ويؤكد أفلاطون أن الأحوال التي تثيرها الفنون المختلفة - وخاصة الموسيقى - في الإنسان، تتغلغل في نفسه تدريجيا حتى تصبح طبيعة ثابتة، أي إن النمو النفسي للمرء يتحدد من خلال الانفعالات التي يمر بها، والتي تلعب فيها الفنون دورا كبيرا، ومن هنا كان من الواجب الحرص على إخضاع النشء للمؤثرات الفنية الصالحة وحدها، واستبعاد كل فن يبعث في نفسه عزيمة خائرة أو يولد فيه صفات الجبن والغش والخداع. وهكذا يبدو أن أفلاطون - رغم كل ما يبديه من عداء لأنواع معينة من الفن - يعترف ضمنا بما للفن من تأثير هائل في النفوس، وبدوره الكبير في التربية، وبقيمته الأساسية بوصفه سلاحا أخلاقيا من الطراز الأول.
ومن الواضح أن هذه الآراء قد تكررت مرارا خلال تاريخ التفكير الجمالي، ومن أشهر الأمثلة الحديثة لها، النظرية التي عرضها الكاتب الروسي الشهير تولستوي في كتابه «ما الفن؟» فهو يرى أن الفن نوع من التبادل المقصود للمشاعر، وأنه رغم كونه محايدا أخلاقيا، فإنه لا يستحق أن يقبل إلا إذا أثار فينا مشاعر تتمشى مع غاية الحياة وخيرها كما يحددها المجتمع في عصر معين. وعلى أية حال فلسنا بحاجة إلى الخوض في تفاصيل نظرية تولستوي، التي تنتهي إلى نتائج مشابهة لتلك التي انتهى إليها أفلاطون، رغم ارتكازها على دوافع وقيامها على أسس مختلفة كل الاختلاف عن دوافع نظرية أفلاطون وأسسها؛ فالنظرية الأخلاقية في الفن متشابهة في طابعها العام، ولها أينما ظهرت عيوب ومزايا واحدة.
فما هي إذن أهم عيوب هذه النظرية؟ أوضح هذه العيوب أنها تخلط بين البحث عن المنفعة العملية والفائدة الأخلاقية وبين المتعة الفنية أو الجمالية ذاتها؛ فمن الصعب أن يعترف المرء بأن الفن لا ينبغي تقديره إلا لما فيه من دعوة أخلاقية؛ لأن الفن يغدو عندئذ نوعا من المواعظ، بل تصبح المواعظ ذاتها أعظم قيمة منه، فضلا عن أنها سبيل أيسر للوصول إلى الهدف المطلوب، ولو تأملنا الأسس التي نحكم بها على الأعمال الفنية، لما وجدنا الأساس الأخلاقي واحدا منها؛ فقد يحدث أن يفضل الناس عملا فنيا يؤدي إلى نوع من التهاون الأخلاقي، والأكثر من ذلك شيوعا ألا ينظر الناس إلى المضمون الأخلاقي للعمل الفني على الإطلاق، وهم في ذلك على حق؛ إذ إننا في تجربتنا الجمالية لا ننظر إلى الفنان على أنه معلم يلقننا درسا في الأخلاق، ولا نعجب بلوحاته أو بموسيقاه بناء على ما تبعثه فينا من معاني الفضيلة وحسن السير والسلوك، ولنتساءل بعد ذلك: أية أخلاق هذه التي يريدنا أصحاب هذه النظرية أن نطالب بها في كل عمل فني نستمتع به، أهي أخلاق طبقة معينة، أم عصر كامل، أم أخلاق الحكام؟ إن أفلاطون يؤكد أن الفيلسوف - بوصفه الشخص الذي يعرف الخير والشر أكثر مما يعرفهما غيره من الناس، وبوصفه أجدر الناس بتولي مقاليد الحكم في الدولة المثالية - هو القادر على أن يحدد لنا الفن المقبول والفن غير المقبول، وعلى عكس ذلك يدعو تولستوي إلى أن يكون كل فن مفهوما ومقبولا لدى أبسط فلاح، وإن كنا لا نستطيع أن نفترض أن «أبسط فلاح» هذا سيكون بالضرورة شخصا أخلاقيا تتمشى أحكامه مع الخير ومع الفضيلة، والمهم في الأمر أن أحدهما يضع المعيار في أعلى درجات السلم الاجتماعي والفكري، أي عند الحاكم الفيلسوف، والآخر يضعه في أدنى درجاته، أي عند الفلاح البسيط، وهذا وحده شاهد على أن القول بوجوب