بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم صلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا
كتب إِلَى الشَّيْخ الْفَقِيه الْمُعظم الْخَطِيب الْفَاضِل الْقدْوَة الصَّالح الْبَقِيَّة وَالْجُمْلَة الفاضلة النقية الْعدْل الأرضي أَبُو عبد الله بن قطيه أدام الله سموهُ ورقيه بِمَا نَصه
١ - الْمَسْأَلَة هَل تجوز إِقَامَة الْمُسلم فِي بلد غلب عَلَيْهِ النَّصَارَى
الْحَمد لله وَحده
جوابكم يَا سَيِّدي رَضِي الله عَنْكُم ومتع الْمُسلمين بحياتكم فِي نازلة وَهِي أَن قوما من هَؤُلَاءِ الأندلسيين الَّذين هَاجرُوا من الأندلس وَتركُوا هُنَاكَ الدّور وَالْأَرضين والجنات والكرمات وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْأُصُول وبذلوا زِيَادَة على ذَلِك كثيرا من ناض المَال وَخَرجُوا من تَحت حكم الْمسلمَة الْكَافِرَة وَزَعَمُوا أَنهم فروا إِلَى الله سُبْحَانَهُ بايدينهم وأنفسهم وأهليهم وذرياتهم وَمَا بقى بِأَيْدِيهِم أَو أَيدي بَعضهم من الْأَمْوَال واستقروا بِحَمْد الله سُبْحَانَهُ بدار الْإِسْلَام تَحت طَاعَة الله وَرَسُوله وَحكم الذِّمَّة الْمسلمَة
1 / 22
ندموا على الْهِجْرَة بعد حصولهم بدار الاسلام تسخطوا وَزَعَمُوا أَنهم وجدوا الْحَال عَلَيْهِم ضيقَة وَأَنَّهُمْ لم يَجدوا بدار الاسلام الَّتِي هِيَ دَار الْمغرب هَذِه صانها الله وحرس أوطانها وَنصر سُلْطَانه بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّسَبُّب فِي طلب انواع المعاش على الْجُمْلَة رفقا وَلَا يسرا وَلَا مرتفقا وَلَا إِلَى التَّصَرُّف فِي الأقطار أمنا لايقا وصرحوا فِي هَذَا الْمَعْنى بأنواع من قَبِيح الْكَلَام الدَّال على ضعف دينهم وَعدم صِحَة يقينهم فِي معتقدهم وان هجرتهم لم تكن لله وَرَسُوله كَمَا زَعَمُوا وَإِنَّمَا كَانَت لدينا يصيبونها عَاجلا عِنْد وصولهم جَارِيَة على وفْق أهوائهم فَلَمَّا لم يجدوها وفْق أغراضهم صَرَّحُوا بذم دَار الْإِسْلَام وشأنه وَشتم الذى كَانَ السَّبَب لَهُم فِي هَذِه الْهِجْرَة وسبه وبمدح دَار الْكفْر وَأَهله (٨٣ ب) والندم على مُفَارقَته وَرُبمَا حفظ عَن بَعضهم أَنه قَالَ على جِهَة الْإِنْكَار لِلْهِجْرَةِ إِلَى دَار الْإِسْلَام الَّتِي هِيَ هَذَا الوطن صانه الله إِلَى هَا هُنَا يُهَاجر من هنايك بل من هَا هُنَا تجب الْهِجْرَة إِلَى هُنَاكَ وَعَن آخر مِنْهُم أَيْضا أَنه قَالَ إِن جَازَ صَاحب قشتالة إِلَى هَذِه النواحى نسير إِلَيْهِ فنطلب مِنْهُ أَن يردنا إِلَى هُنَاكَ يعْنى إِلَى دَار الْكفْر ومعاودة الدُّخُول تَحت الذِّمَّة الْكَافِرَة كَيفَ أمكنهم
فَمَا الَّذِي يلحقهم فِي ذَلِك من الْإِثْم وَنقص رُتْبَة الدّين والجرحة
وَهل هم بِهِ مرتكبون الْمعْصِيَة الَّتِي كَانُوا فروا مِنْهَا إِن تَمَادَوْا على ذَلِك وَلم يتوبوا وَلم يرجِعوا إِلَى الله سُبْحَانَهُ مِنْهُ
وَكَيف بِمن رَجَعَ مِنْهُم بعد الْحُصُول فِي دَار الْإِسْلَام إِلَى دَار الْكفْر وَالْعِيَاذ الله
1 / 23
وَهل يجب على من قَامَت عَلَيْهِ مِنْهُم بالتصريح بذلك أَو بِمَعْنَاهُ شَهَادَة أدب أَو لَا حَتَّى يتَقَدَّم إِلَيْهِم فِيهِ بالوعظ والإنذار فَمن تَابَ إِلَى الله سُبْحَانَهُ نزك ورجى لَهُ قبُول التَّوْبَة وَمن تَمَادى عَلَيْهِ ادب أَو يعرض عَنْهُم وَيتْرك كل وَاحِد مِنْهُم وَمَا اخْتَارَهُ فَمن ثبته الله فِي دَار الاسلام رَاضِيا فَلهُ نِيَّته وأجره على الله سُبْحَانَهُ وَمن اخْتَار الرُّجُوع إِلَى دَار الْكفْر ومعاودة الذِّمَّة الْكَافِرَة ترك يذهب إِلَى سخط الله وَمن ذمّ دَار الاسلام مِنْهُم تَصْرِيحًا اَوْ معنى ترك وَمَا عول عَلَيْهِ
