আশবাহ ওয়া নায়ের
حماسة الخالديين = بالأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين
তদারক
الدكتور محمد علي دقة
প্রকাশক
وزارة الثقافة
প্রকাশনার স্থান
الجمهورية العربية السورية
و(*) لمحمد بن عبد الملك الزيَّات في هذا المعنى:
أُصلِّي إلى الوجه الَّذي تسكنينَه ... وإن لم يكن سمتا لقصد صلاتيا
وأجعلُ تسبيحي دموعًا أسرُّها ... عليكِ وإدمانَ الحنين قُرانيا
وشبيه بهذا المعنى قول عبَّاس المَصِّيصيّ يهجو إمامًا:
إذا صلَّى بنا بكر بن يحيى ... تفكَّرَ في الَّذي يقْرا سِنينا
ويشغله الهوَى عنَّا فيأتي ... بلفظٍ يُخرج الدَّاءَ الدَّفينا
وربَّتما تفكّرَ في الغواني ... فأنَّ وأتبعَ النَّفَسَ الحنينا
لقد حُرمتْ بلادٌ صارَ فيها ... إمامًا واللّصوصُ مؤذِّنينا
وله مثله:
إذا صلَّى بنا عُمرُ ... فليسَ تُطيعُه السُّوَرُ
تراهُ إذا تقدَّمنا ... وقد دارتْ به الفِكرُ
يئنُّ أنينَ ذي شَغَف ... بظبيٍ زانَهُ الحَوَرُ
وليس بعاشقٍ أحدًا ... ولكنْ همُّه البِدَرُ
وقال ابن الدُّمَيْنة:
ألا خليليَّ اتْبَعاني لتُؤجَرا ... ولنْ تكسِبا خَيرًا منَ الحمدِ والأجرِ
فقالا اتَّقِ اللهَ الجليلَ فإنَّما ... تُصَلِّيك أسبابُ الهوَى وهَجَ الجمرِ
فقلتُ أَطيعاني فليس عليكما ... حسابي إذا لاقيتُ ربِّي ولا وِزرِي
أتحرقُني يا ربِّ إنْ عُجتُ عَوجةً ... على رَخصةِ الأطرافِ طيِّبةِ النَّشرِ
ضِناكِ مَلاثِ الدّرعِ أمَّا وشاحُها ... فيَجري وأما الحليُ فيها فلا تجرِي
وأنذرُ للرَّحمن ما كنتُ آثِمًا ... فهلْ أنتَ يا ربَّ العُلى قابلٌ نذرِي
صيامًا وحجًّا ماشيًا وهديَّةً ... أُوافي بها يومَ الذَّبائحِ والنَّحرِ
قال الزبير: كان ابن الدُّمَيْنة مع غزله ورقَّة شعره فارسًا شجاعًا وقتل في الحرب الَّتي كانت بين خثعم وسلول، وهو كان الأصل فيها، وذاك أنَّ مزاحم ابن عمرو السلولي كان يهوى حماء بنت مالك امرأة ابن الدُّمَيْنة ويُكثر زيارتها والخلوة معها ثمَّ إنَّها هاجرته لشيء وقع بينهما فقال يهجوها ويعرِّض بابن الدُّمَيْنة:
يا بنَ الدُّمَيْنة كم من طعنةٍ نَفَذٍ ... يعوِي خلافَ انتزاعِ الجَوفِ عاويها
جاهدتُ فيكم بها إنِّي لكم ولدٌ ... أبغِي مساويَكم قِدمًا فآتيها
بآيةِ الخالِ منها دون سُرَّتها ... وفوقَ رُكبتها في وقت آتيها
وشهقةٍ تعتَريها عند لذَّتها ... لكيَّةٍ أُنضجتْ لا شلَّ كاويها
فنمى هذا الشعر فبلغ ابن الدُّمَيْنة فقال لامرأته: يا جمَّاء قد بلغني أنَّ مزاحمًا يأتيك ويقول الشِّعر فيك، فأنكرت ذلك، فقال لها: أُعْطي الله عهدًا إن لم تمكِّني منه لأقتلنَّك، فعلمت أنَّه سيَفي، فصالحت مزاحمًا وواعدته، فجاءها ليلًا فكلَّمها وهي في مظلَّتها وابن الدُّمَيْنة معها فلم تكلِّمه، فقال: الخفر اللَّيلة يا جمَّاء، فقالت بصوت ضعيف: أُدخل، فدخل وأهوى بيده إليها فأخذت يده فوضعتها في يد ابن الدُّمَيْنة، فقبض عليه - وكان ابن الدُّمَيْنة أيِّدًا - وتركه تحته وكان قد أعدَّ ثوبًا فيه بطحاء من الرَّمل كثيرة الحصى ليقتله بها خوفًا أن يظهر فيه أثر السلاح فيُطلب بدمه ورجاء أن ينكتم خبره، فما زال يضرب بالبطحاء بطنه حتَّى قتله، ثمَّ أخذ قطيفةً كانت له وجعلها على وجه جمَّاء وحبس عليها حتَّى ماتت وقال:
إذا قعدتُ على عِرنين جاريةٍ ... تحت القطيفة فادْعُوا لِي بحفَّارِ
فبكت بنيَّةٌ كانت لها من ابن الدُّمَيْنة فأخذها وضرب بها الأرض، فقال متمثّلًا: " لا تتَّخذ من كلب سَوءٍ جَرْوا " ثمَّ دفن امرأته وابنته وأخرج مزاحمًا فطرحه ناحيةً من مظلَّته وقال:
لكَ الخيرُ إنْ واعدتَ جمَّاء فالْقَها ... نهارًا ولا تدلج إذا اللَّيلُ أظْلَما
فإنَّك لا تدرِي أبيضاءَ طَفلةً ... تُعانقُ أمْ لَيثًا من القومِ شَدْقَما
فلمَّا سرَى عن ساعديَّ ولمَّتي ... وأيقنَ أنِّي لستُ جمَّاء جَمْجَما
قال: وأصبح أهل مزاحم يقفون أثره حتَّى وقعوا عليه قتيلًا فبحثوا عن الخبر حتَّى وقفوا على صحَّته وعلموا أنَّ ابن الدُّمَيْنة قتل صاحبهم فوقعت الحرب بينهم لذلك ومكثتْ مدَّة طويلة وقُتل من الفريقين جماعة ثمَّ اصطلحوا، وكان لمزاحم أخٌ يقال له مصعب بن عمرو وكان لمَّا قُتل أخوه مزاحم صغيرًا فقالت أُمُّه تذكُر قتل ابنها مزاحم وترثيه:
بنفسي ومالي ثمَّ عمِّي ووالدي ... قتيلُ بني تَيْمٍ بغير سلاحِ
فلا تطمعوا في الصّلح ما دمتُ حيَّةً ... ودام صحيحًا مصعب بن جناحِ
تريد بجناح جدَّها. قال مصعب بن عمرو، وهو قاتل ابن الدُّمَيْنة: لمَّا كبرت قالت لي أُمِّي: إذهب فاقتُل ابن الدُّمَيْنة قاتل أخيك فإنَّه يهجو قومك وقد طُلَّ دم أخيك، قال: وكان ابن الدُّمَيْنة قد قال يهجوهم:
وطئتُ على أعناقِ قيسٍ فما شكتْ ... هواني ولا أحفَى محرّكها نَعْلِي
وقيسٌ كثَعْل العنْز لم أرَ مِثلَه ... أذلَّ ولا أخفَى مكانًا من الثَّعْلِ
قال مصعبٌ: فخرجت وأنا لا أعرف ابن الدُّمَيْنة وكان ينزل تبالةَ فلقيتُ رجلًا من بني نمير يريد تبالة فقال: ويحك يا مصعب من تريد؟ قلت: ابن الدُّمَيْنة أقتلُهُ، قال: لست من رجاله، قلتُ: عليَّ ذاك ولكن لستُ به عارفًا، فقال النّميريّ: فأنا أدخل السُّوق واتبعني فأوَّل من تراني أعانق فهو ابن الدُّمَيْنة فدونكه إن كان عندك خيرٌ، قال: فدخلنا السوق وكان أوَّل من لقينا فعانقه النّميريّ وتأمَّلته فإذا هو أحسن رجال العرب وأجملهم وأفصحهم، فلمَّا رأيته هبتُه ثمَّ إنِّي تحاملت فأضربه بسكين كانت معي وقد أخذت بمنكبه فأمسكني النَّاس وأخذوا السكين من يدي فأرسلت ثيابي في أيديهم وأخذت شفرة من قصاب فأدركته وقد كاد يدخل منزله فأضربه بالشفرة فما فارقته أغلغلُها في جوفه وقد غابت إلى النّصاب ثمَّ تركتها في جوفه وقد غابت وخرجت أعدو إلى دارٍ فدخلتها وأخذوني منها وحبسني السلطان بتبالة، ولبث ابن الدُّمَيْنة ليلة ومات فخشيت أن أُقتل به فكتبت إلى بني عمِّي من الحبس:
إذا نبحتْ كلابُ السّجن ليلًا ... هفا قلبي وهشَّ لها فؤادي
طَماعةَ أن يدقَّ السّجنَ قومي ... وخوفًا أن تُبيِّتَني الأعادي
فما ظنِّي بقومي ظنّ سَوءٍ ... ولا أن يُسلموني في البلادِ
وقد جدّلتُ قاتلَهم فأمسَى ... يمجُّ دمَ الوتين على الوسادِ
فلمَّا انتهى هذا الشعر إلى قومي طرقوني ليلًا فكسروا الباب وأخرجوني وطُلَّ دمُ ابن الدُّمَيْنة.
