فأغنتني السيدة عن الجواب وأخذت تداعب زوجها: ألم يقل لك إنه لم يمض عليه غير ساعتين في المدينة؟
واقتربنا مليا من مدخل الكنيسة وتلاقت نظراتنا فابتسمنا وقد زاد فيض النور، فتابع الرجل حديثه: لشد ما تروعني هذه الخيول البرونزية المطلة من فوق المدخل، صدقني أيها الرفيق إني أحبها وأخافها في وقت واحد، فإني كلما وقفت أتأمل اقتدار الفن الذي صنعها، أتخيلها حية تتحرك وأنها ستطؤني بحوافرها هذه!.
ثم ملنا إلى الصور المزدانة بها واجهة البناء المصنوع من قطع الموازايك البللوري والفضي واللازوردي والأصفر الفاقع والأحمر القاني.
قلت للصديق: لقد جاء دوري . قال: حسنا. قلت: انظر إلى هذه الصورة فأخذ يتأملها وأنا أحاوره: هذه جثة الرسول مرقص. هذا الرسول الذي ضن البنادقة على مصر بجثته فعملوا على اغتصابها. فهتف الرجل: ومن أين لك ذلك؟
قلت: تأمل يا صديقي فإن التاريخ يحمل مسئولية روايتي، هذه جثة الرسول في الصندوق مغطاة بأوراق الشجر الأخضر واللحم الطري؛ وها هم الخونة بأزيائهم الشرقية يعينون المغتصبين على إخفاء الجثة ونقلها إلى السفينة المنتظرة. فسألتني السيدة بدورها: وماذا صنعوا بالجثة؟ قلت: كما ترين، هذا مقرها وهذا البناء هيكلها العتيد!
فقالت مداعبة: إذن لا ضير أيها السيد ولا غبن، فلو بقيت في مصر لما أقيم لها مثل هذا البناء النادر المثال الذي يتحدى الفنانين بأناقته وفخامته. فحنيت رأسي اعترافا بمنطقها السليم، وسرنا نتأمل العقود الرائعة ذات العمد الرخامية الناطقة بأعاجيب الفن في قصر «الدوج» فقلت للسيدة: هذا فن أجدادي. فنظرت إلي كأنها تسألني الإيضاح، قلت: ألم تزوري إسبانيا؟ قالت: كلا. قلت: وأنا مثلك.
فابتسمت وعادت تنظر إلي وهي تمزح: هل أنت إسباني؟ قلت: كلا. إذن ما لأجدادك وهذا البناء؟ فطربت لهذا الحوار الجميل. وانطلقت أحدثها: «إن أجدادي ضربوا خيامهم في رمال الصحراء وخرج منهم الأنبياء والرعاة المنشدون والفلاسفة والمفكرون، ومنهم أيضا الفنانون المبتكرون، انظري سيدتي إلى هذه العقود وإلى هذه الأعمدة وإلى هذه الشرفات، هذا الفن العربي وجد قبل بناء هذا القصر بمئات السنين، ولا تستكثري سرقة الفن على قوم اجترأوا على سرقة رسول، قالت: ولكنهم بدلوا فيه وغيروا.
قلت: نعم، والفن في نظر بعض النقاد تحايل ومهارة وأساسه الاقتباس.
قالت: وهل الكنيسة أيضا مثل هذا القصر؟
قلت: كلا، إن قبابها السامقة تمت إلى كنيسة الحواريين المقدسة التي كانت بالقسطنطينية ولا أزيدك معرفة فهذان العمودان الرخاميان استحضرا أيضا من القسطنطينية وركبا في القرن العشرين، أما أولهما فيحمل تمثال أسد «سان ماركو» المجنح، أما الثاني فيحمل تمثال «سان تيودو» الجمهوري الفينيسي، وكان محاربا استشهد في الحرب تحت لواء مكسيمليان.
অজানা পৃষ্ঠা