بينوا لنا حكم الله تَعَالَى فِي ذَلِك كُله وَهل من شَرط الْهِجْرَة أَلا يُهَاجر أحد إِلَّا إِلَى دنيا مَضْمُونَة يُصِيبهَا عَاجلا عِنْد وُصُوله جَارِيَة على وفْق غَرَضه حَيْثُ حل أبدا من نواحى الْإِسْلَام أَو لَيْسَ ذَلِك بِشَرْط بل تجب عَلَيْهِم الْهِجْرَة من دَار الْكفْر إِلَى دَار الْإِسْلَام إِلَى حُلْو أَو مر أَو وسع أَو ضيق أَو عسر أَو يسر بِالنِّسْبَةِ (٨٤ أ) إِلَى احوال الدُّنْيَا وَإِنَّمَا الْقَصْد بهَا سَلامَة الدّين والأهل وَالْولد مثلا وَالْخُرُوج من حكم الْملَّة الْكَافِرَة إِلَى حكم الْملَّة الْمسلمَة إِلَى مَا شَاءَ الله من حُلْو أَو مر اَوْ ضيق عَيْش اَوْ سعته وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْوَال الدنياوية بَيَانا شافيا مجودا مشروحا كَافِيا يَأْجُركُمْ الله سُبْحَانَهُ وَالسَّلَام الْكَرِيم يعْتَمر مقامكم الْعلي وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته
فأجبته بِمَا هَذَا نَصه
الْحَمد لله تَعَالَى وَحده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد بعده
1 / 24
٢ -
الْجَواب الْهِجْرَة إِلَى أَرض الْإِسْلَام فَرِيضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
الْجَواب عَمَّا سَأَلْتُم عَنهُ وَالله سُبْحَانَهُ ولي التَّوْفِيق بفضله إِن الْهِجْرَة من أَرض الْكفْر إِلَى أَرض الْإِسْلَام فَرِيضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ الْهِجْرَة من أَرض الْحَرَام وَالْبَاطِل بظُلْم أَو فتْنَة
قَالَ رَسُول الله ﷺ (يُوشك أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعب الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن) أخرجه البُخَارِيّ والموطأ وَأَبُو دَاوُود وَالنَّسَائِيّ وَقد روى أَشهب عَن مَالك (لَا يُقيم أحد فِي مَوضِع يعْمل فِيهِ بِغَيْر الْحق) قَالَ فِي (الْعَارِضَة) فَإِن قيل فَإِذا لم يُوجد بلد إِلَّا كَذَلِك قلت يخْتَار الْمَرْء أقلهَا إِثْمًا مثل أَن يكون الْبَلَد فِيهِ كفر فبلد فِيهِ جور خير مِنْهُ أَو بلد فِيهِ عدل وَحرَام فبلد فِيهِ جور وحلال خير مِنْهُ للمقام أَو بلد فِيهِ معاص فِي حُقُوق الله فَهُوَ أولى من بلد فِيهِ معاص فِي مظالم الْعباد وَهَذَا الأنموذج دَلِيل على مَا رَوَاهُ وَقد قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز ﵁ فلَان بِالْمَدِينَةِ وَفُلَان بِمَكَّة وَفُلَان بِالْيمن وَفُلَان بالعراق وَفُلَان بِالشَّام امْتَلَأت الأَرْض وَالله جورا وظلما انْتهى
1 / 25
٣ -
لَا تجوز الْإِقَامَة إِلَّا فِي حَالَة الْعَجز عَن الْهِجْرَة بِكُل وَجه الْأَدِلَّة من الْقُرْآن الْكَرِيم
وَلَا يسْقط هَذِه الْهِجْرَة الْوَاجِبَة على هَؤُلَاءِ الَّذين استولى الطاغية لعنة الله تَعَالَى على معاقلهم وبلادهم إِلَّا تصور الْعَجز عَنْهَا بِكُل وَجه وَحَال لَا الوطن وَالْمَال فَإِن ذَلِك كُله ملغى فِي نظر الشَّرْع (٨٤ ب) قَالَ الله تَعَالَى ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا﴾ فَهَذَا الإستضعاف المعفو عَمَّن اتّصف بِهِ غير الاستضعاف المعتذر بِهِ فِي أول الْآيَة وصدرها وَهُوَ قَول الظالمي أنفسهم ﴿كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض﴾ فَإِن الله تَعَالَى لم يقبل قَوْلهم فِي الِاعْتِذَار بِهِ فَدلَّ على أَنهم كَانُوا قَادِرين على الْهِجْرَة من وَجه مَا وَعَفا عَن الاستضعاف الَّذِي لَا يُسْتَطَاع مَعَه حِيلَة وَلَا يهتدى بِهِ سَبِيل بقوله ﴿فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم﴾ عَسى من الله واجبه فالمستضعف المعاقب فِي صدر الْآيَة هُوَ الْقَادِر من وَجه والمستضعف المعفو عَنهُ فِي عجزها هُوَ الْعَاجِز من كل وَجه فَإِذا عجز الْمُبْتَلى بِهَذِهِ الْإِقَامَة عَن الْفِرَار بِدِينِهِ وَلم يسْتَطع سَبِيلا إِلَيْهِ وَلَا ظَهرت لَهُ حِيلَة
