ضمنه إعجابه الذي لا حد له بأشعار ڤيرلين كما ضمنه شيئا من أشعاره.
رامبو في طفولته
ووجد ڤيرلين في هذا الخطاب رجلا يرفعه إلى مصاف العبقريين، كما وجد في هذا الرجل شاعرا مبدعا، في شعره قوة جديدة وصوت جديد وخيال جديد؛ فاندفع ڤيرلين يدعو صاحبه إلى «شارڤيل» دون روية أو إمعان، وحل رامبو ضيفا على هذا الخليط المزدحم، يشاركهم نومهم ويقظتهم، ويساهمهم زادهم وشرابهم، وكان رامبو شابا في السابعة عشرة من عمره ولكنه كان مخلوقا غريبا حقا!! كان مديد القامة، قذر الثياب، وكان عاطلا أيضا، وكان مخبره أحط من مظهره، كان شريرا بكل ما في كلمة الشر من المعاني، وكان رجلا سكيرا، فظا كثير اللجاج، محبا للمشاكسة، فلم تستطع ماتيلد وأمها صبرا على هذا الضيف وسرعان ما تخلصا منه.
ولكن رامبو وجد مأوى آخر، واستطاع أن يتصل بالكثير من الشعراء أصدقاء ڤيرلين، فسرعان ما أثر فيهم وتسلط عليهم، ومن ثم وقع ڤيرلين روحا وعقلا تحت سلطان هذا الساحر، أما ما انتهى إليه أمر هذه العلاقة بين الشاعرين فقد اختلف في اكتناه أسراره الكتاب والمؤرخون، وإن أجمعوا على أنها العلاقة الشاذة التي يتأثم بها اثنان من جنس واحد، وهو اتهام لم يفرغ النقاد من تحقيقه حتى اليوم، أما الذي لا سبيل إلى الشك فيه فهي النتائج المحزنة التي انحسرت عنها مأساة هذه العلاقة، ولا ندحة من أن نمسها مسا رفيقا؛ فقد جعلت حياة ماتيلد مع ڤيرلين أمرا مستحيلا فدفعته إلى هجرها، ثم ساقته وصاحبه رامبو إلى إنجلترا، ثم إلى بروكسل ثم أورثته إدمان الخمر، فبالغ في نشوته إلى حد نال من صحته وأوهن أعصابه، وأوقعه في جنون التخيل والتوهم “Pasomania” ، ثم استمرت المأساة في عملها فدفعت الشاعرين إلى الخصام الشديد، ثم رفعت يد ڤيرلين بالنار يطلقها على صاحبه مرات، فإذا صاحبه جريح، وإذا ڤيرلين رهين سجن «مونز» ثم تخلص المأساة من رامبو لتتصل بحياة ڤيرلين وحده، فيخرج من السجن بعد عامين ويعود إلى فرنسا، ثم يحصل على وظيفة مدرس بأحد المعاهد ليفقدها بعد زمن قصير، ثم يضيق به الحال فيذهب بأمه إلى «إردن» مؤثرا فلاحة الأرض، ولكنه لا يصيب حظا من النجاح، فيغادر فرنسا كلها ويعود إلى إنكلترا للمرة الثانية، ثم يحن إلى وطنه فيرجع إليه عام 1878 ويظفر بمنصب أستاذ في كلية «رتل»
Rethal
ومنها إلى باريس، وإذا بالمتشرد الكبير يظهر مرة أخرى في الحي اللاتيني، ويتصل بأصدقائه القدماء من الشعراء الرمزيين رواد هذا الحي، ثم يبتسم له الحظ قليلا فينشر مجموعة جديدة من شعره وكتابا آخر في تصوير بعض الشخصيات الأدبية، فيصيب من ورائهما بعض المال وكثيرا من الشهرة والمجد، ثم يعبس الحظ له إلى الأبد، فيتخطف الموت أمه عام 1886 ويقع ڤيرلين تحت وطأة المرض هيكلا محطما، ولكنه رغم هذا لم يقلع عن إدمانه الخمر؛ ثم تذهب به المأساة الكبرى إلى نهاية الشوط، فتأبى ماتيلد الصفح عنه وترفض لقاءه، وتستأثر وحدها بطفلهما الوحيد، وهكذا يقف ڤيرلين حيال العالم وحده، ثم تعبر به عشر سنوات أخرى وهو يضرب في هذا التيه الغامر والعذاب المطلق حتى يصادف «أوچيني كرانتس» فيؤلف بينهما البؤس ويصدح بلبل الحب فوق طلل هذا القلب المهدم الحزين، فينتعش قليلا ولا يكاد يخفق للحياة الجديدة ، حتى تتألب عليه الأمراض فيعجز عن مقاومتها، فيصرعه الموت، وبذلك تنتهي حياته أو مأساته المفجعة عام 1896.
كان ڤيرلين شاعرا غنائيا محبوبا، وقد ظهر ميله إلى الشعر أيام دراسته الأولى فأظهر في قرضه مقدرة ونبوغا لا يتكافأ معهما عمره الصغير، أما ديوانه الأول «قصائد عابسة» فقد كانت عملا فنيا رائعا، وكان كله شعرا غنائيا تضطرد فيه الموسيقى اضطرادا عجيبا، تجد في بعضه الأناقة والجمال، وفي بعضه الآخر العظمة والرقة، ولعل أجمل قصائده قصيدته في الخريف، أترجمها شعرا وإن كانت الترجمة تفقدها أجل ما فيها وهو الموسيقى.
تنهدات الرياح
رتيبة النواح
تجرح قلبي بها
অজানা পৃষ্ঠা