وفيما هما في الحديث إذ جاءهما رسول الأعيرج يدعوهما إليه، فذهبا فرأياه يتقد غيظا، فلما دخلا صاح وهو لا يدري ماذا يقول: «اعلم يا ابن قرقت (لقب المقوقس) أني لا أطلب دم ابني إلا منك، والقطرة الواحدة منه تساوي أهل مصر جميعا.»
فجعل المقوقس يهدئ من غضبه ويقول: «لا تعجل بالأمر، فإن الرجل لا يجزم بموته، وأنا الكفيل لك بحياة أركاديوس، وها أنا ذا وابني بين يديك. لا نخرج من الحصن إلا عند عودته سالما، وما أدرانا؟ فلعله عند العرب؟ أو لعله غائب في مهمة؟ على أني لن أفتأ أستدرج الرجل حتى نعلم منه الحقيقة، والفرج يأتي من حيث لا ندري.»
ففكر الأعيرج برهة ثم نظر إلى المقوقس: «اعلم أيها الحاكم أني ملق تبعة فقد ابني عليك وعلى ابنك، وكفاكما خداعا، وأقسم بشرف الروم ورأس الإمبراطور هرقل لأمزجن دماءكم بمياه النيل إذا لم تأتوا بولدي أركاديوس حيا.»
فاضطرب المقوقس، وخشي العاقبة، لعلمه أنه حقا يخادع الروم، وأسر لنفسه قائلا: «إن العرب لا يلبثون أن يأتوا ظافرين لا محالة، فإذا غلبوا يرفعون عنا هذه التبعة. إنما الحيلة في إقناع الأعيرج بالصبر.» ثم خاطب الأعيرج قائلا: «إني أشاركك القلق على أركاديوس، وإن ضياعه ليعز علينا جميعا؛ لأنه من نخبة رجالنا، بل هو عمدتنا في حربنا مع هؤلاء العرب، وهذا فضلا عن أننا في حال لا تأذن لنا بالانقسام فيما بيننا، ولا خفي إلا سيظهر، وقد قلت لك إننا مطالبون بدمه، فاصبر إن الله مع الصابرين.» فقال: «سأصبر بضعة أيام، وأنتما في الحصن لا تخرجان منه، فبثا العيون والأرصاد للبحث عنه.»
ثم تركهما وخرج إلى الحصون، وأوصى قواده أن يمنعوا المقوقس وابنه من الخروج مهما يكن السبب.
أما مرقس فلبث في سجنه يفكر في حاله وقد تحير في أمره، لا يدري أيبقى على الكتمان فيعرض نفسه للخطر، أم يبوح بحقيقة الحال فيعرض أركاديوس لغضب أبيه؟ وفيما هو في ذلك إذ جاءه أرسطوليس وعلى وجهه أمارات الكآبة، فلما رآه مرقس ازداد بلباله، وشعر أن كتمانه هو السبب في هذه المصائب، فقال أرسطوليس: «أهكذا فعلت بنا يا مرقس؟»
قال: «وماذا فعلت يا سيدي؟» قال: «بينما أنت تؤكد لنا بقاء أركاديوس حيا، إذا بك تكتم عنا حقيقة حاله، والأعيرج مصر على طلب ابنه منا، وقد اتهمنا بقتله، وأنت تعلم أمرنا مع هؤلاء الروم، وقد بذلنا الجهد حتى لا تظهر لهم دخيلتنا، أفتفتح هذا الباب للإيقاع بنا؟!»
ففكر مرقس برهة ثم قال: «وكيف يتهمكم بقتله وقد خرج وأنتم لا تعلمون؟! وما شأنكم أنتم وشأني؟!»
قال: «ومن يصدق كلامنا هذا، والأعيرج لو عرض شكواه هذه على ديوان القسطنطينية لصادف أذنا صاغية، وعادت العاقبة وبالا علينا.»
فصمت مرقس قليلا ثم قال: «وما رأيك إذا جاءهم كتاب منه يمهره بخاتمه ينبئهم بأنه على قيد الحياة؟»
অজানা পৃষ্ঠা