مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
وبعد
فإن من المعلوم أن الفقه الإسلامي هو أسمى العلوم الشرعية قدرا وأعظمها نفعا فهو نظام الحياة الإنسانية وقوامها ووسيلة السعادة في الدنيا والآخرة وهو عين الرسالة المحمدية وتأمل ما قاله ابن نجيم في أشباهه ونظائره ممتدحا الفقه فقال:
إن الفقه أشرف العلوم قدرا وأعظمها أجرا وأتمها عائدة وأعمها فائدة وأعلاها مرتبة وأسناها منقبة يملأ العيون نورا والقلوب سرورا، والصدور انشراحا ويفيد الأمور اتساعا وانفتاحا هذا لأن ما بالخاص والعام من الاستقرار على سنن النظام والاستمرار على وتيرة الاجتماع والالتئام، إنما هو بمعرفة الحلال من الحرام والتمييز بين الجائز والفاسد في وجوه الأحكام. بحوره زاخرة ورياضه ناضرة ونجومه زاهرة وأصوله ثابتة وفروعه نابتة لا يفني بكثرة الإنفاق کنزه ولا يبلى على طول الزمان عزه.
وكفى بذلك شرفا له وللمشتغلين به ويحسن بنا في تقدماتنا على الأشباه والنظائر أن نذكر خطاب سيدنا عمر ﵁ الموجه إلى أبي موسى الأشعري بما اشتمل عليه من مسائل وإشارات هي عمدة ذلك الفن من تتبع النظائر وحفظها ليقاس عليها غيرها وغير ذلك من الفوائد الجليلة فإليك بيانه:
عن أبي المليح الهذلي قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك بحجة وأنفذ الحق إذا
المقدمة / 1
وضح فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا لا يمنعك قضاء قضية بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك ما لم يبلغك في الكتاب أو السنة "اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك"، "فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى"، واجعل لمن ادعى بينة أمدا ينتهي إليه؛ فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجرَّب في شهادة زور أو ضنين في ولاء أو قرابة. إن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات، وإياك والفلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن بها الذخر؛ فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك يشنه الله فما ظنك بثواب غير الله ﷿ في عاجل رزقه وخزائن رحمته.
والسلام عليك.
وقد قال السيوطي في أشباهه ونظائره: "إن فن الأشباه والنظائر فن عظيم به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره ويتمهد في فهمه واستحضاره ويقتدر على الإلحاق والتخريج ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة والحوادث والوقائع التي لا تنقص على ممر الزمان ولهذا قال بعض أصحابنا: "الفقه معرفة النظائر".
وهذا ما نبه عليه الشيخ السبكي ﵀ في مواضع عديدة من كتابه فدونك أيها القارئ بيان منهجه في أشباهه ونظائره.
ولقد شرع المؤلف في كتابه بخطبة للكتاب بيَّن فيها أهمية الفقه وأنواعه وأهمية القواعد الفقهية، وأثنى على كتاب القواعد لابن عبد السلام وكتاب الأشباه والنظائر لابن المرحل وأنه كان الدافع للمؤلف في تأليفه كتابه فأخذ في تحريره وإتمامه بإشارة والده له ولقد أضاف إليه الكثير قسم الناس تجاه كتابه إلى ثلاث فرق أثنى على الفرقة الثالثة وهي التي تقرأ وتستفيد وتعترف بالفضل فهذه الطريقة هي التي مدحها في كتابه بقوله:
المقدمة / 2
"وهذه طريقة قلَّ سالكوها وبعد أن يوجد في حياة المصنف أهلوها، فعليهم سلام الله أحسن الناس وجوها ... ". ثم تكلم بعد ذلك عن تمهيد عاب فيه على من يقتصر على حفظ الفروع دون القواعد، وبين رأي إمام الحرمين في أهمية القواعد وبين الفرق بين القاعدة وبين المدرك، والضابط وأوضح رأي القاضي حسين في أهم القواعد التي ترجع إليها الفقه فبين هذا الأمر غاية البيان وأوضح كذلك رأي العز بن عبد السلام في إرجاع الفقه كله إلى قاعدة المصلحة المشهورة.
ثم شرع المؤلف ﵀ إلى تقسيم كتابه إلى أبواب:
الباب الأول: في القواعد الخمسة المشهورة التي هي أساس لغيرها.
الباب الثاني: في القواعد العامة التي تأتي في درجة بعد القواعد الخمسة وقد تكلم الشيخ في هذا الباب عن سبع وعشرين قاعدة كلية.
الباب الثالث: القواعد الخاصة لكل باب من أبواب الفقه. تكلم الشيخ في هذا الباب عن خمس وثمانين ومائة قاعدة، وقسمها إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: في قواعد ربع العبادات.
القسم الثاني: في قواعد ربع البيع.
القسم الثالث: في قواعد ربع الإقرار.
القسم الرابع: في قواعد ربع المناكحات.
الباب الرابع: "في أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية".
وفي هذا الباب تحدث الشيخ عن السعادة والشقاوة وعن حقيقة العلم وعن الفرق بين الاسم والمسمى وعن حقيقة الكلام والفرق بين الملجأ والمضطر وشروط الإكراه الذي به ترتفع الأحكام وعن الخلاف في حقيقة العقد وتكلم في ذلك عن الحسن والقبح وكونهما شرعيين لا عقليين وبين الخلاف في ذلك وتحدث عن حقيقة الحياة وعن العلاقة بين الممكن والمؤثر وتكلم عن السبب والعلة وبين الفرق بيهما وبين الحكم فيما إذا دخل الشرط على السبب كما تكلم عن منع اجتماع علتين على معلول واحد ثم تكلم عن أحكام يضطر الفقيه إلى الحكم بتقدمها على أسبابها وغير ذلك من المسائل المهمات.
