الإهداء
الناطور
لو سودتها!
دقات حزن1
عيد الشجرة
حامي التخوم
تسبحة الميلاد
أجراس بيت لحم
وماذا صار؟
33-1935
بيض للمعيدين
عيد قيامة الأرض
الجرماني ابن الله
مناجذ
مصرع نمر1
مؤتمر أبناء العم
ناسكان
21 أيلول
الإهداء
الناطور
لو سودتها!
دقات حزن1
عيد الشجرة
حامي التخوم
تسبحة الميلاد
أجراس بيت لحم
وماذا صار؟
33-1935
بيض للمعيدين
عيد قيامة الأرض
الجرماني ابن الله
مناجذ
مصرع نمر1
مؤتمر أبناء العم
ناسكان
21 أيلول
أشباح ورموز
أشباح ورموز
تأليف
مارون عبود
الإهداء
هذي فصول نضالية كتبت ونشرت يوم كان الانتداب يسوق الرجال بعصاه.
أهديها إلى الذين يصفرون للمولي ويصفقون للآتي ...
عين كفاع، أيلول 1948
مارون
الناطور
من خطئ إلى نفسه فمن يزكيه؟
ابن سيراخ ***
نام الناطور فهرجت الثعالب ومرجت، وبعثرت المقاثي.
نام الناطور فعاثت بنات آوى في كرمتي، وصيرت عناقيدها عماشيش.
نام الناطور فأمست جنينتي مثعلة.
يا عابرات السبيل، يا نساء المورد، إن رأيتن الناطور، فنبهنه! •••
يا بنات الحي، أين الناطور؟ - ما رأيناه يا عم ... - كم من النهار يا ناس، وكيف يتضحى الناطور؟
أسرع يا بني، أيقظ الناطور، فخطبنا لم يسمع به الدهر، ولا تحدثت بمثله الأيام، و«الثعالب» انتهكت حرمة البيوت، ولو كانت السعالى لهان الأمر ... •••
الناطور، هذا الناطور، جاء الناطور يا أبي. - أين عصاك يا ناطور؟ يا ناطور الكروم أين فخك؟ أين قوسك ونشابك؟ أين الطبنجة والبارودة؟ - العصا منشقة، والقوس مكسور، والعيدان بان فيها خور، والطبنجة صدئت، فمنذ سبعين عاما ما جلوناها، ولا نقلناها، طال عهدنا بها فبتنا نخشى «طلقها».
الناطور ابن البرية، وبيته المغارة، وأنتم قوضتم خيمتي، فأقصيتموني عن أم النهار، وبنات الليل، أرجعوني إلى العراء، انصبوا عرزالي على رفارف الجبال، وفي عب الأرز والسنديان، فريح بيوتكم خبيث، وهواء قصوركم مسموم.
قلدوني شكة الناطور أقنص الثعالب، وأصارع الأسد والنمور، وأجندل الذئاب والضباع. - هاه، هاه.
خنث الترف نواطيرنا فتثعلبوا، وهجرنا المنطرة فأكلتنا الثعالب، ونكثت «الديوك» بيادرنا المرشومة، فمتى نجمع أمرنا لنجعل لنا ناطورا جبارا؟ •••
أقمنا ناطورا فكان أعمش لا يرى، وأدعر لا يورى، وما امتد الزمن حتى استحال «نطارا»: ثيابا منشورة على أعواد، منتصبا في العراء كاللعين.
هابته الثعالب يوم نصبناه، ثم أخذت تشارفه على حذر، تشممت أذياله فأنكرت رائحة الحياة فيها، فمزقتها وجررتها على العفر، فصارت جناتنا مثاعل، وامتلأت أزقتنا عواء وهريرا، وبيادرنا نكشتها الدجاج بقيادة «الديك» الذي يردد قول شاعرنا:
لابس التاج العقيقي
لا تقف لي في طريقي •••
سقط النطار فافرحي أيتها الثعالب، وتهللي يا بنات آوى.
ستبكين على القثاء فإنها لن تزرع، ستنوحين على الكرمة فإنها ستيبس، يوم تمسي مملكة النطار كأنها من بقايا أمة ذهبوا.
سقط النطار ففرغت البواطي، وصفرت الخوابي.
سقط النطار فانقطع الزبيب نقل أولادنا، والدبس عسل فلاحنا.
لم يبق في كرومنا غير الحطب، وخلا جرابنا حتى من الفتات.
ناحت معاجننا على الخبز، وحنت ظهور دوابنا إلى «الحمل» وبكت على الشعير المغربل فامتلأت مخاليها دموعا.
معاصرنا مهجورة لا نوح فيها، ودواليب (كراخيننا) انقطع غناؤها وأنينها.
أفواه خلايانا صافرة، وملء أحشائها حنين إلى الطحين.
وبيوتنا تنكر الأشباح المتمخطرة فيها مدعية أنها من سلالة الجبابرة ...
الله! الله! كيف أمست العيدان رمادا وما أدخنت ولا التهبت؟!
مات الناطور، وسقط النطار، فيا طول شوقنا إلى القثاء، ويا لهف قلوبنا على العناقيد!
وا حسرتاه على جنينتي، كيف صارت بورا كاشرا بعد أن كانت ابتسامة فاتنة. •••
أي بني، لا تجعلوا حائط جنينتي مبكى.
انصبوا لجنينتي ناطورا في حنجرته الرعد، وفي مقلتيه البرق، وفي ساقيه العاصفة، وفي قلبه القضاء والقدر، فلا حياة للبستان بلا ناطور.
أقيموا - يرحمكم الله - ناطورا لا ينام، أو «نطارا» كأنه الناطور.
لو سودتها!
إلى صديقي النائب الأستاذ ميشال زكور حين تحداه المندوب السامي في 15 / 12 / 1934 وقدم له ورقة بيضاء ليكتب عليها استقالته من النيابة فأحجم ولم يفعل. نشرتها «صوت الأحرار» ورد ميشال علي يقول: أسودها وأبيض وجهك. ***
لو سودتها يا ميشال، لبيضت وجه أمة صيرها زعماؤها أمة.
لو سودتها لأشعرت «العميد» أن في سويدائنا رجالا غير المساومين والمقايضين والمبايعين.
لو سودتها لنضحتنا بالزوفى فطهرنا، وغسلتنا فصرنا أكثر بياضا من الثلج.
لو سودتها لمحوت حقارتنا، وأزلت صغارتنا، فحتام تراودنا الوظيفة عن أنفسنا؟ وإلام تقتل إباءنا وعزتنا؟
لو سودتها وأسلكت يدك في جيبك لخرجت بيضاء من غير سوء.
لو سودتها لأخلد ذكرك إلى «يوم تأتي السماء بدخان»، والوظائف سواء طويلها والقصير.
لو سودتها توا لكنت حقا «ولدا رهيبا»، فالاستقالة باخت وذهب رواؤها، ولا سيما أنها من «اللجنة» لا من النيابة، فلماذا لم تتبع رأسها الذنبا؟
حبذا النواح على رأس الميت، وما أشنع الترنيم في المأتم.
أأقمر ليلك يا أخي، فتنحلت حكمة الشيوخ؟
ليتك تمثلت بقول جرير: أهذا الشيب يمنعني مراحي؟!
ولم تفتك نخوة الفتاء في موقف يقرض اللحم ويذيب الشحم.
أرأيتها «تهتز كأنها جان» فراعتك ولم تمد إليها يدا؟ لولا فعلت لانبثق لك فجر جديد من الكرامة، ويوم مجد لا ينساه التاريخ.
ليتك تناولتها ووقعت عليها: نحاول «خبزا» أو نموت فنعذرا.
وا حرستاه، لقد عادت إليه بيضاء فذكرته ب «كانت الأرض خاوية خالية ووجه الله يرف على وجه المياه». •••
عجنتنا الأيام وخبزتنا، وسقطنا سبع مرات قبل أن نبلغ الجلجلة، فماذا تعلمنا إن لم يكن التضحية؟
المقابر ترجع الصدى، أما أوديتنا وكهوفنا فصماء.
الصحاري اشتبكت أشجارها، أما جبالنا فقرعاء.
الجداول تلغط وتزمجر، أما أنهارنا فخرساء.
إنا إلى مسيح جديد يبارك الكسرات الباقية في معاجننا لأحوج منا إلى بطرك يبارك أغصان الأرز.
إنها - علم الله - ندامة وانسحاق قلب على أيام «كراين»، والقلب المنسحق المتواضع لا يرذله الله. •••
قد سقينا الخل والمر وتم الكتاب.
ابن الحرية، الشهيد الأزلي، تبرع له الرامي بضريح، أما نحن فيعلم الله أين نقبر.
لو سودتها يا ميشال، لكنت بيضتها ...
دقات حزن1
ولول أيها السرو، فإن الأرز قد سقط؛ لأن العظماء قد دمروا ...
زكريا 11 / 2 ***
لا تقرعوها حزنا فالطفل لما يمت، إنه يحلم بالحجام والعلق.
لا تقرعوها حزنا فالمتصوفون ماتوا وانقرضوا.
لا تقرعوها حزنا فتقلقوا الصليبيين والمردة النائمين على الشاطئ.
لا تقرعوها حزنا فقد مات من يحترمون «الموتى»، ويخشعون أمام القبور.
لا تقرعوها حزنا فيراع الأطفال والعذارى ويتساءل الكهان.
لا تقرعوها حزنا، فإن كانت حديدا ونحاسا، فالقلوب من فولاذ.
لا تقرعوها حزنا فقد ذهب من كانوا يسمعون صوتها منتصبين حاسرين.
لا تقرعوها حزنا فيتشفى «ابن أيوب»، ويشمت «ابن عثمان».
لا تعتصموا بحبالها كثيرا، فمنها البلاء، وسوء المصير.
قاتل الله التعصب ما أكثر شهداءه، وما أوسع ملكوته!
تنازعتم على السماء فإذا بكم لا أرض تقلكم؛ ولا سماء تظلكم. •••
ماذا دهى لبنان، ما روع مرابض الأسود، وجبال النمور؟!
إن قرع الأجراس حزنا لراعب تقشعر له الجلود.
ما سمعنا بهذا ولا خبرنا بمثله التاريخ من أيام هولاكو حتى المماليك.
أجراس الموارنة تدق حزنا، فمن الميت يا ترى؟
أجراسهم تنتحب وتولول، كانت للصلاة والتنادي فصارت للاحتجاج والنحيب، فيا للذل! •••
يا إخوتي!
منذ مئات من السنين وكهنتكم ورهبانكم يجأرون: «وانصر ملوكنا المسيحيين على أعدائهم»، فترددون: آمين.
