن ابنك أفتقسو عليه إلى هذا الحد؟! إن مثل هذا الوجه النضير، والمحيا المشرق، والمبسم المنير، والجسم الرخص، والعينين الذليلتين، كل ذلك خليق بأبناء الملوك، فحرام أن يسام هذا الهوان في هذه العزبة. - لا بد أن يكون يا مولاي ابنا لبعض الفساق الأوروبيين، الذين يفترشون رمل الحدائق المصرية لبغيهم في إبان قصفهم؛ لأن هذه الملامح ليست ملامح المصريين. - ليكن ابن أي كان، فلا أراه الغلام مخلوقا لحياة على هذا الأسلوب. - ماذا أفعل له يا مولاي سوى أن أعده للفلاحة والزراعة؟
ففكر الأمير نعيم هنيهة وهو جالس على كرسي في حديقة المنزل ينكت الأرض بعصاه. - لماذا لا ترسله إلى مدرسة؟ - مولاي، عندي أولادي وأنا عاجز عن تعليمهم، فهل أبذل نفسي لأعلم ابنا لا صلة لي به؟ وما الفائدة من تعليم هذا الصبي؟! - ألا ترى في مقلتيه بريق الذكاء، وفي صدغيه المنتفخين دليل العقل؟! إنه لم يخلق للمحراث، فهل تسمح لي به؟ - أنا وأولادي وكل من يلوذ بي عبيدكم يا مولاي الأمير. - ما اسمه؟ - يوسف. - ألبسه أحسن ملابسه إذن.
فتحير حسن ماذا يفعل أو ماذا يقول، فلاحظ الأمير حيرته. - أندمت على إعطائي الصبي؟ - كلا يا مولاي. - إذن لماذا تتردد في إلباسه أنظف ملابسه لكي آخذه؟ - عفوا مولاي، إن ما يلبسه الآن هو كل ملابسه.
وكان ذلك الصبي يوسف يلبس رداء لا يعرف له اسم بين أنواع الأردية، فلا هو «جلابية» يعرف، ولا وشاح يسمى، وكان خليقا مرقعا لم يبين له لون تحت أوساخه، فنهض إليه الأمير نعيم وأمسك بيده غير مستنكف، وقال: أتذهب معي يا يوسف؟
فنظر إليه الغلام نظرة استغراب وأمل، كأن لسان حاله يقول: «أنى لي أن أنتقل من الجحيم إلى النعيم؟!» ولكنه لم يفه ببنت شفة. - هيا معي هيا. وجذبه، فامتنع الصبي، فلاطفه فمشى معه بضع خطوات، ثم التفت الأمير إلى أحد الفلاحين حوله، وقال: خذ هذا الصبي الآن إلى مصر، وها إني أذودك برقعة بشأنه.
الفصل الثاني
حب بلا قلب
في ذلك الحين كان الأمير عاصم مختليا بأخته الأميرة بهجت هانم في قصره يتفاوضان بكل اهتمام. - لقد ضاق ذرعي يا عاصم في ملاطفته، وقلت، بل نفدت كل حيلي في استمالته فلم أفلح، وها الآن قد مر علي خمس سنين صابرة على إعراضه، مجالدة في هواه حتى كدت أموت من فتوره، وقد قرأ كل حرف من آيات غرامي، ولم يخف عليه شيء من شجوني، يرى مني كل ذلك ويعاملني معاملة الأخت لا معاملة الحبيبة، فما العمل؟
অজানা পৃষ্ঠা