4
وكانت نتيجة هذه النظرة الخاصة إلى القيم أن أصبحت كلمة الصانع والعامل اليدوي مرادفة عند اليونانيين القدماء لمعاني الانحطاط والتدهور الأخلاقي، وأصبح كل حرفي محتقرا بحكم مهنته ذاتها لا بحكم شخصه، وأصبح اليونانيون ينفرون من كل ما له صلة بالعمل المادي؛ لأنه - كما يقول أفلاطون - لا يشوه البدن فحسب، بل يشوه الروح أيضا، وأقصى ما يصل إليه من يمارسون هذا النوع من الأعمال هو أن يشبعوا الحاجات المنحطة لدى الإنسان.
ومن أجل تحقيق هذا الغرض تراهم يعملون ليل نهار، ويركزون كل قواهم في كسب قوتهم يوما بعد يوم، ولا ينصرف تفكيرهم لحظة واحدة عن المسائل المحدودة المرتبطة بعملهم الآلي، أما الرجل الحر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة فهو ذلك الذي لا تشغله هذه الأعمال اليومية التافهة (لأن غيره يقوم بها)، وإنما ينصرف بكليته إلى التأمل العقلي المحض؛ فحياة العقل هي القيمة العليا عند هؤلاء الفلاسفة، وعندما نقول حياة العقل لا نعني بذلك التفكير العقلي في أمور الدنيا واتخاذ البحث العلمي هدفا للحياة، فهذا معنى حديث للكلمة، وإنما كان اليوناني يستخدم هذا التعبير بمعنى الانصراف إلى التأمل الخالص في أمور لا صلة لها بالعالم المادي الزائل، عالم المظهر والخداع والتغير والفناء. إن استخدام العقل هو في ذاته أمر يفخر به الإنسان في كل عصر وكل مكان، ولكنه عند كبار الفلاسفة اليونانيين كان يعني الاقتصار على التفكير على نحو تجريدي صرف، وتحويل الطاقة العقلية عن كل ما له صلة بالعالم الأرضي المتغير، وتعامل الفكر الخالص مع نفسه دون أية محالة لاختبار صحة نتائجه في عالم الواقع أو تطبيقها على المشكلات الفعلية التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية. هذه إذن هي القيمة العليا التي اتجه إلى تحقيقها فلاسفة اليونان في ذلك العصر، وهي - بلا شك - قيمة مرتبطة أوثق الارتباط بنظام الرق وعلاقة السيد بالعبد.
ولن تكتمل في أذهاننا صورة هذا النظام الخاص في القيم إلا إذا أدركنا أن الكلمة التي تدل على الصانع كانت في المجتمع اليوناني تمتد إلى نطاق أوسع بكثير من مرادفاتها في المجتمعات الحديثة؛ فالصانع عندهم لم يكن يعني العامل اليدوي فحسب، وإنما يعني ما نسميه اليوم بالعامل الفني والمهندس والمخترع، كل هؤلاء في آن واحد، ومعنى ذلك أن كل ما كان ينتمي إلى مجال التطبيق العملي للعلم من أجل رفع مستوى حياة الإنسان كان يلقى من كبار فلاسفة اليونان احتقارا.
ولم يكن هذا الاحتقار حائلا دون اعترافهم بنفع هذا النوع من المهن وضرورته في الحياة، ولكنه مع نفعه وضرورته ينبغي أن يظل على هامش المجتمع، وأن يقوم به أناس لا يرقون إلى مرتبة المواطنين الأحرار، وأن يتم في السر والخفاء بقدر الإمكان، فلا يبقى ظاهرا إلا مجتمع الأحرار من المفكرين التجريديين.