1 / 26
وَلَا قدرَة عَلَيْهِ بِوَجْه وَلَا حَال وَكَانَ بِمَثَابَة المقعد أَو المأسور أَو كَانَ مَرِيضا جدا أَو ضَعِيفا جدا فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْعَفو وَيصير بِمَثَابَة الْمُكْره على التَّلَفُّظ بالْكفْر وَمَعَ هَذَا لَا بُد أَن تكون لَهُ نِيَّة قَائِمَة أَنه لَو قدر وَتمكن لهاجر وعزم صَادِق مستصحب أَنه إِن ظفر بمكنة وقتا مَا فيهاجر وَأما المستطيع بِأَيّ وَجه كَانَ وَبِأَيِّ حِيلَة تمكنت فَهُوَ غير مَعْذُور وظالم لنَفسِهِ إِن أَقَامَ حَسْبَمَا تضمنته الْآيَات وَالْأَحَادِيث الواردات قَالَ الله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق﴾ إِلَى قَوْله ﴿وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل﴾ وَقَالَ الله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا ودوا مَا عنتم قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون﴾ وَقَالَ الله تَعَالَى ﴿لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة ويحذركم الله نَفسه وَإِلَى الله الْمصير﴾
1 / 27
(٨٥ أ) وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فتمسكم النَّار وَمَا لكم من دون الله من أَوْلِيَاء ثمَّ لَا تنْصرُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا﴾ إِلَى قَوْله ﴿وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا﴾ الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ) وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم قَالُوا فيمَ كُنْتُم قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض قَالُوا ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى
1 / 28
﴿ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ﴾ والظالمون أنفسهم فِي هَذِه الْآيَة السَّابِقَة إِنَّمَا هم التاركون لِلْهِجْرَةِ مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا حَسْبَمَا تضمنه قَوْله تَعَالَى ﴿ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا﴾ فظلمهم أنفسهم إِنَّمَا كَانَ بِتَرْكِهَا وَهِي الْإِقَامَة مَعَ الْكفَّار وتكثير سوادهم وَقَوله ﴿تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة﴾ فِيهِ تَنْبِيه على أَن الموبخ على ذَلِك والمعاقب عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ من مَاتَ مصرا على هَذِه الْإِقَامَة (٨٥ ب) وَأما من تَابَ عَن ذَلِك وَهَاجَر وأدركه الْمَوْت وَلَو بِالطَّرِيقِ فتوفاه الْملك خَارِجا عَنْهُم فيرجى قبُول تَوْبَته أَلا يَمُوت ظَالِما لنَفسِهِ وَيدل ذَلِك ايضا على قَول الله تَعَالَى ﴿وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله﴾ إِلَى قَوْله ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ فَهَذِهِ الْآي القرآنية كلهَا أَو أَكْثَرهَا مَا سوى قَوْله ﴿ترى كثيرا مِنْهُم﴾ إِلَى آخرهَا نُصُوص فِي تَحْرِيم الْمُوَالَاة الكفرانية وَأما قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾ فَمَا أبقت مُتَعَلقا إِلَى التطرق لهَذَا التَّحْرِيم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾
1 / 29
٤ -
من أجَاز هَذِه الْإِقَامَة مارق من الدّين ومفارق لجَماعَة الْمُسلمين