الباب الخامس: "في مسائل أصولية يتخرج عليها فروع فقهية تكلم الشيخ في
المقدمة / 3
ذلك الباب عن معنى التكليف وعن أنواع الأحكام وعن المعنى المقصود بصحة العقود وعن مدلول اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وسائر الأسماء المشتقة وعن منع اشتقاق اسم الفاعل من شيء يكون الفعل قائما بغيره وتكلم عن العلاقة بين الفرض والواجب وعن حكم أخذ الأجرة على فرض العين وعن حكم ما لا يتم الواجب إلا به، وتكلم عن فرض الكفاية وعن معنى السنة والنافلة والتطوع والمستحب والمندوب والمرغّب فيه والمرشد إليه والحسن والأدب وتكلم عن أمور يتعلق التحريم فيها بمبهم وبين حقيقة الرخصة وغير ذلك من المسائل الأصولية المهمة ثم انتقل الشيخ إلى:
كتاب العموم والخصوص: تكلم فيه الشيخ عن صيغ العموم وتكلم كذلك عن قواعد مهمة لا يستغني عنها الفقيه ...
وكتاب الإجماع: تكلم فيه عن حكم الأجماع السكوتي وعما يتعلق بقول الصحابة ﵃: "فعل رسول الله ﷺ كذا" ... وكتاب القياس: تكلم فيه الشيخ عن قياس العكس ومسألة هل تثبت اللغة قياسًا وغير ذلك مما يتعلق بمسائل القياس.
وكتاب الاستدلال: تكلم فيه عن قول الصحابي وحكم حجته وغير ذلك.
وكتاب الترجيح: تكلم فيه عن الحكم فيما إذا تعادلت الأمارات وكذا لو تعارض العام والخاص، وقول: التخصيص أولى من المجاز، والفرق بين ما ثبت بالنص وما ثبت بالأخبار.
وكتاب الاجتهاد: تكلم في عن عدم قابلية خطأ رسول الله ﷺ.
الباب السادس: "كلمات نحوية يترتب عليها فروع فقهية، وقسم هذا الباب إلى قسمين: الأول في المفردات من الأسماء والحروف وبعض الأفعال، والثاني: في المركبات والتصرفات العربية. وذكر قسما ثالثا في إعراب الآيات التي يترتب على تخريجها أحكام شرعية وهذا القسم الذي أشار إليه في مقدمة هذا الباب ثم نعثر عليه فيما بين أيدينا من مخطوطات.
الباب السابع: وهو الباب الذي تكلم فيه الشيخ عن المآخذ المختلف فيها بين الأئمة التي ينبني عليها فروع فقهية.
تحدث الشيخ تاج الدين في ذلك الباب عن سبب اختلاف الفقهاء وبين الخلاف
المقدمة / 4
بين الشافعي. وأبي حنيفة في المعنى المغلب في الزكاة وتكلم عن الخلاف في علة ربوية الأشياء المنصوصة إلى غير ذلك مما يطالع به الكتاب.
وفي نهاية هذا الباب تكلم عن تقاسيم أدخلها بعض الفقهاء في القواعد وليست منها.
الباب الثامن: في الألغاز.
ثم ختم كتابه بأدعية مأثورة عن النبي ﷺ.
وبهذا نكون قد ألقينا الضوء على منهج المؤلف في كتابه الأشباه والنظائر الذي قال عنه ابن نجيم: "لم أر كتابا يحكي كتاب الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى".
المقدمة / 5
ترجمة الإمام ابن السبكي:
اسمه ونسبه ١:
عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي ونسبته إلى سبك "من أعمال المنوفية بمصر".
مولده: ولد في القاهرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وقيل: سنة ثمانٍ في السلطنة الثالثة للناصر محمد بن قلاوون.
نشأته وطلبه للعلم:
من المعلوم ضرورة أن البيئة من العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية وهي تتدخل في توزيع الاتجاهات والاستعدادات والميول وهي التي تميز كل امرئ عن الآخر فإن لعواملها تأثيرًا "سيكولوجيا" كبيرًا عن انطباعات كل إنسان عن الكون والحياة.
وفي خصومة هذه العوامل تنبت براعم الاتجاهات الخاصة التي تشكل ملامح
_________
١ انظر ترجمته في البداية والنهاية ١٤/ ٣١٦. الدرر الكامنة ٢/ ٤٢٥. قضاة دمشق ص١٠٦. النجوم الزاهرة ١١/ ١٠٨. البيت السبكي ص١٤-٤٥. حسن المحاضرة ١/ ١٨٢. البدر الطالع ١/ ٤١٠. شذرات الذهب ٦/ ٢٢١. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ٣/ ١٠٤. هداية العارفين ١/ ٦٣٩ بروكلمان ٢/ ٨٩. معجم المؤلفين ٦/ ٢٢٥.
المقدمة / 6
البارزة لوجهة الشخصية، ولقد منح الله العلي الغفار الإمام الحبر البحر عبد الوهاب السبكي بيئة ذات طابع متميز فساعدته على تنمية مواهبه وإشراقه بنوعه فهي بيئة علمية التقت به من جميع جوانبه فوالد تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي وكفى بذلك شاهدًا. فلقد رأى الشيخ عبد الوهاب وفود العلماء وهي تنسل إلى مجلس أبيه وينهلون من علمه ويقيدون فوائده فليس غريبا أن يبدأ مبكرا في حفظ كتاب الله والعكوف على طلب العلم؛ فقد نشأ في أسرة عريقة ويعتبر تاج الدين من أجلِّ وأعظم رجال الأسرة السبكية الذين ذاع صيتهم في دولتي المماليك؛ لامتيازهم في العلم وفي مناصب التدريس والقضاء فلم يعش تاج الدين إلا نحو أربعة وأربعين عاما لكن حياته على قصرها كانت ملأى بالإنتاج العلمي الذي جعله من الأئمة باعتراف معاصريه ومن جاءوا بعده.
