ورغم ذلك التأكيد للطابع الباطن للتعبير الفني، فإن كروتشه يؤكد وجود حقيقة فنية يمكن أن تنقل إلى الآخرين، وكل ما في الأمر أن الفنان لا يعبر عن نفسه من أجل الآخرين، وإنما تؤدي وحدة المشاعر بين البشر إلى أن نفهم نحن عمل الفنان ونقدره، وهكذا نجد أن الألوان والأصوات التي عبر بها الفنان عن إحساسه الباطن تستطيع أن تنقل إلينا هذا الإحساس، فيتكون لدينا حدس مماثل لذلك الذي أحس به الفنان، صحيح أننا لا نستطيع أن نحيا تجربة الفنان من جديد، أو نمر بها مرة أخرى؛ لأن ما حدث مرة لن يتكرر فيما بعد، ومع ذلك فإن أول ما يميز الفنان العظيم هو قدرته على أن يعبر عن حقيقة تحتفظ بقيمتها عبر الزمان والمكان، وتستطيع أن تثير فينا خيالات مماثلة لتلك التي مرت في ذهنه، ومن هنا كان من المستحيل ألا نعجب بهذا العمل؛ لأن نفس الضرورة التي جعلت الفنان يعبر عنه، تجعلنا نحن أيضا نقدره، وهكذا يوجد بين الفنان وبين جمهور المتذوقين نوع من الاتصال لم يتعمده الفنان ولم يكن يعنيه في شيء، ولكنه موجود نتيجة لوحدة المشاعر، ولأن النفوس يتصل بعضها ببعض من خلال العمل الفني مثلما يتصل بعضها ببعض في عملية المعرفة والتفاهم العقلي.
وإذن فهناك حقيقة فنية، ولكنها مختلفة عن الحقيقة العلمية والأخلاقية، ومن هنا كان كروتشه من أكبر أنصار فكرة الفن للفن، بمعنى أن التعبير الفني مستقل عن جميع الاعتبارات العلمية، وإذا كانت هذه الاعتبارات ترتبط - من الوجهة الواقعية - بالأعمال الفنية؛ فليس هذا الارتباط منطقيا ولا ضروريا، وإنما هو شيء عارض فحسب، وعلى ذلك فالحكم على العمل الفني ينبغي - في نظر كروتشه - أن يتم من وجهة نظر فنية صرف. وأكبر الأخطاء في النقد الفني أن نخلط بين المعايير المنتمية إلى مجالات مختلفة، فنحكم على العمل الفني من خلال أخلاقيته، أو نحكم على عمل عقلي من حيث تناسقه وانسجامه، ومهما بدا لنا أن العمل الفني يحمل معاني أخلاقية أو دينية أو عقلية، فمن الواجب أن نتذكر أن الفنان الخالق ذاته - من حيث هو فنان - لم يكن يقصد إلى شيء من ذلك، ولا يعبأ بهذه النتائج، ولم يكن يريد أن يؤكد لنا شيئا، وإنما كان يريد التعبير عن نفسه فقط، وعن مشاعره إزاء موضوعات معينة، بغض النظر عن كل اعتبار عملي أو نظري ينتمي إلى مجال الأخلاق أو العلم، ورغم أن مفكرين كثيرين قد رحبوا - وقت ظهور هذه الآراء - بتلك النظرية الخالصة في الفن على أساس أنها تخلص الفن من الارتباط بالأهداف الأخلاقية أو الاجتماعية التي لا تنتمي إلى صميم الفن ذاته، فقد كان رد الفعل عليها قويا، وتوالت بعد ذلك انتقادات شديدة لفكرة الفن للفن، نظرا إلى ما تفترضه من انفصال للروح البشرية إلى مجالات كل منها مقفل على ذاته، لا يتصل بالمجالات الباقية، وهو أمر تأباه وحدة الشخصية الإنسانية وتداخل مظاهر نشاطها.