لا تصلوا فهي سلاح العاجز، تنسد بوجهه الأرض فيهرب إلى السماء.
لا تصلوا ولا تبخروا فيسوع مزكوم، والعذراء طرشاء.
لا تستجيروا به فهو في شغل عنكم، هو في حرب مع الرب الثاني ...
لا تصلوا فالجبابرة لا يسمعون الصلاة، ولا يبالون بالهمس.
ستقولون: هذا كافر مشهر، لا يعبد ما نعبد.
قولوا ما شئتم، سنرى أينا أشد إيمانا ...
ماذا أقول لكم يا إخوتي؟ فأنا إلى الدموع أحوج مني إلى الكلام.
الدين مطية السياسة، وأنتم مطايا الدين، فاحملوا الاثنين إن استطعتم، وسيروا على الجوع والوجى. •••
أجراس «بلادي» دقت كلها حزنا فمن الميت يا ترى؟
الميت «طفل» ولكنه ذرية بأسرها.
حبل به تسعمائة عام، وبالأوجاع ولدته أمه، ومات ولما يبلغ السادسة عشرة.
الميت وحيد لأمه، وهي قد بلغت من العمر عتيا، لله خطبك أيتها العجوز!
مات أملك، يرحمه الله، وأمنيتك خنقت في المهد.
عجلي قبل احتكار الزهور، اضفري إكليلا لابنك عريس البلى.
الأحلام جميلة، أما اليقظة فشوهاء قرعاء.
عظم الله أجرك يا أماه.
صلي ولا تملي؛ لئلا تدخلي التجارب.
عيد الشجرة
للغرس وقت، ولقلع المغروس وقت.
الجامعة 3 ***
هذا نوار التهبت عين شمسه، فنهاره يهذي، وليله يعربد.
السنونو تطوف كالمجنونة، والفراشة ماع جناحها.
فكيف تغرس أيها الأمير، في هذا الجحيم؟!
السموم كوت أفواه البراعم المتأهبة لتقبيل الأثير.
والحرور لطمت الأقحوان فصار أدرد.
فكيف تغرس أيها العميد؟! •••
ماذا تنصب يا سيد، أسدرة أم أرزة؟
أشجرة حواء الشرق الحالمة بالملكوت، وعلى جذعها تتعانق حيات التجربة؟
أم شجرة حواء الغرب التي تطاول السماء فتقتنص الغذاء من فوق ومن تحت؟
أفسيلة من شجرة «أفقا»، أم التعاويذ والتماتم الموروثة عن الفينيقيين؟
أم جذعا من شجرة «فرسايل» يستأثر بالتربة والهواء، ولا يؤمن إلا بما يرى؟
اغرس «حقوق الإنسان» في الحقل المريض فيشفى، تلك شجرة عدن الجديدة التي غرستها أمتك في بستان الإنسانية.
اغرس، اغرس، أصلح خطأ حيرام وسليمان.
اغرس، اغرس، أما أنا فلا أستحسن غرسا بلا قلع.
البيت يحلم بالعرائس فزفها إليه.
والحماة خلقت للبربرة، فلتنشق.
اغرس لنا تفاحا جديدا فنأكل ونعرف ...
حبذا الطرد من الجنة، فلولاه لكان باستور كمتوشالح.
الخطيئة الأصلية تغسلها حفنة ماء.
ونفخة من فم ملاك أسود تخرج الروح النجس ...
انصب لنا شجرا يثور على نفسه، فلا ينبت لتأكله الحشرات وتعيش عليه الطفيليات ...
اغرس لنا شجرا جديدا، في عوده العبير وفي ماويته الرواء، والغذاء، والشفاء.
اغرس في حقل العقل والقلب، فالمغروس في التراب تتلفه العناصر. •••
هذه شجرة جديدة فماذا نسميها؟
هذه شجرة وليدة فكيف نربيها؟
أنتعهدها بالجز والسماد والسياج، أم نصلي «لسيدة الزرع» فتحميها؟!
ها هم يرفعون الكؤوس على سلامتك، وحياتك، يا بنية، احلمي يا بنت المجد والسعد بماء السماء!
أما أنا فإنني أشرب نخب الأتون العتيد، والحطاب العنيد!
حامي التخوم
هلم أيها الروح من الرياح الأربع، وهب في هؤلاء المقتولين فيحيوا.
حزقيال 37 ***
1
هنيئا لك يا فاعل الخير عند الله ...
رددها كثيرا فما صدقه أحد، وظلت يده فارغة كصندوق الوقف، وخزانة الدولة ... وكوته الشمس فركع في سفح حائط يصلي: «يا مقسم الأرزاق أراك نسيتني!
يا رازق الحشرات أشبع هذه الدودة الآدمية!
يا مسعف الفراشة بجناحين شدد ركبنا المخلعة!
يا كافلا رزق الجميع أسألك رغيفا!
سلطتني على البهائم والطير، وأسعدتها دوني.
أصلي والرغيف مجفل مني، والراحة معرضة عني.
رقت عظامي وحالي، وكالحشيش يبست.
علمتني ألا أهتم للغد، فطويت أمسي متكلا عليك.
وأعطيت خبزي باسمك فطويت أيامي جائعا.
ليتك ترد لي مئتي واحدا فأشبع.»
وتبسط البائس في نجواه حتى جمح فقال: «أعطني يا رب خبز عيالي، أو هد هذا الحائط علي.»
قضقض الجدار فتقهقر الرجل مذعورا وقال بابتسامة المستغرب: «وا لوه! أتقتل إنسانا ولا تعطيه رغيفا؟! ترى ماذا يفعل عدو البشر؟»
فانتهزها إبليس، فحذف من قرنيه وذنبه ما استطاع.
وظهر فوشت به ابتسامته القرمزية، فخاف الرجل وبسمل.
وقهقه الشيطان واستخفى.
وانتهت التجربة.
2
خرج الأمير للصيد في بطانة رخيمة، فوقف «المصلي» في طريقه داعيا باكيا، فما بالى به، فطفق يقول وهو يساير الموكب:
أنا من رجال مولانا الأمير الأتقياء.
أنا من عشيرة تصلي لأجلك كل يوم ولا تثور ولا تتمرد.
شريعتنا: لا سلطة إلا من الله، وشعارنا: الحكم ملح الأرض.
كم دعمنا عرشك بجماجمنا، ورفعنا سواعدنا حوله سورا، أسماؤنا مسجلة في بلاطك، وفي بيتنا خط من أجدادك.
سأل خبزا فأطعم وعدا.
وسار الموكب.
3
وفي ذلك اليوم وتلك الساعة قطع الطريق على «الأمير» زعيم عصابة، وفي يده خنجر محموم، وطبنجة حبلى، وحوله رجال يصلون صلاة عقلية ...
فمرحبه الأمير مداعبا وسماه سبع الغاب ...
أغنت الرجل فراسته وشكته عن الضراعة والابتهال، فوهبه الأمير ما وهب.
وأوصاه بخفر الحدود، ومنع التخوم، فصار من أصهار بيت المال.
4
وهام المصلي على وجهه يطلب قوتا، استخبر الريح فنمت، فأدرك العصابة على الطعام فأكل من شوائها وتزود.
جرى حديث «الأمير» فحار طرف المصلي في الأفق البعيد، وألقى الزعيم على الأرض نظرة جبار عنيد.
سار المصلي يعد حبات مسبحته، ثم توسد الصدقة الحمراء مهموما.
وفرق «حامي التخوم» دنانير الأمير على عصبته، ونام يخفره السيف متخوما.
تسبحة الميلاد
المجد لله في العلاء، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر.
الزبور ***
المجد «للطاغوت» في العلاء.
وعلى الأرض «النار والحديد». «والغاز الخانق» لبني البشر.
افتح «يا علم» شفتي لينطق فمي بتسبحتك.
المجد لك أيها «الدولاب»، المجد لك.
فلتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض! «الكهرباء» صار جسدا وحل فينا.
فأنار الأبصار، وأظلم الضمائر .
وسهد الحيوانية الهاجعة في إنسانيتنا.
النفط، والفحم، والكهرباء، ثلاثة أقانيم في إله واحد.
للمؤمنين به ملكوت الفناء.
ونعيم النار لمن لا يشك فيه.
إلينا أيتها القذائف، هلمي فأبيدينا.
فما أحلى المنايا راقصات! •••
لقد صارت المجوس تيوسا تنطح، والرعاة ذئابا تذبح.
وإلى الموت يهرول القطيع الأبله.
لا يبصر الخنجر ضاحكا، والمدية الظامئة لا يراها.
جاهد جاهد أيها «السلم» المداس.
افرح بتقبيل النعال إلى الأبد.
اتل فعل السجود ما عشت.
افتح ذراعيك في الحر والقر.
فأنت ظافر بالأجر الأرجواني. •••
دلالا يا حوت يونان.
وعجبا يا رخ الشيطان.
اقبض على الرقاب بأصابع النار.
ناد على السلام المفلفل.
تبل المعتقدات بالكمون والبهار.
وافرح بالمولودين للمسلخ. •••
أيها المبتهجون بميلاد رب السلام.
أما حان أن تتركوا صلوات البنج؟!
أما حان أن تدعوا تسابيح الخشخاش؟!
متى تهللون صادقين:
عويلالويا.
رصاصياليسون!
أجراس بيت لحم
ولولي يا أجراس بيت لحم، فالصبي مخنوق في المهد.
ولولي، أعولي على شهيد الأقمطة واللفائف.
قد أكلوا هدايا المجوس، وصيروا البخور أعلاكا للمضغ.
ولولي أيتها النواقيس، فالحمل صار كبشا، طورا ينطح، وتارة يذبح.
ولولي، لا تسكتي، فمن لم يطف سراجا مشعلا صارت صلبانه وقودا للحرب.
والبنزين والغازات أخذت قياضا بمباخر هيكله وكؤوسه.
أجل، لقد ضربت الصلبان سيوفا.
واستحال قضيب يسى دبوسا.
أراء أنت يا سيد؟! •••
سمعت أجراسك تعول أيتها الصغيرة في الأمم، فاقشعر بدني وقف شعري.
سمعت في تموجاتها مدافع تقهقه، وضحايا تغرغر.
تعالي يا مريم، واغمري الوليد بالدموع، فقد صار مهده تابوتا لعهده.
انبعث من مغارته لهاث المسلولين.
صار «بابا نويل» لعبة للأولاد يملأ الأحذية ملبسا.
وشجرة الميلاد حملت جعلا ودمى، وأثمرت مفرقعات.