وتدل آثاره وموافقه في المحن التي عاناها وآراء من كتبوا عنه على أنه كان -إلى جانب ما امتاز به من علم غزير وذكاء حادٍّ ولسان طلق وبديهة حاضرة وحجة قوية وصبر على العمل المنتج وسعة صدر وثبات في الملمات وترفعٍ واعتداد بالنفس ورقة إحساس وعطف على الإنسان والحيوان من أولئكم ذوي الشخصيات الضخمة والنفوس القوية والأخلاق المتينة؛ أولئكم الذين يسمون بأنفسهم فوق منافعهم الخاصة ويأبون وإن تهيأت لهم كل أسباب الراحة في الحياة، وأن يصبروا على فساد بيئة أو طغيان قوة أو موت حق وقيام باطل، فلم يكن من أولئكم الأنذال أشباه الذين يرحبون بالفساد يستغلونه لمآربهم ويسخرونه لمنافعهم. بل آثر أن يكون من رجال الإصلاح وإن أوذي واضطهد، فعزل غير مرة واعتقل بقلعة دمشق، لكن العالم الإسلامي وقد نسي مضطهديه واضطهاده لم ينس له في حياته ولن ينسى له بعد مماته فضله وآثاره١؛ فقد كان تاج الدين في طلبه للعلم شغوفا لم يألُ جهدا في تحصيله فحضر وسمع بمصر من جماعة ثم قدم دمشق مع والده في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسمع بها من جماعة واشتغل بالعلم على والده وغير ودرس بمصر والشام وبمدارس كبار العلماء منها العزيزية والعادلية الكبرى والغزالية والعزراوية والشاميين والناصرية والأمينية وغير ذلك من المدارس.
_________
١ البيت السبكي ١٣-١٤.
المقدمة / 7
شيوخه:
١- علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى تقي الدين أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي وهو والد الشيخ تاج الدين فقد طلب العلم على يديه- قال عنه ولده كما ولي التدريس في المدرسة الشامية البرانية "فما حل مغربها ولا اقتعد بمشرقها أعلم منه"، وقد كان والده ﵀ حريصًا على تثقيفه على يد كبار العلماء ممن يثق في علمهم ويطمئن إلى وسائلهم في الدرس والتلقين.
٢- يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف الإمام العلامة الحافظ الكبير شيخ المحدثين عمدة الحفاظ أعجوبة الزمان جمال الدين أبو الحجاج الدمشقي المزي.
قرأ الشيخ تاج الدين السبكي عليه وأخذ من علمه الكثير واستفاد منه.
٣- محمد بن أحمد بن عثمان بن قائماز الإمام العلامة الحافظ المقرئ مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الفارقي الدمشقي المعروف بالذهبي؛ فإن السبكي محدث العصر وخاتم الحفاظ القائم بأعباء هذه الصناعة وحامل راية أهل لسنة والجماعة إمام أهل عصره حفظًا وإتقانًا وفرد الدهر الذي يذعن له أهل عصره وقد لازمه شيخنا وأخذ عنه الكثير وتخرج به وغير ذلك من المشايخ الذين أخذ عنهم الشيخ الإمام.
٤- عبد العزيز بن محمد بن جماعة بن صخر الكناني الشافعي، ولد في تاسع عشر المحرم سنة سبع وستين وستمائة وتوفي بمكة سنة أربع وتسعين وسبعمائة ودفن بالحجون١ وغير ذلك ممن نال الشيخ ﵀ شرف الأخذ عنهم.
ثناء العلماء عليه:
لقد أثنى عليه جمع من العلماء منهم الذهبي وذكره في المعجم المختص وأثنى عليه، وقال ابن كثير: جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يَجْرِ على قاضٍ قبله، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله، قال عنه الحافظ شهاب الدين بن حجي: حصل فنونًا من العلم ومن الفقه والأصول وكان ماهرًا فيه والحديث والأدب
_________
١ البدر الطالع ١/ ٣٥٩.
المقدمة / 8
وبرع وشارك في العربية وكانت له يد في النظم والنثر جيد البديهة ذا بلاغة وطلاقة لسان وجراءة جنان وذكاء مفرط وذهن وقاد.
قال ابن قاضي شهبة: وانتهت إليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام وحصلت له محنة بسبب القضاء، وأوذي فصبر وسجن وعقد له مجالس فأبان عن شجاعته وأفحم خصومه مع تواطئهم عليه ثم عاد إليه مرتبته وعفا وصفح عمن قام عليه وكان سيدا جوادا كريما مهيبا تخضع له أرباب المناصب من القضاة وغيرهم.
وقال عنه الحافظ شهاب الدين بن حجي: "حصل فنونا من العلم".
تصانيفه:
١- شرح مختصر ابن الحاجب في مجلدين سماه "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب".
٢- شرح المنهاج للبيضاوي في الأصول.
٣- الأشباه والنظائر وهو الذي ما نحن بصدده.
٤- طبقات الفقهاء الكبرى والوسطى والصغرى.
٥- "الترشيح" في اختيارات والده، وفيه فوائد غريبة.
٦- التوشيح على التنبيه.
٧- التصحيح في الأصول.
٨- المنهاج في الأصول.
٩- جمع الجوامع: في أصول الفقه وشرحه.
