وكان الليل حالكا والطريق وعرا، ولكنه لم يبال شيئا، فمضى هزيع من الليل وهو على جواده، والجو هادئ وقد ساد الظلام والسكون ولم يكن يسمع إلا صوت وقع أقدام الجواد خفيفا لنعومة تربة مصر وقلة الحصباء فيها، وبعد منتصف الليل بقليل تعب الجواد فجعل سيره خفيفا، وأخذ يلتفت إلى ما حوله فلم يشاهد إلا أشباح الأشجار القريبة تمر كأنها أصنام سابحة في الماء.
وفيما هو سائر تتقاذفه الهواجس سمع صوتا خفيفا عرف من رنته أنه صوت امرأة تستجير، ثم انقطع الصوت بغتة، وكان لشدة هواجسه في أرمانوسة وما عرفه من الضيق المحيق بها كأنه في حلم يسمع صوتها تستجير، فلما سمع ذلك الصوت خيل إليه أنها في يد العدو وتستجير به، فوقف وأصاخ بسمعه جهة الصوت فلم يسمع شيئا، فظن ما سمعه وهما، فهم بالسير فسمع الصوت ثانية وقد اقترب، وإذا بالمستجير يتكلم بالقبطية ويقول: «أشفقوا على صباي. خافوا من الله إذا كنتم لا تخافون المقوقس.» فخيل إليه أن أرمانوسة بين أيدي أناس يريدون بها شرا، فهبت الحماسة فيه ونسي نفسه، ولكز جواده، فسار به إلى جهة الصوت، وكان قد سمعه بعيدا، وبينه بين الصوت غابة من شجر الجميز، فسار بجواده بين الأشجار يحملق ويتطاول بعنقه لشدة الظلام لعله يلمح أشباحا أو يرى أحدا، وكانت قرقعة درعه وسيفه أعلى صوتا من وقع أقدام جواده، حتى إذا اقترب من جهة الصوت سمع قائلا يقول: «أستنجدك يا قادم وأستحلفك بالله وبالشرف أن تنقذني من هؤلاء اللصوص.»
فأرسل نظره إلى مخرج ذلك الصوت، فرأى ثلاثة أشباح وقوفا تحت شجرة، ولكنه لم يميز أحدا منهم لشدة الظلام، فأغار بجوده وناداهم بصوت كأنه الرعد القاصف: «أين هم اللصوص؟ اتركوا الفتاة وإلا أذقتكم المنون بحد هذا السيف.» وجرد حسامه، وكان بينه وبينهم نحو عشرين ذراعا. فركنوا إلى الفرار فتبعهم، فسار كل منهم في ناحية واختفوا بين الأشجار، فخاف أن يبعد عن مخرج الصوت فيخطئ مكان الفتاة، فعاد إلى الشجرة التي شاهد الأشباح تحتها، فرأى شبحا يتلوى عند أقدام جواده وهو يقول: «حماك الله يا فارس وأنقذك من غوائل الزمان، فقد أنقذتني من مخالب الموت والعار.» فترجل أركاديوس وأمسك المتكلمة وهو في شك من أن تكون أرمانوسة، فإذا بالصوت غير صوتها، لكنه كان مختنقا من شدة البكاء، فأمسك بيد الفتاة وخاطبها باللغة القبطية قائلا: «لا تخافي يا فتاة. إنك في مأمن من شر أولاد الحرام.»
وأحس أركاديوس عندما قبض على يدها أنها باردة كالثلج، وهي ترتجف وترتعد، فقال لها: «لا تخافي يا فتاة، قولي لي من أنت؟»
قالت: «إني فتاة مسكينة، قد اختطفني بعض أولاد الحرام يريدون بي سوءا، فجزاك الله خيرا على إنقاذي، ولكن احذر أن يغدروا بك وأنت واقف هنا، فإنهم لا يخافون الله، وكأني أرى واحدا منهم وراء تلك الشجرة.»
وما أتمت كلامها حتى شعر أركاديوس بنبلة مرت بفخذه، ولكنها لم تصبه فتحول عن الفتاة وأسرع إلى الجهة التي جاءت منها النبلة وصاح: «ويلك يا خائن، إني والله قاتلك لا محالة، ولا أبالي إذا كنتم مئات أو ألوفا.» وكان الحسام لا يزال مجردا، فوثب كأنه الليث الكاسر، وخاف الرجل، فأراد الفرار فأدركه بضربة جندلته وقد صاح قائلا: «آه قتلتني.» فإذا هو يتكلم الرومانية، فأجابه باللغة الرومانية قائلا: «أمن جماعة الروم هذه الخيانة؟ تبا لكم.» والتفت إلى ما حوله فلم ير أحدا، فتحقق أن القوم فروا، فعاد إلى الفتاة فإذا بها قد خارت قواها ووقعت على الأرض من شدة الخوف وهي تقول: «قتل الخائن فالحمد لله.» فأمسكها أركاديوس وأجلسها، وهو يود أن يعرف من هي، ثم تذكر حبيبته وتصور أنها في مثل هذا الضيق، فاقشعر جسمه وقال للفتاة: «أين بلدك؟» قالت: «بالقرب من بلبيس يا سيدي.»
قال: «هل تعرفين هذا الخائن الذي يتخبط في دمه؟» قالت: «نعم يا سيدي، هو ابن حاكم القرية.»
قال: «وما الذي يريده منك؟» قالت: «يريد اختطافي من حجر والدي، وقد قضى زمنا طويلا يترقب الفرصة للإيقاع بي، حتى تمكن والده الحاكم أن يجعلني ضحية النيل، فأنقذني الله على يد سيدتي أرمانوسة بنت المقوقس، وهي ببلبيس، فلما سمع بذهابها إلى خطيبها قسطنطين صباح أمس، انتهز الفرصة، وجاء في زمرة من رجاله، واختطفني قهرا بعد أن أوسع بي ضربا، وفر بي إلى هذه البساتين، وقد كاد يفتك بي، لو لم تأت أنت لإنقاذي.»
فلما سمع اسم أرمانوسة خفق قلبه، وازداد الخفقان لما سمع أنها سارت إلى قسطنطين، وأراد تحقق الخبر فقال: «وهل سارت أرمانوسة إلى خطيبها؟ وكيف سارت؟»
قالت: «علمنا ونحن في قريتنا، أن سرية من الجند الروماني جاءت من أنحاء الشام بأمر من الإمبراطور ليحملوها إليه، وسمعنا أنها خرجت من المدينة وسارت برفقتهم.»
অজানা পৃষ্ঠা