وتكرار الْآيَات فِي هَذَا الْمَعْنى وجريها على نسق ووتيرة وَاحِدَة مُؤَكد للتَّحْرِيم وَرَافِع للاحتمال المتطرق إِلَيْهِ فَإِن الْمَعْنى إِذا نَص عَلَيْهِ وأكد بالتكرار فقد ارْتَفع الِاحْتِمَال لَا شكّ فتتعاضد هَذِه النُّصُوص القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والاجماعات القطعية على هَذَا النَّهْي فَلَا تَجِد فِي تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة وَهَذِه الْمُوَالَاة الكفرانية مُخَالفا من أهل الْقبْلَة المتمسكين بِالْكتاب الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد فَهُوَ تَحْرِيم مَقْطُوع بِهِ من الدّين كتحريم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَقتل النَّفس بِغَيْر حق وأخواته من الكليات الْخمس الَّتِي أطبق أَرْبَاب الْملَل والأديان على تَحْرِيمهَا وَمن خَالف الْآن فِي ذَلِك أَو رام الْخلاف من المقيمين مَعَهم والراكنين إِلَيْهِم فجوز هَذِه الْإِقَامَة واستخف أمرهَا واستسهل حكمهَا فَهُوَ مارق من الدّين ومفارق لجَماعَة الْمُسلمين ومحجوج بِمَا لَا مدفع فِيهِ لمُسلم ومسبوق بالاجماع الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى مُخَالفَته وخرق سَبيله
٥ - رَأْي أبي الْوَلِيد بن رشد الْجد تَحْرِيم الْإِقَامَة
قَالَ زعيم الْفُقَهَاء القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد ﵀ فِي أول (كتاب التِّجَارَة) (٨٦ أ) إِلَى أَرض الْحَرْب من مقدماته فرض الْهِجْرَة غير سَاقِط بل الْهِجْرَة بَاقِيَة لَازِمَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَاجِب بِإِجْمَاع الْمُسلمين على من أسلم بدار الْحَرْب أَن لَا يُقيم بهَا حَيْثُ تجرى عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُشْركين وَأَن يهجرها وَيلْحق بدار الْمُسلمين حَيْثُ تجرى عَلَيْهِ أحكامهم قَالَ رَسُول الله ﷺ (أَنا برىء من كل مُسلم مُقيم مَعَ الْمُشْركين) إِلَّا أَن الْهِجْرَة لَا
1 / 30
يحرم على المُهَاجر بهَا الرُّجُوع إِلَى وَطنه إِن عَاد دَار إِيمَان وَإِسْلَام كَمَا حرم على الْمُهَاجِرين من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ (الرُّجُوع) إِلَى مَكَّة للَّذي ادخره الله لَهُم من الْفضل فِي ذَلِك
قَالَ فَإِذا وَجب بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة على من أسلم الْحَرْب أَن يهجره وَيلْحق بدار الْمُسلمين وَلَا يثوى بَين الْمُشْركين وَيُقِيم بَين أظهرهم لِئَلَّا تجرى عَلَيْهِم أحكامهم فَكيف يُبَاح لأحد الدُّخُول إِلَى بِلَادهمْ حَيْثُ تجرى عَلَيْهِ أحكامهم فِي تِجَارَة أَو غَيرهَا وَقد كره مَالك ﵀ أَن يسكن أحد بِبَلَد يسب فِيهِ السّلف فَكيف بِبَلَد يكفر فِيهِ بالرحمن وَتعبد فِيهِ من دونه الْأَوْثَان لَا تَسْتَقِر نفس أحد على هَذَا إِلَّا مُسلم مَرِيض الايمان انْتهى
٦ - مناقشة فقهية حول رأى ابْن رشد
فَإِن قلت الْمُسْتَفَاد من كَلَام صَاحب الْمُقدمَات وَغَيره من الْفُقَهَاء الْمُتَقَدِّمين صُورَة طروء الاسلام على الاقامة بَين أظهر الْمُشْركين وَالصُّورَة الْمَسْئُول عَنْهَا هِيَ صُورَة طروء الاقامة على أَصَالَة الاسلام وَبَين الصُّورَتَيْنِ بون بعيد فَلَا يحسن الِاسْتِدْلَال بِهِ على الصُّورَة الْمَسْئُول الْآن عَن حكمهَا
1 / 31
قلت تفقه الْمُتَقَدِّمين إِنَّمَا كَانَ فِي تَارِك الْهِجْرَة مُطلقًا ومثلوا ذَلِك بِصُورَة من صوره وَهُوَ من أسلم فِي دَار الْحَرْب وَأقَام وَهَذِه الْمَسْئُول عَنْهَا أَيْضا صُورَة ثَانِيَة من صوره لَا تخَالف الأولى المتمثل بهَا إِلَّا فِي طروء الْإِقَامَة خَاصَّة فالصورة الأولى المتمثل بهَا بهَا عِنْدهم طَرَأَ الاسلام فِيهَا على الاقامة وَالصُّورَة الثَّانِيَة الملحقة بهَا الْمَسْئُول عَنْهَا طرأت الأقامة فِيهَا على الاسلام وَاخْتِلَاف الطروء فرق صورى وَهُوَ غير مُعْتَبر فِي استدعاء (٨٦ ب) نَص قصر الحكم عَلَيْهِ وانتهائه إِلَيْهِ وَإِنَّمَا خص من تقدم من أَئِمَّة الْهدى المقتدى بهم الْكَلَام بِصُورَة من أسلم وَلم يُهَاجر لِأَن هَذِه الْمُوَالَاة الشركية كَانَت مفقودة فِي صدر الاسلام وعزته وَلم تحدث على مَا قيل إِلَّا بعد مُضِيّ مئين من السنين وَبعد انْقِرَاض أَئِمَّة الْأَمْصَار الْمُجْتَهدين فَلذَلِك لَا شكّ لم يتَعَرَّض لأحكامها الْفِقْهِيَّة أحد مِنْهُم ثمَّ لما نبغت هَذِه الْمُوَالَاة النَّصْرَانِيَّة فِي الْمِائَة الْخَامِسَة وَمَا بعْدهَا من تَارِيخ الْهِجْرَة وَقت اسْتِيلَاء ملاعين النَّصَارَى دمرهم الله على جَزِيرَة صقلية وَبَعض كور الأندلس سُئِلَ عَنْهَا بعض الْفُقَهَاء واستفهموا عَن الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة الْمُتَعَلّقَة
1 / 32
بمرتكبها فَأجَاب بِأَن أحكامهم جَارِيَة مَعَ أَحْكَام من أسلم وَلم يُهَاجر والحقوا هَؤُلَاءِ الْمَسْئُول عَنْهُم والمسكوت عَن حكمهم بهم وسووا بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة والمتعلقة بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادهمْ وَلم يرَوا فِيهَا فرقا بَين الْفَرِيقَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا فِي مُوالَاة الْأَعْدَاء ومساكنتهم ومداخلتهم وملابستهم وَعدم مباينتهم وَترك الْهِجْرَة الْوَاجِبَة عَلَيْهِم والفرار مِنْهُم وَسَائِر الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لهَذِهِ الْأَحْكَام الْمَسْكُوت عَنْهَا فِي الصُّورَة الْمَسْئُول عَن فَرضهَا بِمَثَابَة وَاحِدَة فألحقوا رضى الله عَنْهُم الْأَحْكَام الْمَسْكُوت عَنْهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمَسْكُوت عَنْهُم بِالْأَحْكَامِ المتفقه فِيهَا فِي أُولَئِكَ فَصَارَ اجْتِهَاد الْمُتَأَخِّرين فِي هَذَا مُجَرّد إِلْحَاق لمسكوت عَنهُ بمنطوق بِهِ مسَاوٍ لَهُ فِي الْمَعْنى من كل وَجه وَهُوَ مِنْهُم ﵃ عدل من النّظر واحتياط فِي الِاجْتِهَاد وركون إِلَى الْوُقُوف مَعَ من تقدم من أَئِمَّة الْهدى المقتدى بهم فَكَانَ غَايَة فِي الْحسن والزين
1 / 33
٧ -
الْأَدِلَّة من الحَدِيث الشريف
وَأما الِاحْتِجَاج على تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة من السّنة فبمَا خرجه التِّرْمِذِيّ أَن النَّبِي ﷺ بعث سَرِيَّة إِلَى خثعم فاعتصم نَاس بِالسُّجُود فأسرع فيهم الْقَتْل وَبلغ ذَلِك النَّبِي ﷺ (٨٧ أ) فَأمر لَهُم بِنصْف الْعقل وَقَالَ (انا برىء من كل مُسلم يُقيم بَين أظهر الْمُشْركين) قَالُوا يَا رَسُول الله وَلم قَالَ (لَا تتراءى ناراهما) وَفِي الْبَاب أَن النَّبِي ﷺ قَالَ لَا تساكنوا الْمُشْركين وَلَا تجامعوهم فَمن ساكنهم أَو جامعهم فهم مِنْهُم والتنصيص فِي هذَيْن الْحَدِيثين على الْمَقْصُود بِحَيْثُ لَا يخفى على أحد مِمَّن لَهُ نظر سليم وترجيح مُسْتَقِيم وَقد ثبتا فِي الحسان من المصنفات السِّتَّة الَّتِي تَدور عَلَيْهَا رحى الاسلام قَالُوا وَلَا معَارض لَهما وَلَا نَاسخ وَلَا مُخَصص وَلَا غَيرهمَا ومقتضاهما لَا مُخَالف لَهما من الْمُسلمين وَذَلِكَ كَاف فِي الِاحْتِجَاج بهما هَذَا مَعَ اعتضاضهما بنصوص الْكتاب وقواعد الشَّرْع وشهادتهما لَهما
1 / 34
وَفِي سنَن أبي دَاوُود من التَّوْبَة حَدِيث مُعَاوِيَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة حَتَّى تَنْقَطِع التَّوْبَة وَلَا تَنْقَطِع النّوبَة حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا وَفِيه من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ يَوْم فتح مَكَّة
(لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِن استنفرتم فانفروا)
