طوبى للغرباء
من إرسال متقطع لأثير الإذاعة، تنطلق أغنية قديمة كأنها قادمة من زمن آخر: «إيه يا بلاد يا غريبة، عدوة ولا حبيبة !» يدير جميع من في السيارة التي تقطع الصحراء وجوههم إلى النوافذ التي تجاورهم، تتماهى مع اللون الأصفر القاسي، لا يبقى من ملامحهم الحقيقية سوى حبات عرق تيبست، ربما دليلا على أن أحدا كان هنا.
1
يقولون: «في السفر سبع فوائد»، لكن الغريب لا يعرفها ولا يفكر فيها، يفكر فقط في وجهه الذي لا يشبه من حوله، في لسانه الذي لا يريد أن ينطق، في فنجان القهوة الذي ينفد واحدا تلو الآخر، في المقهى الذي يجلس منزويا في ركنه متوجسا من لا شيء، وعيناه معلقتان بتليفزيون لا يعرض شيئا، في الأرصفة الطاردة من شارع إلى شارع، في البنايات العالية الشاهقة التي تطل من عل كأنها تبتسم في سخرية، في السحابات التي لا تظل أحدا، وفي الليل الذي يمتد طويلا طويلا كغطاء تفرده المدينة على جسدها، تتحرك تحته الخفافيش صارخة بكلام غير مفهوم.
2
في ليل الغربة يضحي لكل شيء معنى، لكل التفاتة حكاية. التاكسي الذي توقف والباص الذي لم يتوقف، المطعم الرخيص الذي يغلق أبوابه مبكرا، والأضواء المنبعثة من ملهى يضج بما في داخله، ابتسامة نادل المقهى المتثاقلة، وضحكة العابر على الرصيف المقابل غير المفهومة، نوافذ البيوت المغلقة على ما فيها، والماء الذي «ينقط» من ملابس منشورة على رءوس المارة، الحكاية المبتورة للراكب المجاور في الباص، والمحطة التي مرت وأنت تخجل أن تنطق لتطالب السائق بالوقوف، العودة سيرا لتأمل الوجوه نفسها، الفاترينات نفسها، الملابس نفسها المغبرة المعلقة على مانيكانات عتيقة، تنظر بجمود نظرة تقول كل شيء ولا تقول أي شيء.
3
كل بيت يترك علامة؛ البيوت التي صعدنا إليها في المقطم، والتي هبطنا إليها في مصر القديمة، والتي سرنا إليها في القاهرة الفاطمية، والتي ركبنا لها المترو في حلوان. ثمة عنكبوت كان نائما في الركن، ثمة شرخ في الجدار امتد إلى الروح، ثمة جار قال كلمة وانصرف فبقيت الكلمة محفورة في الذاكرة إلى الأبد، ثمة بائع طرق الباب، ولما فتحنا لم نجد أحدا.
4
من الذي يسافر في الآخر؛ الناس أم المدن؟ أيهما الذي يهجر الآخر، يولي وجهه للجهة الأخرى؟ كل يترك في الآخر آثاره. هل كانت ستكون هناك مدن من دون هؤلاء الناس؟ أفكر في الرجل الأول دائما الذي قرر أن يهجر محيطه ويذهب إلى الفراغ؛ حيث لا شيء حوله سوى الصحراء أو الرمال، فيم كان يفكر وهو ينصب خيمته؟ كيف مرت عليه ليلته الأولى ولا شيء حوله سوى صراخ الرياح في الخارج؟ هل اكتفى في يومه اليوم بأكل العشب ثم سار إلى البحر باحثا عن الحياة؟ كيف استقبل ضيفه الأول، وكيف أقنعه بالبقاء؟ هل كان يفكر في لياليه الطويلة في «الونس»؟ كيف فكر نوح - عليه السلام - بعد أن حطت السفينة، ولم يكن هناك أحد سواه؟ وفيم فكر سام وهو يشد رحاله إلى بلاد بعيدة لا أحد فيها؟ ألف «كيف» و«لماذا» و«متى» و«أين» تتشكل على جدار الليل كبقع بيضاء في جدار أبيض، تتسع تدريجيا، تبهت، فيظهر خلفها البراح؛ البراح الطيب، البراح القاتل.
অজানা পৃষ্ঠা