على أن في نظرية كروتشه التعبيرية نقاط ضعف أخرى لا تقل عن هذه أهمية؛ فهو في فكرة التعبير الخالص يتجاهل مادة الفن ويعدها مجرد أداة ثانوية، ولا يهتم بالمنظر الخارجي للعمل الفني إلا من حيث هو وسيلة لإعطاء التعبير شكلا يدركه الآخرون، على حين أن التعبير الحقيقي هو الأصل الباطن في نفس الفنان فحسب، وربما كان في وسعنا أن نرى في ذلك مظهرا من مظاهر القصور في ملاحظة ما يحدث بالفعل في حالة الخلق الفني؛ إذ إننا نعلم جميعا مدى تأثير مادة الفن في تشكيل الصورة النهائية للعمل الفني بل في عملية الخلق ذاتها أحيانا؛ فكثيرا ما تكون المشاعر التي تنتاب اثنين من الفنانين متشابهة، ولكن أحدهما أقدر على تشكيل عالم الألوان والثاني أقدر على تشكيل الحجارة، فتكون النتيجة في الحالة الأولى صورة وفي الحالة الثانية تمثالا، وهكذا نرى أن الشكل أو الوسط المادي للتعبير هو الذي يتيح تصنيف الفنون، ولولا هذه المادة لما وجدت فنون مختلفة، بل لكان هناك فن واحد فحسب، وفضلا عن ذلك فإن طبيعة الشعور الذي يريد أن يعبر عنه الفنان تتغير إلى حد بعيد عندما تصطدم قوته التعبيرية بالعالم المادي ويحاول أن يستخلص من المادة تلك المعاني التي تجيش بها نفسه، وللمادة ذاتها دور أساسي في تحديد الطبيعة النهائية للعمل الفني؛ لأن إرادة الفنان لا تمارس في فراغ، وإنما في مادة تقاومه لها قوانينها الخاصة التي لا يستطيع أن يخضعها لرغباته في كل الأحوال.
أما فكرة الحقيقة الفنية التي تنقل إلينا بفضل اتحاد مشاعرنا مع مشاعر الفنان، أو قدرتنا على إعادة إحياء ما مر به الفنان من التجارب في أنفسنا، فمن الممكن أن توجه إليها انتقادات متعددة؛ ذلك لأنه ليس من الضروري على الإطلاق أن نستعيد - ونحن إزاء عمل فني كبير - تجارب مماثلة أو مشابهة لتلك التي مر بها الفنان نفسه، بل إن هذا أمر مستحيل من الوجهة العملية؛ فقد لا يرتبط العمل الفني على أي نحو ضروري بالحالة الشعورية التي أنتجه الفنان في أثنائها، ولدينا شواهد عديدة على ذلك في تاريخ الفن؛ فأروع مؤلفات موتسارت الموسيقية هي تلك التي كتبها بتكليف، بحيث كان مقيدا بموعد يتعين عليه إتمامها فيه، أو كان في ضائقة مالية ويريد الانتهاء منها في أسرع وقت حتى يجني منها بعض المال، ومن جهة أخرى فمن الملاحظ في موسيقاه أن أشد سيمفونياته مرحا هي تلك التي كتبها في أوقات حزنه، وفي ظروف قاسية إلى أبعد حد، وهنا نجد أن الحالة التي خلق في ظلها العمل الفني - من حزن أو عسر مالي أو ديون أو تعجل في الإنتاج - تختلف كل الاختلاف عن الشكل النهائي الذي اتخذه هذا العمل، ومن المحال أن يعيد المرء هذه التجربة في نفسه وهو يستمع إلى موسيقاه، لسبب بسيط هو أنه لا توجد أية علاقة بين هذه الموسيقى وبين المشاعر التي كانت تمر به وقت تأليفها، ويبدو أن قدرة الفنان الكبير إنما تكون في تمكنه من خلق إنتاج لا يتقيد بظروفه الذاتية الجزئية ، ولا تربطه بمشاعره المتغيرة أية علاقة سببية، وإنما هو فيض من الطاقة يمكن أن ينطلق في أشد الظروف قسوة، وفي ظل أحوال قد تبدو أحيانا غير متلائمة مع الإنتاج الفني على الإطلاق.
ومن جهة أخرى، فإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية تلقي العمل الفني وتقديره عند من يتأمله أو يستمع إليه؛ لوجدنا أن العمل الفني الواحد قد يثير في مختلف الناس أحاسيس متباينة كل التباين، وليس من الممكن أن نشعر عند تقديرنا لعمل فني بنفس أحاسيس منتجه، بل إن هذا ليس أمرا مرغوبا فيه، وربما لم يكن يحدث إلا في حالة الأنواع الهزيلة من الإنتاج الفني، والأمر الذي نستطيع أن نؤكده - فقط - هو أن العمل الفني يؤثر في حاستنا الجمالية تأثيرا عاما دون تحديد لاتجاه هذا التأثير، بل إن للعمل الفني العظيم قدرة على أن يؤثر في كل شخص على نحو مختلف، ومع ذلك يظل الجميع - رغم اختلاف طريقة تأثر كل منهم، واختلاف طرقهم جميعا عن طريقة تأثر الفنان نفسه - يشعرون بأنه عمل له قيمته.