٨ -
رأى أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ الْأَمر فِي الْهِجْرَة إِلَى النّدب والاستحباب
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ كَانَت الْهِجْرَة فِي أول الاسلام مَنْدُوبًا إِلَيْهَا غير مَفْرُوضَة وَذَلِكَ قَوْله سُبْحَانَهُ ﴿وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا وسعة﴾ نزل حِين اشْتَدَّ أَذَى الْمُشْركين على الْمُسلمين بِمَكَّة ثمَّ وَجَبت الْهِجْرَة على الْمُسلمين عِنْد خُرُوج النَّبِي ﷺ إِلَى الْمَدِينَة وَأمرُوا بالإنتقال إِلَى حَضرته ليك ونوا مَعَه فيتعاونوا ويتظاهر إِن حزبهم أَمر وليتعلموا أَمر دينهم وليتفقهوا فِيهِ وَكَانَ عظم الْخَوْف فِي ذَلِك الزَّمَان من قُرَيْش وهم اهل مَكَّة فَلَمَّا فتحت مَكَّة وبخعت بِالطَّاعَةِ زَالَ ذَلِك الْمَعْنى وارتفع وجوب الْهِجْرَة وَعَاد الْأَمر فِيهَا إِلَى النّدب والاستحباب فهما هجرتان فالمنطعة مِنْهُمَا هِيَ الْفَرْض والباقية هِيَ النّدب فَهَذَا وَجه (٨٧ ب) الْجمع بَين الْحَدِيثين على أَن بَين الاسنادين مَا بَينهمَا اسناد حَدِيث ابْن عَبَّاس مُتَّصِل صَحِيح وأسناد (حَدِيث) مُعَاوِيَة فِيهِ مقَال انْتهى
1 / 35
٩ -
نقض رَأْي أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ
قلت هَاتَانِ الهجرتان اللَّتَان تضمنهما حَدِيث مُعَاوِيَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس هما الهجرتان اللَّتَان انْقَطع فرضهما بِفَتْح مَكَّة فالهجرة الأولى الْهِجْرَة من الْخَوْف على الدّين وَالنَّفس كهجرة النَّبِي ﷺ وَأَصْحَابه المكيين فَإِنَّهَا كَانَت عَلَيْهِم فَرِيضَة لَا يجزى إِيمَان دونهَا وَالثَّانيَِة هِيَ الْهِجْرَة إِلَى النَّبِي ﷺ فِي دَاره الَّتِي اسْتَقر فِيهَا فقد بَايع من قَصده على الْهِجْرَة وَبَايع آخَرين على الْإِسْلَام
١٠ -
رَأْي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ من بقى عصى وَيخْتَلف فِي حَاله
وَأما الْهِجْرَة من أَرض الْكفْر فَهِيَ فَرِيضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي الْأَحْكَام الذّهاب فِي الأَرْض يَنْقَسِم إِلَى سِتَّة اقسام
الأول الْهِجْرَة وَهِي الْخُرُوج من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام وَكَانَت فرضا فِي أَيَّام النَّبِي ﵇ وَهَذِه الْهِجْرَة بَاقِيَة مَفْرُوضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالَّتِي انْقَطَعت بِالْفَتْح هِيَ الْقَصْد إِلَى النَّبِي ﷺ حَيْثُ كَانَ فَإِن بَقِي فِي دَار الْحَرْب عصى وَيخْتَلف فِي حَاله وَانْظُر بَقِيَّة اقسام الْهِجْرَة فِيهَا
وَقَالَ فِي الْعَارِضَة إِن الله حرم أَولا على الْمُسلمين أَن يقيموا بَين أظهر الْمُشْركين بِمَكَّة وافترض عَلَيْهِم أَن يلْحقُوا بِالنَّبِيِّ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا فتح الله مَكَّة سَقَطت الْهِجْرَة وَبَقِي تَحْرِيم الْمقَام بَين أظهر الْمُشْركين وَهَؤُلَاء الَّذين اعتصموا بِالسُّجُود وَلم يَكُونُوا اسلموا واقاموا مَعَ الْمُشْركين إِنَّمَا كَانَ اعتصامهم فِي الْحَال نعم إِنَّه لَا يحل قتل من بَادر إِلَى الاسلام إِذا رأى السَّيْف على رَأسه
1 / 36
باجماع من الْأَئِمَّة وَلَكِن قتلوا لأحد مَعْنيين إِمَّا لِأَن السُّجُود لَا يعْصم وَإِنَّمَا يعْصم الْإِيمَان بِالشَّهَادَتَيْنِ لفظا وَإِمَّا لِأَن الَّذين قتلوهم لم يَكُونُوا يعلمُونَ أَن ذَلِك يعصمهم وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن بني جذيمة لما اسرع خَالِد فيهم الْقَتْل قَالُوا صبأنا صبانا وَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا اسلمنا فَقَتلهُمْ فوداهم النَّبِي ﷺ بخطأ خَالِد وَخطأ الامام وعامله (٨٨ أ) فِي بَيت المَال