ولولي يا أجراس بيت لحم، فيسوع مات ولن يولد بعد.
مات الذين يسمعون كلمته، فإلى أين يرجع؟ •••
يا جبابرة السلام
ماذا حدثتكم أجراس الميلاد؟ وماذا أملت عليكم؟
أخطة رفيقة بأختنا السمراء، حبيبة سليمان التي لوحتها الشمس؟
ماذا قلتم لملكة التيمن التي أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان ...
لا شك أنكم تقولون: ههنا أعظم من سليمان. •••
لا ترنيم ولا تهليل ، بل صراخ وعويل كالذي سمع بالرامة.
زغردي يا أجراس روما، وصيحي يا نواقيس نورتردام، وزمجري يا أبراج وستمنستر.
دندني، طنطني يا أجراس أورشليم وبيت لحم.
أيقظي إيليا، ونبهي أحنوخ.
فالمسيح الدجال قد ظهر، وملأ الأرض ظلما وجورا. •••
حقا يا سيد إنك حمل وديع، تؤكل والمغفرة ملء فمك القدوس.
أنت تطلب القلوب وهم يطلبون العشر، ويسمونه «البركة».
يا رب الأكارين والعمال، إني أحرث كرمك ولا أطمع بدينارك.
لا أسألك حتى كسرة أسند بها قلبي، فقد أبيت كهنوت الخبز.
لا أدري كيف أخاطبك، علموني ونسيت.
ها أنا أدنو منك كالفلاح من سيده الملك، فتضحك حركاته المرائين ولكنها ترضي مولاه.
وكأرملة مسكينة تبسط يدها للأمير الخطير قائلة له: حسنة عنك يا ابني.
هكذا أمد يدي نحوك، يا خطيب الجبل؛ لأصافحك وأمزج جراحي بجراحك.
يا أبا الأحرار، يا أخانا!
إن حذف اسمك من الإنسانية يفقدها معناها.
أعلمت لماذا يريدون أن يخلقوك كل عام؟
أما ولدت وندمت؟
عفوا يا معلم، إنك تخلق في كل جيل وتعلم إنجيلا جديدا.
أنت بيننا ولا نراك، وأنت فينا ولا ندري.
حسنا تصنع.
إياك والظهور، ولئن فعلت لتحملن صليبا أعلى من لبنان.
لا تخدعك هاللويا، ولا تغرك كيرياليسون.
إنا نطعم البحر حشرة لنأكل حوتا.
ها قد ولدت ثلاثة مرات، لا مرة واحدة.
فهات يدك يا سيد.
قل ما تريد.
وماذا صار؟
تألم ومات وقبر، على عهد بيلاطس.
قانون الإيمان ***
الثعالب تعوي أجواقا، ولا تدنو من الأسد الصريع.
والجنادب ترقص تحت قدميه ولا تعلو قدما.
والأفاعي تتململ؛ لأن الحاوي كسر أسنانها.
والنسور تتطلع إلى طائر تجاوز تخومها.
والغربان تحوم ولا تقع؛ لأن الجثة استحالت عالما جديدا.
والزهرة تبكي عطرها المسجون في القارورة.
والشجرة تعجب لجذعها اليابس كيف احمر وأثمر.
والأرض أكبرت أن يصير الجدول بحرا أعظم.
واستغرب السيف كيف ينتصرون بلا سيف!!
والأتان فكرت بولاية العهد.
والسماء فاتتها المأدبة العظمى، وجاءت بعد رفع المائدة. •••
وانقضت ساعة الرعب، وعاد القطيع إلى المرعى.
فأكل «الحمل» بلبن أمه، وصنع جلده فروا.
وصار دم الصديق أرجوانا.
وجراحه أزرارا بعراها.
وحذاؤه للتبرك والتقبيل.
والقصبة عصا موسوية.
ورداؤه برفيرا مذهبا.
وقميصه زركشا.
وكوخه قصرا معمدا.
وصليبه عرشا صاخبا.
والحبل سلسلة ذهبية.
والعمود برجا هائلا.
وكأس الخل خمرة معتقة.
والأتان ستة عشر رجلا.
والإنجيل مجنا للجبابرة.
والكلمات مدافع وسيوفا.
والآيات غازات خانقة.
والطوبى صواريخ.
والملكوت طائرات ودبابات.
والسلام نارا زرقاء.
والأردن نهر شريعة الدم.
والصفصاف الباكي قندولا لا يزهر.
والمعصرة كجبهة الزانية.
وعرس قانا بيت فسق ودعارة.
والسذاجة تهاويل وتعاويذ.
وعشا العلية مفتاح الخزائن والجيوب.
والرعاة جلادين وجزارين.
وبيت الصلاة مخزنا للغفران.
والذي لم تسعه الأرض نام في البرشانة.
فغطى الطحلب وجه البحيرة النقية.
وسرح العليق فداس البنفسج.
ومشى الوادي على قرن الجبل.
ونبت القطرب والدبيق فخنق الزنبق.
وامتلأت الأرض من شقائق النعمان.
وصار ابن الإنسان إلها.
إن ليسوع إخوة في الألوهة.
أما يسوع ابن الإنسان ففوق هؤلاء الآلهة.
يحيا كلما مات.
ليته يصلب كل يوم، فجذعه عطشان إلى ماء الشهادة.
ومن عصي عليه إدراك سر ملكوته فليسأل حبة الحنطة، فعندها الخبر اليقين ...
33-1935
ها إنك تدعو أمة لم تكن تعرفها، وإليك تسعى أمة لم تكن تعرفك.
أشعيا 55 / 5 ***
منذ تسعة عشر جيلا والقواطع تحوم في الآفاق.
تجيء كقفص بايزيد، وتعود كعدل بنيامين.
ومنذ تسعة عشر جيلا يمحو ضباب لهاثنا خطوط فجرنا.
نقطع الطرق بالأقواس الخضراء، وأغصان الزيتون والنخل ...
جاء «المعلم» فخلعنا ثياب عبوديتنا وفرشناها لأتانه.
وأشار أسيادنا فانتزعناها لنلبسها إلى الأبد.
حييناه بأوصانا لابن داود، وأومأوا فجحدناه، ونام في الحبس.
تثاءبت ذاتنا الكبرى فصحنا: مبارك الآتي باسم الرب.
وعوى الثعلب الكبير فصرخنا: دمه علينا وعلى أولادنا.
واغتر الزعيم بعاصفتنا فقال للمحنطين: إن سكت هؤلاء نطقت الحجارة.
وكان المساء ونامت العاصفة ...
وصار صباحنا مساء، فانهلت الديم من أفواهنا على الوجه الغريب.
أما تلاميذه فواحد باع وقبض، والأحد عشر هربوا، مع أن معهم سيفين!!
ونام الملك على السدة الأرجوانية، فتضعضع السنهدريم ولم يسترح غير بيلاطس.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
نمسي مؤمنين، وننام مشككين، ونكفر عند صياح الديك. «مرقسنا» يتجند ولا يهرب ، «ويوضاسنا» لا يندم، وكلنا بطرس ويوحنا ...
يا أحد الشعانين.
يا رمز عبودية تحتضر ولا تموت، فكأنها بألف روح!
يا مشهد ذل الشمس أمام القمر!
من لي بحذفك من الطقوس، وسلخك من التقويم؟!
أي بني!
ما أنذل من يواكب يوم الأحد، ويمالح ليلة الخميس، ويصلب عصر الجمعة ...
لا تنسوا الخبز والملح، فشر الناس من ملحه على ركبته.
رافقوا «الآتي» إلى الجلجلة، وإن يغلبوكم فلا تهربوا.
أعينوه على حمل صليبه، فسوف يكون دلبا أو سنديانا.
وليمت على أعينكم، ففي أعين الأصحاب بنج وبلسم.
لا تراعوا، فنزع الشهيد تمخض أمنا العظمى بقمة جديدة.
يا عيد الشعانين.
يا يوم العقول الوارمة، والنفوس المفلوجة!
يا عيد الأمل الأعشى، والعبودية المقعدة!
من لي بحذفك من بين الطقوس، وسلخك من التقويم؟!
يا صاحب العيد، قل لهؤلاء الصبيان: كونوا رجالا!
ففي كل عصر قيافا ويوحانان.
وفي كل عهد «بيلاطس» ...
بيض للمعيدين
البيضة رمز قبرك الحي المختوم.
كانت في عصر ملكوت الروح رمز الحياة السرمدية، والقيامة المعنوية، وصارت في عصر مملكة البطون مفتاحا للقابلية!
عندنا بيض، أيها المعيدون!
أبيض نقي، غذاء للذين يحيون بالحق والروح.
عندنا بيض مصبوغ يا معيدين!
أحمر كعيني المجدلية عند الجلجلة، وأصفر كوجهها عند اللقاء الأول، صباح الأحد.
أرجواني كثياب المزربان، وأخضر كرجاء بطرس بعد الجحود، فالإيمان.
أسود كوجه قيافا وقلب يوحانان، وأزرق كفكر يوحنا حين بات المعلم في الزندان.
وبلون قوس قزح للهائمين والهائمات من متصوفي هذا الزمان.
وعندنا بيضة مذرة فمن يحزر لمن هي؟ •••
البيضة مستودع الحياة المختوم، كانت رمزا سنيا فصارت مأكلا شهيا.
بيض، بيض!
عندنا بيض من جميع الألوان، ولكنه - وا أسفاه - بيض بلا حياة.
ديوكه معقمة، ودجاجاته لا تقف، والفراخ خرساء لا تصوصي.
وعندنا بيض آخر يفقص للعلماء أفاعي وثعابين.
وللبيانيين بلابل وحساسين، وللكهنة حمائم ويماما.
وللحزانى فراشات وخرفانا، وللفلاسفة ضبابا ونسورا وعقبانا.
وللمتفلسفين خنافس وجعلانا، وللمرائين قططا وثعالب وظربانا، وللفنانين ظلالا وأنوارا وألوانا.
وللفقراء وحدهم، خبزا وملحا. •••
البيضة رحم الحياة، ومبدأ الكون المصون في صلب الدهر.
أعدناها إليك مصبغة فتنكرت لك.
لقد أفسدوها، ذقها لترى، إنها مذرة.
سرقوا منها عنصر الحياة فأمست سما قاتلا.
في محها نتانة سدوم، وفي زلالها عقوق أبيشالوم. •••
يا صاحبي، عجيب أنت!!
لك في كل ثورة يد، وفي كل زوبعة أصبع.
أنت ميت حيث نظنك حيا، وحي حيث تظن ميتا.