١٠- منع الموانع: وهو شرح جمع الجوامع السابق الذكر.
١١- "جلب حلب" وهو جواب أسئلة سأله عنها الأذرعي.
١٢- أحاديث رفع اليدين.
١٣- أوضح المسالك في المناسك.
١٤- ترجيح تصحيح الخلاف.
١٥- تبيين الأحكام في تحليل الحائض.
١٦- جزء في الطاعون.
١٧- الدلالة عن عموم الرسالة.
المقدمة / 9
جوابًا عن أسئلة أهل طرابلس.
١٨- رفع الحوبة في وضع التوبة.
١٩- السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور الماتريدي.
٢٠- فتاوى.
٢١- مصنف في الألغاز.
٢٢- معيد النعم ومبيد النقم.
٢٣- مناقب الشيخ أبي بكر بن قوام.
وفاته:
توفي الشيخ ﵀ شهيدًا إثر مرضه بالطاعون في ذي الحجة ليلة الثلاثاء سنة إحدى وسبعين وسبعمائة عن أربع وأربعين سنة.
نسبة الكتاب:
من الأمور اليقينية التي وقعت لنا في تحقيق هذا الكتاب نسبته إلى مؤلفه، فقد أجمع المؤرخون على نسبته إليه ولقد وجد اسم الكتاب منسوبًا إلى ابن السبكي ﵀ على كلا النسختين اللتين اعتمدنا عليهما في ضبط الكتاب وكذلك لقد اقتبس كثير من العلماء من الكتاب وأحالوا عليه وأشادوا به مثل السيوطي في مواضع عديدة من أشباهه ونظائره، وابن نجيم وأحمد بن الصاحب شرف الدين محمد بن أحمد المصري. له مؤلف اختصر فيه الأشباه والنظائر للشيخ رحمهما الله مسمى نواضر النظائر.
وصف المخطوط:
لقد اعتمدنا في ضبط نص ذكر الكتاب على نسختين:
النسخة الأولى: وهي المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم "١٤٧٦" بخط واضح جيد تقع في ٢٤٠ لوحة مسطرتها ٣١ سطرا وقع في نهايتها قوله: "قال مؤلفه ﵀ نجز الفراغ من هذا الكتاب نفع الله به في السابع من شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وسبع مائة على يد مؤلفه عبد الوهاب ابن السبكي غفر الله له وكان نجازه بدار الخطابة بالجامع الأموي بدمشق والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا".
المقدمة / 11
وجعلنا هذه النسخة أصلا ورمزنا لها بالرمز "أ".
النسخة الثانية: وهي المحفوظة بمكتبة البلدية بالإسكندرية. بخط واضح تقع في ٢٢٥ لوحة مسطرتها ٢٧ سطرًا وقع عليها بعض التملكات للفقير إلى الله الغني عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الحكم غفر الله له ولوالديه.
وقع في آخرها قوله: "قال مؤلفه ﵀: نجز الفراغ من هذا الكتاب نفع الله به في السابع من شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وسبعمائة على يد مؤلفه عبد الوهاب ابن السبكي غفر الله له وكان نجازه بدار الخطابة بالجامع الأموي الكبير بدمشق والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله على كل حال".
وهذه النسخة بها سقط في مواضع عديدة من الكتاب وزيادات في غير موضعها نبهنا على ذلك في تعليقنا إلا في مواضع قليلة أغفلناها؛ لعدم أهميتها.
ورمزنا لهذه النسخة بالرمز "ب".
هذا وقد أجهدنا ضبط ذلك النص جهدا كبيرا، فإن كان فيه من خير فلله الحمد والمنة، وإن كان غير ذلك فنسأل الله أن يجنبنا الخطأ والزلل.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة / 12
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف:
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي جلَّ عن الأشباه والنظائر ودلَّ على طرق الهدى بالأقوال الصحيحة والوجوه والنظائر وحل لنا بالنظر في آثار سلفنا عند المشكلات وفي الذهبين الأولين من القرون لنا بصائر.
أحمده على نعم لو رام اللسان حصرها لوقع في حصر وَعَيٍّ.
وأستغفره لذنوب ما عداني عددها في الخائفين إلا وحشرني في زمرة الراجين رحمته التي وسعت كل شيء، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه ولا يستهديه شيطانه، وأشهد أن سيدنا محمد المصطفى خير نبي أرسله وأفضل مخلوق منحه الفضل مجمله ومفصله، وأنقذنا به من الهلكة والبأس، وجعلنا به من خير أمة أخرجت للناس صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما ترددت الأنفاس.
أما بعد:
فإن العلوم وإن كانت تتعاظم شرفا وتطلع في سماء من كوكبها شرفا وينفق العالم من خزائنها، وكلما زاد ازداد رشدا وعدم سرفا، فلا مرية في أن الفقه واسطة عقدها ورابطة حلها وعقدها وخالصة الرابح من نقدها به يعرف الحلال والحرام ويدين الخواص والعوام ويتبين مصابيح الهدى من ظلام الضلال وضلال الظلام. قطب الشريعة وأساسها وقلب الحقيقة الذي إذا صلح صلحت ورأسها وأهله سراة الأرض [الذين] ١ لولاهم لفسدت بسيادة جهالها وضلت أناسها.
_________
١ في ب الذي.
1 / 3
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا
أي: ولولاهم لاتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا وخبطوا خبط عشواء فما حرموا ولا حللوا بل حلوا عرى الإيمان حيث حلوا، وشكت الأرض منهم وقع أقدام قوم استزلهم الشيطان فزلوا. فلله الفقهاء نجوم السماء، تشير إليهم بالأكف الأصابع، وشم الأنوف يخضع لديهم كل شامخ الأنف رافع، ونظام الوجود ويضوع بهم مسكا ظهر الأرض فما يظن نعمان، إن مشت به زينب في نسوة حاسرة البراقع وحلقوا على نور الإسلام كسوار المعصم قائلين لأهله والحق سامع.
