الإسكندرية، تلك المدينة الساحرة، ميناء الحضارات ومنارتها، بيتي الذي يحتضنه البحر ويحرسه سيرابيس، اليوم يبدو الحذر في أمواجها، ويفوح من نسماتها الترقب، حتى الشمس كانت تطل باستحياء التلصص من خلف تلك الغمامة التي حوت إسكندريتي وعزلتها عن زرقة السماء، كان اليوم رماديا بلمعة فضية، وكنت كما أنا الآن أزيد معطفا بنيا فوق فستاني وبجيبه عنوان عبد الله حسين مسعود، رئيس مجلس الإدارة.
أعرف المكان جيدا، بناية قديمة لكنها فاخرة، تطل مباشرة على البحر، قرب حديقة المنشية، مكان معروف بتجمع أصحاب الأموال لقربه من بناية البورصة، سألني حارس البناية فأخبرته أنني أريد الدكتور عبد الله مسعود؛ فأجاب الأستاذ عبد الله بالطابق الثالث، وفتح لي المصعد الخشبي، لكنني فضلت السلم، شكرته وصعدت، لا يختلف عن سلم بيت جدتي، نفس الجدران المحيطة به، حتى الأبواب لا تختلف كثيرا، التشابه يشعر بالألفة، والألفة كانت أكثر ما أحتاجه.
وصلت لطابق المؤسسة القانونية الضخمة، حركة في كل مكان، تشبه البنوك التي لا أحبها كثيرا، رجال بملابس رسمية وسيدات أيضا، كأنني انتقلت لفيلم أمريكي لا ينقصهم إلا القبعات، وقفت أراقب بعيني خلية النحل القانونية، ويبدو أنني أطلت الوقوف حتى لاحظ البعض وجودي، بدأت الملاحظة بنظرات الاستنكار ربما لا أشبه عملاءهم الأغنياء، كنت واضحة لهم كعشبة ضارة بين أغصان الزهور، بينما كنت أشعر أنني زهرة برية صغيرة في صحراء لا أشعر بمحيطي بأي من أنواع الحياة، اقتربت مني سيدة بابتسامة استقبال الفنادق الكبرى، وسألتني بتأدب كيف يمكنها خدمتي؟ طلبت مقابلة عبد الله؛ فسألت عن وجود موعد مسبق، لم أفهم أهمية كل هذا، فأجبتها أنني أريد مقابلته لأمر شخصي الآن وليس بعد دقيقة من الآن، لا أعرف سبب حدتي، لكنني لم أكن مرتاحة في هذا المكان القاسي لي. •••
أمام حدتي وجدتني في مكتب صغير وسيدة تبتسم تلك الابتسامة الفندقية وطلبت مني الجلوس، رفضت الجلوس، فقامت من مكتبها واقتربت مني بود تطلب مني الجلوس لأرتاح حتى تبلغ الأستاذ بوجودي، جلست أمام ذوقها، حاولت الابتسام، لكن كان التوتر باديا في ملامحي، سألتني عن سبب المقابلة، فلم تنل مني سوى اسمي وانصرفت لغرفة أخرى عبر باب داخلي، غابت للحظات ثم عادت تدعوني للدخول عبر نفس الباب. •••
كانت رحلتي الأطول عبر هذا الباب، غرفة كبيرة مثل غرفة نوم جدتي مرتين ويزيد، رائحة أخشاب الورد العجوز تفوح من مكتبات تغطي الجدران، والثرايا الذهبية تتدلى من السقف المرتفع المرسوم الأركان، صالون فرنسي من القرن الخامس عشر، وأمامهم مكتب فرنسي أمامه كرسيان من نفس طرازه وخلف المكتب الأنيق كان عبد الله جالسا، ملابس رسمية، رابطة عنق، شعر مهندم لامع، عينان من الزجاج، لم يعرفني! حقا؟ ألا يعرف من أنا؟ وقف مبتسما، ومد يده لمصافحتي، يد باردة لم أعرفها، طلب مني الجلوس مرحبا، جلست ودهشتي تتحول للذهول وتنتهي بالحزن، عرفني بنفسه، مؤسسة قانونية دولية تتولى قضايا الشركات الكبرى وذوي الشأن الرفيع من الأشخاص، شعرت من طريقته التي تحاول التظاهر بالأدب أنه يخبرني بأنني في المكان الخاطئ، فلا يبدو علي أنني صاحبة شركة كبرى أو من ذوي الشأن الرفيع. •••
تبدد حزني دون سبب واضح وحلت الرغبة في اكتشاف حقيقة ما يحدث؛ فعرفته بنفسي دكتورة أمل خطاب، أستاذ تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، وابنة الدكتور إسماعيل خطاب صاحب مراكز الاستشفاء المنتشرة بالقاهرة والإسكندرية، ترحم هو عليه ولم أعلق، واسترسلت بأن لدي مشكلة في الميراث مع أعمامي وأبنائهم لكوني الابنة الوحيدة لوالدي الراحل، ترحم مرة أخرى ولم أعلق أيضا، بدا أنني تحولت لذوي الشأن بمجرد ذكر أملاك العائلة، كنت أنظر لعينيه مباشرة، وبعد أن اطمئن أن وقته لن يذهب هباء، بدأ يتفحصني بعينيه، جائع يتفحص وليمته، ربما فاته أن يلعق شفتيه، أو ربما كان مدربا ألا يفعل. •••