أنت ميت في السميذ، وحي في القلوب النقية.
من يظن أنه يدركك في بيتك فمن وجهه تفر.
يا عريس الحياة، ورجل الآلام، ساعدني على حمل صلباني في البيت والعالم!
إن لم تدعني إلى الإفطار في العلية فمعك أتناول طعامي كل حين، ولكن بيدي.
وإن لم تغسل قدمي فقد غسلتهما أنا على ضفة نهر الشريعة.
أيها الحبة التي تموت كل يوم.
يا سيد المندفعين، أنهضني كبطرس من لجتي.
قل للديك يصيح.
لا تقل لي يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟
اقلع بذور الشك، أنت قادر.
أحب فيك الإنسان الذي لا يموت.
أحب فيك الكلمة التي لا تفسر، والروح الذي لا يدرك.
أحب فيك العريس الشاعر، يصرف السبت بين الزرع آكلا فريك السنابل الذهبية. •••
وقفت أمس في «قبة الوادي» أجس أعصاب الليل.
إن نبضه عنيف، وابتسامته سوداء.
الفجر بعيد جدا.
الشمس مريضة، وشيخ الدهر معتل هزيل.
إن فم قيصر مملوء ابتساما أصفر.
صار الدين متحجرات، يتعبد الناس ولا يؤمنون.
أمست العبادة عادة، فكيف تغرورق أجفان الغلس، وبم تبتل أجفان الفجر؟
إن دينارك قد تدهور، وفلس الأرملة زائف.
يا رب البيان!
إن أقلامنا تفتش عن الإنسان الأحسن، والعلم يهدم ما نبني.
لقد تداعت مملكة الروح.
أيها اللهيب الذي دانته القشة، حنانيك، فبرد اليأس في القلوب.
أيها الشفق الأرجواني، نجنا من ريح الشمال ... إنها قاسية.
لقد ضخم رئاتنا دخان المعامل، وأضعف القلوب أزيز الطائرات.
أيها المترنم بأناشيد الحياة، عند الغسق الوردي!
أيها المنحني تحت ابتسامة الليل السمراء!
أيها الهائم الجميل، يا فتى الجليل!
يا شاعر كفر ناحوم، ويا خطيب الجبل!
يا ربان البحيرة، ويا ثائر اليهودية!
يا فدائي أورشليم، أيها المصلوب النحاسي الجبين، لقد كنت أعمق من الهوة، وأصمت من المادة، ولكنك تنطق بألف لسان.
أيتها المأساة الخالدة، التي تجدد كل يوم، لم لا تعلمني التمثيل؟
يا حلم البشرية الجميل، متى تداعب أجفانها مرة أخرى؟
كم عملت على إزالة دمامتها ولم تقدر!
يا ناسك الدنيا، أنت فينا ولا نراك، أنت معنا ونطلبك ولا نجدك.
يا صديقي الحميم، أنى اتجهت أراك معي.
لقد مالحت الدنيا عند الجبل، وتعشيت مع «مندوبيها» في العلية.
أطعمتنا الخبز السري، وكان إدامنا سمكا طريا راعشا، اصطادته كلمتك الكبرى من بحر حنانك الأبدي.
لله أنت من نور وثاب، اجتاح صمته الظلام الصاخب، ثم اندحر غالبا مغلوبا.
حنانيك يا بيضة الزمان!
أنظل نأكل البيض حتى مجيئك ...
إن بيضة العيد استحالت قنبلة مدمرة، فماذا نفعل يا سيد؟
كيف نحتفل بفصحك وأنت الضحية؟ إن لم تكن أنت فتعاليمك ...
أيها الحمل الوديع، قل للرعاة يرأفوا بالقطيع!
ألا ترى الزوابع الثائرة حول مهدك؟ قل لها تسكت!
عيد قيامة الأرض
إنك من التراب، وإلى التراب تعود.
التوراة ***
ما أشهى وجهك ضاحكة أيتها العجوز، وما أبهاك في ثياب العيد!
ما أفتن تبرجك يا بنت الضاحية، وما أروعك بزينتك أيتها القروية!
ولت ملايين السنين ولم يلو شبابك.
تنامين في البراعم وتستيقظين في فم الزهرة.
تراهقين في أقمطة الأكمام وتبلغين في الثمرة.
فما أحلى شبابا يتجدد كل عام!
أيتها الممتلئة نعمة، السلام عليك!
في ثديك غذاء لا يفنى، ومن أحشائك النقية يفيض النور، فمباركة ثمرة بطنك.
أيتها العذراء التي تحبل بلا دنس، وتضع بلا زحير، طوبى لبطن حملك ولثديين أرضعاك!
أنت التي تحيي وتميت، فحنانيك يا أم الرحمة والرأفة!
مباركة أنت بين الأجرام، والسبح والمجد لك.
تداعبين في ساعة الرضى بألسنة الجداول ونجوى النسيم، وتحردين فتزجرين بسياط البروق وزمجرة الزوبعة.
الزلزال ابنك الشرس الأعمى، والعاصفة بنتك الراقصة تطلب رأس يوحنا في طبق.
ما أكثر بنياتك الهائمات في أزقتنا! يملأن الوجود أن تغمزي، ويختفين متى أومأت.
بنات كلهن عذارى، نسمع صوتهن فنهرب، ونتوارى إن برزن لنا.
ما أقسى قلبك يا أم الشهداء !
ما أبلغ وحيك يا أم الأنبياء!
أما أنعشهم هواؤك فلعبوا على صدرك وناموا بين نهودك؟!
ما أعذب لبنك يا أم الأمهات! أية أم لها ما لك؟! لبن حار شتاء وبارد صيفا!
نشج وجهك فتبتسمين، ونبقر بطنك فتضحكين، وتجودين، ونرقص على أكتافك فلا تغضبين.
تعانق الشوق والمحبة فولداك، وكنا نحن كلمتك المتجسدة في فم الحياة.
أبناؤك كفرة يا أماه، فهم الذين نقصوا قدرك.
عبدوا الأجرام كلها وجحدوك، إنهم يؤلهون ما لا يدركون!
يعبدون القوة والثواب، ومن رأى أقوى منك وأجزل ثوابا، وأكثر خيرا أو بركة؟!
تمتعوا بظلالك وخوفوا الناس من أشباحها، نصبوك للناس مفزعة ليستبدوا دونهم بخيراتك.
صاغوا مباخر آلهتهم من معادنك الثمينة، وتعاموا عن مجامرك العابقة في هيكلك الفسيح.
لا احتراق ولا دخان فيه، كل شيء هادئ في كنيستك الجامعة، المقدسة.
إن أعق أبنائك هو هذا الحيوان المتفلسف.
يملأ بطنه من معجنك، ويرفع رأسه ليحمد سواك.
يقتسم أجزاءك ويقتتل حول مائدتك الغنية، وأنت ضاحكة ساخرة.
في كل عام تؤدبين قارة، وفي كل جيل ترفسين أمة، والجهال لا يرعوون.
يا أمنا الواهبة الدر والإلماس ما أسخاك!
كل ما فيك يدل على المهندس، إن يده في كل شيء ما عدا خرافاتنا.
ما أحلمك يا أماه، فمهما جننت فلا تقتلين 180000 رجل كذلك الملاك ...
ومهما سخطت فلا ترجعين الظل عشر درجات في سلم آحاز.
أحبك يسوع فبكى في البستان، وهام بك موسى فناح قبالة أرض الميعاد.
واشتهى بنتك آدم فأورثنا الخطيئة الأصلية.
ما لنا وللنجوم، فهي فقاقيع عائمة على وجه بحر الخواء.
يا جدتنا الشقراء، ما أجمل بنتك بلا حذاء!
ما أشهاها نائمة بين ذراعي أخيها القمر! •••
وا خيبتي في علمي يا أماه، كنت سعيدا يوم آمنت أنني ابنك الوحيد، والملكوت ميراثي.
إن حلما لذيذا لخير من يقظة قاسية!
ما أفادني علمي شيئا إلا أنك أنت وحدك العظيمة بين النساء.
إنك لست منفى ولا وادي دموع؛ لتعطيك اللعنة جميع الأجيال.
فوا سوء حظي أنا المصاب بحمى الربع!
ما أقسى يقظتي الزرقاء، ما أمر خيبتي السوداء!
السلام على أم تخلق من المائع جبارا يفتق الصخور!
السلام على أم الأمهات وقدوة الوالدات التي لا تخصص ولا تحابي!
كل أبنائها سواء، وما ميزهم إلا نحن.
نهر مقدس، ونهر ملعون، ماء يمحو الذنوب، وماء تغسل به الأوساخ!
زيت تمسح به جبهة الملك، وزيت تدهن به الأرجل والعورات.
سبحانك يا مقسم الحظوظ حتى في الجماد والنبات! •••
إلى أين يا ماء الغدير، خذني معك!
احملني يا أخي على منكبيك، وغن لي في الطريق، فأطرب وأسلو!
كنت أركع في الهيكل وسوف أدب على جدرانه.
فلا ناقوس يهزني، ولا الترتيل يشجيني ...
كنت شيئا فتحولت أشياء، قد صرت دنيا وعوالم.
قد يقتلني حفيدي، ويدوسني ابني، ولا يدريان أنني الذي خلقتهما. •••
هنيئا لك عيد قيامتك يا أماه!
في أي عب كنت تحبسين ذاك الغضب ثم يفلت كالمجنون؟
يا حمامة نيسان الوديعة، أين أفعى شباط؟!
أشفيت غيظك فعدت هادئة مسترخية؟
أنت كأختنا الجميلة، غضبك جحيم، ورضاك نعيم!
البنت سر أمها، فهي مثلك معشوقة، ومثلك توصم بكل عيب! •••
تعال نتصافح يا أخي، علام نقتتل؟ فهذه أمنا تنادينا!
نحن إخوان وأمنا غنية جدا، فلنتقدم إلى مائدتها بلا نزاع، فخيرها فائض.
إنها تنادينا: تعالوا إلي أيها الجياع والعطاش، فتحت كل حصوة رغيف، وفي صدر كل جبل ألف ينبوع وينبوع.
فلنتسالم في فردوسنا الأرضي فلا نخسره مرتين ... وليأت ملكوت الله متى شاء!
المجد لك يا أماه!
المجد لك الآن!
وفي كل أوان!
وإلى دهر الداهرين!
آمين!
الجرماني ابن الله
أحدثت في ألمانيا سنة 1935 كنائس وثنية حل فيها تمثال هتلر محل تمثال السيد المسيح، وتمثال المرأة الألمانية وأولادها محل تمثال العذراء، وأنشد جوق من الشباب الهتلري في إحدى هذه الكنائس الترنيمة التالية:
أنت يا ألمانيا ستبقين إلى الأبد، ونحن نذهب.
