فوثب شفيق عن الأرض قائلا: أفي هذا البيت والدي؛ أفي حلم أنا، أم في يقظة، أم أنت تمزح؟
قال الباشا: بل في يقظة يا ولدي، ولكن في اتفاق عجيب. وأحكى له الحكاية، فأراد شفيق الهجوم على الحجرة، فمنعه الباشا قائلا: وقد كان يمكنني أن أخبرهم عنك، ولكنني أشفقت عليهم من سلطان العواطف؛ إذ قد يترتب على شدة الفرح إذا كان بغتيا ضرر جسيم؛ فتعال ورائي وقف عند الباب وأنا أدخل قبلك وأنبههم إلى مجيئك.
الفصل الثاني والتسعون
لقاء يعجز القلم عن وصفه
فسار الباشا وشفيق في أثره حتى وصلا باب الحجرة، فدخل الباشا وأغلق الباب وراءه، والتفت إلى الجميع متبسما، فإذا هم جلوس وعلى وجوههم أمارات الانقباض، فتقدم إلى إبراهيم وامرأته قائلا: انزعا عنكما ثياب الحداد؛ لأن وقت فرحكما قد جاء، بل هو وقت فرحنا جميعا. فبهت الجميع ينتظرون ما وراء هذا الكلام، فإذا بالباشا قد تحول نحو الباب ففتحه، وخرج وعاد ممسكا شفيقا بيده، فلما دخل شفيق بهت الجميع، وجعلوا ينظرون إليه وهم لا يدرون ما إذا كانوا في حلم أو يقظة، وهو أيضا لم يكن أقل انذهالا منهم، فاستولى السكوت على جميع الحاضرين لحظة لم يكن فيها قلب غير مختلج، ولا ركبتان غير مرتجفتين، ولا عينان غير شاخصتين، وكان أكثر الحاضرين انذهالا ذانك الوالدان اللذان اختارا التنسك ولبس الحداد، والابتعاد عن العالم، بعد فراق ولدهما الوحيد، الذي قضيا العمر في تربيته وتثقيفه. أتستعظم الذهول أو الدهشة أو الشخوص أو الجنون منهما عند التقائهما به في تلك البرية بطريق الاتفاق الغريب.
وأما تلك الفتاة التي قاست الأهوال العظام وهي غضة العود، لطيفة المزاج، ولم تكد تفتح عينيها حتى داهمها الحب، بل الوجد، فأخذ بمجامع قلبها، ثم بعد عنها حبيبها الذي لم يكن لديها أعز منه في هذا العالم، ناهيك عما داهمها من نكبات الزمان، وكفى بذلك الخائن نقمة لها، فكم حافظت على ودها! وبالغت في تلك المحافظة على ضعف أملها باللقاء! فلا تلم هذا القلم العاجز إذا قصر في وصف حالتها عند ما عاينت حبيبها أمامها في مثل ذلك الاتفاق العجيب، بعد أن أنقذها مرة ثالثة من الموت، وكانت قد يئست من حياته.
أما ذلك الشاب الذي ربي في مهد الدلال، وعلق قلبه الحب عن صغر، فقاده حب العلا وإرضاء سالبة لبه إلى تجشم الأسفار الطوال، واحتمال الأخطار في أقصى بلاد السودان. أتستعظم منه إذا دخل تلك الغرفة التي اجتمع فيها حبيبته ووالداه اللذان هاجرا الدنيا يأسا من حياته، واختارا التنسك على الرفاهة، حتى لا يكون بينهما وبينه تفاضل في الحياة. أتستعظم منه الانذهال والدهشة والوقوف لحظة لا يفرق فيها بين اليقظة والمنام.
فبعد انذهاله لحظة عرف والديه وهم إليهما، ورمى بنفسه عليهما، وطفق يقبل أيديهما، وأما هما فعكفا عليه يقبلانه ويذرفان دموع الفرح حتى كاد يغمى عليهما، وهما يناديان بصوت يخالطه البكاء: ولداه شفيق! ولداه وقطعة من كبداه! أأنت حي بعد؟! ولا سيما تلك الوالدة التي عانقت ولدها، وأخذت تقبله وتذرف الدموع وتنادي: ولدي حبيبي، مهجة كبدي. نحمد الله على سلامتك يا ولداه.
أما فدوى فكانت أشد الجميع تأثرا لما حال بينها وبين إظهار عواطفها من الحياء، على أنها نسيت نفسها، وأخذت تنادي: شفيق شفيق، هل أنت حي ...؟! آه يا مهجة فؤادي! أفي حلم أنا أم في يقظة؟!
أما هو فلم يكن يدري من يخاطب، ولا إلى من ينظر، ولم تكن تسمع في تلك الغرفة إلا شهيقا وبكاء يمازجه السرور والابتهاج.
অজানা পৃষ্ঠা