اتباع الفن للأخلاق ليس كافيا وحده؛ إذ إننا سنظل نتساءل دائما عن نوع الأخلاق التي ينبغي أن يتبعها الفن، وسندخل في خلافات جديدة حول تفضيل نظم القيم المختلفة للناس. وعلى أية حال فمن الواضح أن مغزى العمل الفني أعمق وأوسع من مثل هذه الخلافات الضيقة؛ فالعمل الفني العظيم يضعنا وجها لوجه أمام ماهية الإنسان ذاتها، أعني الإنسان من حيث هو موجود له موقف معين من الكون ومن عالم الناس، وهو أعم وأشمل من أن يرتبط بهذا النظام الأخلاقي أو ذاك، والمتعة الجمالية ذاتها شيء يختلف كل الاختلاف عن الاعتبارات العملية المتعلقة بالسلوك الأخلاقي الناجح، والأمر المؤكد أن كبار الفنانين لم يخلقوا أعمالهم وفي أذهانهم غايات أو نوايا أخلاقية، ولم يبدعوا وهم يرمون إلى تحسين أخلاق الناس أو إعطائهم دروسا في الفضيلة، ولو أصبحت الغاية الوحيدة للفن هي غرس الأخلاق الحميدة في النفوس، لانحط مستوى الفن انحطاطا شديدا، بينما لن تفيد الأخلاق ذاتها شيئا من كل ما يقدمه الفنانون من مواعظ.
ومثل هذا يقال عن ارتباط الفن باللذة عند أفلاطون؛ فالمنطق السليم لا ينكر أن الفن يجلب نوعا من اللذة، وإلا لما كنا نجد العمل الفني جميلا؛ إذ إن العمل الذي نتذوقه دون لذة حاضرة أو مأمولة لا يمكن أن يكون في نظرنا جميلا على الإطلاق، ولكن هذا الارتباط باللذة لا يعني أن الفن مجرد وسيلة لالتماس اللذة بأي ثمن، ولو كان الأمر كذلك لكان أفلاطون محقا في هجومه على الفن؛ إذ إن من المعترف به أن بعض اللذات تنطوي على الشر إما في ذاتها أو بما تجلبه من النتائج، ولكن الواقع أن الخلق الفني وتذوق الجمال هما مظهران لنشاط مرغوب فيه لذاته، ولو كان الفن مجرد وسيلة لاكتساب اللذة أو مداعبة الحواس؛ لكان من واجبنا أن نستبدل به وسائل أخرى تعطينا من اللذات قدرا أعظم، ولكان من الصعب على المرء - على حد تعبير أحد الكتاب - أن يفاضل بين علبة السجاير وبين شكسبير، فإذا قيل - ردا على ذلك إن على المرء أن يفضل ذلك النوع الخاص من اللذة المسمى بالفن، لكان في هذا اعتراف بالمطلوب؛ لأنه يعني أن ما يجذبنا إلى الفن ليس اللذة في ذاتها، وإنما أمور أخرى نسلم بوجودها في العمل الفني، وبعدم وجودها في بقية الموضوعات المحسوسة الأخرى.
أما فكرة المحاكاة - التي تبنى عليها هذه النظرية الأخلاقية في الفن - فإن فيها عيوبا واضحة، أبرزها أن هناك أنواعا من الفن لا تحاكي شيئا على الإطلاق، وكذلك أنواعا من الجمال لا تنطوي على تصوير أو تقليد لشيء، ومن أمثلة هذه الأنواع: جمال الطبيعة وجمال الفن الزخرفي والفن المعماري وفن الرقص، ولا يمكن أن تستقيم نظرية أفلاطون إلا إذا استطاع أن يدخل ضمنها هذه الفنون جميعا، ومما له دلالته أن أفلاطون لم يتحدث في الكتاب العاشر من محاورة «الجمهورية» - الذي هاجم فيه الفن على أساس فكرة المحاكاة - إلا عن فن الشعر والتصوير، وأغفل الفنون الأخرى التي هي بطبيعتها غير محاكية. والواقع أننا - حتى في الحالات التي يكون فيها الفن محاكيا - نرى الأصل في كثير من الأحيان فلا نعجب به إعجابنا بالتقليد الذي هو العمل الفني، فلا بد إذن أن يكون بينهما شيء من الفارق هو الذي يعلل هذا الإعجاب، أما التقليد الحرفي فقد يكون أمرا مسليا، ولكنه لا يثير فينا متعة جمالية، والدليل على ذلك أن القردة أقدر عليه من معظم الناس.