أخذنا بآفاق السماء [عليكم] ١ ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
أي: وزينة الأرض التي بموطئ أقدامهم تقبل الشفاه حلالها وبإحاطة أحكامهم وإحكامهم يذكر حرامها وحلالها وترشف من زلالها ماء حلالها، فلا مزنة ودقت ودقها، ولا أرض [أبقل أبقالها] ٢:
ولقد ساروا في مسالك الفقه غورًا ونجدًا، وداروا عليه هائمين به وجدا وصاروا حامليه ومؤديه حتى إلى غير فقيه فعم نفعًا وأفاد وأجدى.
فسار به من لا يسير مشمرا ... وغني به من لا يغني مغردا
وتفرقت بهم في جملة الأنحاء وتشعبت الطرق وتعددت الأهواء وتباينت الأخلاق والقدر المشترك بينهم سواء فمنهم -وكلهم أحب حب الخير- من سار على منهاجه أحسن سير وجرى في موافقه على منواله غير متعرض إلى غير، ومنهم من جعل دأبه رد الخصوم وخصم المخالفين فلا يفوته الطائف منهم في الأرض يحور ولو أنه الطائر في السماء يحوم، وإقامة الحجج والبراهين [فمنها] ٣ معالم للهدى، مصابيح تجلو الدجى والأخريات رجوم.
ومنهم من قال: الكيس، الكيس، وأحب أن بطرف علومه بطرق المسائل ويوقظ من الأذهان ما هو في سنة الغفلة وما ليس.
_________
١ سقط في ب.
٢ وفي ب: "أثقل أثقالها".
٣ وفي ب: "منهما".
1 / 4
وإذا تكون كريهة يدعى لها ... وإذا يحاس الحيس
فعمد إلى مسائل١ ركبها، ومطارحات٢ اطلع في سماء الفقه كوكبها، ومولدات افتض أبكارها، وأجرى في عسكر الجدال موكبها وسيد هذه الطائفة من أصحابنا أبو بكر بن الحداد٣ صاحب الفروع الغرائب وصاحب ذيل الفضل على أهل المشارق والمغارب، والضارب مع الأقدمين بسهم والناس تضرب في حديد بارد، وابن الحداد يضرب في ذهب ذائب، "الفاعل الفعل لم يفعل لشدته، والقائل القول لم يترك ولم يقل"، تقدم هذه الفرقة تقدم النص على القياس وسبق وهي تناديه.: ما في وقوفك ساعة من باس وتصدر ولو عورض لقال لسان الحال للحق: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وعمد منحطون عن هذه الرتبة إلى مسائل ألغاز، وطرحوا حقائقها على الطلبة ليختبروا ما عندهم من العلم، فلكل ذهن عليها نجاز وامتحنوهم بها، فمن حج أبان صفا قلبه ليستلم ركنه بأنه ليس بحجر أسود بل صبح أبيض لا حجاب دونه ولا حجاز.
وقال آخرون: المهم المقدم وخير ما سلك [الطريق] ٤ الأقوم.
والذي أقول -والله أعلم- إن من أهم ما عني به الفقيه وجعله المدرس دأبه الذي يعيده ويبديه وشوقه الذي يلقنه ويلقيه القيام بالقواعد وتبيين مسالك الأنظار ومدارك المعاقد.
_________
١ جمع مسألة، والمسألة لغةً: السؤال، الصحاح ٥/ ١٧٢٣، لسان العرب ٣/ ١٩٠٦، واصطلاحًا: مطلوب خبري يبرهن عليه في العلم "الجمل على المنهج ١/ ٢٦، قليوبي على المنهاج ١/ ١٦".
٢ قال أبو عبد الله بن القطان في أول المطارحات: التحاسد على العلم داعية التعلم ومطارحة الأقران في المسائل ذريعة إلى الدراية والتناظر فيها ينفح الخواطر والأفهام والخجل الذي يحل بالمرء من غلطه تبعثه على الاعتناء بشأن العلم ليعلم ويتصفح الكتب، فيتسبب بذلك إلى بسط المعاني ويحفظ الكتب المنثور ٣/ ٣٩٨.
٣ هو أبو محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني المصري المعروف بابن الحداد كان إماما مدققا في العلوم. شيخ الشافعية في زمانه، ولد يوم موت المزني في رمضان سنة أربع وستين وكان كثير العبادة يصوم يوما ويفطر يوما، قال ابن زولاق: إنه صنف كتاب الباهر في الفقه في مائة جزء وكتاب الفروع المولدات، قال الشيخ أبو إسحاق: مات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
وفيات الأعيان ٣/ ٨٣٣٦، تذكرة الحفاظ ٣/ ٨٩٩، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ١٣٠ وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص٧١.
٤ في ب: "السبيل".
1 / 5
وكيف ائتلاف النظائر، واختلاف المآخذ. واحتماع الشوارد. وذلك أمر شديد، لا ينال بالهوينا والهدوء. ولا يدرك شأوه إلا من تصدى بأعماله قلب وقالب. لا يزال ذات نمو. ولا يحوم على حماه إلا من بين ذاته والسواد١ مانعة الجمع وبين أفكاره والسهاد مانعة الخلو. إن لمحت له بارقة اختطفها، وإن لاحت له نادرة بادر إلى ثمرتها واقتطفها، وإن قدمت عليه غريبة ردها إلى وطنها بعدما اقتطفها، يعمل أفكاره، ويدأب ليله ونهاره ويستسقي كل جعفر ولو نضب ماؤه وتنحت عنه أطياره، ويرعا، ولو وقف ذهنه الأنجم السيارة ولا يحجم ذهنه إذا ازدحمت المعضلات بل تقدم قائلا: "أنا ابن داره" يمر به المعضل فيقتحم في حله أهوالا ولا يقول: أهابك إجلالا، بل يستحل مريره وينشد من يعيبه.
