أما أصلي فمن دمشق في بلاد الشام؛ ولدت من والدين لم يولد لهما سواي إلا ابنة، وربينا في رغد ودلال حتى كانت حادثة دمشق سنة 1860، التي جرت على أثر حوادث لبنان المفجعة، التي ذبح فيها نصارى حاصبيا ودير القمر وغيرهم ذبح الأغنام في سراي كل من تينك المدينتين على علم من الضابطة ورجال الحكومة.
أما حادثة دمشق التي أورثت لي هذا التشتت، فسببها محاولة مسيحيي دمشق السير على مقتضى التنظيمات الخيرية التي سنها السلطان عبد المجيد سنة 1856 بشأن البدلية العسكرية، وإصرار واليها أحمد باشا إذ ذاك على تكليفهم خلاف ذلك، حتى تفاقم الخطب، وكتب إلى ديوان الآستانة يشكوهم، فوردت عليه الأوامر مؤذنة بتأديبهم، فجمع إليه مشائخ المدينة وعلماءها في القلعة واستفتاهم في تأديب أولئك العاصين، فأفتوه إلا قليلا منهم.
ففي صباح الاثنين، الواقع في 9 تموز سنة 1860، بدأت الثورة في ناحية باب البريد بقرب الجامع الأموي، فثار أهل تلك الناحية بدعوى الإهانة التي لحقت بالمسلمين على أثر حكم الوالي على بعض السوقة منهم بالطواف في الأسواق وكنسها وهم مغلولون؛ عقابا لهم على ما أرادوه بالمسيحيين من الإهانة قبل ذلك برسم صورة الصليب على الطرق.
وقد كنت أنا في جملة أهل باب البريد أيضا، فرأيت جيراني قد ثاروا كافة وأقفلوا حوانيتهم وحملوا سلاحهم غضبا لما لحق أولئك من الإهانة، على زعمهم، فأقفلت حانوتي وقد ثارت في رأسي خمرة الجهل، وأنا إلى ذلك الحين لم أعلم سبب تلك الثورة، فتبعت الجماهير، وطفقنا ندخل البيوت ونقتل كل من تصل إليه يدنا من المسيحيين، وكنت لا أتجاوز العشرين من العمر، فأتيت أمورا لم يحللها الله ولا أحد من الأنبياء، وما زلت في ذلك حتى أتيت بيتا وقد تلطخت ثيابي بالدماء وأنا لا أفقه ما أفعل؛ لأن الجهل أعمى بصيرتي، فعالجت الباب حتى كسرته ودخلت البيت، وأنا في تلك الحالة من التهيج والقساوة والهيئة المخيفة والخنجر في يدي يقطر دما، فحالما وطئت الرخام المرصوف في تلك الدار خرج إلي شاب في شرخ شبابه، وترامى على قدمي يقبلهما ويتضرع إلي أن أقتله ولا أدخل بيته، فلم أصغ إلى قوله ولا رحمت دموعه، بل رفسته برجلي، وازددت رغبة في الدخول، فقال: ليس في البيت أحد إلا فتاة هي خطيبة لي، فاقتلني واكفف عن البيت لئلا يصيب الفتاة سوء، فما كان مني إلا أن طعنته بخنجري، فصاح صيحة الألم الشديد وقال: أودعك الله يا حبيبتي - جعلت فداك. ثم نظرت وإذا بفتاة كالبدر طلعة، والخيزران قواما، محلولة الشعر حالكته، قد خرجت من ذلك البيت، وانقضت على ذلك الشاب ورمت بنفسها عليه، وقد قطعت شعرها ونادت بأعلى صوتها: حبيبي، روحي فداك، لا أصابك الله بسوء. فهممت أن أمسكها وأرفعها عنه، فأصابت قبضتي شعرها، وأردت إنهاضها فإذا هي ميتة لا حراك بها، فشعرت من تلك اللحظة كأني صحوت من سكرة، وعلمت أني قتلت نفسين بريئتين، وكانت يدي لا تزال قابضة على شعر الفتاة، فجذبتها أريد استخراجها، فكان الشعر قد التصق بيدي بسبب الدم الذي كانت يداي ملوثة به، فاقتلع بعض ذلك الشعر بيدي، فوددت لو تنفتح الأرض وتبتلعني، فخرجت من ذلك الباب وإذا بجماعة في لباس المغاربة شاكي السلاح يتقدمهم رجل جليل القدر في مثل لباسهم، ولكن أكثر إتقانا وعظمة، فحالما وقع نظري عليه عرفت أنه الأمير عبد القادر الجزائري، وأن هؤلاء رجاله يطوف بهم المدينة لإنقاذ النصارى من الذبح، وعلمت