أنت يا ألمانيا سوف تزدهرين بينما نذبل نحن؛ كل ما نفعله نفعله لأجلك، وكل ما ضحينا ضحيناه لأجلك!
إن أبناءنا وأحفادنا سينشأون ويعيشون ويعملون ويحاربون لأجلك.
لأجلك أنت يا ألمانيا!
ثم أعلن «قانون الإيمان» الألماني الجديد وهذا نصه:
أؤمن بالإنسانية سيدة كل شيء وكل قوة في الأرض.
وأؤمن بالجرماني ابن الله المحبوب وسيد نفسه، فقد حبل به تحت الفلك الشمالي واحتمل العذاب في حكم الباباوات وعبدة المال؛ ووشي به وضرب وأهبط إلى مهاوي الشقاء، وحكم عليه الشياطين - على اختلاف صفوفهم - بالنزول إلى الجحيم.
وأؤمن بروح الإنسانية الصالح، وبكنيسة المستقبل المقدسة، وطائفة جميع الذين هم أصحاب نيات حسنة ولا سبيل فيها إلى الأنانية، وبولادة الكمال ولادة ثانية، وبالحياة الأبدية التي لا أول لها يعرف ولا آخر يوصف - من الأزل إلى الأبد!
وكان أن اطلعت على نبأ هذا الحدث الجديد فكتبت الفصل الذي يلي تحت عنوان:
ثلاثة أقانيم
انفث، أيها البركان المصدور، صديدك الحديدي، في الأثير المتململ!
ارشق الخواء بالحمم، ولا تبال بغمز النجوم وبسم القمر!
أيها الجبار الضرير، ستبصر، ولكن الدموع السوداء والأشلاء الصاخبة.
أيها الشاعر المحموم، ارقم ملحمتك الحمراء على الرقعة المرقشة بإزميل الفن وريشة العبقرية.
أيها الطماح المقرور، ستحصد مناجلك الراقصة، سنابل المروج وشماريخ الجبال.
أيها الملتهم العنيد، لثمار البطون وولائد الفنون.
رويدا، رويدا، رويدا، لا تغرك شهرة البراكين، وعظمة التنانين!
ستصيرن براعيم البركان الوردية رمادا، وسيحور حممه سمادا، فترعى الحملان على الفوهة الخضراء، وتبعر الأرانب على الجبهة الشاحبة.
أما لحوم التنانين فتباع للطهي والدق، وعظامها للحلي.
أيها الطامع بالألوهة، أين عيناك؟ فكم من إله صار هزأة، وكم هيكل تداعى وتهدم!!
إن الألوهة خزعبلة بلقاء ينكرها عقلنا الإله.
الخلود للنبوغ الهادي، القابض على مبضع الجراح بيد من زبد.
أما العباقرة الحمر فخلودهم في سماء سوداء ...
الخلود لأمنا الأزلية الأبدية.
الخلود والمجد للمثرية المترفة التي تصير جهمة الفحم ابتسامة مبلورة.
الخلود والمجد للتي تحتضن الماء لتدفعه بترولا يتقد.
الخلود والمجد للتي تصير الكلس رخاما صلبا ينفخ فيه الفن روحا محييا، وتحطم التمثال لتعيده كما بدأته.
الخلود لهذه الهازئة بلا لسان، الساخرة بصمت وسكون.
الخلود للتي تصبر على شراسة أبنائها الأسود والنمور ولا تضيق صدرا ببطء بناتها السلاحف ...
فيا لحماقة الذئاب ونباهة النمال!
ما أصبر الوردة والزنبقة، وأعجل الكتاب والشعراء!
ما أشد بله الناس، وما أذكى النحل!
ألم تر الناس كيف ينصبون التخوم، ويشيدون الحصون ...
كيف يهدمون أمة مطمئنة ليوسعوا حدود المملكة ...
كيف يقسمون أنفسهم فصائل كالبهائم، وأصنافا كالحشرات ...
ومن أكفر ممن يحرقون حبوب الحياة ليغلو سعرها وترم أكياسهم؟!
إن البهائم خير من الناس، فهي تأكل ولا تجمع، وهم يجمعون ولا يأكلون. •••
أما كنيسة المستقبل، فكنيسة جامعة غير مقدسة، لا جرماني فيها ولا صيني.
والله - ابن الإنسان الوحيد - لا ابن له.
وابن الله المحبوب من لا يحلم بالجنسية، ولا يفكر بالطائفة والملة.
لا أحد فوق الكل، الأرض وحدها فوق الجميع.
آمنوا بها أيها الضالون، تبرأوا من جشعكم.
السلام، السلام، السلام، ثلاثة أقانيم في إله واحد! السلام الإله الأسمى والرب الذي لا يموت!
السلام هو «الفينيق» الخالد، يتجدد كل خمسة قرون في بعلبك، ويطير إلى المغرب فمن يسقط ريشة من جناحيه يشحذ مليار حربة.
السلام الأبدي الأزلي لمن لا يحلم بالدم، كإله إسرائيل.
والويل العتيد السرمدي للخزنات الخرساء والصناديق الطرشاء.
رموز الأشباح
واطلعت على هذا جريدة البشير الغراء، فكتب رئيس تحريرها المونسينيور لويس خليل يرد علي تحت عنوان «رموز الأشباح»:
بركان مصدور، غمز النجوم وبسم القمر، دموع سوداء، شاعر محموم، حملان ترعى على الخضراء وأرانب تبعر على الجبهة الشاحبة، لحوم التنانين تباع للطهي والدق، خلود النبوغ، وعباقرة حمر، حماقة الذئاب ونباهة النمال، البهائم خير من الناس ...
وهكذا دواليك من سرد كلام رنان المبنى فارغ المعنى، تجهد العقل والذهن في تمحيصه عساك تدرك ما قد يمكن إن أدرك مؤلف هذه السطور، فيذهب تعبك ضائعا.
وهذه «أشباح الرموز» أو إن شئت «رموز الأشباح» ينشرها الكاتب العلامة، فيتناول كل ما في الأرض والسماء وما فوقهما وتحتهما، إذ كل شيء خاضع حتما لسيطرة «نبوغه» المقلد، و«ثقافته» الفارغة، فهو يحدثك عن الطب وعلم الفلك والطبيعة وما فوق الطبيعة، وقد درس اللاهوت على موائد المقاهي، وتعمق في لججه ما بين لعب النرد والطاس والكاس، فحدث ولا حرج عن حقائق وبراهين، يأتيك بها ذلك المحدث وبكل طمأنينة بال ، دونما تلعثم في اللسان ولا حيرة في وزن الأمور، ثم يعطف على هذا برجم الحجارة ذات اليمين وذات اليسار، ويقبض على سيفه فيقطع رأس هذا ويضعه على ذاك، فيقضي مثلا على كيان الكنيسة ويجعلها «جامعة غير مقدسة، لا جرماني فيها ولا صيني»، ويا ليته زاد على ذلك الأمر: «ولا ماسوني، ولا كافر ولا مغتصب الحريات الشخصية، والحقوق الإنسانية، ولا مفتر على شرف العيال وحرمة الأعراض من قاتلي سفتون وبرانس ومستهترين بمقدرات الشعوب ...
ثم يبلغ الأمر منه إلى الله - عز وجل - فيقول عنه، كمن يتجرع شربة ماء صافية، إنه «ابن الإنسان الوحيد، لا ابن الله ... لا أحد فوق الكل، الأرض وحدها فوق الجميع».
ألا حيا العبقري اللوذعي الفهامة، دعاه والده مارون، أما هو فقد سمى ابنه محمدا، فأقام من نفسه ومن ابنه نقيضين حيين، تجسمت فيهما روح المناوأة الفارغة والتعصب اللاديني اللاشعبي، لكنه - على ما نرى - قد صدق في واحدة، وذلك أنه صورة طبق الأصل لجده الأفاق فولتير، الذي قد طالما جاهر بابتعاده عن المناضلات الدينية والتعصب الملي، وأعلن لادينيته المطلقة وترفعه عن الخرافات الدينية، يتركها للصبيان والنساء من ذوي العقول الضعيفة على أنه رغم كل هذا، (آه من المنطق وصدق العقيدة) قضى حياته كلها، ومات وفي قلبه حرقة لهابة كانت شغله الشاغل حتى آخر نسمة تنهدت بها لواعج صدره، وهي القضية الدينية وحقيقة الدين ورجال الدين.
بيد أن فولتير لم يغامر في ميدان التعصب الطائفي بل حصر جهوده في محاربة العدو الوحيد لكل الكفرة والمتمرغين في أوحال الرذيلة: الناصري، فمات وهو يصرخ بانتصار خصمه الجبار: الناصري، أما صاحبنا فلمن يعقد إكليل النصر: ألمارون أم لابنه محمد؟
ل. خليل
مناجذ
ورثت جنينة عرفت من تاريخها أنها بعد المسيح.
دب الخرف في أشجارها فتقلصت الجذوع وتفسخت الجلود.
من لجنينتي الشائخة، فغصونها مضروبة بالقروح، وفي ورقها ثآليل، وثمارها كشاعر عوص.
كانت ملهى يزم فيه النحل، ويزغرد الحسون، وترقص الفراشة الصامتة ولا تطلب رأسا في طبق.
ما دهى جنينتي فصارت بعد أجيال قرية للزنابير ، ومدينة للعقارب «وأولاد الأفاعي» وعاصمة للغربان الصعاليك.
عالجتها بالحرث والتسميد فلم تنتج إلا كعابير.
فمن لجنينتي العجوز المصابة بالبرداء، وحمى الربع!
تقنعت بمآزر العناكب، ونامت بين أذرع أبناء صموئيل.
فتحت قلبها لأفقأ دماملها فانبعثت نتانة قوم لوط، ورجس راحاب وتامار.
ترك الجدود في جنينتي شجرات برية، فسرقت الغذاء ونازعت أخواتها البقاء.
قلت: لأقتلعن هؤلاء البربريات من جنينتي المتمدنة، فرأيت الجذور متآخية متعانقة.
تحت التراب شبكة حية، وفي الفضاء شراك منصوبة تقتنص الحياة. «أمنا» الأرض لا تفرق بين سليمان وأبيشالوم، فلا قايين ولا هابيل، ولا بكرية تباع بأكلة عدس. •••
عجز المسبر فعدت إلى العقاقير، وصبرت كالناصري أعواما، فصارت تورق ولا تزهر، وإن نورت فلا تثمر.