١١ -
مسالة فرعية النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرط الْإِسْلَام
قَالَ وَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِشَرْط الاسلام قَول لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله على التَّعْيِين وَإِنَّمَا وداهم نصف الْعقل على معنى الصُّلْح والمصلحة كَمَا ودى أهل جذيمة بمثلي ذَلِك على مَا اقتضته حَال كل وَاحِد فِي قَوْله
١٢ - حكم دم الْمُقِيم بدار الْحَرْب وَمَاله هَل العاصم الْإِسْلَام أم الدَّار راي مَالك بن أنس
وَقد اخْتلف النَّاس فِيمَن اسْلَمْ وَبَقِي بدار الْحَرْب فَقتل أَو أسر أَو سبى أَهله وَمَاله فَقَالَ مَالك حقن دَمه وَمَاله لمن أَخذه حَتَّى يحوزه بدار الْإِسْلَام وَقيل عَنهُ إِنَّه يجوز مَاله وَأَهله وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالْمَسْأَلَة مُحَققَة فِي مسَائِل الْخلاف مَبْنِيَّة على أَن الْحَرْبِيّ هَل يملك ملكا صَحِيحا أم لَا وَأَن العاصم هَل هُوَ الاسلام أَو الدَّار فَمن ذهب إِلَى أَنه يملك ملكا صَحِيحا تمسك بقوله ﵇ هَل ترك لنا عقيل من دَار وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ
1 / 37
وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا فسوى بَين الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وأضافها إِلَيْهِم والاضافة تقتضى التَّمْلِيك ثمَّ أخبر عَمَّن أسلم مِنْهُم أَنه مَعْصُوم وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَلا يكون لأحد عَلَيْهِ سَبِيل وَتمسك أَيْضا من أتبعه مَاله بقوله ﷺ من أسلم على شَيْء فَهُوَ لَهُ وَبِقَوْلِهِ ﷺ لَا يحل مَال إمرىء مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس مِنْهُ وَأما مَالك وَأَبُو حنيفَة وَمن قَالَ بقولهمَا فعندهم أَن العاصم إِنَّمَا هُوَ الدَّار فَمَا لم يحز الْمُسلم مَاله وَولده بدار الاسلام وَإِلَّا فَمَا أُصِيب من ذَلِك بدار الْكفْر فَهُوَ فَيْء للْمُسلمين وَكَانَ الْكفَّار عِنْدهم لايملكون بل أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ حَلَال لمن يقدر عَلَيْهَا من الْمُسلمين كدمائهم فَمن أسلم مِنْهُم وَلم يحز مَالا وَلَا ولدا بدار الاسلام فَكَأَنَّهُ لَا مَال لَهُ وَلَا ولد وَكَأن الْيَد للْكفَّار كَمَا أَن الدَّار لَهُم وَلَيْسَت يَد صَاحبه الإسلامي يدا إِذْ كَانَ بَين أظهرهم ١٣ -
رَأْي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ العاصم للدم الاسلام وللمال الدَّار وَرَأى الشَّافِعِي العاصم لَهما جَمِيعًا الْإِسْلَام
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أَيْضا العاصم لدم الْمُسلم الْإِسْلَام (٨٨ ب) ولماله الدَّار وَقَالَ الشَّافِعِي العاصم لَهما جَمِيعًا هُوَ الْإِسْلَام وَقَالَ أَبُو حنيفَة العاصم الْمُقَوّم لَهما هُوَ الدَّار والمؤثم هُوَ الْإِسْلَام وَتَفْسِير ذَلِك أَن من أسلم وَلم يُهَاجر حَتَّى قتل فَإِنَّهُ تجب فِيهِ الْكَفَّارَة عِنْده دون الدِّيَة والقود وَلَو هَاجر لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَة وَالدية على عَاقِلَته قيل فعلى هَذَا دَمه محقون عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَقَتله خطأ لَا دِيَة فِيهِ عِنْد أبي حنيفَة وَإِنَّمَا فِيهِ الْكَفَّارَة خَاصَّة وَهُوَ الظَّاهِر من
1 / 38
