قال الباشا: لم أقل لك إنها لا تنفع، وإنما قلت إني صرت أخشى أن يكون علينا خطر فيها بعد أن رأيت الخيل قد حرنت.
قال: ولكن خيلي ليس أحسن منها في كل بيروت.
قال الباشا: آمنا وصدقنا كل ذلك، ولكن اعذرنا إذ لم يعد يمكننا الركوب، ومع ذلك فهذه أجرة العربة، وإذا كانت لا تكفي فاطلب ما تريد لندفعه إليك.
قال: أنا لست محتاجا إلى دراهمك، ولا أريد أن تتصدق علي، وإنما أريد أن تعلم أن عربتي وخيلي من أحسن ما في بيروت.
فقال الباشا: نعم أقر وأعترف بذلك.
قال: فلماذا لا تركب معي إذن؟
قال: لأني لا أريد. وكان الباشا قد اغتاظ منه وأراد ضربه، ثم تذكر ما كان قد سمعه عن سائقي العربات هناك، فخاف أن تعود العاقبة عليه وبالا وهو بعيد عن المدينة، ولا وصول له إلى البوليس، فلم ير أفضل من أن يتحول عنه ولا يجيبه تاركا بخيتا يخاطبه، وبعد اللتيا والتي تنازل ذلك السائق عن حقوقه وتركهم، فقال الباشا لبخيت: جئنا بعربة، فإننا نتمشى في هذه الطريق أمام هذه المدرسة حتى تعود إلينا، قال: سمعا وطاعة. وسار ولبث الباشا وفدوى يتمشيان أمام سور المدرسة ويتأملان في ذلك البناء الجميل الذي يزينه موقعه؛ لأن المدرسة قائمة على تل صغير مشرف على البحر. وفيما هما يتمشيان أمطرت السماء على غير انتظار، وتلك حالة الهواء في شهر شباط (فبراير) حتى قيل في أمثالهم إن شباط ليس عليه رباط، فاضطر الباشا أن يأوي بابنته إلى ملجأ، فدخل باب المدرسة، فوصل أولا إلى بناية القسم الاستعدادي، ودخل بها ملجأ تحت سقف ينتظران مجيء بخيت بالعربة، فمضى نصف ساعة ولم يأت ، فقلق لغيابه، وتعجب الباشا لذلك التأخر؛ لأنه كان يظن أن العربات في بيروت لا تنفك تجول في الشوارع خارج المدينة وداخلها كما في مصر.
وكان البواب قد جاءهما بكرسيين فجلسا ينتظران عود بخيت بفروغ صبر حتى دقت ساعة المدرسة أربع دقات، وضرب جرس الانصراف، وإذا بالتلامذة والأساتذة خارجون من القسم الطبي والعلمي أفواجا، ثم سمع صوت جري عربة خارج الباب، فخرج فإذا هي عربة وليس فيها بخيت، فسأل عنها فقيل له: إنها عربة الدكتور «ت»؛ أحد أساتذة المدرسة، فأراد العود إلى فدوى فلاقاه رجل في لباس إفرنجي، أشيب الشعر، كثيف شعر اللحية، على عينيه النظارات، فحياه، فرد الباشا التحية، فرحب به وسأله عن غرضه، فأخبره بما كان، فقال: ربما يتأخر رسولكم أكثر من ذلك؛ إذ لا بد له من النزول إلى المدينة لأجل العربة، فهذه عربتي تحت أمركم، فاركبوها إلى حيث أنتم ذاهبون، وكان ذلك الشيخ الدكتور «ت»، فامتنع الباشا في بادئ الرأي عن وجوب الدعوة خجلا، لكنه قبل أخيرا.
ولم يكن الدكتور قد شاهد مع الباشا أحدا سواه؛ ولذلك كان يريد الركوب معه، فلما رآه ينادي ابنته امتنع عن الركوب معهما، فركب الباشا وابنته وقال للسائق: خذنا إلى فندق بسول على البحر. والتفت الباشا إلى الدكتور شاكرا، فسارت العربة حتى أتيا الفندق، فلم يشاهدا بخيتا فقلقا عليه، وعلى الخصوص فدوى؛ لأنها كانت تنتظر الاختلاء به لتسأله عما عرفه من أمر الدبوس.
فألحت على والدها أن يسعى في البحث عنه، وهو لم يكن أقل قلقا عليه، فسار إلى صاحب الفندق وأطلعه على ذلك، فقال: لعله تاه عن الطريق ولا يلبث أن يظهر، فقال: لا أظنه تاه؛ لأنه لو قال للسائق: أوصلني إلى منزل الدكتور «ن» لأوصله.
অজানা পৃষ্ঠা