أكملت ما بدأت، خلعت معطفي بهدوء، فقام معتذرا أنه لم يأخذه من البداية، اقترب مني يساعدني على خلع المعطف، وهلت رائحته متخفية خلف عطر فرنسي شهير، علق المعطف وعاد لمكتبه مبتسما، سألته عن إجراءات التقاضي لحالتي؛ فرفع هاتف المكتب ليطلب السيدة بالمكتب الصغير وطلب بطاقة هويتي، أخذتها السيدة بأدب وانصرفت، لم أفهم شيئا، لكنني لم أتوقف عن إغواء هذا النمر الجائع، طلب أن يفهم طبيعة المشكلة، وشعرت أنها فرصتي، قمت وبدأت الحديث واقفة، أتحرك بالغرفة أمام المكتب وكأنني في بطولة عرض مسرحي، استخدمت كل ما يمكن استخدامه من لغة جسدي، كان يصدر بعض الأصوات والإيماءات المدللة على متابعته، لكن عينيه كانتا تتعطلان في تسلطهما على جسدي، كان يراقب كل ما ظهر مني، ساكنا أو متحركا، كان الأمر في بدايته رخيصا لي، لكنني بدأت بالاستمتاع به وأنا أراه أسيرا لرغبته في؛ فأضفت مشهدا مؤثرا للختام فانحنيت في مواجهته ومعصماي على سطح المكتب فانزلقت عيناه من رقبتي لتسرقا ما يمكنهما سرقته من خلف فستاني. - يبدو أنني لا أجيد شرح الخلافات القانونية، ربما لأنني لا أفهمها كثيرا. - بالعكس دكتورة، مما رأيت، يمكنك عرض أي شيء ببراعة. - أي شيء؟ - أين تحتفظين بأوراق أملاك والدك رحمه الله؟ - لدي الكثير من الأوراق، لا أعرف ما يخص الأملاك وما يخص أعماله، ربما. - ربما من الأفضل أن أفحصها جميعا بنفسي. - لا أريد أن أثقل عليك أستاذ عبد الله. - متى يناسبك دكتورة أن تتحملي زيارتي؟ - الليلة تناسبك؟ - حسنا، الليلة موعدنا.
تركت له عنوان بيت جدتي ونظرت لمعطفي فقام مسرعا، ساعدني في ارتدائه وضمه وضمني متنفسا في رقبتي من الخلف، وددت الالتفاف لأبكي كل شيء في صدره، لكنه ليس عبد الله الذي أعرفه، أخذت بطاقة هويتي من السيدة بالمكتب الملحق وانصرفت، خلعت حذائي وتقافزت حافية على السلم كما أفعل ببيت جدتي، وصلت لباب البناية فانتعلته مرة أخرى وعدت لبيت جدتي بالشاطبي. •••
البيت دافئ، من خلف باب الشرفة وقفت أناجي سيرابيس، ما هذا الجنون الذي أفعله؟ كانت أمواج البحر تحذرني عواقب نيتي، سيأتي عبد الله المهندم اليوم، هل سيتذكر هذا البيت؟ تلك الأريكة؟ غرفة جدتي؟ هل سيتذكر ما قضيناه من وقت سويا في هذا المكان؟ لم يتعرف علي، فكيف سيتذكر المكان؟ كان تصرفا أحمق أن دعوته، كان علي التريث، لماذا ذهبت إليه؟ تركني سيرابيس لحيرتي، قطعت الوقت بخبز بعض فطائر التفاح، المكان نظيف، الرائحة جميلة، فستان أقصر قليلا، وانتظار طويل. •••
السابعة مساء، سيارته الكبيرة تقف أمام البيت، يحمل لفافة كبيرة، يحدث حارس البناية ويصعد، إنها المرة الأولى التي يزورني شخص بتلك الهيئة ومظاهر الثراء المبالغ فيها تلك، وقفت خلف الباب وفتحته قبل أن يدق الجرس، ابتسم فقد كان يهندم ملابسه قبل طرق الباب، ابتسمت له مرحبة ودعوته للدخول، لم تنتبني حالة الإغواء الصباحية، كنت بلا حالة مزاجية معينة، علقت عنه معطفه، وبدا وسيما بملابسه الرسمية الداكنة ورابطة عنقه بلون النبيذ فوق قميصه الأبيض، كان يتحسس خطواته في المكان، كأنه لم يكن هنا منذ أيام، قبل جلوسه فك لفافته وأخرج زجاجة من النبيذ الفرنسي قائلا إنه لا يعرف ذوقي فأحضر نبيذا أحمر للعشاء، شكرته وحملتها للمطبخ.
অজানা পৃষ্ঠা