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هنا عدة صفحات لا تجد لها رقما لأنها موجودة بالكتاب الإلكتروني (الأصل) وليس في المطبوع (المنتخب) باختيار د: محمد علي دقة
قال الأصمعيّ: في الفَرس اثنان وعشرون اسمًا من أسماء الطَّير: الفَرْخ والهامَة والحرّ والنَّعامة والصُّرَد والسّمامة والفَراش والخشاش والصُّلصل والصَّداة والناهض والحدأة والرَخَم والقَطاة والخطَّاف والنسور والخَرَب والعصفور والدَّجاجة والغراب والذباب والعُقاب؛ فالفرخ من الفَرس الدّماغ والهامة وعاؤه والحرّ وهو ذكر الحمام عروق في أديمه والنَّعامة أمُّ رأسه والصُّرَد عرق في أصل لسانه والسَّمامة من الطَّير شبيهة بالعقعق دائرة في عنقه والفراش دود يطير في اللَّيل أجنحتها شبيهة بالنار يقال لها اليراع وهي أيضًا نار الحُباحب وهو ما دقَّ ورقّ من عظام رأس الدَّابَّة والخشاش وهو الدِّيك عظم خلف أُذنه والصلصل وهو الصداة أصل أُذنه أيضًا والنَّاهض وهو فرخ الصَّقر رأس المنكب والحدأة السالفة والرخم عضل السَّاقين والفخذين والقَطاة مَقعد الرِّدف والخطَّاف موضع عقبي الفرس والنُّسور في باطن الحافر مثل أظلاف الغزال والخرب دائرة في جاعرته والعصفور دائرة بين عينيه والدَّجاجة لحم زَور الفرس والغراب مجمع الوركين والذّباب ناظر العين والعقاب روح الفَرس. قال الأصمعي: وقد ذكرت الشعراء هذه الأسماء في أشعارها فمن ذلك في الصلصل والعصفور والخطَّاف: سِبط الصلصل طِرفٌ سابحٌ ... بيِّنُ العصفور والخطَّاف نهدُ وقال آخر في النَّعامة والفَراش والصُّرَد: خفيف النَّعامة ذو مَيعةٍ ... كثيف الفراشة صافي الصُّردْ وقال آخر في الذّباب والجراد: يزور بنا الجراد إذا أمِنَّا ... ويَرمي بالذّباب إذا نُراعُ وقال آخر في الحدأة والعُقاب والخَرَب: طويل الحِدَاة سليم الشَّظَى ... شديد العُقاب عريض الخَرَبْ وقال آخر في الغراب: غدَونا بطرفٍ له مَيعةٌ ... متينِ الغراب مُطارٍ طمِرّْ وقال آخر في الدّيك والسّمامة والحرّ والدّجاجة: ظاهر الدّيك والسّمامة والحُ ... رّ وثير الدّجاج كالجلمودِ وقال آخر في الناهض: حسَن المِشية صافٍ لونُهُ ... مُدمج النَّاهض ذو شدٍّ عَجبْ وقال آخر في الفرخ والهامة والخشاش: له منخرٌ رحبٌ وفرخٌ وهامةٌ ... مُلَمْلَمةٌ فوق الخشاش صلودُ وقال آخر في النسور: له حافر مثل قعب الوليدِ ... يكِنُّ نُسورًا تُشَظِّي الصُّخورا وقال آخر في القطاة والصداة: وقطاة لم يخُنْها متنُهُ ... وصداةٌ تسمعُ الرّكْزَ الخفيَّا حدَّثنا ابن دريد عن عمّه عن ابن الكلبي قال: حدثني أبو زفير الكلبيّ قال: دخل عديّ بن الرِّقاع العامليُّ على عبد الملك بن مروان وعنده رجلٌ من كلب يقول الشِّعر يقال له شبيل بن الحنبار فقال شبيل: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا ابن الرِّقاع، قال: الرِّقاع الَّتي تكون في السِّقاء؟ قال: لا، هذا العامليُّ، قال: الَّذي يقول الله ﷿:) عاملةٌ ناصبةٌ تصلَى نارًا حاميةً (فضحك عبد الملك ثمَّ قال لابن الرِّقاع: أنشدْني فأنشده شعرًا شبَّه نفسه فيه بالحيَّة: نشَا مُستسرًّا بينَ هضبٍ هشيمةٍ ... وبينَ حَبارٍ عُدْمُلِيٍّ تهدَّما إذا اكتحلتْ عينُ البصيرِ برأيهِ ... بدَاه بذعرٍ قبل أن يتهضَّما أسلّ سماويٌّ كأنَّ لسانَه ... أُسِفَّ سواديًّا من الكُحل أسحما إذا خافَ خوفًا أضمرتْه بلادُهُ ... كما يُضْمر الصَّدرُ الحديثَ المُكتَّما فاعترض عليه شبيل فقطع شعره فقال: لك الويلُ هلاَّ كنتَ شبلًا لأجْفَر ... تشبَّهتَ أو ليثًا بخفَّانَ ضَيغما فشبَّهتَ ما لا يرفع الدَّهرَ بطنَه ... عن الأرضِ إلاَّ ما حبَا وتقحَّما فقال ابن الرِّقاع: وفي النَّاس أشباه كثير ولم أكنْ ... لأُشبِه شرًّا من شبيل وألأما تشبَّهتُ ما لو عضَّ شبلَ بن حنبر ... لظلَّ شبيل يسلَح الماء والدَّما فانقطع شبيل وغلبه ابن الرِّقاع. أعرابيّ: سرتْ نحوِي عقاربُهُ وليستْ ... بضائرةِ الدَّبيب ولا السّمامِ ليبعَثَني على عِرضٍ حلالٍ ... وأبعثَهُ على عرضٍ حرامِ من هذا أخذ عليّ بن الجهم قوله في ابن أبي حفصة: بلاءٌ ليس يُشبهه بلاءٌ ... عداوةُ غيرِ ذي حسبٍ ودِينِ يُبيحُك منه عِرضًا لم يصنْهُ ... ويرتعُ منك في عرضٍ مَصونِ وقريب منه قول الآخر: ثالَبَني عمرٌو وثالبتُه ... فأُثِّمَ المثلوبُ والثَّالبُ قلتُ له خيرًا وقال الخَنا ... كلٌّ على صاحبِهِ كاذبُ جحظة قال: قال لي بعض إخواني: رأيت إنسانًا يشتم مخنَّثًا أقبح الشَّتم والمخنَّث يُجيبه من المدح والتفضيل له بأحسن ما يكون، فلمَّا طال الأمر بينهما التفت المخنَّث فقال لي: يكذب - وحياتك - عليَّ وأكذبُ عليه، فضحكت سائر يومي من قوله.
أعرابيّ من ربيعة: طلابُ العُلى بركوب الغررْ ... ولا ينفع الحذِرين الحذرْ وقد يُنكبُ المرءُ من أمْنِه ... ويأمنُ مكروهَ ما ينتظرْ ولمَّا التقتْ حلقاتُ البطان ... ودرَّ سحابُ الرَّدَى فاكفهرّْ وأقبلَ والنَّقع بادِي القَتام ... من الشَّرِّ يومٌ شديدٌ شِمِرّْ لبستُ لبكرٍ وأشياعها ... وقد حمِس النَّاسُ جلد النَّمرْ فأوردتُهم مَوردًا لم يكنْ ... لهم عنهُ إذ وردوهُ صدَرْ فولّوا شلالًا ولا يعلمونَ ... أمرْخٌ خيامُهم أم عُشرْ عباديد شتَّى أيادي سَبا ... يسوقهمُ عارضٌ منهمرْ إذا الغرُّ روَّعه ذعرُهُ ... ثناه إلى الحربِ كهلٌ مِكَرّْ فمن بين ثاوٍ بصُمِّ القَنا ... وآخر في قدِّه مقتشِرْ وراضتْ ربيعةُ بِي صعبةً ... من الحربِ أحجمَ عنها مُضرْ ومَن رامَ بالخفضِ نيلَ العُلى ... فقد رام منه مرامًا عسِرْ وما الحزمُ إلاَّ لمستأثِرٍ ... إذا همَّ بالأمرِ لم يستشرْ وإنِّي لأصفحُ عن قُدرةٍ ... وأعذُب حينًا وحينًا أُمِرّْ ويُعجم عُودي إذا رابَني ... من الدَّهرِ ريبٌ فلا ينكسرْ وأجْزِي القُروض بأمثالها ... فبالخيرِ خيرًا وبالشَّرِّ شَرّْ لهذه الأبيات نظائر كثيرة إلاَّ أنَّها من النظائر الَّتي تتَّسع وشرطنا أن لا نورد ما كان كثيرًا معروفًا إلاَّ القليل، فمن ذلك قوله: " طلابُ العُلى بركوب الغرر " أخذه أبو تمَّام فقال: رَكوبٌ لأَثباج المتالف عالمٌ ... بأنَّ المعالي دونهنَّ المهالكُ وأمَّا قوله: " وقد ينكب المرء من أمنه " البيت، فمنه أخذ الآخر فقال: توكَّل على الرَّحمن في كلِّ حاجةٍ ... طلبتَ فإنَّ اللهُ يقضِي ويقدرُ وقد يهلكُ الإنسانُ من وجه أمْنِه ... وينجُو بإذن اللهِ من حيثُ يحذَرُ وقريبٌ منه: أَلا ربَّما ضاقَ الفضاءُ بأهله ... وأمكنَ من بينِ الأسنَّة مخرجُ ومثله: كم هالكٍ وسطَ الفَضا ... ءِ وسالمٍ بين الأسنَّهْ ومثله: كم فرجةٍ مطويَّةٍ ... لك بين أثناءِ النَّوائبْ وغنيمةٍ قد أقبلتْ ... من حيث تُنتظر المصائبْ ومثله: لا تجزعنَّ فربَّما ... جُرّ السُّرورُ من الهمومِ واعلمْ بأنَّك إنْ صبرْ ... تَ على صراطٍ مستقيمِ ومثله: قد يصحّ المريض من بعد سُقم ... ويُعافَى ويهلك العُوَّادُ ويُصادُ القطا فينجو سليمًا ... بعد يأسٍ ويتلفُ الصيَّادُ وقريب من هذا المعنى وليس هو من المتقدّم: كم من عليلٍ قد تخطَّاه الرَّدَى ... فنجا وماتَ طبيبُهُ والعُوَّدُ ونستقصي هذا المعنى في موضع آخر. فأمَّا قوله: " إذا الغرّ روَّعه ذعره " البيت، فقد أخذه البحتري فقال: يُهالُ الغلام الغِرّ حتَّى يرُدَّه ... إلى الهولِ من مكروهها الأشيبُ الكهلُ ومثله لآخر: لعمرك للشبَّانُ أسرعُ غارةً ... وللشِّيبُ إنْ دارتْ رحَى الحرب أصبرُ والبيتان المتقدمان في هذا المعنى أتمّ وأجود. وأمَّا