وقد بلغ من تأصل هذه القيم في نفوس هؤلاء الفلاسفة أنهم كانوا يزدرون العلوم العقلية ذاتها إذا كانت تستهدف في أبحاثها أي نفع عملي؛ فقد روي عن أفلاطون أنه غضب من العالم الرياضي «أرخوطاس»؛ لأنه عمل على حل مسائل هندسية معينة مستعينا بأجهزة ميكانيكية، واتهمه بأنه يحط من مكانة علم الهندسة ويشوه جلاله؛ إذ يهبط به من الأمور العقلية إلى الأمور الحسية المادية، ويستخدم فيه مواد جسمية ينبغي أن يلجأ الإنسان من أجل معالجتها إلى العمل اليدوي الذليل،
5
ومعنى ذلك أن علم الهندسة - كما يراه أفلاطون - كان ينبغي أن يظل منفصلا تماما عن الميكانيكا والعمارة وأي فن آخر من الفنون الهندسية بمعناها التطبيقي الحديث، وأن عالم الهندسة النظرية يسمو على المهندس أو المخترع التطبيقي بقدر ما يسمو الفيلسوف على الصانع اليدوي؛ فالعلم - بمعناه الصحيح - يستهدف إرضاء العقل لا تحقيق منافع أو ضرورات، وأفضل ما يسعى إليه هو تحقيق التناسق والجمال، لا تلبية الحاجات الفعلية، والقوة الدافعة إلى العلم الحقيقي هي الرغبة الحرة في التفكير والتأمل، لا الضرورة الملحة أو السعي إلى حل مشكلة عملية.
وإذا كان هؤلاء الفلاسفة اليونانيون قد ازدروا الغاية التي يسعى إليها كل كشف أو اختراع تطبيقي، فقد احتقروا أيضا المنهج التجريبي المتبع في هذا النوع من الكشف؛ ذلك لأن المخترع يحتاج إلى تطبيق منهج المحاولة والخطأ، وإلى السير ببطء، وتجربة طريقة بعد الأخرى، غير أن مثل هذا المنهج في نظر الفلاسفة العقليين لا يؤدي إلى معرفة حقة، وإنما إلى معرفة وسط بين العلم والجهل، أو ما يسمى بالمعرفة الظنية، والمنهج الذي يفضلونه هو منهج التبصر المباشر الذي يحتاج المرء للوصول إلى نتائجه إلى استنارة وكشف خاطف، ولا يتردد في استخلاص هذه النتائج أو يجرب طريقة بعد الأخرى، وبعبارة أخرى ففلاسفة ذلك العهد لم يكونوا يطيقون صبرا على الملاحظة الدقيقة التي يحتاجها علم الفلك مثلا، أو على التجارب البطيئة التي يقتضيها تطبيق أية نظرية علمية، من أجل حل مشكلة عملية أو التغلب على عقبة مادية، ولم تكن أرستقراطية العقل ترضى لنفسها أن تقف موقف المنتظر المترقب الصابر، مع أن هذا الموقف لا ينفصل أبدا عن العقلية المخترعة القادرة على صنع الآلات. وعلى هذا النحو نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة، وهي أن صاحب الذهن المخترع في العصور القديمة كان في كثير من الأحيان يعمل على إخفاء هذه القدرة لديه، ويصور مخترعاته بأنها نشاط ثانوي الأهمية بالقياس إلى كشوفه العقلية الخالصة؛ فأرشميدس - صاحب أكبر عقلية علمية تطبيقية على العالم القديم - كان ينظر إلى مخترعاته النافعة (كالمضخة مثلا) على أنها مجرد ترويح وتسلية يقوم بها في الأوقات التي يستريح فيها من عناء الأبحاث النظرية في الرياضة والفيزياء، وكان يحرص على أن يذكره الناس على أنه عالم نظري وليس مخترعا.
والنتيجة الحتمية لهذا الازدراء للمنهج التجريبي وللانفصال القاطع بين النظرية والتطبيق، هي أن وجود الرق أدى بهؤلاء العلماء إلى الانصراف عن أية محاولة لتحقيق الشروط الكفيلة بالقضاء على الرق.
অজানা পৃষ্ঠা