وفي آراء أفلاطون الجمالية - بعد هذا - عيب أساسي، هو ارتباطها بنظريته الفلسفية المعروفة باسم نظرية المثل، بحيث إن المرء يستطيع أن يرفض كل هذه الآراء الجمالية إذا لم يوافقه على نظرية المثل، وإذا لم يكن يؤمن بأن للأفكار أسبقية في الوجود على الأشياء الجزئية الواقعية، أو بأن الأولى هي الثابتة، بينما يقل الثبات وتنعدم الوحدة والنظام كلما ابتعد المرء عنها هبوطا في سلم الموجودات. والواقع أن هذه النظرية عندما تطبق على الفن تؤدي إلى نتائج ممتنعة غاية الامتناع؛ إذ هي تفترض ضمنا القول إن الصانع - كالنجار الذي يصنع الكرسي في المثل الذي ضربناه من قبل - أفضل من الفنان؛ لأن الأول على الأقل يحاكي المثل الفكرية مباشرة، بينما الثاني لا يحاكي إلا ما أنتجه الأول بالمحاكاة، وعلى حين أن الصانع يتصل مباشرة بالمثل، وينتج شيئا واقعيا ملموسا، فإن الفنان لا ينتج إلا ظلالا وأوهاما في أدنى مراتب الوجود، ولعل هذه النتيجة وحدها كافية لإثبات مدى استحالة تطبيق مثل هذه النظريات الميتافيزيقية في مجال الفن.
ولنتساءل في هذا الصدد: لماذا أصر أفلاطون على القول بأن الفنان يقلد الأشياء الجزئية، ولم يقل إنه إذا كان مقلدا، فإنه يقلد المثل الفكرية العامة؟ هل الفنان بالفعل - في خلقه لعمله الفني - يصور الأشياء الفردية الجزئية الخاصة، ولا يضع في اعتباره الفكرة أو المثال أبدا؟ إننا نعترف بأن موضوعات الفن جزئية، بمعنى أن الكاتب مثلا يرسم في روايته شخصية فردية محددة، لها اسم معين وطبيعة واحدة وظروف خاصة في الحياة، ولكن الفنان كثيرا ما يتناول - من خلال هذه الشخصية الجزئية - نمطا عاما يمثل الفكرة بأسرها، لا تحققها الجزئي في هذا الفرد أو ذاك، ولنقل من ناحية أخرى إن المثال الأفلاطوني ذاته شيء يصعب تصوره بالفكر المحض، وربما كانت أفضل وسيلة لتقريبه إلى الأذهان هي تأمله من خلال العمل الفني؛ فحين يعرض الفنان شخصية إنسانية جزئية خاصة، قد يعرض لنا من ورائها أنموذجا كاملا للإنسان ذاته، صحيح أنه لا يزعم أنه يصور الإنسانية كلها، من حيث هي فكرة واحدة ثابتة لا تتغير، كما أراد أفلاطون من المثل أن تكون، ولكنه على أية حال يخرج في عمله الفني عن حيز الفردية الضيقة، بحيث يمثل في «روميو وجولييت» مثلا المحبين في كل زمان ومكان، ويمثل في «الإخوة كارامازوف» أزمة الإنسان الحديث بأسرها، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه كل من العملين - بطبيعة الحال - من عناصر خاصة لا تفهم إلا في سياق محدود. وبعبارة أخرى فإذا كان في وسع الإنسان أن يتصور نماذج لعالم مثالي يعلو على الجزئيات الفردية التي يتعامل معها الناس في حياتهم اليومية ، فأقرب شيء إلى هذه النماذج هو تلك الموضوعات التي يخلقها الفنان، وهذا يؤدي بنا إلى قلب أوضاع نظرية أفلاطون، بحيث يحتل العمل الفني المرتبة الأولى بدلا من الثالثة، أو على الأقل يصبح هو أقرب الأشياء التي يمكننا تصورها إلى هذه المرتبة وإلى طبيعة المثال أو الفكرة الكامنة من وراء الجزئيات.