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مُرًّا به الماء الزلالا
فإذا أحكمه وجعله تحت حكمه شد حيازم عزمه وأنفق من خزائن علمه. ولم يخش من ذي العرش إقلالا، هكذا هكذا وإلا فلالها ولقد ألف سلطان العلماء -أبو محمد- عز الدين بن عبد السلام٢- قواعده. بل رصف فرائده ووضع قلائده وجمع فوائده ونوع موائده وقال فلم يترك مقالا لقائل وتسامى ولم يسمع أين الثريا من يد المتناول وتعالى كأنما هو للنيرين متطاول، وتصاعد درج السيادة حتى فاق الآفاق، وتباعد عن درجات معاصريه فساق أتباعه أمما وشاق ومضى وخلف ذكرا باقيا ما سطر الأوراق في الأوراق وأقبل كأنه تسعى بين يديه الأنوار، وترفل في أثوابه أزهارها ونوار، وجاء بيانه البديع بالمعاني البسيطة في اللفظ الوجيز الذي يحلو عليه التكرار وشاع اسمه كأنه علم في رأسه نار. وجاء هذا الكتاب على وفق مطلوبه، كاملا في أسلوبه شاملا
_________
١ في ب: "الوساد".
٢ عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره سلطان العلا، عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي ثم المصري، ولد سنة سبع أو ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر وقرأ الأصول على الآمدي وجمع بين فنون العلم.
قال ابن قاضي شهبة عن كتاب القواعد الكبرى وهو الكتاب الدال على علو مقداره وله تصانيف عديدة انظر ترجمته في:
فوات الوفيات ١/ ٢٨٧، طبقات الشافعية لابن السبكي ٥/ ٨٠، البداية والنهاية ١٣/ ٢٣٥، شذرات الذهب ٥/ ٣٠١، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ٢/ ١٠٩.
1 / 6
للفضل بعيده وقريبه شفاء لما في الصدور ووفاء لما للعلم في ذمة بني الدهور وصفا يروق به موارد السرور، واكتفى بما تعلق به الرجاء من عظائم الأمور، أولًا لا يحتاج إلى ثانٍ ومكملا ليس عنه ثانٍ، وموئلا للطلبة ليس عليه إلا مثنٍ –وقضى السجع بأن أقول: ثانٍ كأنما صعد صاحبه السماء وأخذ بدرها أو غاص البحار واستخرج درها، لا والله- بل بعثر القلوب وأفشى سرها، ثم جمع الإمام العلامة صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل١ كتابًا في الأشباه والنظائر في الفروع طاول فيه الفراقد وحاول المعالي فسهر في طلبها، وخلف ألف راقد وتناول النجم قناداه لسان الإنصاف. ولما رأيت الناس دون محله تيقنت أن الدهر للناس ناقد ولقد جاوز قدر كل ذي قدر، وزاحم الرءوس في مجالس المعالي، ويد الحق تضع في الصدر الصدر وتضايق القوم حيث فسح له وأنشد:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ضاق بها وهي في مجالس العلم الصدر، ولكن صدر الدين وراق بها ربعها وإن بعد عهده فلا يتغير، وإن غير النأي المحبين وساق منه هديا لحفظه التقي فنسيانه ضلال مبين، وساق منه كتابا يتلقاه ذو المعرفة باليمين، فما هاج شوقي إلى ما أنا بصدده إلا كتابه لا حمامه، ولا بعث على هذه الكلمات سواه لما سمعت كلامه، فلقد بعثني [فأقام] ٢ على ليلي من الفكر القيامة لأني مع استحسانه وجدته محتاجا إلى تحر في تحريره، وممر عليه من أوله إلى آخره لكونه مات وهو مجموع مفرق؛ لتبذيره من غير تدبيره، منسوب في نفسه إلى قصوره غير منسوب إلى مصنفه، وقد عارضته المنية إلى تقصيره.
فعمدت إلى هذا الكتاب فاجتلبت زبده وقذفت في بحر فوائد زبده وجمعت عليه من الأشباه نظائر كالأرواح جنودا مجندة وحررته في الدجى بشهادة النجوم ولاقيت عسره
_________
١ محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد بن عطية بن أحمد، يقال عبد الصمد بن أبي بكر بن عطية الشيخ الإمام العلامة ذو الفتوق صدر الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام الخطيب زين الدين أبي حفص العثماني المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل. ولد بدمياط في شوال سنة خمس وستين وستمائة، وقال السبكي في طبقاته: كان الوالد يعظمه ويحبه ويثني عليه بالعلم وحسن العقيدة. توفي في ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة بالقاهرة.
طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ٢/ ٢٣٣، ابن السبكي ٦/ ٢٣ والبداية والنهاية ١٤/ ٨٠، وفوات الوفيات ٢/ ٢٥٤ حسن المحاضرة ١٥/ ٢٣٧.
٢ في ب: "وأقام".