فقمت إلى الفأس والمنجل والمعول، وأجهزت على الشجر المحتضر.
فصاح بنو عمي: مجنون، أبله، يخرب ما عمر آباؤنا.
مجنون أبله، كذا قلنا عنه صبيا، وقد خرف اليوم ولم يبلغ السن.
المنجل تولول، والفأس تشخر، والناس يصيحون: مجنون أبله!
والتفت حولي فرأيتهم يضحكون مني فضحكت مثلهم، وقد يضحك الغد مني ومنهم.
نكست رأس جنينتي ونصبتها أغراسا جديدة، عرفها الأجداد، وأنكرها الأولاد.
أغراسا غريبة وجدتها في الجثمانية، وعند الأبواب الدهرية، وبين قبر راحيل ومذود بيت لحم.
أطلق الجيران مواشيهم فيها فرعتها.
وظلوا يرعون ويخربون، وثبت على الغرس حتى أعيا الأمر علي.
وتذكرت اجتهاد اللاهوتيين فقلت يوما للناس: جنينتي وقف على الكنيسة، فتوقاها المؤمنون وتجنبوها، وحكموا بسلامة عقلي.
وأعلن كاهنهم أنني رجل تقي أخاف الله.
فاطمأنت جنينتي واستراحت من جميع المواشي إلا حمار الخوري وعنزاته.
قلت له: يا أبانا، جنينتي وقف للسيدة عليها السلام، فاستضحك وقال: وأنا يا ابني خادم المذبح ...
وكان للخوري ولد ضحكة، فأخذ يقتلع من جنينتي كل غريبة.
مشت يده فيها، وأراد أن يغرسها على هوى أبيه فسيجتها بأسلاك مكهربة.
وأذعت في القرية أن ملاك بلعام يحرس جنينتي، وقد صرع حمار الخوري ولم ينطقه.
جاء ابن الخوري ليأخذ بثأر حمار أبيه فصرع، ونحا أبوه نحوه فاقعنسس.
فاسترحت من الجميع وصارت جنينتي مفزعة.
جنينة مسحورة يصلب الناس إن مروا بها.
فدعوت قومي وقلت لهم: يا إخوتي، يدخل جنينتي كل من أسلحه بعصاي هذه.
قضيب أرميا، خشبة خرطتها في فجر الشك، وصبغتها بظلمة الإيمان.
قبض عليها نفر فعبر الجنة المختومة آمنا شر الملاك. •••
مرت ثلاثة أعوام وجنينتي ظافرة، تمتلئ كل يوم صحة وعافية.
عششت في جيوبها الببغاء، ورقص على سواعدها القرقذون، واسترحنا من الغربان.
زرعت فيها نباتات حولية، فنبت فريق ونما، وفريق نبت وذبل.
المناجذ، المناجذ، انتشرت في جنينتي انتشارا راعبا، المناجذ لا ترى ولا ترى، طاردتها في سبلها المعوجة الخفية فعجزت عن إدراكها ... المناجذ تقضم الجذور والبذور، فما الحيلة بهذا العدو السميع الأعمى؟
سألت شيوخنا كيف يبيدون الخلد؟ فهزوا رؤوسهم قائلين: عدو خفي.
واستشرت الخوري فأرشدني إلى قديس يطرد المناجذ والجرذان، وصلى على ماء ورش.
وبعد ثلاثة أيام «غير كاملة» انتصب كالناطور قبالة جنينتي، فرأى المناجذ تبني أهراما جديدة، فاكفهر وجهه وقعد يكش الذبان، وراح يتمتم: هكذا تعمل قلة الإيمان!
طاردت المناجذ في أنفاقها فأدركت واحدة، فما رأت النور حتى ارتعدت، فقلت لنفسي: أهذه الفأرة العمياء عدوك يا قليلة العقل!!
ليتها ظلت تقرض وتأكل، ليتني لم أرها على وجه الأرض، فقد كنت أحسب لها حسابا.
اللص لا يصلح خصما وإن بصيرا، فكيف به إذا كان أعمى؟
إن تقرض هذه اللصة العمياء نباتاتي الحولية فهي عاجزة عن الأشجار الدهرية.
إن تقرض ضعيفات جنينتي، فهي تخرج تربة نقية، من قلب أمنا الأرض، البريئة من كل دنس.
فما أكثر المناجذ التي تعيش في الأنفاق، وهل تكون الدنيا الحمراء بلا مناجذ؟!
مصرع نمر1
لا تشته كثرة بنين لا خير فيهم، ولا تفرح بالبنين المنافقين.
ابن سيراخ 16 ***
يا سيد الوحوش! «أمنا» قاسية، غدارة تتماوت كالثعلب وتثب كالفهد، نداعبها راضية، ونهابها إن كشرت عن نابها.
يا أمير الغاب!
ما أقل المتماسكين أمام العاصفة، وما أندر جبابرة الليل!
يا ملك السباع!
حقا إن غضب «أمنا» يأكل النمور والجلاميد، ويحصد الأسود والسنديان.
تلد لتقتل، وتلعب بالحياة كالهرة بالفأر.
نسجت لك الكفن قطنا مندفا، وشيعتك بطرف جاف.
الدمعة تهبها للثعلبان، أما النمر فمناحته بلا دموع.
يا سلطان البر!
أنفت الرقاد في حضن الجبل فركبت كتفيه، واضطجعت على رأسه، فهب لنا يا سيد النساك نسكا قويا كزهادتك، وميتة عالية كميتتك.
أثارت البروق طريقك إلى الأبد، وصلت عليك الرعود، وأبنتك الصواعق، يا له مأتما وجيزا بليغا! عشت مغيظا غاضبا محنقا، ومت شهيد الغضب الأبيض.
لتهنأ الثعالب بطول العمر فقد اختبأت في مأوى الدجاج. •••
والآن يا ابن العم ...
أتذكر أواصر ربطتنا، وليالي كنت تتقينا ونتقيك، وكم زرتنا فتكافأنا؟
ما ردك اليوم عن بيوتنا وهي شارعة مفتحة؟!
وكيف مت وما عشوت إلى ضوء نارنا، لتقعي قبالة موقدنا؟
إنها مواقد غير تلك، مات حماة الذمار، وتكسرت العصي والخناجر.
خلت الديار من سباع الرجال، والمشمرون ماتوا، فكيف تموت مقرورا أيها الجبار والبيوت عورة!
ليتك دخلت «زرائبنا» فكنت أكلت ودفئت!
كنت دخلت وخرجت وما سمعت جرجرتنا إلا بعدما تواريت!
إننا نحب «الضيوف» الأقوياء ... فلو جئتنا لكنت سيد البيت مثلهم.
إننا نعشق الأشداء ومثلنا يقول: «يأكلها السبع ولا تأكلها الضبع.»
إننا نقدس التقاليد القديمة وبيننا وبينكم شيء كثير منها، بحسبها التوراة سجلا.
أتخاف السلاح الحديث؟! وحياتك لا قديم ولا جديد.
حناجر ضفادع، ومخالب هررة، وشعارنا: لا سلطة إلا من الله.
كنا أشداء يوم كنت تدق أبوابنا، وترصدنا ونرصدك.
أما اليوم ففاتتنا الكفاءة، فمت ولم تزرنا.
يا سبحان الله! أنت مت اليوم مقرورا، ونحن متنا أمس جوعا.
كانت لحومنا تسلق في القدور، وكنا نرعى حول الموقد. •••
عهدي بجبالنا خلت من النمور، فمن أين جاء هذا؟!
عهدي بها خلت من النمور وما فيها إلا الضباع ...
عهدي بها خلت من الأسود وما فيها سوى الأدباب ...
عهدي بها خلت من الفهود وما فيها غير الذئاب ...
أعهد فيها الأفاعي والعقارب، والثعالب والأرانب، والظربان والجعلان، فمن أين جاء هذا النمر؟!
ما أظنه إلا أفلت من ذل الإسار ليموت حرا، فما أروع مصرعه!
لا شك أنه غريب ... •••
يا أبا الأسود.
أيخدعك أشعيا؟ تلك ألفاظ معسولة يجيدها السياسيون فكيف جازت عليك؟
لا تصدق أشعيا، شاعر عصبة الأمم، إنك لا تؤاخي ولا تؤاخى، وإن فعلت صرت هرا.
ما إخالك إلا تمدينت، فجئت ضهر البيدر تتزحلق ...
تحضرت فغضبت عليك الوالدة، ما أكرمت أباك وأمك فلم يطل عمرك على الأرض كما علم موسى ...
قل لي بماذا دفعت البرد عنك، ألم تصل؟
حقا إنك حيوان تستاهل الموت، كنت صليت! •••
وبعد فأظنها كذبة، ليس في هذه البلاد نمور، ولو كان فيها، لما قادها ديك ...
مؤتمر أبناء العم
الجلسة الأولى
بعد عناء مر وجوع فضاح افترس الأسد نعجة سمينة فكان عشاء سري لم يحضره يوضاس، وأتخم السيد حتى استرخى وافترش الأرض.
رأى في أحلام يقظته الحمراء عرشا أطول من سلم يعقوب، وتاجا يشع كعليقى موسى، فسره أن يكون ملكا يأكل رعيته بفتوى، ويلتهمها بقانون، فيأتيه رزقه رغدا.
ساء الأسد أن يكون سيدا قرما يروع أبناء جنسه، فيقسوا قلوبهم إن سمعوا صوته، ويتواروا إن أخذوا ريحه، فحبل دماغه بأمل ظامئ صار في لحظة جنينا، وكاشف اللبؤة بنيته فأكبرتها، وتمثلت لها أبهة الملكات، فصار الشك إيمانا والظن يقينا.
استوى الأسد على التلة وأقعى يزأر كمرشد يضرع، وواعظ يبتهل.
دعا وحوش البر إلى مؤتمر عام، وعاهدهم جميعا على حسن الجوار، وحالف أمراء وزعماء القبائل والعشائر محالفة هجوم ودفاع، والحيوانات إن حالفت صدقت وإن عاهدت وفت ...
وطار خبر المؤتمر العام في عالم الوحوش فأقبلت ذوات الآذان الطويلة والقصيرة، والأذناب المعطاء والأسيلة فسدت الوفود الوادي، وكان مؤتمر خطير حضره مندوبو الإخوان في الجنسية، فقام الأسد فيهم خطيبا وقال:
سيداتي، آنساتي، سادتي:
كلنا إخوة وأبناء عم، توحدنا الأصلاب وتجمعنا الأرحام، أمنا الشمس وأبونا القمر، وقد ميزنا الله فخلصنا من الخطيئة الأصلية، وأحبنا فأراحنا من عذاب جهنم، وسعادة الجنة.