قوله: " ومن رام بالخفض " البيت، فمثله لآخر وجوَّد: ليس للخفض غير منخفض الهمَّ ... ةِ تُرضيه لامعاتُ السَّرابِ والفتَى باركٌ بأفنيةِ المو ... تِ وفوقَ الأكوار والأقتابِ وأمَّا قوله: " وما الحزم إلاَّ لمستأثر " البيت، فمثله لآخر: وما العجز إلاَّ أنْ تشاور عاجزًا ... وما الحزم إلاَّ أنْ تهمَّ فتفعَلا ومثله: إذا همّ ألقَى بين عينيهِ عزمَهُ ... ونكَّبَ عن ذكر العواقب جانبا وهو كثير جدًّا. فأمَّا قوله: " وإنِّي لأصفح عن قدرة " البيت، فقد أخذه أبو عليّ البصير أخذًا قبيحًا فقال: وإنِّي ألِينُ لمَن رامَني ... بلينٍ وأحْلُو وطورًا أُمِرّْ أعرابيّ: وإنِّي وعمرو يومَ برقة منشِد ... على كثرةِ الأيدي لمُؤتسِيانِ أذقْنا وذُقْنا بالقَنا جُرعَ الرَّدَى ... فأكرِمْ بنا صبرًا على الحدثانِ كلانا وَقور القلب في مستقرّه ... إذا طاشَ قلبُ المرءِ بالخَفَقانِ إذا همَّ أنْ يلوِي أمَلْتُ عِنانَه ... وإنْ رُمتُ أنْ ألْوي أمال عِناني أعرابيّ: سرت نحوي عقاربه وليست ... بضائرة الدَّبيب ولا السّمام ليبعثَني على عِرض حلال ... وأبعثَه على عرضٍ حرامِ منه أخذ عليّ بن الجهم قوله: يُبيحك منه عِرضًا لم يصُنْه ... ويرتع منك في عِرضٍ مصونِ أعرابيّ: بكى صاحبي لمَّا رأى الموتَ فوقَنا ... مظلاّ كإظلالِ السَّحاب إذا اكفهرّْ فقلتُ له صبرًا جميلًا، فإنَّما ... يكونُ غدًا حسنُ الثَّناءِ لمن صبرْ هذا مثل قول امرئ القيس: بكَى صاحبي لمَّا رأَى الدَّربَ دونَه ... وأيقنَ أنَّا لاحقانِ بقيصَرَا فقلتُ له لا تبكِ عيناكَ إنَّما ... نُحاولُ ملكًا أو نموتَ فنُعذرا أعرابيّ: هلْ خنتُ سرًّا أمينٍ كانَ يأمَنُني ... أمْ هلْ سمعتِ بسرٍّ كانَ لي نُشِرا أمْ هل تلومنَّ أقوامًا إذا نزلوا ... أم هلْ تقولنَّ منهم سائلٌ أُسرا نقريهم الوجهَ ثمَّ البذلَ نتبِعه ... لا نترك الجهدَ منَّا قلَّ أو كثُرا قوله: " نقريهم الوجه " يقول: نلقاهم بالبشر وهذه استعارة حسنة طريفة. ولشعراء العرب وغيرهم من المولّدين في هذا المعنى شعر كثير قد كنَّا ذكرنا منه شيئًا ونذكر ها هنا شيئًا آخر وبعد هذا الموضع إن شاء الله أشياء أُخر لأنه كثير متّسع، فمن ذلك قول عمرو بن الأهتم المنقريّ: ومُستنبِح بعد الهدوءِ دعوتُهُ ... وقد حانَ من نجم الشِّتاءِ خفوقُ يعالجُ عِرنينًا من القرّ باردًا ... تلفُّ رياحٌ ثوبهُ وبروقُ أضفتُ فلم أُفحشْ عليه ولم أقلْ ... لأحرمهُ إنَّ المكانَ مضيقُ وقلتُ لهُ أهلًا وسهلًا ومرحبَا ... فهذا مبيتٌ صالحٌ وصديقُ وضاحكتُهُ من قبلِ عرفانيَ اسمَهُ ... ليأنسَ إنِّي للكَسيرِ رفيقُ وقمتُ إلى الكُوم الهواجدِ فاتَّقتْ ... مقاحيدُ كُومٌ كالمجادلِ روقُ بأدماءَ مِرْباع النِّتاجِ كأنَّها ... إذا أعرضتْ دون العِشارِ فَنيقُ بضرْبةِ ساقٍ أو بنجلاءَ ثرَّةٍ ... لها من أمام المنكبَيْن فَتيقُ وقامَ إليها الجازرانِ فأوْفَدا ... يُطيران عنها الجلدَ وهيَ تفوقُ فباتَ لنا منها وللضَّيف مَوْهنا ... شواءٌ سمينٌ راهنٌ وغبوقُ وباتَ له دون الصَّبا وهْيَ قرَّةٌ ... لِحافٌ ومصقولُ الكساءِ رقيقُ وكلُّ كريمٍ يتَّقي الذَّمَّ بالقِرَى ... وللخيرِ بين الصَّالحينَ طريقُ لعمركَ ما ضاقتْ بلادٌ بأهلِها ... ولكنَّ أخلاقَ الرِّجال تضيقُ ومن هذا المعنى قول الآخر: لمْ تعلمِي يا قرَّةَ العَين أنَّني ... أُضاحكُ ضَيفي قبل ردَّ سلامهِ وأُخرج عن بيتي كريمةَ قومها ... لأُهملهُ في البيتِ عند منامهِ على الحالَتَين في مصيفٍ مصمّم ... وقرّ شتاءٍ يرتَمي بسهامهِ ومثله للرَّاجز: أَبسطُ وجهي للضُّيوف النُّزَّلِ ... والوجه عنوانُ الكريم المفضلِ ومثله: ولستُ مقطِّبًا وجهي إذا ما ... أتاني الضَّيفُ في اللَّيل المطيرِ ولكنِّي أُضاحكه وأُثني ... عليه وإنَّني عينُ الفقيرِ ومثله: إذا ما أتاني الضَّيفُ واللَّيل مطبقٌ ... ونَوْء الثُّريَّا ذائب يتحلّبُ تلقَّيتهُ بالبشر قبل نزوله ... وآثرتُهُ بالقُوتِ والعامُ مُجدبُ ومثله: كأنَّكِ لمَّا تعلَمي كيف شِيمتي ... إذا ما أتاني الضَّيفُ واللَّيل أليَلُ ألستُ ضحوكَ السِّنّ والنَّار مُبكيًا ... رقاب المهارَى صائحًا يتبلَّلُ ومثله: أُضاحكُ الضَّيفَ وسيفي في يدي ... لساقٍ كوماءِ النّجاء جلعدِ ومثله: أُضاحكُ ضيفي قبلَ إنزال رَحْله ... ويُخصبُ عندي والمحلُّ جديبُ وما الخصبُ للأضيافِ أن يكثُر القِرى ... ولكنَّما وجه الكريم خصيبُ
أعرابيّ: إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركبٌ فضلٌ فلا حملتْ رَحْلِي ولم يكُ من زادي له نصفُ مزودي ... فلا كنتُ ذا زادٍ ولا كنتُ ذا أهلِ شريكان فيما نحن فيه وقد أرَى ... عليَّ له فضلًا بما نالَ من فضلِي أعرابيّ يرثي ابنًا له: لصقتَ بالقلبِ حتَّى كنتَ أسودَهُ ... وبالجوانحِ حتَّى كنتَ لِي كبِدا فلستُ أدرِي وكلٌّ منك يخلِجُني ... أكنتَ لي مهجةً أمْ كنتَ لي ولَدا أعرابيّ: ألا يا هوَى ليلَى أفِقْ عن حشاشتي ... وهل حبُّ ليلَى عن صداك مُفيقُ أما هو إلا الموت أومنك راحة ... أما بين بينِ الخليتن طريق إعرابي: وشى الناس حتى لو تمر بأعظمى ... على النعش قالوا مرزورًا على نعم ولا نُعمَ إلاَّ أنَّ باقيَ وصلها ... على النَّأيِ مِثلٌ للمطيَّةِ والجسمِ أعرابيّ: ولمَّا رأيتُ البَينَ قد صدعَ العصا ... وفرَّق أُلاَّفًا شديدًا عويلُها رفعتُ فأُنسيتُ الحمولَ الَّتي غدتْ ... بمطروفةٍ ينهلُّ بالدَّمعِ جُولُها إذا نحنُ ذُدناها قليلًا تهلَّلتْ ... مدامعُها حتَّى يُخلَّى سبيلُها أعرابيّ وصحب رجلًا فعدا على رحله فسرقه فقال: فلو أنَّني صاحبتُ ثوبَ بن مالك ... وأدهم ما باتا يدبّان في رَحْلي وما ضرَّني في صُحبتي غير أنَّني ... إذا أنا صاحبتُ امرأً خلتُهُ مِثلي أعرابيّ: خذوا الحقَّ لا أُعطيكم اليومَ غيرَه ... وللحقِّ إن لم تقبَلوا الحقَّ دافعُ ولا الضَّيم أُعطيكم من أجل وعيدكم ... ولا الحقّ من بغضائكم أنا مانعُ سُئل المفضّل الضَّبِّيّ عن أبي حيَّ النُّميريّ فقال: اسمه الهيثم بن الرَّبيع، وكان شاعرًا على لُوثةٍ فيه، قال الأصمعي: كان أبو حيَّة شاعرًا وكان أجبنَ العرب وأكذبهم، فمن جُبنه خبره مع الكلب الَّذي دخل بيته وهو خبر معروف، ومن كذبه ما حكاه، قال: كنت في بعض الفلوات فأرملتُ أيَّامًا من الزَّاد، ثمَّ عنَّ لي سربٌ من ظباء فتعمَّدتُ بسهمي ظبية من السِّرب، فلمَّا أطلقتُ السّهم وكاد يخالطها ذكرتُ هوَى لي بالرَّمل وشبَّهت الظبية به، فلحقت السّهم وقد كاد أن يصل إليها حتَّى قبضت عليه فلم يُصبها. ولا يجوز أن يكون في الكذب أعظم من هذا. ومن أخباره الطريفة ونوادره العجيبة ما حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزديّ قال: حدَّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه عن أبي حيَّان العُكلي قال: أقبلتُ أريد البصرة فإذا أنا بأبي حيَّة النميريّ مُلاقيًا لي، فقلت: من أين بك يا أبا حيَّة؟ قال: من بلدٍ ملوكه أوساط، وقرّاؤه أشراط، وعُربانه أنباط، والنَّاس بعد ذلك فيه أخلاطٌ، قلت: فهل لك في نفسك من خبر تذكره أو نبأ تأثره، قال: شذّ ما لا يُنبئك عجبا لا مَيْنا ولا كذبا، كان لي بكرات عشر أرعيتهنّ أُنف الرَّبيع في جَناب مريع قد غذته السماء بدرَّتها وفوَّقته الأرض بزينتها فهو كالنَّمارق المصفوفة والزَّرابيّ المبثوثة، يروق عين النَّاظر ويملأُ نفس الرَّائد حتَّى إذا ضاق بهنَّ السَّهل فرحًا والوعر مرحًا وصرنَ كالدُّمى في حليهنّ أو المها في حسنهنّ يحملن أسنمة مفعمة كالآطام المشيَّدة على الآكام المنيفة أدركني شؤم الجدّ ونكد الحظّ فهجم عليَّ حيٌّ عكرٌ ونعمٌ دثرٌ فأزالوني عن الموضع وأجلوني عنه، فانصرفت ببكراتي أسفًا موتورًا مضطهدًا مقهورًا أتتبَّع بهنَّ النهار اليفاع وآوي بهنَّ اللَّيل الوهاد حتَّى استبدلن بحال حالًا وتساوكنَ ضعفًا وهزالًا، ونال منهنَّ القرّ وفشا فيهنّ الضرّ فيمَّمت بهنَّ الحاضرة أبتغي جاهلًا أخدعه أو خائنًا أصرعه، فأتاح اللهُ لي علجًا ضيطرًا كالصَّخرة الململة أو العلاوة المهندمة فابتاعهنَّ منِّي بعد المساومة والمراوضة والمشاولة بمائة درهم كلّ واحدةٍ بيض أوضاح، جياد صحاح، فلما آن وقت النقد أنطاني قراضة له كرضاضة الزُّجاج، وبعثرة الدّجاج، فأطرتها غضبًا في الهواء، وانبعث عليها أحابيش الغوغاء، فغادروا الأرض منها صفرًا، والمحلَّ قفرًا، من بين حاثٍ في حجره ومهيل إلى كمِّه وأنا واقف أتعجَّب من نهبهم لها وإكبابهم عليها. ثمَّ قلت للعلج: عاودني النَّقد، لا أُمَّ لك، على ما أوجبه الشَّرط وأحكمه العقد، فضمَّ يده وحبق فيها حبقة بفِيه، فقلت: ما هذا ويلك؟ قال: هذا مالُك، فلهزتُهُ - وأبيك - لهزةً ما كان فيها لمثل العلج متكلّمٌ لولا ثقته ببطشه وإدلاله بأيْده وأعوانه من السّفلة، فقال: يا أعرابيّ ما أحسبك تعرف التّشويص، فقلت: لا، وما التّشويص ثكلتك أُمّك؟ فجمع إبهامه مع أصابعه وجعل يده كالقطعاء ثمَّ ذبلني بها دوَين الشّراسيف ممَّا يلي الشَّاكلة ذبلةً ألمت منها ألمًا شديدًا فنفحته بعصاي نفحة أطارت العمامة عن رأسه وثلمتُ ثلمًا في يافوخه ليس بالخفيّ صغرًا ولا المفرط كبرًا وأسلت الدّمّ على وجهه. فلما بصر العلج بالدّمّ انقلبت عيناه واربدَّ لونه وكشَّر عن أنيابه وقبض على حلقي بإحدى يديه ودعم بالأخرى قَفاي وضغطني ضغطةً قدحت لها عيناي نارًا وأنفي شرارًا وأحسست روحي تجول في صدري ثمَّ دحا بي فخررت على أُمّ رأسي وقمت كالمهموم الوسنان أو الثّمل السّكران وناديت يا للعرب! يا للعرب! أوَيقتل ذؤابة بني نمير وذو فخرها وقدرها وشِعرها بين القزم والعضاريط؟ وإذا قد أقبل شابٌّ تملأُ العين صورته ويبهر القلب جلاله وهيبته، فولَّى أنصار العلج من حوله وعلاه بمدمج كان بيده وأشلى عليه حمرانه وسودانه، فمرَّ هذا هربًا في سككٍ متشعّبة وطرق متلاحزة، وأيم الله أن لو لحقته لدسته دوس الحَلَمة، ولخبطته خبط السَّلمة، واستنقذ الشَّابّ بكراتي وسلَّمهنَّ إلى من يحفظهنّ عليَّ وعطف بي غلمانه إلى منزلٍ جلَّت محاسنه أن توصف، وكثرت ظرائفه أن تنعت، ثمَّ أتونا بالخوان يحمله وصيفان مقرّطان متوّمان وعليه أرغفةٌ كأخفاف العيس ليست بطراميس ومهلهلاتٌ يضحكن عن مثل حباب القطر ولؤلؤ البحر، ثمَّ والى علينا الصّحاف المترعة والألوان المختلفة نمتري منها ثمار كلّ شجرة، ونستنشي منها ريح كلّ ثمرة، فكنتُ أسرع النقل وأجتنب المضغ وأعدل إلى اللحم عن البقل، ثمَّ أتونا بعرموس حنيذٍ مكنت أملّخه إملاخ السَّبع، وأقذف به في مثل وِجار الضبع، ثمَّ أردفوا ذاك - يا ابن عمّ - بصفحة زجاج فيها هنةٌ برَّاقة رجراجة أشبه شيءٍ بالعروس المحلّقة في ائتلاقها، والعذراء المجلاّة في إشراقها، فيها طعام أهل الجنَّة، بلا شكّ ولا مظنَّة، فكنت - وعيشك - أكسع بالإبهام وأرفدها سائر الأصابع وأديل أمثال الأثافيّ وألقم لقم النّضو الحسير. ثمَّ جاءوا - يا هناه - بشراب لهم كنار الحباحب وأعين الجنادب يستنكه عن مثل جني الورد ونسيم الياسمين الغضّ، ثمَّ كثر هتافهم بظالم، فقلت: وما ظالم، لا خصب جنابه ولا أمطر نوءه، وذلك لما هجس في نفسي من أمر العلج، فأقبل إلينا هَنٌ أدلم له شعر كدحارج البعر يحمل هامة ضخمة كهامة الشارف وعينين سجراوين وأُذنين غضفاوين ومنخرين رحبين وله شفتان كرحارح المرّان وكفَّان كزّتان شفنة أصابعهما قحلةٌ أشاجعهما فبُثَّت له الوسائد ونُضدت له النَّضائد وأنا متعجَّب منه لا معجب به، ثمَّ جاءوا بمثل الفخذ الممكورة والسَّاق المجدولة خشبةً عيناها في صدرها ورِجلها في رأسها وأصابعها تدبِّر أمرها قد عالوا عليها حبالًا دقاقًا محكمة الفتل جيّدة الصنع، فقلت: أربعة مختلفة في الصَّنعة متفاضلة في الرُّتبة، لئن لمن يعرضني الخطل أنَّها لشبه أميرٍ ووزيرٍ وكاتبٍ وخادمٍ، فللأمير البربرة وللوزير الزَّمجرة وللكاتب الهمهمة وللخادم .....، ثمَّ شدا ظالم بمقطّعات من مليح أشعاره وموصلات من ألحانه يُديرها بصوتٍ له كدويّ الرَّعد القاصف، وبنفس كنفس الرِّيح العاصف، فقلت: بأبي وأُمِّي من طمطمانيٍّ، ما أسمج منظرك وأحسن مخبرك! يا ليت إنك عبدٌ لي، فقال: وما كنت تصنع بي يا أعرابيّ؟ فقلت: ترعى عليَّ بكراتي، وتطربني في خلواتي، فاستفرغ العبد الضَّحك واستفزَّه الطَّرب ثمَّ غشيت - وأبيك - عيني السَّمادير من كثرة الشُّرب وخالط الوله عقلي، فأنكرت ما كنت أعرف من أمري، فلم أعلم بما كان منِّي إلى متع النهار من الغد، لكنني أهبُّ من رقدتي فإذا أنا فوق مزبلة في سوءةٍ سوآء وفضيحة شنعاء، فجمعت ثيابي الَّتي شانها اللهُ وشان لابسها، وطفق أغيلمة سوءٍ من ذلك الحيّ ينبذونني نبذًا قبيحًا وسعتهم بلساني سبًّا وبالجندل قذفًا وفتُّهم ولم أكد سبقًا، قلتُ: فهل قلت في ذلك شيئًا يا أبا حيَّة، فقال: إيه الله، نعم، قلتُ: فأنشدني ما قلتَ، فأنشدني: ألم تَرَني والعلجَ في السُّوق بيننا ... مناوشةٌ في بيعنا وتلاطمُ رأى بكراتٍ بالياتٍ تساوَكتْ ... بها ذهبتْ من دونهنَّ الدَّراهمُ أسلتُ دماءَ العلج من أُمِّ رأسهِ ... بمنحوتةٍ تستكُّ منها الخياشمُ تعمَّد حلْقي من يدَيه بعصره ... محلّجة تنهدُّ منها اللَّهازمُ وشوَّصَني تشويصةً خلتُ أنَّها ... ستأتي على نفسي فها أنا سالمُ وفاتَ الحسامُ العضبُ رجعة طَرفه ... وولَّيت عنه غارمًا وهو غانمُ ورحتُ إلى ظلٍّ ظليلٍ ومنظرٍ ... أنيق وما يهواه لاهٍ وطاعمُ وزيتيَّة صهباء أخرج كرمَها ... لشاربها ن جنَّة الخلد آدمُ وتاهتْ بألباب النَّدامَى خُشيبة ... بها عند تحريك الحبالِ غماغمُ إذا ظالمٌ أنحَى عليها بكفِّه ... أماتَ وأحيَا من يغنِّيه ظالمُ فبتُّ وندماني فريقان قاعدٌ ... من السُّكر في عيني وآخرَ قائمُ وأصبحتُ في يومٍ من الشَّرِّ كالحٍ ... كأنِّي فيما كنتُ بالأمسِ حالمُ تقولُ لي الصّبيانُ إنَّك راذِمٌ ... ورغميَ فيما قيل إنَّك راذِمُ فقلتُ لهم خلُّو الطريقَ فإنني ... كريم نَماني الصَّالحون الأكارمُ لئن كانت الوجعاء منِّي فربَّما ... يخون الفتَى وجعاؤه وهوَ نائمُ أما في خفوق الشَّرْب أن يحمل الأذَى ... ويكرم عن نشر القبيحِ المُنادمُ ويستأنف النّدمان أُنسًا مجدَّدا ... فيرفعُ مَعْ رفع النَّبيذِ الملاوِمُ وأبو حيَّة، مع هذه النَّوادر الَّتي تُحكى عنه، شاعرٌ مجوِّد، فمن جيّد شِعره قوله: ألا حيِّيَا بالجناب الدّيارا ... وهل يرجعنَّ ديارٌ حِوارا زمانَ الصِّبا ليت أيَّامَنا ... رجعنَ لنا الصَّالحاتِ القِصارا زمان عليَّ غرابٌ غُدافٌ ... فطيَّره الشَّيبُ عنِّي وطارا فأصبح موقعَهُ نابضًا ... محيطًا خِطامًا محيطًا عذارا فلا يُبعِدِ اللهُ ذاك الغداف ... وإن كان لا هُوَ إلاَّ ادِّكارا وهازئةٍ أنْ رأتْ كَبرةً ... تلفَّعَ رأسي بها فاسْتَنارا أجارَتنا إنَّ ريب المنونِ ... قبليَ غالَ الرِّجالَ الخِيارا فإمَّا ترَى لمَّتي هكذا ... فأكثرتِ ممَّا رأيتِ النِّفارا كمل الجزء الأول من الأشباه والنظائر ويتلوه في الجزء الثاني " قال المرقّش الأكبر ".