فإذا انتقلنا إلى الجانب الإيجابي من آراء أفلاطون ومن نظريته الأخلاقية بوجه عام، كان علينا أن ننبه أولا إلى أن قدرا كبيرا من سوء الفهم - بالنسبة إلى هذه النظريات القديمة - يرجع إلى الاختلاف في فهم معاني المصطلحات بين اللغات القديمة واللغات الحديثة؛ فالكلمة اليونانية المعبرة عن الشاعر تعني أيضا الصانع أو الفاعل، وكان يشيع استخدامها بين اليونانيين للدلالة على كل فنان يخلق شيئا أو يصنعه بعد أن لم يكن موجودا. وهكذا فإن الكلمة حتى عندما تستخدم بمعناها الضيق - وهو معنى الشاعر - تحمل دائما ارتباطات أوسع من هذا المعنى، وهذا يصدق أيضا على الكلمة المعبرة عن الموسيقى؛ فهي أحيانا تشمل كل الفنون والآداب، أي كل ما يرتبط بربات الفن والأدب، وهذا هو المعنى الذي يقصده أفلاطون حين يتحدث عن العنصرين الأساسيين اللذين ينبغي أن تتضمنهما التربية، وهما: الموسيقى - أي التربية الروحية - والرياضة البدنية - أي التربية الجسمية، بل إن هذا الاختلاف يظهر بوضوح في كلمة الفن ذاتها؛ فالفن عند اليونانيين يشمل - بالإضافة إلى معناه المألوف لدينا اليوم - الفنون الصغرى والحرف اليدوية والصنائع العملية، أي إن التقابل الحديث بين الفن الجميل والصنعة لم يكن قد عرف بعد، ويرى بعض الباحثين أن هذا التوسع في معنى الفن هو أمر تتميز به النظرة اليونانية في مجموعها عن النظرة الحديثة التي ضيقت مجال الفن أكثر مما ينبغي، حين أخرجت من ميدانه أنواعا من النشاط تنتمي بالتأكيد إلى مجال التنظيم المعقول للموضوعات الحسية التي يتعامل معها الإنسان.
ورغم كل العيوب التي أشرنا إليها من قبل في صدد فكرة المحاكاة، فمن المؤكد أن لهذه الفكرة أساسا ثابتا في التجربة الفنية ذاتها، هو أن الفن - في معظم اتجاهاته - يصور شيئا ما، وقد لا يعترف أنصار الفن التجريدي المعاصر بذلك، ولكن كثيرا من الرسامين والنحاتين قد اعترفوا بأنهم يصورون في أعمالهم موضوعات معينة بل يحاكونها أحيانا، كما أننا نقول عن الروائي أو الكاتب المسرحي أو الشاعر إنه يصور شخصيات أو مشاعر معينة بدقة، بل إن أكبر مدح نوجهه إلى الأديب القصاص هو أن نصف حوادثه بأنها طبيعية، وشخصياته بأنها صادقة، ولغته بأنها مماثلة لتلك التي يستخدمها الناس بالفعل. وإذا كان أفلاطون قد عبر في نظريته عن طبيعة عصره الذي درس فيه المثالون تفاصيل الجسم البشري بدقة ليحاكوها في أعمالهم على نحو علمي دقيق، فإن آراؤه تغدو أقرب إلى فهمنا إذا تذكرنا تلك الدراسات الطويلة التي قام بها رسامون محدثون للظواهر الطبيعية حتى يحاكوها في لوحات أصبحت لها منذ ذلك الحين شهرة عالمية.
وأخيرا فإن الانتقادات التي يمكن أن توجه إلى النظريات الأخلاقية في الفن كثيرة، ولكن سيظل من الصحيح رغم كل ذلك أن التجربة الجمالية تجعلنا أناسا أفضل، وأنها تهذب مشاعرنا وتجعلها أقل عنفا وأكثر إنسانية، وتبلغنا بالتالي رسالة لا شك في أن لها طبيعة أخلاقية، وإذا كان من الخطأ أن يطلب إلى الفنان أن يقدم إلينا دروسا مباشرة في الأخلاق، فمن المؤكد أن هذه الدروس موجودة حتى لو لم يتعمدها الفنان، وهي تتمثل في قلب التجربة الجمالية ذاتها، في ذلك السر الغامض الذي يتميز به العمل الفني العظيم، حين يضفي على مشاعرنا رقة لا ندرك مصدرها، ويجعلنا - على نحو لا نفهمه بوضوح - نبعد عن مشاغلنا ومصالحنا الجزئية ونزداد اقترابا من إنسانية الإنسان.
অজানা পৃষ্ঠা