فتنهدت أرمانوسة وقالت: «كيف يسكن هذا القلب وهو ليس معي؟! فإذا سافرت إلى القسطنطينية فإني أسافر بلا قلب.»
فأدركت بربارة أنها عالقة بغير قسطنطين، وأن هذا سبب عزوفها عن الاقتران به، وأرادت استطلاع مكنونات قلبها فأمسكتها بيدها وخرجت إلى الشرفة لتلهيها عن هواجسها، ثم تعود فتستطلعها حقيقة أمرها.
وكان النيل قد انعكس نور القمر على صفحته حتى تلألأت كالبلور، وظلال شجر البردي والنخيل قائمة على الشاطئ كأنها سابحة في الماء، فلبثت أرمانوسة صامتة مأخوذة، غارقة في بحار الهواجس، لم يشغلها شاغل، ولا انتبهت لحركة القوارب الراسية هناك، ولا إلى لغط الذين جاءوا لحملها إلى بلبيس. أما بربارة فصمتت هي الأخرى ولبثت تنتظر ما يظهر من سيدتها وهي تتأمل حالها وتجول بأفكارها، وتراجع سيرة حياتها لعلها تتذكر حكاية تكشف لها عن هذا اللغز فلم تهتد، فعادت إلى حديثها فقالت وقد أرادت أن تمازحها: «ولكنني لم أفهم مرادك من قولك أنك تسافرين بلا قلب، فأين تتركين قلبك؟ ألا تخافين عليه العدو ونحن في حرب؟»
فقالت: «لا أخاف عليه الحرب، ومهما يكن من أمره فإنه يصبح في حال آمن له من حاله في القسطنطينية.»
فأرادت مداعبتها ثانية فقالت: «ولكن القسطنطينية آمن لك؛ فالبلاد هنا بين خطرين عظيمين، إذا سلمت من أحدهما لا تسلم من الآخر.»
فوقع قول بربارة من أرمانوسة موقعا غريبا فأحبت معرفة حقيقة الواقع، وسألتها: «وكيف ذلك؟»
قالت: «هل يخفى على سيدتي حالنا مع الروم واضطهادهم إيانا، وما بين أبيك وبينهم من الضغائن، وكم سامونا نحن الوطنيين أنواع العذاب، لما بيننا وبينهم من اختلاف في المذهب؟ إنهم يقتلون كهنتنا وينفون بطاركتنا ونحن كاظمون الغيظ، صابرون على البلوى، حتى لقد سمعت سيدي والدك يتمنى أن يأتينا من يخلصنا من جور هؤلاء الحكام.» فقطعت عليها أرمانوسة الكلام وقالت: «إنني أعجب لشكوانا وشكواكم، وأنت المصريون أهل البلاد أكثر عددا من هؤلاء الروم وهم غرباء قليلون، فلماذا لا تخرجونهم من بلادكم؟»
فتبسمت بربارة وقالت: «صدقت يا حبيبتي إننا أكثر عددا ولكنهم أصحاب السلطة، وفي أيديهم الحصون والمعاقل، وهم الحاكمون ومنهم العساكر والقواد، ولا تظني أن المصريين لم يحاولوا هذا الاستقلال، ولكن دولة الروم كبيرة فكانت تبعث إلينا بجنود لا قبل لنا بهم، وأنت تعلمين أن أباك يوناني الأصل ولكنه يحب أبناء البلاد ويميل إلى الأحزاب الوطنية لأنه يراهم على حق. وخلاصة القول إننا أبناء وادي النيل لا نحب هؤلاء الرومانيين مهما يبالغوا في إكرامنا، فقد كرهتهم نفوسنا؛ وبخاصة لأنهم أهانوا بطاركتنا، ولا يزال بطريركنا بنيامين فارا من وجوههم لا يعرف مقره إلا القليلون، وكلنا نشكو جور البطريق الروماني المقيم بالإسكندرية مع رجاله وجنده، على أني سمعت سيدي والدك مرارا يتحدث عن قرب الفرج والتخلص من نير هؤلاء، ومما حكاه مرة لرجال مجلسه - وقد سمعته خفية - أنه جاءه منذ سنين رجل من بلاد العرب الذين يسكنون جنوبي هذه البلاد يحمل رسالة مكتوبة باللغة العربية ترجمها الترجمان إلى لغتنا القبطية فإذا هي من كبير العرب، وهو رجل عظيم سن دينا جديدا وتبعه جمع غفير، وكل رجاله أشداء أقوياء، وقد طلب منه في ذلك الكتاب أن يترك ديانة السيد المسيح ويتبع ديانته، وبينما كان سيدي يروي قصته أخرج الكتاب من جيبه فإذا هو جلد جاف مكتوب بلغة القوم، وقد سر سيدي بمجيء هذا الكتاب ولكنه لم يرد أن يغير دينه، فبعث إلى ذلك العربي الكبير هدايا من بينها ثلاث جوار إحداهن مارية، التي كانت عندك وكنت تحبينها، ومعهن أيضا مقدار من العسل الذي يحمل إلينا كل سنة من مدينة بنها، وأرسل إليه يقول إنه لا يستطيع أن يسلمه البلاد بلا أمر من صاحبها هرقل ملك الرومانيين وهو في القسطنطينية. وبعد أن أتم سيدي قصته، ذكر أنه يفضل أن يستولي العرب على هذه البلاد لينجو من هؤلاء الظالمين، وسمعت جميع الحاضرين يصوبون رأيه، ولكنهم أصروا جميعا على أن يبقوا على دينهم.
وقد مضى على ذلك عدة سنوات، إلى أن حدث منذ بضعة أشهر أن جاء قارب فيه رسول من البدو قد التف بالشملة وعلى رأسه ثوب مطوي، وطلب مقابلة سيدي فأذن له، فدخل وأعطاه كتابا، ولا أدري ما دار بينهما، ولكنني رأيت سيدي قد سافر إلى الإسكندرية في اليوم التالي وطلب إلى كل من رأى ذلك البدوي ألا يذكر عنه شيئا، ولبثت من يوم ذهابه أفكر في سبب قدومه، وظننته جاء في مهمة خاصة، وقد فهمت من بعض هؤلاء القادمين أن العرب قد قاموا من بر الشام ولعلهم قادمون إلى مصر، ولكننا لا نعلم من أي طريق يأتون، وفهمت من هؤلاء الرجال أيضا أن مولاي أمر الجند الذي تحت إمرته أن يذهبوا مع قائدهم الرومي (المندقور الأعيرج) ويقيموا في حصن بابل مقابل الجيزة، ولعله يريد بذلك أن يمنع العرب إذا قدموا من دخول عاصمة البلاد.»
وكانت أرمانوسة أثناء كلام خادمتها مصغية كل الإصغاء وعلى وجهها أمارات الوجل، فلما وصلت إلى قولها: «وأمر الجند أن يذهبوا مع قائدهم الرومي الأعيرج ...» علا وجهها الاحمرار بغتة، ولكنها أخفت ذلك وقالت: «كيف تقولين إن أبي يريد أن يسلمهم البلاد ليخلص من الروم، ثم تقولين إنه يستعد لقتالهم ودفعهم؟» فقالت بربارة: «نعم إنه يود ذلك، ولكنه لا يصرح به، بل يسره في ضميره؛ لأن القوة الظاهرة هنا كلها للروم، وكل جند القطر المصري منهم، فإذا علموا قصده فلا شك أنهم يقتلونه ويقتلوننا كلنا.»
অজানা পৃষ্ঠা