الجزء الثاني بسم الله الرَّحمن الرَّحيم قال المرقِّش الأكبر الضُّبَعيّ وسمِّي المرقَّش لقوله: الدَّارُ قفرٌ والرُّسومُ كما ... رقَّش في ظهرِ الأديم قلَمْ وله من قصيدة: سرَى ليلًا خيالٌ من سُليمَى ... فأرَّقني وأصحابي هجودُ فبتُّ أُديرُ أمرِي كلَّ حالٍ ... وأذكرُ أهلَها وهم بعيدُ على أنْ قد سمَا طرفي لنارٍ ... يشبُّ لها بذِي الأرْطَى وقودُ حَوَالَيها مهًى جمُّ التَّراقِي ... وأَرْآمٌ وغزلانٌ رقودُ سكنَّ ببلدةٍ وسكنتُ أُخرى ... وقُطِّعتِ المواثقُ والعهودُ فما بالِي أفِي وُيخانُ عهدِي ... وما بالِي أُصادُ ولا أَصيدُ وقال أيضًا: يا ذاتَ أجْوارنا قُومي فحيِّينا ... وإن سقيتِ كرامَ النَّاس فاسْقِينا وإن ْ دعوتِ إلى جلَّى ومكرمةٍ ... يومًا خيارَ بني حوَّاء فادْعينا فوضَى منازلُنا تهوِي مراجِلُنا ... نأسُو بأموالنا آثارَ أيدينا المُطعمونَ إذا هبَّتْ شآميَة ... وخيرُ نادٍ يراهُ النَّاسُ نادِينا ومن أُخرى: ومنزل ضنكٍ لا أُريدُ مبيتَه ... كأنِّي به من خَشيةِ الرَّوع آنسُ وقدرٍ ترَى شُمطَ الرِّجالِ عالَها ... لها قيِّمٌ سهل الخِلال مُؤانسُ ضحوكٌ إذا الزُّوَّارُ أمّوا محلَّه ... وما هو مكبابٌ على الزَّادِ عابسُ وقال المرقِّش الأصغر واسمه ربيعة بن سفيان: آذنتَ جارتي بوشك رحيلٍ ... باكرًا خاطرتْ بأمرٍ جليلِ أزمعتْ بالفراقِ لمَّا رأتْني ... أُتلفُ المالَ لا يَذُمُّ دَخيلي ارْبَعِي إنَّما يَريبكِ منِّي ... أُثرُ مجدِ إذا نظرتِ أصيلِ عجبًا ما عجبتُ للجامعِ الما ... لَ وريبُ الزَّمان جمُّ الخُبولِ اعجبي وَيكِ إنَّ رزقكِ آتٍ ... لا يردُّ التَّرقيح شروَى فتيلِ الصِّمَّة القشيريّ: ألا أيُّها الصَّمدُ الَّذي كنت مرَّةً ... بحلّكَ أُسقيت الغواديَ من صمْدِ ومنزلَتي ظمياءَ من بطن عاقلٍ ... وذات السَّليل كيف حالكُما بعدِي تتابعَ أنواء الرَّبيع عليكما ... لِما لكما بالحارثيَّة من عهدِ جرير: لقد وكفَتْ عَيناه أنْ ظلّ واقفا ... على دِمنةٍ لم يبقَ إلاَّ رميمُها أبَينا فلم نسمعْ بهندٍ مَلامةً ... كما لم تُطعْ هندٌ إذًا مَن يلومُها
قال الأصمعيّ: في الفَرس اثنان وعشرون اسمًا من أسماء الطَّير: الفَرْخ والهامَة والحرّ والنَّعامة والصُّرَد والسّمامة والفَراش والخشاش والصُّلصل والصَّداة والناهض والحدأة والرَخَم والقَطاة والخطَّاف والنسور والخَرَب والعصفور والدَّجاجة والغراب والذباب والعُقاب؛ فالفرخ من الفَرس الدّماغ والهامة وعاؤه والحرّ وهو ذكر الحمام عروق في أديمه والنَّعامة أمُّ رأسه والصُّرَد عرق في أصل لسانه والسَّمامة من الطَّير شبيهة بالعقعق دائرة في عنقه والفراش دود يطير في اللَّيل أجنحتها شبيهة بالنار يقال لها اليراع وهي أيضًا نار الحُباحب وهو ما دقَّ ورقّ من عظام رأس الدَّابَّة والخشاش وهو الدِّيك عظم خلف أُذنه والصلصل وهو الصداة أصل أُذنه أيضًا والنَّاهض وهو فرخ الصَّقر رأس المنكب والحدأة السالفة والرخم عضل السَّاقين والفخذين والقَطاة مَقعد الرِّدف والخطَّاف موضع عقبي الفرس والنُّسور في باطن الحافر مثل أظلاف الغزال والخرب دائرة في جاعرته والعصفور دائرة بين عينيه والدَّجاجة لحم زَور الفرس والغراب مجمع الوركين والذّباب ناظر العين والعقاب روح الفَرس. قال الأصمعي: وقد ذكرت الشعراء هذه الأسماء في أشعارها فمن ذلك في الصلصل والعصفور والخطَّاف: سِبط الصلصل طِرفٌ سابحٌ ... بيِّنُ العصفور والخطَّاف نهدُ وقال آخر في النَّعامة والفَراش والصُّرَد: خفيف النَّعامة ذو مَيعةٍ ... كثيف الفراشة صافي الصُّردْ وقال آخر في الذّباب والجراد: يزور بنا الجراد إذا أمِنَّا ... ويَرمي بالذّباب إذا نُراعُ وقال آخر في الحدأة والعُقاب والخَرَب: طويل الحِدَاة سليم الشَّظَى ... شديد العُقاب عريض الخَرَبْ وقال آخر في الغراب: غدَونا بطرفٍ له مَيعةٌ ... متينِ الغراب مُطارٍ طمِرّْ وقال آخر في الدّيك والسّمامة والحرّ والدّجاجة: ظاهر الدّيك والسّمامة والحُ ... رّ وثير الدّجاج كالجلمودِ وقال آخر في الناهض: حسَن المِشية صافٍ لونُهُ ... مُدمج النَّاهض ذو شدٍّ عَجبْ وقال آخر في الفرخ والهامة والخشاش: له منخرٌ رحبٌ وفرخٌ وهامةٌ ... مُلَمْلَمةٌ فوق الخشاش صلودُ وقال آخر في النسور: له حافر مثل قعب الوليدِ ... يكِنُّ نُسورًا تُشَظِّي الصُّخورا وقال آخر في القطاة والصداة: وقطاة لم يخُنْها متنُهُ ... وصداةٌ تسمعُ الرّكْزَ الخفيَّا حدَّثنا ابن دريد عن عمّه عن ابن الكلبي قال: حدثني أبو زفير الكلبيّ قال: دخل عديّ بن الرِّقاع العامليُّ على عبد الملك بن مروان وعنده رجلٌ من كلب يقول الشِّعر يقال له شبيل بن الحنبار فقال شبيل: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا ابن الرِّقاع، قال: الرِّقاع الَّتي تكون في السِّقاء؟ قال: لا، هذا العامليُّ، قال: الَّذي يقول الله ﷿:) عاملةٌ ناصبةٌ تصلَى نارًا حاميةً (فضحك عبد الملك ثمَّ قال لابن الرِّقاع: أنشدْني فأنشده شعرًا شبَّه نفسه فيه بالحيَّة: نشَا مُستسرًّا بينَ هضبٍ هشيمةٍ ... وبينَ حَبارٍ عُدْمُلِيٍّ تهدَّما إذا اكتحلتْ عينُ البصيرِ برأيهِ ... بدَاه بذعرٍ قبل أن يتهضَّما أسلّ سماويٌّ كأنَّ لسانَه ... أُسِفَّ سواديًّا من الكُحل أسحما إذا خافَ خوفًا أضمرتْه بلادُهُ ... كما يُضْمر الصَّدرُ الحديثَ المُكتَّما فاعترض عليه شبيل فقطع شعره فقال: لك الويلُ هلاَّ كنتَ شبلًا لأجْفَر ... تشبَّهتَ أو ليثًا بخفَّانَ ضَيغما فشبَّهتَ ما لا يرفع الدَّهرَ بطنَه ... عن الأرضِ إلاَّ ما حبَا وتقحَّما فقال ابن الرِّقاع: وفي النَّاس أشباه كثير ولم أكنْ ... لأُشبِه شرًّا من شبيل وألأما تشبَّهتُ ما لو عضَّ شبلَ بن حنبر ... لظلَّ شبيل يسلَح الماء والدَّما فانقطع شبيل وغلبه ابن الرِّقاع. أعرابيّ: سرتْ نحوِي عقاربُهُ وليستْ ... بضائرةِ الدَّبيب ولا السّمامِ ليبعَثَني على عِرضٍ حلالٍ ... وأبعثَهُ على عرضٍ حرامِ من هذا أخذ عليّ بن الجهم قوله في ابن أبي حفصة: بلاءٌ ليس يُشبهه بلاءٌ ... عداوةُ غيرِ ذي حسبٍ ودِينِ يُبيحُك منه عِرضًا لم يصنْهُ ... ويرتعُ منك في عرضٍ مَصونِ وقريب منه قول الآخر: ثالَبَني عمرٌو وثالبتُه ... فأُثِّمَ المثلوبُ والثَّالبُ قلتُ له خيرًا وقال الخَنا ... كلٌّ على صاحبِهِ كاذبُ جحظة قال: قال لي بعض إخواني: رأيت إنسانًا يشتم مخنَّثًا أقبح الشَّتم والمخنَّث يُجيبه من المدح والتفضيل له بأحسن ما يكون، فلمَّا طال الأمر بينهما التفت المخنَّث فقال لي: يكذب - وحياتك - عليَّ وأكذبُ عليه، فضحكت سائر يومي من قوله.