1 / 7
بهمة نبذت سهيلا بالعراء وهو مذموم، وجلوت من الأشباه عروس شباب لا شبيه لها مظنون ولا معلوم، إن قلت كما قال حسان:
لم يفتها شمس النهار بشيء
فلست أقول:
غير أن الشباب ليس يدوم
لأنها كلمات أعدها من الباقيات الصالحات والدائمات السابقات، تعوذ بالرقى من غير خبل وتعقد في قلائدها التميم، ثم لم أقدم على هذا الكتاب إلا بإذن سيدي الشيخ الإمام الوالد –قدس الله سره المصون- فإنه أذن لي [فيه] ١ وشرعت في ذلك في حياته، وكتبت منه قطعة شملها نظره الميمون فأعجب له رقا حرره بالكتابة عبد مأذون. نعم حررته وزدت عليه ما ينيف عن نصف مقداره ويضيف الزهر إلى أزهاره ويخيف من سلك غير طريقه فإنه [علي] ٢ لاحب ولا يهتدي بمناره، ونقصت منه ما يورثه نقصا ويكاد به يقصر ويقصى، وخصصته بعموم فضائل لا تحصى، ما بين قواعد أهملها رأسا، وزوائد أغفلها -ومن ذا الذي لا ينسى- وفرائد تطلع في أفق المسائل قمرا وشمسا، بحيث جمع فأوعى قاصيا ودانيا ونطق فأسمع قريبا ونائيا.
ولو أن واشٍ باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
ولاح للمريد سلوك طريقه وراح الفقيه المستفيد يبدي ويعيد، ولا مزيد على تحقيقه، ونفق سوقه فلا يجد من يستطلع في ظلام الشبهات غير صبح فضله استغلظ فاستوى على سوقه، وكمل كتابا طبخ قلوب الحاسدين لما استوى، وسحابا لا تغير معه الأغراض الأهوية قائلة: لا نبرح نحن ولا أنت مكانا سوى: "وعبابا إذا عافى الله مريض القلب وكرع فيه منصفا ظهر ما قلناه، وبدي من بعد ما اندمل الهوى، وحكما يقضي القضايا اقتضيته وتقول: أنت الحكم التُّرْضى حكومته، والله أعطاه فضلا من عطيته فلتشكر عطيته نبهت له الذهن والناس نيام وأيقظت الفكر فأضاء مصباحه في الظلام وأعلمت فيها القلب فجلس يناجي الملك العلام. فلله من وارداته مقام عبد تجيب فيه الملائكة من عز الكلام. داعي الله لا من دعت ساق حر نزحه وترنما ومحفل فكر يسبك فيه ذهب القلوب على الحق ولا ضرب صواع يكفيه درهما، ومجلس علم يفوق مجلس الذكر ومتعلقا بجلوسه ﷺ في مجلس المعلمين وقوله: "إنما بعثت معلما" ٣ فكم سفه
_________
١ سقط في "ب".
٢ سقط في "ب".
٣ أخرجه ابن ماجه ١/ ١١٧ في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم "٢٢٩".
قال البوصيري في زوائده: هذا إسناد فيه بكر وداود وعبد الرحمن وهم ضعفاء وقال رواه أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق عبد الرحمن الإفريقي به.
1 / 8
أحلام النيام ما في تلك اليقظة من رشد يهذب ويحرر.
وكم بت مستخبرا علمي، وأستمد فكري وقلمي فهذا ينشيء وهذا يخبر، وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر ولست مع ذلك أبرئ كتابي من كل نقص ومعرة. ولا أبيعه بشرط السلامة من كل عيب يكره، ولا أدعي أني استوعبت فيه ولا أن الأشباه جمع كثرة.
ولا آمن طائفة تطوف على محاسنه فتأخذها وتدعيها [وتدخل] ١ وتخرج وليت لها أذن واعية فتعيها وتسرق من حرزها نصابا لا شبهة لها فيه ولن يكفيها وتسبح في بحره فتشهب كبار الدرر وتسرح في روضه فتجني على مصنفه، وتجني كل زهر وتسرق ثمره وتقول لا قطع في ثمر ولا كثر.
نعم لكأني بفرق ثلاث: فرقة تفرق شمل محاسنه وتنكرها، وتجتلي عرائسه ثم تتشعب قبيلتين خيرهما التي لا تجعلها بمذام ولا تذكرها والأخرى تبيت منه في نعم وتصبح تكفرها.
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
لعب بها شيطان الحسد وشد وثائقها الذي لا يوثق به بحبل من مسد، وتصرف فيها والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في الجسد، تصرف فيهم فنوى كل منهم السوء ولكل امرئ ما نوى، وتحكم فغوى بحكمه من غوى، وجرى بهم في ميدان الحسد حتى وقف الهوى، فلزموا إنكار الجميل لزوم جميل بثينة وغريم ألد تقاضي عزة دينه وجر جريرًا فسماه صائده الفؤاد وهو يعرف كذبه وميته، لا بل لزوم الأعراض للجواهر والغيم للنهار الماطر والليل للنجم الزاهر.
وآخر من فيه ثانية: يسمع كلامه ولا يفهمه ويصبح في بحره ولا يعلمه [ويصبح] ٢ ظمآن وفي البحر فمه ومثل هذا لا يفتقد حضوره إذا غاب ولا ينتقد كلامه إذا جاب الصخر وخاب ولا يؤهل لأن يعاب إذا عاب.
_________
١ في "ب" فتدخل.
٢ في ويسبح.
1 / 9
وكم من عائب قولا صحيحا ... [وآفته من الفهم السقيم] ١
ولا يؤهل لأن يعاب إذا عاب
وآخر من فيه ثالثة: تغترف من بحره وتعترف ببره ويقتطف من زهره ما هو أزهر من الأفق وزهره وتلزم الثناء عليه لزوم الخطب للمنابر والأقلام للمحابر والأفكار للخواطر والمؤمن للطاعة في الليل الكافر، وتعالج به جراحات الشكوك كأنه لها مراهم ويقطع بقواطعه ما أورث سوء الظن وأوهم وتقول: لو بيع فصل منه لاشتريته كما قيل بألف درهم.