عشنا حصة من الزمن مع ابن عمنا الإنسان، والمصيبة توحد، فبقينا معا في تابوت نوح حتى انقضى الطوفان، ما كان أحلاها أياما لو دامت!
توهم الإنسان الجاهل أن الله سلطه علينا وأحل له دمنا، فافترقنا في تلك الساعة، وأوى وأوينا إلى المغاور والكهوف، وكانت حرب دائمة بيننا، وبين أبناء المرحوم عمنا، ثم ما بيننا على اختلاف الأنواع والفصائل، فبتنا لا عهد لنا ولا ميثاق، ولا ذمة ولا دين، شريعتنا الظفر والناب، ودستورنا الغدر والفتك، زعيمنا منبوذ، وسيدنا مخوف، وقوينا يأكل ضعيفنا.
فلنتق الله أيها الإخوان، فقد بدا لي أن الله انحرف صوبنا، أوحى إلي أمس أن ادع إخوانك إلى عبادتي، وأنا أسلطكم على الناس الذين عصوني وتمردوا علي، فإن آمنتم بي كنتم أسيادا في الأرض وقديسين في السماء.
فهل لنا أيها الإخوة أن نتحد ونعيش بحرية وإخاء ومساواة، وننسى الثارات والدم؟ فنبني لنا هيكلا نعبد الرب فيه ويكون بيتا وحصنا لنا نأوي إليه في النوائب والشدائد؟ ما نعم الناس واستراحوا إلا حين تحضروا وتعبدوا، اعملوا مثلهم تتقوا شرهم الذي لا يحلم به وحش يجري في عروقه دم الشرف.
فعلا التصفيق الحاد، وعر أحدهم هاتفا: يعيش ملكنا الأسد، يا ...
فردد الجميع: يعيش، يعيش، يعيش!
وازبأر النمر فأرعب المحفل، ولولا العهد لخلا الوادي.
وظن الأسد بالنمر شرا فاحمرت عيناه، فشزره النمر كأنه يقول له: لا تخف فأنا لا أنقض عهدا، ولا أحنث في يمين ثم قال: اجتمعت بأخي الأسد الذي انتصر من سبط رئبائيل، وآمنت إيمانا ثابتا بما أنزل عليه.
إن الأسد العظيم لا يبغي إلا رقيكم معشر الحيوان، وقصده تخفيف ويلاتكم، وحمل أوجاعكم.
فطقطقت الحوافر استحسانا وضج المؤتمرون، وحمحم البغل: الأسد مليكنا والنمر وزيرنا!
وتهيأ الأسد للكلام ثم قال: لا سعادة لنا ولا اطمئنان إذا لم نبن الهيكل الأعظم، فلنبن هيكلا نأوي إليه شتاء وصيفا كإخوتنا البشر، فنصلي به إلى الله في ضيقتنا وشدائدنا، وسليمان الذي يفهم لساننا يكون شفيعنا لدى الله، فهل تريدون أن تتحدوا وتعملوا يدا واحدة؟
فعلت أصوات ناحية اليمين: متحدون متحدون!
وهتف الجميع: فلنعمل، فلنبن الهيكل!
فقال الحمار: لكم علي أن أهندسه!
وقال الفيل: وأنا أنحت الحجارة وأقصبها، فيدي طوع.
وقالت السلحفاة: أنا أنقل الكلس والماء إلى ظهر الجبل.
وقالت الغنم: نحن ننقل الحجارة.
وقال الجمل: وأنا أبنيه، أنا عمار أستاذ، خفيف رشيق كما تعرفوني!
فتناظر الأسد والنمر وصبرا .
فقال القرد: وأنا أحمل الزوايا الضخمة ولو بلغ طولها قامة أخي الإنسان.
وقال الدب: وأنا أعد لكم آلات البناء من الفادن حتى الإزميل والذراع.
وقال التيس: وأنا أطينه.
وقال الضبع: أنا أنجر أبوابه وشبابيكه.
وقال الأرنب: وأنا أحرسه وأرد عنه هجمات الأعداء.
وقال الظربان: وأنا أعد له البخور.
فكشر الأسد ضاحكا وقال: ومن يحرسه حتى يتم بناؤه؟
فعوى الثعلب: أنا يا مولاي.
فانتفخ الأسد من الغيظ حتى كاد ينشق، وصرخ بهم: تخيبوا يا حمير! ما أتعس أمة حمارها مهندس، وسلحفاتها حمال، وجملها عمار، وثعلبها ناطور!
جلسة ثانية
انفض مجمع «آب» وكر أبناء العم إلى منازلهم يعبرون بآذانهم المسترخية وشفاههم المتدلدلة عن خيبتهم، أما الزعماء فلم يقنطوا، وهبوا لعقد مؤتمر آخر دعوا إليه الإخوان تلفونيا، فجاؤوا من كل فج عميق، وكان الحديث.
قال الأسد: عدلنا أيها الإخوان عن بنيان الهيكل، فما ابتلى الناس ربهم إلا يوم كلم موسى وعلمه طرق العبادة وأساليبها، قد أخرجه في «سفر الخروج» من بين أمم الأرض، ولواه في سفر «اللاويين» عن العالم أجمع، وعده في سفر «العدد» ربا أرضيا لجميع المخلوقات، ثم أبرم في سفر «التثنية» ما سن لبني إسرائيل واشترع.
فحرك الحمار أذنيه وزم بأنفه، وقال للأسد: ما قولك يا مولانا في النبي داود الذي قال في ابن عمنا الإنسان: «بالمجد والبهاء كللته، وعلى أعمال يديك سلطته، جعلت كل شيء تحت قدميه: الغنم، والبقر جميعا، وبهائم البر أيضا، وسمك البحر السالك في سبيل المياه.»
فما اكتفى هذا المخلوق المكلل بالمجد والبهاء - ضحك من مقاعد اليمين - والذي أراني أجمل من كثيرين من بني نوعه - قهقهة من كل صوب - بما لفقه أبو سليمان بل قسمنا نحن الحيوانات إلى نجس وطاهر كما فعل الهنود بأنفسهم.
فتبسم حيوان خبيث أظنه الثعلب وقال له: اشكر ربك يا حمار، ارض بحصتك، فأنت تعيش العمر كله، لا جلدك يلبس مثل جلدي، ولا لحمك يؤكل كلحم أخي الديك.
فشفتر الحمار حردا، وقال الجمل: سائل المجرب، ولا تسأل الحكيم، يظهر أن الإنسان مسلط علينا كما قال داود، فولد صغير يقود أربعين خمسين جملا مثلي، والأنكى أنه يقطرنا إلى جحش «قرادي».
فانشق الحمار من الغيظ، ولم يطق السكوت فمد صوته الرخيم قائلا: مساواة، أخوة، كلام فارغ ...
فأومأ إليه الرئيس فأطبق فكيه وأرخى شفته التحتانية احتجاجا على هذه الإهانة الموجهة إلى النوع كله.
أما الجمل فشقشق وأرغى، وكاد يخرج كيسه الأحمر، فطيب الأسد خاطره بنظرة منبسطة، فهدئ ورجع إلى حديثه فقال: والإنسان مع ذلك يقول: لا كبير في عيني إلا الجمل!
فاحتد الثور وقال: ما ترك الله الإنسان، ولو تخلى عنه ساعة لأريتكم كيف أفزر بطنه بهذا القرن، امتيازات، خلود، سعادة أبدية، كلها للإنسان، الغرض ظاهر مثل عين الشمس، ومع كل هذا ما قصر أخوكم أبدا، أخذت الربوبية دهورا، وفركت أنف موسى في برية سينا، وما همني قول داود: حينئذ يقربون على مذابحك العجول.
فمعا الجدي فتحولت إليه الأبصار فقال: صدق عمي الثور، تذكروا دمغ أبواب العبرانيين بدم جدي بريء؛ لأن الرب نوى أن يقتل جميع أبكار المصريين انتقاما لأحفاده أبناء إسرائيل.
فبقبق التيس وقال: على تيوسيتي لا أفهم كيف أن الرب لا يعرف الأبواب، وهم يقولون عنه: ضابط الكل، ما يرى وما لا يرى.
فقال الخنزير: وكم أرسل ملائكته لينصروا الإنسان الذي ينحرني بلا شفقة، فملاك واحد قتل 180000 رجل.
وكم من مذبحة دبرها هذا الرب، الصياورت الدموي.
فقالت النعجة: أنا لا أعتب على البشر بعد هذا، ولكن عتبي على ربهم، لماذا أحب لحمي ولحم العجل، دون الحيوانات كلها؟ ولماذا لم يحب لحم الطير، ولا يستطيب السمك؟
فهدرت حمامة، فردت النعجة إلى الصواب وقال النغل: عقلي لا يصدق هذه الأقوال فاعذروني يا سادة.
فاحمرت وجوه الإناث؛ لأنه لم يقل (سيداتي) أيضا.
أما النغل فما بالى وأردف: الناس خلاطون ما لنا ولهم؟! كلهم يقولون إنهم أبناء الله، وإنه خلقهم على صورته ومثاله، ولا يختلفون إلا عليه، وكل واحد يدعي أن الله من حزبه، فمن يحل لنا هذه المشكلة، وكيف نتقرب من هذا ال «الله»؛ ليكون في عوننا ؟!
فعنق الحصان وحمحم فنصت له جميع الإخوان فقال: يظهر أن الدين قرب الناس من الله، فالأفضل لنا أن نصير طائفة يعرف لها وجه رب، حتى يعترف أبناء عمنا البشر باستحقاقنا الحرية، ويكفوا عن تسخيرنا ويريحونا من الحزام واللجام، والبرذعة والجلال.
فوقف البغل قائلا: رخص لي بكلمة يا خال، هل أمن الناس لبعضهم لنأمن لهم؟ كلهم يقولون إنهم أصحاب كتب منزلة تعلم الرحمة والسلام، وألسنتهم خناجر، وأيديهم سيوف، وأصابعهم ديناميت.
فقهقه القرد فاستمال الوجوه صوبه، وإذ رأى أنه لا يرى، ركب ناقة كما كان يفعل قس بن ساعدة، وصاح: اسمعوا لي كلمة، لا تفكروا بشيء من هذا، ما هذا يا هو؟! كأنكم لا تقرأون ولا تسمعون، أكبر علماء البشر الذين يسمونهم عبا ... مبا ... فصاحت الببغاء: من على الشجرة: عباقرة.