بعد ذلك أنه فرق نحو أربعمائة من رجاله في الأسواق مسلحين يحملون العائلات المسيحية إلى بيته في العمارة؛ وقاية لهم من القتل، وقد خرج هو بنفسه أيضا لمساعدة رجاله، فاتفق أنه وصل إلى ذلك البيت وقد تحولت للخروج منه. فلما عاين القتيلين في ساحة الدار يخبطان وقد اختلط دمهما بالماء المنسكب من (الفسقية) على الرخام صاح بي قائلا: يا لقسوتك يا جاهل! ثم ناداني باسمي وأمر رجاله أن يدخلوا الدار، فارتعدت فرائصي وكأني شعرت بشنيع فعلتي، ولم أعد أعي ما أعمل، فحملني حب النجاة أن أفر من وجه هؤلاء المغاربة، فأدركني واحد منهم وهم بالقبض علي، فابتدرته بطعنة من خنجري أصابت صدره، فسقط وتحولت إلى داخل البيت وأنا لا أدري إلى أين أذهب، فسمعت الأمير يقول: اقبضوا عليه أو اقتلوه؛ لأنه مستوجب القتل. فأسرعت إلى نافذة وثبت منها إلى الطريق وطلبت الفرار، وما زلت مسرعا لا ألوي على شيء بيدي الواحدة خنجر يقطر دما، وبالأخرى خصلة الشعر ملوثة بالدماء، وأنا من الجهة الواحدة آسف على ما فرط مني، ومن الجهة الأخرى خائف من انتقام الأمير، وقد علمت أنه لا بد من أن ينتقم مني، فطفقت فارا لا أدري إلى أين أنا ذاهب، ولا من أين أنا آت، وصورة تلك الفتاة وذلك الشاب نصب عيني، وقلبي يرتجف خوفا من غائلة ما فعلت، حتى سدل الليل نقابه، فعرجت إلى منفرد وجعلت أنظر في أمري ، فقلت في نفسي: لأختبئن في مكان حتى أرى ماذا تئول إليه هذه الحادثة المشومة. فاختبأت بضعة أيام حتى علمت أن الحكومة السنية بعثت فؤاد باشا مندوبا خصوصيا يتحرى الحقيقة ويقتل الجانين، فأيقنت أن الأمير عبد القادر يترقب الظفر بي حتى يخبر لجنة البحث لتحكم علي بالقتل، وأنا أستحقه شرعا وعرفا، فخرجت من دمشق الشام ولم أخبر أحدا بخروجي، وجئت الديار المصرية وأنا لا أزال خائفا من غائلة ما جنته يدي، وكنت قد حفظت تلك الخصلة من الشعر في صندوق لكي لا أنسى ذنبي. ولما استتب لي المقام في القاهرة لم أر أفضل من انتظامي في خدمة إحدى القنصلاتات بأي صفة كانت؛ إذ أكون هناك تحت حمايتها إذا اقتضت الحال، فانتظمت في خدمة قنصلاتو إنكلترا، وما زلت أجد وأترقى حتى وصلت إلى ما أنا عليه، وقد أبدلت اسمي عبد الرحمن بإبراهيم إخفاء لحقيقة طائفتي؛ خوفا من أن يحول اسمي دون بلوغ مرامي.
وقد كنت عازما على كتمان هذه الحكاية حتى يحكم الله فيها؛ فإما أن يسافر الأمير عبد القادر من دمشق، أو أن يموت، أو تأتي ساعتي، وبما أنك أردت معرفة هذا السر، وقد ألححت علي في استطلاعه، كتبت إليك هذا حتى إذا غرقت في البحر الذي نحن مسافرون فيه، وقرأت هذا، فتعلمين أن والدتي ووالدي لا يزالان في دمشق. وقد علمت أن شقيقتي اقترنت برجل عظيم غريب الديار، فأعلمي ولدنا بذلك أيضا حتى يسير إلى جديه، فإنهما يسران بمشاهدته كثيرا إذا كانا لا يزالان في قيد الحياة، وأما اسم عائلتي فهو بيت كذا في سوق كذا. أما الصندوق فأحرقيه بجميع ما فيه، والسلام.
الفصل الثامن والثمانون
دمشق الشام
فلم تتم فدوى قراءة ذلك الكتاب حتى اختلج قلبها في صدرها، وارتجفت ركبتاها، وبردت أطرافها، ونادت قائلة: بخيت بخيت، ما ظنك بكاتب هذا؟ أليس والد حبيبي شفيق، فإن اسمه إبراهيم في قنصلاتو إنكلترا، وولده وحيد، وإلا فما معنى إخفاء والدي هذه الورقة عني.
فتبسم بخيت وقال بصوت منخفض: إن لذلك سببا مهما .
قالت : وما هو.
অজানা পৃষ্ঠা