فابتدره أركاديوس قائلا: «ولماذا التستر؟! وما الفائدة من الحياة بعد الذل؟! إن ذلك عار على الرجال.» فتبسم الشيخ وقال: «إنك لا تزال في إبان الشباب، ويلوح لي أنك لا أهل لك ولا زوج يهمك أمرها، وهب أنك وحيد في العالم لا تحب أحدا ولا يحبك أحد، فإني لا أرى في اجتنابك هذه الحرب عارا، إنما العار أن تلقي بنفسك إلى الموت، وفي الدنيا من يموت لموتك ويعيش لأجلك. عمن تدافع؟! وماذا ترجو؟! وقد قلت لك وأنا شيخ عركني الدهر وعركته إن دولة الروم لم يبق لها ظل على مصر والشام، فقد خرجت البلدان من حوزتها لفسادها وانقسام رؤسائها فيما بينهم على خزعبلات دينية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يكن هذا رأيي اليوم فقط بل هو قول قلته منذ أعوام، فغضب علي حكامنا واضطهدوني ونفوني.»
فاشتاق أركاديوس إلى معرفة الشيخ فقال: «ألم يأن لك أن تصرح لي باسمك؟» فوقف الشيخ وقال: «لقد عاهدتني عهدا صادقا ألا تلحق بي سوءا، والوعد على الحر دين، فهل أنت على وعدك؟»
قال: «قل ولا تخف، فإنك شيخ جليل، لا بأس عليك.»
قال: «إني يحيى النحوي.»
فعرفه لأنه كان معروفا في الإسكندرية ومعدودا من علمائها، وقد اضطهده الروم لأنه يعقوبي المذهب كالأقباط، فازداد احترام أركاديوس له وتقديره.
ونهض الشيخ وودع أركاديوس فأذن له، وأوصى بعض الحراس بأن يوصله إلى مأمنه، وعاد إلى حجرته وكلام الشيخ يقرع رأسه ويرن في أذنيه، ولا سيما ما ذكره له عن حياته وأحبائه، فهاج به الغرام فأقفل بابه وجلس إلى نافذة تطل على ساحة وراء السور تنتهي إلى معسكر العرب، فأخذ يفكر في أمر دولة الروم وخروج مصر والإسكندرية من يدها وتقلص ظلها عن مصر والشام، وما هي فيه من الفوضى حتى حكم العقلاء بقرب انقضائها، فأسف أسفا شديدا واشتد به الأسى، ثم تذكر أرمانوسة وأنها زوجه، وأنه إذا أصابه سوء مسها هي الضر، فوقع في حيرة، وآثر أن يحافظ على حياته، لشعوره بعظم التبعة التي ألقاها عليه زواجه بها، ولكنه استصعب ترك الإسكندرية والتقاعد عن الدفاع فقضى بقية ليله مترددا لا يقر له قرار، وفي مساء اليوم التالي جاء مرقس، فحالما رآه خفق قلبه وتذكر مجيئه إليه في حصار الحصن، فتوقع أن يسمع منه خبرا، فلما دخل وحياه. قال أركاديوس: «ما وراءك؟» قال: «ما ورائي إلا الخير.» وسكت.
قال: «ما بالك لا تتكلم؟ قل ما وراءك؟ إني أراك قلقا.» قال: «ليس ما يوجب القلق يا سيدي.»
قال: «وهل من بأس على أرمانوسة؟» قال: «لا بأس عليها، ولكني آنست منها اليوم شوقا عظيما إليك، وقد مضى الصوم الكبير، ونحن في أسبوع الآلام، وهي تصلي وتتضرع إلى الله أن يحرسك، فلما أصبحت اليوم - وهو يوم خميس العهد - أفاقت مذعورة وفي نفسها شوق شديد لرؤيتك وتود أن تؤديا فريضة الصلاة غدا معا في الكنيسة لأنه يوم الجمعة الكبيرة.»
فابتدره أركاديوس قائلا: «وأي كنيسة؟» قال: «كنيسة القديس بولس.» قال: «وأين هي؟» قال: «في مريوط.»
قال مغضبا: «أتريد مني يا مرقس أن أخرج من السور كما فعلت بي يوم حصار الحصن؟ ذلك لا يكون أبدا.»
অজানা পৃষ্ঠা