أعرابيّ من ربيعة: طلابُ العُلى بركوب الغررْ ... ولا ينفع الحذِرين الحذرْ وقد يُنكبُ المرءُ من أمْنِه ... ويأمنُ مكروهَ ما ينتظرْ ولمَّا التقتْ حلقاتُ البطان ... ودرَّ سحابُ الرَّدَى فاكفهرّْ وأقبلَ والنَّقع بادِي القَتام ... من الشَّرِّ يومٌ شديدٌ شِمِرّْ لبستُ لبكرٍ وأشياعها ... وقد حمِس النَّاسُ جلد النَّمرْ فأوردتُهم مَوردًا لم يكنْ ... لهم عنهُ إذ وردوهُ صدَرْ فولّوا شلالًا ولا يعلمونَ ... أمرْخٌ خيامُهم أم عُشرْ عباديد شتَّى أيادي سَبا ... يسوقهمُ عارضٌ منهمرْ إذا الغرُّ روَّعه ذعرُهُ ... ثناه إلى الحربِ كهلٌ مِكَرّْ فمن بين ثاوٍ بصُمِّ القَنا ... وآخر في قدِّه مقتشِرْ وراضتْ ربيعةُ بِي صعبةً ... من الحربِ أحجمَ عنها مُضرْ ومَن رامَ بالخفضِ نيلَ العُلى ... فقد رام منه مرامًا عسِرْ وما الحزمُ إلاَّ لمستأثِرٍ ... إذا همَّ بالأمرِ لم يستشرْ وإنِّي لأصفحُ عن قُدرةٍ ... وأعذُب حينًا وحينًا أُمِرّْ ويُعجم عُودي إذا رابَني ... من الدَّهرِ ريبٌ فلا ينكسرْ وأجْزِي القُروض بأمثالها ... فبالخيرِ خيرًا وبالشَّرِّ شَرّْ لهذه الأبيات نظائر كثيرة إلاَّ أنَّها من النظائر الَّتي تتَّسع وشرطنا أن لا نورد ما كان كثيرًا معروفًا إلاَّ القليل، فمن ذلك قوله: " طلابُ العُلى بركوب الغرر " أخذه أبو تمَّام فقال: رَكوبٌ لأَثباج المتالف عالمٌ ... بأنَّ المعالي دونهنَّ المهالكُ وأمَّا قوله: " وقد ينكب المرء من أمنه " البيت، فمنه أخذ الآخر فقال: توكَّل على الرَّحمن في كلِّ حاجةٍ ... طلبتَ فإنَّ اللهُ يقضِي ويقدرُ وقد يهلكُ الإنسانُ من وجه أمْنِه ... وينجُو بإذن اللهِ من حيثُ يحذَرُ وقريبٌ منه: أَلا ربَّما ضاقَ الفضاءُ بأهله ... وأمكنَ من بينِ الأسنَّة مخرجُ ومثله: كم هالكٍ وسطَ الفَضا ... ءِ وسالمٍ بين الأسنَّهْ ومثله: كم فرجةٍ مطويَّةٍ ... لك بين أثناءِ النَّوائبْ وغنيمةٍ قد أقبلتْ ... من حيث تُنتظر المصائبْ ومثله: لا تجزعنَّ فربَّما ... جُرّ السُّرورُ من الهمومِ واعلمْ بأنَّك إنْ صبرْ ... تَ على صراطٍ مستقيمِ ومثله: قد يصحّ المريض من بعد سُقم ... ويُعافَى ويهلك العُوَّادُ ويُصادُ القطا فينجو سليمًا ... بعد يأسٍ ويتلفُ الصيَّادُ وقريب من هذا المعنى وليس هو من المتقدّم: كم من عليلٍ قد تخطَّاه الرَّدَى ... فنجا وماتَ طبيبُهُ والعُوَّدُ ونستقصي هذا المعنى في موضع آخر. فأمَّا قوله: " إذا الغرّ روَّعه ذعره " البيت، فقد أخذه البحتري فقال: يُهالُ الغلام الغِرّ حتَّى يرُدَّه ... إلى الهولِ من مكروهها الأشيبُ الكهلُ ومثله لآخر: لعمرك للشبَّانُ أسرعُ غارةً ... وللشِّيبُ إنْ دارتْ رحَى الحرب أصبرُ والبيتان المتقدمان في هذا المعنى أتمّ وأجود. وأمَّا قوله: " ومن رام بالخفض " البيت، فمثله لآخر وجوَّد: ليس للخفض غير منخفض الهمَّ ... ةِ تُرضيه لامعاتُ السَّرابِ والفتَى باركٌ بأفنيةِ المو ... تِ وفوقَ الأكوار والأقتابِ وأمَّا قوله: " وما الحزم إلاَّ لمستأثر " البيت، فمثله لآخر: وما العجز إلاَّ أنْ تشاور عاجزًا ... وما الحزم إلاَّ أنْ تهمَّ فتفعَلا ومثله: إذا همّ ألقَى بين عينيهِ عزمَهُ ... ونكَّبَ عن ذكر العواقب جانبا وهو كثير جدًّا. فأمَّا قوله: " وإنِّي لأصفح عن قدرة " البيت، فقد أخذه أبو عليّ البصير أخذًا قبيحًا فقال: وإنِّي ألِينُ لمَن رامَني ... بلينٍ وأحْلُو وطورًا أُمِرّْ أعرابيّ: وإنِّي وعمرو يومَ برقة منشِد ... على كثرةِ الأيدي لمُؤتسِيانِ أذقْنا وذُقْنا بالقَنا جُرعَ الرَّدَى ... فأكرِمْ بنا صبرًا على الحدثانِ كلانا وَقور القلب في مستقرّه ... إذا طاشَ قلبُ المرءِ بالخَفَقانِ إذا همَّ أنْ يلوِي أمَلْتُ عِنانَه ... وإنْ رُمتُ أنْ ألْوي أمال عِناني أعرابيّ: سرت نحوي عقاربه وليست ... بضائرة الدَّبيب ولا السّمام ليبعثَني على عِرض حلال ... وأبعثَه على عرضٍ حرامِ منه أخذ عليّ بن الجهم قوله: يُبيحك منه عِرضًا لم يصُنْه ... ويرتع منك في عِرضٍ مصونِ أعرابيّ: بكى صاحبي لمَّا رأى الموتَ فوقَنا ... مظلاّ كإظلالِ السَّحاب إذا اكفهرّْ فقلتُ له صبرًا جميلًا، فإنَّما ... يكونُ غدًا حسنُ الثَّناءِ لمن صبرْ هذا مثل قول امرئ القيس: بكَى صاحبي لمَّا رأَى الدَّربَ دونَه ... وأيقنَ أنَّا لاحقانِ بقيصَرَا فقلتُ له لا تبكِ عيناكَ إنَّما ... نُحاولُ ملكًا أو نموتَ فنُعذرا أعرابيّ: هلْ خنتُ سرًّا أمينٍ كانَ يأمَنُني ... أمْ هلْ سمعتِ بسرٍّ كانَ لي نُشِرا أمْ هل تلومنَّ أقوامًا إذا نزلوا ... أم هلْ تقولنَّ منهم سائلٌ أُسرا نقريهم الوجهَ ثمَّ البذلَ نتبِعه ... لا نترك الجهدَ منَّا قلَّ أو كثُرا قوله: " نقريهم الوجه " يقول: نلقاهم بالبشر وهذه استعارة حسنة طريفة. ولشعراء العرب وغيرهم من المولّدين في هذا المعنى شعر كثير قد كنَّا ذكرنا منه شيئًا ونذكر ها هنا شيئًا آخر وبعد هذا الموضع إن شاء الله أشياء أُخر لأنه كثير متّسع، فمن ذلك قول عمرو بن الأهتم المنقريّ: ومُستنبِح بعد الهدوءِ دعوتُهُ ... وقد حانَ من نجم الشِّتاءِ خفوقُ يعالجُ عِرنينًا من القرّ باردًا ... تلفُّ رياحٌ ثوبهُ وبروقُ أضفتُ فلم أُفحشْ عليه ولم أقلْ ... لأحرمهُ إنَّ المكانَ مضيقُ وقلتُ لهُ أهلًا وسهلًا ومرحبَا ... فهذا مبيتٌ صالحٌ وصديقُ وضاحكتُهُ من قبلِ عرفانيَ اسمَهُ ... ليأنسَ إنِّي للكَسيرِ رفيقُ وقمتُ إلى الكُوم الهواجدِ فاتَّقتْ ... مقاحيدُ كُومٌ كالمجادلِ روقُ بأدماءَ مِرْباع النِّتاجِ كأنَّها ... إذا أعرضتْ دون العِشارِ فَنيقُ بضرْبةِ ساقٍ أو بنجلاءَ ثرَّةٍ ... لها من أمام المنكبَيْن فَتيقُ وقامَ إليها الجازرانِ فأوْفَدا ... يُطيران عنها الجلدَ وهيَ تفوقُ فباتَ لنا منها وللضَّيف مَوْهنا ... شواءٌ سمينٌ راهنٌ وغبوقُ وباتَ له دون الصَّبا وهْيَ قرَّةٌ ... لِحافٌ ومصقولُ الكساءِ رقيقُ وكلُّ كريمٍ يتَّقي الذَّمَّ بالقِرَى ... وللخيرِ بين الصَّالحينَ طريقُ لعمركَ ما ضاقتْ بلادٌ بأهلِها ... ولكنَّ أخلاقَ الرِّجال تضيقُ ومن هذا المعنى قول الآخر: لمْ تعلمِي يا قرَّةَ العَين أنَّني ... أُضاحكُ ضَيفي قبل ردَّ سلامهِ وأُخرج عن بيتي كريمةَ قومها ... لأُهملهُ في البيتِ عند منامهِ على الحالَتَين في مصيفٍ مصمّم ... وقرّ شتاءٍ يرتَمي بسهامهِ ومثله للرَّاجز: أَبسطُ وجهي للضُّيوف النُّزَّلِ ... والوجه عنوانُ الكريم المفضلِ ومثله: ولستُ مقطِّبًا وجهي إذا ما ... أتاني الضَّيفُ في اللَّيل المطيرِ ولكنِّي أُضاحكه وأُثني ... عليه وإنَّني عينُ الفقيرِ ومثله: إذا ما أتاني الضَّيفُ واللَّيل مطبقٌ ... ونَوْء الثُّريَّا ذائب يتحلّبُ تلقَّيتهُ بالبشر قبل نزوله ... وآثرتُهُ بالقُوتِ والعامُ مُجدبُ ومثله: كأنَّكِ لمَّا تعلَمي كيف شِيمتي ... إذا ما أتاني الضَّيفُ واللَّيل أليَلُ ألستُ ضحوكَ السِّنّ والنَّار مُبكيًا ... رقاب المهارَى صائحًا يتبلَّلُ ومثله: أُضاحكُ الضَّيفَ وسيفي في يدي ... لساقٍ كوماءِ النّجاء جلعدِ ومثله: أُضاحكُ ضيفي قبلَ إنزال رَحْله ... ويُخصبُ عندي والمحلُّ جديبُ وما الخصبُ للأضيافِ أن يكثُر القِرى ... ولكنَّما وجه الكريم خصيبُ