وهذه طريقة قل سالكوها، وبعيد أن يوجد في حياة المصنف أهلوها فعليهم سلام الله أحسن الناس وجوهًا وأنضر همومًا.
وها أنا أبرز لك هذا المجموع وأحمل إليك هذا الموضوع، وأخرجه غير مقطوع الفضل ولا ممنوع والله أسأل أن يتقبله وأن يغفر خطأ مصنفه وأن يدخله الجنة بفضله فإنه لن يدخلها بعمله ولو كان له عمل فكيف ولا عمل له.
_________
١ من قوله وآفته من الفهم السقيم إلى قوله: قال الرافعي فجواز الاستعمال على قولي الأصل سقط في ب.
الكلام في القواعد الفقهية والمدارك الشرعية والمآخذ الأصولية: حق على طالب التحقيق ومن يتشوق إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يحكم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموض وينهض بعبء الاجتهاد أتم نهوض ثم يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع؛ لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع. أما استخراج القوي وبذل المجهود في الاقتصار على حفظ الفروع من غير معرفة أصولها ونظم الجزئيات بدون فهم مأخذها، فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبية ولا حامله من أهل العلم بالكلية. قال إمام الحرمين ١ في كتاب المدارك: "الوجه لكل متخذ للإقلال بأعباء _________ ١ عبد الملك بن عبد اله بن يوسف عبد الله بن يوسف بن محمد العلامة إمام الحرمين ضياء الدين أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني رئيس الشافعية بنيسابور مولده في المحرم سنة تسع عشر وأربعمائة وصنف المصنفات العديدة، قال أبو إسحاق الفيروزأبادي تمتعوا بهذا الإمام فإنه نزهة هذا الزمان توفي في ربيع الآخر سنة ثمانٍ وسبعين وأربعمائة. ابن السبكي ٣/ ٢٤٩، وفيات الأعيان ٢/ ٣٤١، شذرات الذهب ٣/ ٣٥٨، والنجوم الزاهرة ٥/ ١٢١.
الكلام في القواعد الفقهية والمدارك الشرعية والمآخذ الأصولية: حق على طالب التحقيق ومن يتشوق إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يحكم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموض وينهض بعبء الاجتهاد أتم نهوض ثم يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع؛ لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع. أما استخراج القوي وبذل المجهود في الاقتصار على حفظ الفروع من غير معرفة أصولها ونظم الجزئيات بدون فهم مأخذها، فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبية ولا حامله من أهل العلم بالكلية. قال إمام الحرمين ١ في كتاب المدارك: "الوجه لكل متخذ للإقلال بأعباء _________ ١ عبد الملك بن عبد اله بن يوسف عبد الله بن يوسف بن محمد العلامة إمام الحرمين ضياء الدين أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني رئيس الشافعية بنيسابور مولده في المحرم سنة تسع عشر وأربعمائة وصنف المصنفات العديدة، قال أبو إسحاق الفيروزأبادي تمتعوا بهذا الإمام فإنه نزهة هذا الزمان توفي في ربيع الآخر سنة ثمانٍ وسبعين وأربعمائة. ابن السبكي ٣/ ٢٤٩، وفيات الأعيان ٢/ ٣٤١، شذرات الذهب ٣/ ٣٥٨، والنجوم الزاهرة ٥/ ١٢١.
1 / 10
الشريعة معه أن يجعل الإحاطة بالأصول سوقه الألذ وينص مسائل الفقه عليها نص من يحاول بإيرادها تهذيب الأصول، ولا ينزف حمام ذهنه في وضع الوقائع مع العلم بأنها لا تنحصر على الذهول عن الأصول" انتهى.
وإن تعارض الأمران وقصر وقت طالب العلم عن الجميع بينهما -لضيق أو غيره من آفات الزمان- فالرأي لذي الذهن الصحيح الاقتصار على حفظ القواعد وفهم المآخذ.
إذا عرف ذلك فالقاعدة: الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منها١". ومنها ما لا يختص بباب كقولنا: "اليقين لا يرفع بالشك" ومنها ما يختص كقولنا: "كل كفارة سببها معصية فهي على الفور" والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم صور متشابهة أن تسمى ضابطا. وإن شئت قل: ما عم صورا، فإن كان المقصود من ذكره القدر المشترك الذي به اشتركت الصور في الحكم فهو مدرك، وإلا فإن كان القصد ضبط تلك الصور بنوع من أنواع الضبط من غير نظر في مأخذها فهو الضابط؛ وإلا فهو القاعدة.
فإن قلت: فخرج عن القاعدة نحو قول الغزالي "﵀" في الوسيط: "قاعدة لو تحرم بالصلاة في وقت الكراهة ففي الانعقاد وجهان"، فقد أطلق القاعدة على فرع منصوص قلت: إنما أطلقها عليه لما تضمنته من المآخذ المقتضي للكراهة لأن فعل الشيء في الوقت المنهي عنه هل ينافي حصوله؟ فلما رجع الفرع إلى أصل هو قاعدة كلية حسن إطلاق لفظ القاعدة عليه. وذلك نظير قوله أيضا: قواعد ثلاث: الأولى، التطوعات التي لا سبب لها، لا حصر لركعاتها.
_________
١ وقيل حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته؛ ليتعرف به أحكام الجزئيات، وقيل: القاعدة حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته، وقيل: غير ذلك، انظر تقدمتنا على الاعتناء في الفرق والاستثناء.
1 / 11