وحك القرد صلعته وقال: نعم نعم، عباقرة، كل هؤلاء العباقرة يتقربون اليوم من أخيكم الحقير، ويقولون إنني أنا جدهم ...
فعر الدب وقال: وكيف ترضى بأولاد من هذا الشكل؟!
فأجابه القرد: المهم أيها الرفيق ألا نفكر نحن بالرجوع إلى وراء، كل أنبياء الناس ورسلهم الأطهار ما هذبوهم فلا تترجوا أنتم الخير من المذاهب والطائفية، ما هي إلا سلم لبعض الأفراد ليركبوا على ظهوركم.
وانحدر عن المنبر الشاهق بين طقطقة الحوافر والنهيق، فغاظت الأسد همرجتهم، فأسكتهم بزمجرة اقشعر لها جلد الوادي، وكان سكوت أرهب من ظلمة الكسوف التام.
وأقعى القرد المحنك على صفة، فشقت عجوزه الجموع وصافحته مهنئة قائلة: لا تصدق يا ابن عمي كلام الناس، ما انحلت مشكلتهم «فوق» فجاؤوا يحلونها في مغارتنا، مساكين البشر ما قتلهم إلا ربهم الذي علم موسى المكائد والحيل، فضر أولاده جميعا، نحن لا نعمل مثله، لا نعلم أولادنا حتى يتحرشوا بإخوتهم ويقاتلوهم، ولا نقول لهذا غير ما قلناه لهذاك.
فجمجم السامعون وكان كلام لم أتبينه لأنقله إليك.
وظلوا مطرقين حيارى حتى ظهرت بينهم السعلاة فجأة، فاستغربوا حضورها وهي غير مدعوة. أما هي فحيت المحفل بحني الرأس وقالت: سعادتكم في تقسيم أراضيكم ، قسموها تستريحوا من التناحر، كل الخير في القسمة.
فصاح الغول: اسكتي يا مرا، كيف جئت إلى هنا؟! لا تصدقوها يا إخوان، هذه مرأة عقلها محدود، ما أراحت القسمة الناس، كل أموالهم واقفة على الحدود، وطائرة في الجو، وسابحة في البحر، الأحسن أن تظلوا هكذا، كل واحد وشطارته، فأضعف الطير وأحقر الحيوانات تشارك الملوك في قصورهم وأبراجهم حتى معاجنهم.
لا تصيروا مثل الناس طوائف وشيعا يبغض الجار جاره ليتبع رجلا «غريبا» لا يعرف قرعة أبيه، لا، لا، لا، أكبر غلط، اخترعوا مثلهم واستريحوا.
فنهض كثيرون للرد، فقال الفرس: دستوركم يا جماعة الخير، الجواب عندي، يا حضرة الغول العظيم، جلالتك لا تعرف ضرر الاختراعات ولا تحس بها، اسمح لي أذكرك بواحد فقط، يتأبط شرا، أما كان قتلك قبل الاختراعات؟ فماذا تعمل اليوم لو لاقاك واحد مثله؟
مثله؟ أصبع واحدة من اختراعاتهم تطحطح ألف غول، اسأل من وصل الموسي إلى ذقنه، ما أهلكنا وقلل قيمتنا وقطع رزقنا ورزق الناس إلا الاختراعات.
فقال القرد: وشر اختراعاتهم تفرقهم باسم الدين.
وخاف الأسد تطرف القرد الهدام، فأظهر رغبته في الكلام؛ فصمتوا جميعا وانتصبت الآذان كرؤوس الحراب فقال: هذه جلسة بيضت وجه الحيوانية، فباسم ذوات الأربع، وذوات الأذناب أشكركم من صميم الفؤاد، وأعلن بالفخر الجزيل ختام هذا الاجتماع الحافل بالتفكير العميق، وسندعوكم إلى اجتماعات أخرى تظهر فيها عبقريتكم الفذة، الحق يقال، فينا بلغاء ومفكرون، وأصحاب عقول كبيرة مع قلة كلام ... هيوا بنا الآن نأكل ما نسند به قلوبنا؛ فاللحم ينمي الأدمغة ويقويها.
فقاموا إلى سفرة عليها العيش الكثير، فاشمأز بعضهم وأنفوا وسألوا الأسد أن يعاهدهم على الكف عن أكل لحوم الحلفاء، فمد يده الحمراء وأقسم لهم ...
والتفت فرأيت جحشا يهز برأسه ويضحك، والثور يغمزه ليسكت، ولكنه يغمز حمارا ابن حمار ...
ناسكان
تناقش
1
ناسكان، فمرت راهبة هركولة فصرت شفتيها، وقالت، وعينها في الأرض: أخواي المكرمان يبحثان قضية سماوية يتوقف عليها سلامنا الروحي، فظن الناس أنهما يتقاتلان، ما أقل عقل البشر!!
ومرت على أثرها غانية، وبابتسامة اتبعتها بغمزة مديدة ، قالت: ما رأيت في حياتي أحلى من ناسكين يتشاتمان ...
ومر جذع فقال: ضرب الخناجر أسلم عاقبة من كلام هذين الناسكين، فماذا خليا للفتيان؟
ومر معلم بتلاميذه فقال إذ سمع الحديث: العلماء يتحاجون، والزهاد يتجادلون، والذين في الجنة على سرر متقابلون، لا تخلو مجالسهم من حديث، امشوا يا أولاد ...
ومر واعظ فقال: كثيرا ما سمعت ناسك هذا «الغور» يتضرع «لربة الوادي» لتداويه وتشفيه، وكثيرا ما رأيته يوزع من جرابه «بذورا للزارعين» كالحكومة في السنين الضيقة ...
وكم سمعت ناسك ذلك «الجبل» يرى اللذة في الألم، والمصلوب كالصالب، فما باله لم يتلذذ ساعة بآلام كلام أخيه؟!!
لقد صرخ حين شكته شوكة، فرد الكيل كيلين، فماذا كان يعمل لو ضرب سكينا؟
وقال صحفي: الأدب أخذ ورد، والزهد يدعو المتعمقين الذين بدأوا «يشاهدون» إلى النقاش، فليسمع الناس وليتعلموا، فهتر النساك بركة، وتصارعهم لذيذ ...
وقال واحد ما عرفت لونه، ولولا بعض ما قال لأكدت أنه كاهن:
أيختلف هذان الناسكان على عجائب «ناسك» مضى وراح؟
أنحن في عصر الطبيعتين والمشيئتين؟! عاش كالناس ومات كالناس، تاركا للبشر كلمات لو عملوا بها لما كانوا يكسرون المزهر والناي والعود لينزعوا من جوفها أسرار أنغامها ...
إن الناسكين المتناقشين كليهما يسعيان إلى «الطوبى» عن طريق هذا الطوباوي الراقد بالفن، ويحاولان الصعود إلى السماء، كاليشاع على رداء إيلياء ... •••
فلتسكن العاصفة ولتمت الريح، فليل الناسك الأعظم قد تدهور، وكل ما توسخ به من تجاريب طهرته منها خيبته وآلامه.
لقد انعدم في «الذات العظمى»، ولن ينفصل عنها فيما بعد ليعود كما توهم ... فلا يتعلل «ميخائيل» بالرجعة، ولا يؤمن «أمين» بالردة ... فليخرجا للناس «آثار خالدة» قبل أن تلتقي الساقية بالبحر فيبتلعها، وينقطع خريرها قبل أن تضل الزوبعة طريقها في السحاب.
أخوي، إن هذه الكتب «المفتوحة» التي يلغط بها الناس تستيقظ مع شروق الشمس وتنام مع غروبها، إن شهرتها لبنت الموت.
فلنكتب ولو بضعة أسطر للخلود، فالأدب الرفيع خير وأبقى.
إن تشاتم الأدباء مسجل، فلا نسجل علينا ما تديننا به الأجيال الآتية.
21 أيلول
كتبت في ذكرى انتخاب فخامة الرئيس الشيخ بشارة خليل الخوري .
أيلول سنة 1948 ***
فجر كرامة، وصبح مجد، ويوم صار للأيام سيدا، عيد زعيم عظيم وطد آساس بيته، وسمك سقفه عاليا، على الأعمدة السامقة رفعه، وبالجوائز والروافد كلله، زين «خارجه» بالأطناف والرفارف والشرفات، ولم يبق أمامه إلا «الداخل».
الداخل محتاج إلى التناسق، إلى اتساق بين الأثاث، فلا يكون إلى جانب السجادة النفيسة حصير مقطع.
كل يريد أن يكون هذا البيت كما يشتهي، فمتى تستقر هذه الريشة، ومتى تسكت الرياح؟!
خذ الفأس وألقها على أصول الأشجار، واجعل العقيمة طعاما للنار. •••
الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة، وأمامك يا مولاي سبعة أعوام كاملة، فانحت في كل عام عمودا.
اجعل هذه السنوات السبع كسنوات يوسف معكوسة، فتبتلع البقرات السمان البقرات العجاف.
فلتكن هذه الأعوام السبعة كأسابيع الصوم، لكل أحد أعجوبة.
ابدأ بعرس «قانا» واسأل عن «الخمرة» الصالحة، فإن الماء لا يستحيل، و«الخل» لا يعود خمرا.
قل «للأبرص»: اذهب فأرين الكهنة نفسك، فلكل عهد «كهنة» وإن اختلفت أسماؤهم.
قل «للنازفة»: إيمانك أحياك، اذهبي بسلام، واضرب «المستنزفين» ولا تحاول أن تشفيهم.
لا تؤمن بمثل «الابن الشاطر»، إن الشاطرين اليوم لا يتوبون ولا يصلحون.
اضرب «الأعمى» واكسر عصاه، فما أنت أخبر ممن أعماه.
قل «للمخلع»: احمل سريرك وامش، فقد طال انتظاره حول «البركة».
قل «لإليعازار»: قد مت في غيابنا فقم لنشاهدك. •••
المسؤولية كلها عليك يا مولاي، والتاريخ قاس لا يرحم.
ارحم شبابك من «صديق» ترحم.
خذ «السوط» واطرد باعة الحمام واليمام من هيكلك. •••
أمامك سنوات سبع فانحت في كل عام عمودا ترفع عليها البيت اللبناني.
قد عملت كثيرا، أما الباقي فأكثر، فلا تراع في المنام خليلا.
إن لم يكن لك اليوم شعراء فلك «غدا» تاريخ.
اكتب تاريخك بيدك، ففي استطاعتك أن تتم للأجيال خير كتاب.
عشت يا صاحب العيد، عشت تجدد كالنسر شبابك!
অজানা পৃষ্ঠা