أعرابيّ: إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركبٌ فضلٌ فلا حملتْ رَحْلِي ولم يكُ من زادي له نصفُ مزودي ... فلا كنتُ ذا زادٍ ولا كنتُ ذا أهلِ شريكان فيما نحن فيه وقد أرَى ... عليَّ له فضلًا بما نالَ من فضلِي أعرابيّ يرثي ابنًا له: لصقتَ بالقلبِ حتَّى كنتَ أسودَهُ ... وبالجوانحِ حتَّى كنتَ لِي كبِدا فلستُ أدرِي وكلٌّ منك يخلِجُني ... أكنتَ لي مهجةً أمْ كنتَ لي ولَدا أعرابيّ: ألا يا هوَى ليلَى أفِقْ عن حشاشتي ... وهل حبُّ ليلَى عن صداك مُفيقُ أما هو إلا الموت أومنك راحة ... أما بين بينِ الخليتن طريق إعرابي: وشى الناس حتى لو تمر بأعظمى ... على النعش قالوا مرزورًا على نعم ولا نُعمَ إلاَّ أنَّ باقيَ وصلها ... على النَّأيِ مِثلٌ للمطيَّةِ والجسمِ أعرابيّ: ولمَّا رأيتُ البَينَ قد صدعَ العصا ... وفرَّق أُلاَّفًا شديدًا عويلُها رفعتُ فأُنسيتُ الحمولَ الَّتي غدتْ ... بمطروفةٍ ينهلُّ بالدَّمعِ جُولُها إذا نحنُ ذُدناها قليلًا تهلَّلتْ ... مدامعُها حتَّى يُخلَّى سبيلُها أعرابيّ وصحب رجلًا فعدا على رحله فسرقه فقال: فلو أنَّني صاحبتُ ثوبَ بن مالك ... وأدهم ما باتا يدبّان في رَحْلي وما ضرَّني في صُحبتي غير أنَّني ... إذا أنا صاحبتُ امرأً خلتُهُ مِثلي أعرابيّ: خذوا الحقَّ لا أُعطيكم اليومَ غيرَه ... وللحقِّ إن لم تقبَلوا الحقَّ دافعُ ولا الضَّيم أُعطيكم من أجل وعيدكم ... ولا الحقّ من بغضائكم أنا مانعُ سُئل المفضّل الضَّبِّيّ عن أبي حيَّ النُّميريّ فقال: اسمه الهيثم بن الرَّبيع، وكان شاعرًا على لُوثةٍ فيه، قال الأصمعي: كان أبو حيَّة شاعرًا وكان أجبنَ العرب وأكذبهم، فمن جُبنه خبره مع الكلب الَّذي دخل بيته وهو خبر معروف، ومن كذبه ما حكاه، قال: كنت في بعض الفلوات فأرملتُ أيَّامًا من الزَّاد، ثمَّ عنَّ لي سربٌ من ظباء فتعمَّدتُ بسهمي ظبية من السِّرب، فلمَّا أطلقتُ السّهم وكاد يخالطها ذكرتُ هوَى لي بالرَّمل وشبَّهت الظبية به، فلحقت السّهم وقد كاد أن يصل إليها حتَّى قبضت عليه فلم يُصبها. ولا يجوز أن يكون في الكذب أعظم من هذا. ومن أخباره الطريفة ونوادره العجيبة ما حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزديّ قال: حدَّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه عن أبي حيَّان العُكلي قال: أقبلتُ أريد البصرة فإذا أنا بأبي حيَّة النميريّ مُلاقيًا لي، فقلت: من أين بك يا أبا حيَّة؟ قال: من بلدٍ ملوكه أوساط، وقرّاؤه أشراط، وعُربانه أنباط، والنَّاس بعد ذلك فيه أخلاطٌ، قلت: فهل لك في نفسك من خبر تذكره أو نبأ تأثره، قال: شذّ ما لا يُنبئك عجبا لا مَيْنا ولا كذبا، كان لي بكرات عشر أرعيتهنّ أُنف الرَّبيع في جَناب مريع قد غذته السماء بدرَّتها وفوَّقته الأرض بزينتها فهو كالنَّمارق المصفوفة والزَّرابيّ المبثوثة، يروق عين النَّاظر ويملأُ نفس الرَّائد حتَّى إذا ضاق بهنَّ السَّهل فرحًا والوعر مرحًا وصرنَ كالدُّمى في حليهنّ أو المها في حسنهنّ يحملن أسنمة مفعمة كالآطام المشيَّدة على الآكام المنيفة أدركني شؤم الجدّ ونكد الحظّ فهجم عليَّ حيٌّ عكرٌ ونعمٌ دثرٌ فأزالوني عن الموضع وأجلوني عنه، فانصرفت ببكراتي أسفًا موتورًا مضطهدًا مقهورًا أتتبَّع بهنَّ النهار اليفاع وآوي بهنَّ اللَّيل الوهاد حتَّى استبدلن بحال حالًا وتساوكنَ ضعفًا وهزالًا، ونال منهنَّ القرّ وفشا فيهنّ الضرّ فيمَّمت بهنَّ الحاضرة أبتغي جاهلًا أخدعه أو خائنًا أصرعه، فأتاح اللهُ لي علجًا ضيطرًا كالصَّخرة الململة أو العلاوة المهندمة فابتاعهنَّ منِّي بعد المساومة والمراوضة والمشاولة بمائة درهم كلّ واحدةٍ بيض أوضاح، جياد صحاح، فلما آن وقت النقد أنطاني قراضة له كرضاضة الزُّجاج، وبعثرة الدّجاج، فأطرتها غضبًا في الهواء، وانبعث عليها أحابيش الغوغاء، فغادروا الأرض منها صفرًا، والمحلَّ قفرًا، من بين حاثٍ في حجره ومهيل إلى كمِّه وأنا واقف أتعجَّب من نهبهم لها وإكبابهم عليها. ثمَّ قلت للعلج: عاودني النَّقد، لا أُمَّ لك، على ما أوجبه الشَّرط وأحكمه العقد، فضمَّ يده وحبق فيها حبقة بفِيه، فقلت: ما هذا ويلك؟ قال: هذا مالُك، فلهزتُهُ - وأبيك - لهزةً ما كان فيها لمثل العلج متكلّمٌ لولا ثقته ببطشه وإدلاله بأيْده وأعوانه من السّفلة، فقال: يا أعرابيّ ما أحسبك تعرف التّشويص، فقلت: لا، وما التّشويص ثكلتك أُمّك؟ فجمع إبهامه مع أصابعه وجعل يده كالقطعاء ثمَّ ذبلني بها دوَين الشّراسيف ممَّا يلي الشَّاكلة ذبلةً ألمت منها ألمًا شديدًا فنفحته بعصاي نفحة أطارت العمامة عن رأسه وثلمتُ ثلمًا في يافوخه ليس بالخفيّ صغرًا ولا المفرط كبرًا وأسلت الدّمّ على وجهه. فلما بصر العلج بالدّمّ انقلبت عيناه واربدَّ لونه وكشَّر عن أنيابه وقبض على حلقي بإحدى يديه ودعم بالأخرى قَفاي وضغطني ضغطةً قدحت لها عيناي نارًا وأنفي شرارًا وأحسست روحي تجول في صدري ثمَّ دحا بي فخررت على أُمّ رأسي وقمت كالمهموم الوسنان أو الثّمل السّكران وناديت يا للعرب! يا للعرب! أوَيقتل ذؤابة بني نمير وذو فخرها وقدرها وشِعرها بين القزم والعضاريط؟ وإذا قد أقبل شابٌّ تملأُ العين صورته ويبهر القلب جلاله وهيبته، فولَّى أنصار العلج من حوله وعلاه بمدمج كان بيده وأشلى عليه حمرانه وسودانه، فمرَّ هذا هربًا في سككٍ متشعّبة وطرق متلاحزة، وأيم الله أن لو لحقته لدسته دوس الحَلَمة، ولخبطته خبط السَّلمة، واستنقذ الشَّابّ بكراتي وسلَّمهنَّ إلى من يحفظهنّ عليَّ وعطف بي غلمانه إلى منزلٍ جلَّت محاسنه أن توصف، وكثرت ظرائفه أن تنعت، ثمَّ أتونا بالخوان يحمله وصيفان مقرّطان متوّمان وعليه أرغفةٌ كأخفاف العيس ليست بطراميس ومهلهلاتٌ يضحكن عن مثل حباب القطر ولؤلؤ البحر، ثمَّ والى علينا الصّحاف المترعة والألوان المختلفة نمتري منها ثمار كلّ شجرة، ونستنشي منها ريح كلّ ثمرة، فكنتُ أسرع النقل وأجتنب المضغ وأعدل إلى اللحم عن البقل، ثمَّ أتونا بعرموس حنيذٍ مكنت أملّخه إملاخ السَّبع، وأقذف به في مثل وِجار الضبع، ثمَّ أردفوا ذاك - يا ابن عمّ - بصفحة زجاج فيها هنةٌ برَّاقة رجراجة أشبه شيءٍ بالعروس المحلّقة في ائتلاقها، والعذراء المجلاّة في إشراقها، فيها طعام أهل الجنَّة، بلا شكّ ولا مظنَّة، فكنت - وعيشك - أكسع بالإبهام وأرفدها سائر الأصابع وأديل أمثال الأثافيّ وألقم لقم النّضو الحسير. ثمَّ جاءوا - يا هناه - بشراب لهم كنار الحباحب وأعين الجنادب يستنكه عن مثل جني الورد ونسيم الياسمين الغضّ، ثمَّ كثر هتافهم بظالم، فقلت: وما ظالم، لا خصب جنابه ولا أمطر نوءه، وذلك لما هجس في نفسي من أمر العلج، فأقبل إلينا هَنٌ أدلم له شعر كدحارج البعر يحمل هامة ضخمة كهامة الشارف وعينين سجراوين وأُذنين غضفاوين ومنخرين رحبين وله شفتان كرحارح المرّان وكفَّان كزّتان شفنة أصابعهما قحلةٌ أشاجعهما فبُثَّت له الوسائد ونُضدت له النَّضائد وأنا متعجَّب منه لا معجب به، ثمَّ جاءوا بمثل الفخذ الممكورة والسَّاق المجدولة خشبةً عيناها في صدرها ورِجلها في رأسها وأصابعها تدبِّر أمرها قد عالوا عليها حبالًا دقاقًا محكمة الفتل جيّدة الصنع، فقلت: أربعة مختلفة في الصَّنعة متفاضلة في الرُّتبة، لئن لمن يعرضني الخطل أنَّها لشبه أميرٍ ووزيرٍ وكاتبٍ وخادمٍ، فللأمير البربرة وللوزير الزَّمجرة وللكاتب الهمهمة وللخادم .....، ثمَّ شدا ظالم بمقطّعات من مليح أشعاره وموصلات من ألحانه يُديرها بصوتٍ له كدويّ الرَّعد القاصف، وبنفس كنفس الرِّيح العاصف، فقلت: بأبي وأُمِّي من طمطمانيٍّ، ما أسمج منظرك وأحسن مخبرك! يا ليت إنك عبدٌ لي، فقال: وما كنت تصنع بي يا أعرابيّ؟ فقلت: ترعى عليَّ بكراتي، وتطربني في خلواتي، فاستفرغ العبد الضَّحك واستفزَّه الطَّرب ثمَّ غشيت - وأبيك - عيني السَّمادير من كثرة الشُّرب وخالط الوله عقلي، فأنكرت ما كنت أعرف من أمري، فلم أعلم بما كان منِّي إلى متع النهار من الغد، لكنني أهبُّ من رقدتي فإذا أنا فوق مزبلة في سوءةٍ سوآء وفضيحة شنعاء، فجمعت ثيابي الَّتي شانها اللهُ وشان لابسها، وطفق أغيلمة سوءٍ من ذلك الحيّ ينبذونني نبذًا قبيحًا وسعتهم بلساني سبًّا وبالجندل قذفًا وفتُّهم ولم أكد سبقًا، قلتُ: فهل قلت في ذلك شيئًا يا أبا حيَّة، فقال: إيه الله، نعم، قلتُ: فأنشدني ما قلتَ، فأنشدني: ألم تَرَني والعلجَ في السُّوق بيننا ... مناوشةٌ في بيعنا وتلاطمُ رأى بكراتٍ بالياتٍ تساوَكتْ ... بها ذهبتْ من دونهنَّ الدَّراهمُ أسلتُ دماءَ العلج من أُمِّ رأسهِ ... بمنحوتةٍ تستكُّ منها الخياشمُ تعمَّد حلْقي من يدَيه بعصره ... محلّجة تنهدُّ منها اللَّهازمُ وشوَّصَني تشويصةً خلتُ أنَّها ... ستأتي على نفسي فها أنا سالمُ وفاتَ الحسامُ العضبُ رجعة طَرفه ... وولَّيت عنه غارمًا وهو غانمُ ورحتُ إلى ظلٍّ ظليلٍ ومنظرٍ ... أنيق وما يهواه لاهٍ وطاعمُ وزيتيَّة صهباء أخرج كرمَها ... لشاربها ن جنَّة الخلد آدمُ وتاهتْ بألباب النَّدامَى خُشيبة ... بها عند تحريك الحبالِ غماغمُ إذا ظالمٌ أنحَى عليها بكفِّه ... أماتَ وأحيَا من يغنِّيه ظالمُ فبتُّ وندماني فريقان قاعدٌ ... من السُّكر في عيني وآخرَ قائمُ وأصبحتُ في يومٍ من الشَّرِّ كالحٍ ... كأنِّي فيما كنتُ بالأمسِ حالمُ تقولُ لي الصّبيانُ إنَّك راذِمٌ ... ورغميَ فيما قيل إنَّك راذِمُ فقلتُ لهم خلُّو الطريقَ فإنني ... كريم نَماني الصَّالحون الأكارمُ لئن كانت الوجعاء منِّي فربَّما ... يخون الفتَى وجعاؤه وهوَ نائمُ أما في خفوق الشَّرْب أن يحمل الأذَى ... ويكرم عن نشر القبيحِ المُنادمُ ويستأنف النّدمان أُنسًا مجدَّدا ... فيرفعُ مَعْ رفع النَّبيذِ الملاوِمُ وأبو حيَّة، مع هذه النَّوادر الَّتي تُحكى عنه، شاعرٌ مجوِّد، فمن جيّد شِعره قوله: ألا حيِّيَا بالجناب الدّيارا ... وهل يرجعنَّ ديارٌ حِوارا زمانَ الصِّبا ليت أيَّامَنا ... رجعنَ لنا الصَّالحاتِ القِصارا زمان عليَّ غرابٌ غُدافٌ ... فطيَّره الشَّيبُ عنِّي وطارا فأصبح موقعَهُ نابضًا ... محيطًا خِطامًا محيطًا عذارا فلا يُبعِدِ اللهُ ذاك الغداف ... وإن كان لا هُوَ إلاَّ ادِّكارا وهازئةٍ أنْ رأتْ كَبرةً ... تلفَّعَ رأسي بها فاسْتَنارا أجارَتنا إنَّ ريب المنونِ ... قبليَ غالَ الرِّجالَ الخِيارا فإمَّا ترَى لمَّتي هكذا ... فأكثرتِ ممَّا رأيتِ النِّفارا كمل الجزء الأول من الأشباه والنظائر ويتلوه في الجزء الثاني " قال المرقّش الأكبر ".
الجزء الثاني بسم الله الرَّحمن الرَّحيم قال المرقِّش الأكبر الضُّبَعيّ وسمِّي المرقَّش لقوله: الدَّارُ قفرٌ والرُّسومُ كما ... رقَّش في ظهرِ الأديم قلَمْ وله من قصيدة: سرَى ليلًا خيالٌ من سُليمَى ... فأرَّقني وأصحابي هجودُ فبتُّ أُديرُ أمرِي كلَّ حالٍ ... وأذكرُ أهلَها وهم بعيدُ على أنْ قد سمَا طرفي لنارٍ ... يشبُّ لها بذِي الأرْطَى وقودُ حَوَالَيها مهًى جمُّ التَّراقِي ... وأَرْآمٌ وغزلانٌ رقودُ سكنَّ ببلدةٍ وسكنتُ أُخرى ... وقُطِّعتِ المواثقُ والعهودُ فما بالِي أفِي وُيخانُ عهدِي ... وما بالِي أُصادُ ولا أَصيدُ وقال أيضًا: يا ذاتَ أجْوارنا قُومي فحيِّينا ... وإن سقيتِ كرامَ النَّاس فاسْقِينا وإن ْ دعوتِ إلى جلَّى ومكرمةٍ ... يومًا خيارَ بني حوَّاء فادْعينا فوضَى منازلُنا تهوِي مراجِلُنا ... نأسُو بأموالنا آثارَ أيدينا المُطعمونَ إذا هبَّتْ شآميَة ... وخيرُ نادٍ يراهُ النَّاسُ نادِينا ومن أُخرى: ومنزل ضنكٍ لا أُريدُ مبيتَه ... كأنِّي به من خَشيةِ الرَّوع آنسُ وقدرٍ ترَى شُمطَ الرِّجالِ عالَها ... لها قيِّمٌ سهل الخِلال مُؤانسُ ضحوكٌ إذا الزُّوَّارُ أمّوا محلَّه ... وما هو مكبابٌ على الزَّادِ عابسُ وقال المرقِّش الأصغر واسمه ربيعة بن سفيان: آذنتَ جارتي بوشك رحيلٍ ... باكرًا خاطرتْ بأمرٍ جليلِ أزمعتْ بالفراقِ لمَّا رأتْني ... أُتلفُ المالَ لا يَذُمُّ دَخيلي ارْبَعِي إنَّما يَريبكِ منِّي ... أُثرُ مجدِ إذا نظرتِ أصيلِ عجبًا ما عجبتُ للجامعِ الما ... لَ وريبُ الزَّمان جمُّ الخُبولِ اعجبي وَيكِ إنَّ رزقكِ آتٍ ... لا يردُّ التَّرقيح شروَى فتيلِ الصِّمَّة القشيريّ: ألا أيُّها الصَّمدُ الَّذي كنت مرَّةً ... بحلّكَ أُسقيت الغواديَ من صمْدِ ومنزلَتي ظمياءَ من بطن عاقلٍ ... وذات السَّليل كيف حالكُما بعدِي تتابعَ أنواء الرَّبيع عليكما ... لِما لكما بالحارثيَّة من عهدِ جرير: لقد وكفَتْ عَيناه أنْ ظلّ واقفا ... على دِمنةٍ لم يبقَ إلاَّ رميمُها أبَينا فلم نسمعْ بهندٍ مَلامةً ... كما لم تُطعْ هندٌ إذًا مَن يلومُها
অজানা পৃষ্ঠা