قَول الْمُفَسّرين وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى ﴿وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا﴾ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة﴾ وَلم يذكر دِيَة قَالُوا وَالْمرَاد بِهَذَا الْمُؤمن إِنَّمَا هُوَ الْمُسلم الَّذِي لم يُهَاجر لِأَنَّهُ مُؤمن فِي قوم أَعدَاء فَهُوَ مِنْهُم لقَوْله تَعَالَى ﴿وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم﴾ فَهُوَ مُؤمن من قوم عَدو فَلَمَّا ذكر الدِّيَة فِي أول الْآيَة فِي الْمُؤمن الْمُطلق وَفِي آخرهَا فِي الْمُؤمن الَّذِي قومه تَحت عهدنا وميثاقنا وهم الذميون وَسكت عَنْهَا فِي هَذَا الْمُؤمن الَّذِي بَين الْأَعْدَاء دلّ على سُقُوطهَا وَأَنه إِنَّمَا أوجب فِيهِ الْكَفَّارَة خَاصَّة هَذَا حكم دَمه قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهَذِه الْمَسْأَلَة خراسانية عظما لم تبلغها الْمَالِكِيَّة وَلَا عرفتها الْأَئِمَّة العراقية فَكيف بالمقلدة المغربية
1 / 39
١٤ -
رَأْي أَصْحَاب أبي حنيفَة الدَّار لَا تعصم الونشريشي ينْقض هَذَا الرَّأْي
احْتج أَصْحَاب أَبى حنيفَة على أَن العاصم الدَّار بِأَن التَّحَرُّز والاعتصام والامتناع إِنَّمَا يكون بالحصون والقلاع وَأَن الْكَافِر إِذا صَار فِي دَارنَا عصم دَمه وَمَاله فَصَارَ كَالْمَالِ إِذا كَانَ مطروحا على الطَّرِيق لم يلْزم فِيهِ قطع وَإِذا حوز بحوزة كَانَ مَضْمُونا بِالْقطعِ وَاحْتج الشَّافِعِي بقول النَّبِي ﷺ أمرت أَن أقَاتل النَّاس الحَدِيث فنص على أَن الْعِصْمَة للنَّفس وَالْمَال إِنَّمَا تكون بِكَلِمَة الْإِسْلَام وَلَو أَن مُسلما دخل إِلَى دَار الْحَرْب (٨٩ أ) فَإِنَّهُ مَعْصُوم الدَّم وَالْمَال وَالدَّار مَعْدُومَة وَأما قَول أَصْحَابنَا إِن الاسلام عَاصِم للنَّفس دون الْوَلَد وَالْمَال وَقَول أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن التَّحَرُّز والتعصم يكون بالقلاع فَكَلَام فأسد لِأَنَّهُ تعلق بالعصمة الحسية الَّتِي يكتسبها الْكَافِر والمحارب وَلَا يَعْتَبِرهَا الشَّرْع وَإِنَّمَا الْكَلَام على مَا يعتبره الشَّرْع أَلا ترى أَن الْمُحَارب من الْمُسلمين وَالْكَافِر يتحصنان بالقلاع ودمهما وأموالهما مباحان أَحدهمَا على الاطلاق وَالثَّانِي يشْتَرط أَن يسْتَمر وَلَا يقْلع ويتمادى ويتمنع وَلَكِن المَال إِنَّمَا يمنعهُ إِحْرَاز صَاحبه لَهُ بِكَوْنِهِ مَعَه فِي حرز
1 / 40
قلت بقول الشَّافِعِي قَالَ أَشهب وَسَحْنُون وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ حَسْبَمَا تضمنه كَلَامه الْآن وَبقول مَالك قَالَ أَبُو حنيفَة وَأصبغ بن الْفرج وَاخْتَارَهُ ابْن رشد وَهُوَ الْمَشْهُور عَن مَالك ﵀ ومنشأ الْخلاف مَا مر تَقْرِيره
١٥ - رَأْي ابْن الْحَاج لَيْسَ لأحد على مَال الْمُسلم الْمُقِيم بدار الْحَرْب أَو دَمه سَبِيل
وأجرى الْفَقِيه القَاضِي الشهير أَبُو عبد الله بن الْحَاج وَغَيره من الْمُتَأَخِّرين مَال هَذَا الْمُسلم الْمَسْئُول عَنهُ الْمُقِيم بدار الْحَرْب وَلم يبرح عَنْهَا بعد اسْتِيلَاء الطاغية عَلَيْهَا على هَذَا الْخلاف الْمُتَقَدّم بَين عُلَمَاء الْأَمْصَار فِي مَال من أسلم وَأقَام بدار الْحَرْب ثمَّ فرق ابْن الْحَاج بعد الْإِلْحَاق والتسوية فِي هَذِه الْأَحْكَام الملحقة بِأَن مَال من أسلم كَانَ مُبَاحا قبل إِسْلَامه بِخِلَاف مَال الْمُسلم لِأَن يَده لم تزل وَلَا تقدم لَهُ فِي وَقت مَا كفر مُبِيح مَاله وَولده يَوْمًا للْمُسلمين فَلَيْسَ لأحد عَلَيْهِمَا من سَبِيل وَهُوَ رَاجِح من القَوْل وواضح من الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَر وَظَاهر عِنْد التَّأَمُّل لمنشأ الْخلاف الَّذِي تقدم بَيَانه على مَا لَا يخفى ويعتضد هَذَا الْفرق بِنَصّ آخر مسئلة من سَماع يحيي من كتاب الْجِهَاد وَلَفظه
1 / 41