وأخيرا فإني أود أن أثير مسألة لا أظن أنها خطرت ببال كروتشه أصلا في حديثه عن التعبير الجمالي؛ فهل يقتصر الفن على التعبير عن مشاعر إنسانية موجودة من قبل أم إنه يخلق مشاعر جديدة؟ يبدو أن هناك أعمالا فنية تفتح أمامنا آفاق مشاعر جديدة كل الجدة، لم نصادفها من قبل في تجربتنا على الإطلاق؛ فهي تخلق مشاعر لا نحس بها في حياتنا، وتحول مجرى حياتنا الانفعالية إلى طريق لم يطرق من قبل، فأرقى أنواع الموسيقى تثير فينا أحاسيس لا نستطيع تحديد كنهها على الإطلاق، وكل ما نستطيع أن نقوله بشأنها هو أنها تكشف لمن يمكنه تذوقها عن أوجه خفية باطنة في العالم، لم يكن قد تنبه إليها في حياته من قبل، ومثل هذا يصدق على أحدث نظريات فن التصوير؛ إذ يرى كثير من المصورين المعاصرين أن على الفنان أن يخلق موضوعات جديدة كان ينبغي أن تكون في الطبيعة، ولكنها لم تكن بالفعل، وأن عليه بالتالي أن يولد مشاعر تفتقر إليها التجربة المألوفة للإنسان، وهم يرون أنه لا جدوى من التعبير عما تحقق بالفعل، وإنما المهم أن نستخلص ما كان ينبغي أن يكون، ونخرجه إلى حيز الوجود، ومن هنا كانت حملة كثير من هذه المذاهب المجددة على كل تصوير أو تمثيل للطبيعة، سواء منها الظاهرة والباطنة، ويؤكد أصحاب هذه الاتجاهات أن النظرية التعبيرية تحد من حرية الفنان، على حين أن مذهبهم هو الذي يضمن له حرية كاملة؛ إذ يستطيع التحكم في مشاعره الأصيلة، بل وفي كل الظروف المحيطة به، والمقترنة بلحظة الخلق الفني، وتحويلها إلى شيء جديد كل الجدة، نابع من عبقريته الخلاقة، وهكذا يبدو أن أعظم ما في الفنان هو قدرته على تشكيل المشاعر الذاتية والمادة الخارجية في صورة جديدة، لا تتقيد بحتمية التعبير عن مشاعر معينة، وإنما هي تعبير عن القدرة الخالقة والطاقة الفياضة للفنان فحسب.
بين الفكر والآلة (1)
الفلسفة والتكنولوجيا في العالم القديم
1
بين الفكر والفعل أو بين الرأس واليد حوار دائم، وقد اتخذ هذا الحوار صورا متعددة طوال تاريخ البشرية؛ فكان أحيانا يتخذ صورة عداء متبادل، أو ترفع من الفكر على الفعل، أو تضافر وتعاون بين عقل الإنسان ويديه. ولقد كانت قصة العلاقة بين الفكر والآلة، وموقف الفيلسوف من التكنولوجيا، انعكاسا واضحا للعلاقات الاجتماعية السائدة في كل عصر، وأستطيع أن أقول إن تتبع المراحل الرئيسية لهذه العلاقة يلقي ضوءا ساطعا على كثير من المسائل الفكرية والحضارية، ويكشف على نحو أعمق عن موقف الإنسان من الطبيعة في مختلف العصور، وسأحاول في سلسلة من المقالات أن أقدم عرضا تاريخيا عاما لهذه المشكلة، فضلا عن تناول بعض جوانبها التي تمس الإنسان المعاصر. وفي اعتقادي أن القارئ سيكون قد أفاد من هذه المقالات على النحو الذي آمله إذا لم ينظر إليها على أنها مقالات فلسفية خالصة، وإذا تأملها على أنها تلخيص لمشكلات لا بد أن يمر بها كل مجتمع بشري عندما تواجهه لأول مرة مشكلة الصنعة أو التصنيع، وتبدأ قوة الآلات فيه تؤدي عملها إلى جانب قوة الإنسان، ويحدث الاصطدام المحتوم بين العقل في انطلاقه الحر وبين الآلة في نظامها الصارم.
অজানা পৃষ্ঠা