وهكذا يبدو لي أن أجل خدمة تسدى إلى الدراسة الفلسفية في عصرنا الحالي، هي أن تتحول من أقسام جامعية تمهد للتخرج إلى دراسات عليا تعقب التخرج، ويقبل عليها أصحاب الميول الفلسفية من الخريجين بمحض إرادتهم، بحيث تؤدي في نفوسهم وظيفة التثقيف لا التعليم، وبحيث تكون تتويجا لتعليمهم لا جزءا أساسيا منه، وعندئذ فقط تكون الفلسفة قد أدت مهمتها الحقيقية، وهي أن تزود النفوس بالحكمة، لا بمقدار مكمل من العلم كما تفعل ميادين التخصص الأخرى.
وإني لأعلم حق العلم أن الاعتراضات على هذا الرأي كثيرة، فمنها مثلا ما يقول إن بلادا أقدم منا عهدا بالثقافة الفلسفية تتبع نفس المنهج الذي ننتقده في هذا المقال (وهل سنكون نحن أعمق شعورا بالمشكلة من الألمان والفرنسيين؟) مثل هذا الاعتراض لا يتعرض في الواقع لجوهر المشكلة، وإنما لشكلها الخارجي فحسب، وإذا كانت الفلسفة ما زالت تدرس في العالم كله بوصفها مرحلة من مراحل الإعداد التعليمي للشباب، فإن هذا لا يمنع على الإطلاق من إجراء مناقشة فعلية للرأي القائل بأن موقع الفلسفة في العالم الذي نعيش فيه ينبغي ألا يكون ضمن مواد التخصص الأساسية وإنما بعدها.
كذلك قد يوجه إلى هذا الرأي اعتراض ذو صبغة شخصية، فيقال إن كاتب المقال قد خضع بدوره لنفس هذا النوع الذي ينتقده من التعليم الفلسفي، وأنا أعترف بهذا الانتقاد اعترافا كاملا، وأرجو أن ينظر إلى هذا المقال على أنه يمثل - من هذه الناحية - نوعا من النقد الذاتي، والحق أن تجربتي الشخصية في تدريس الفلسفة بالجامعة طالما أثارت في خواطر من ذلك النوع الذي أحاول في هذا المقال أن أسجل طرفا منه؛ ففي هذه التجربة كنت أواجه على الدوام شبابا نتلقاهم وهم في معظم الأحوال دون العشرين، ويكملون «تعليمهم» الفلسفي وقد تجاوز معظمهم العشرين بعام أو اثنين، هؤلاء الشبان السذج - الذين لم يكتسبوا قبل التحاقهم بالجامعة إلا قشورا من العلم - كان يطلب إليهم دائما أن يناقشوا أصل الكون والإنسان ومصيرهما، وغاية الحياة وقيمها ومعايير السلوك فيها؛ كان يطلب إليهم أن يكونوا «حكماء» وهم لم يكتسبوا بعد من خبرة الحياة أو تجربة العلم شيئا، ولم يتزودوا بأي قدر من العتاد الضروري الذي لا يصبح المرء حكيما بدونه، وكثيرا ما ساءلت نفسي: أي نمط من المتعلمين يمثله هؤلاء «الحكماء» الصغار؟ وأي سلاح هذا الذي نزود به هؤلاء الشبان لنساعدهم على مواجهة الحياة؟ وما جدوى الحكمة التي نلقنهم إياها إن كانت مبنية على فراغ؟ وهل يستطيع مواجهة مطالب الحياة في القرن العشرين شخص تخصص - من هذه السن المبكرة - في الفلسفة وكأنها ستملأ ذهنه بمضمون علمي - مثلما تملؤه الرياضيات أو اللغات أو العلوم الطبية مثلا - مع أننا كلنا نعلم أن هذه ليست وظيفتها على الإطلاق؟ ولقد كنت دائما - خلال تجربتي هذه - أشعر بالهلع كلما استمعت إلى الأحكام التعميمية الشاملة التي يصدرها هؤلاء الشبان بشجاعة فائقة وقلب جسور، فهل ينتظر من الأحكام الفلسفية التي تصدر داخل مثل هذه الأذهان أن تكون صحيحة؟ وحتى لو كانت صحيحة بمعنى أنها متفقة مع المعلومات الشائعة في ميدان الفلسفة، فهل هي تؤدي في أذهانهم وفي كيانهم الشخصي نفس الوظيفة التي يفترض من الأحكام الفلسفية أن تؤديها في أذهان الحكماء؟ وكيف يتسنى للمرء أن يصدر أعم وأشمل الأحكام على الحياة وهو لم يكتسب من خبرتها شيئا، أو أن يدرس «المناهج العلمية» أو «فلسفات العلوم» وهو لا يملك شيئا من المادة العلمية التي تفترضها هذه الدراسات مقدما؟
إن البحث الفلسفي يقتضي أمرين أساسيين هما: النضوج العلمي والنضوج النفسي، أما النضوج العلمي فقد أصبح ضرورة من ضرورات العصر الذي نعيش فيه، ولو تجاهلناه وبنينا تفلسفنا على فراغ لكنا نغمض أعيننا عن أهم حقيقة من حقائق هذا العصر، وأما النضوج النفسي فهو حقيقة أخرى هامة أدركها أفلاطون ذاته منذ خمسة وعشرين قرنا، حين دعا إلى تعلم الفلسفة بعد سن الثلاثين، ولست أدري كيف يجوز لنا نحن أن نتجاهلها رغم وضوحها وضرورتها، أو كيف استطعنا أن نبرر لأنفسنا إعطاء الحكمة لمن هم دون ريب غير متأهبين لتلقيها؟
على أن للمسألة - في رأيي - وجها أعم من هذا الوجه التعليمي ذاته، وأعني به مركز الفيلسوف المتخصص ذاته في العصر الذي نعيش فيه؛ فطبيعة هذا العصر تحتم علينا أن نتساءل: أما زال في عالمنا هذا مكان للفيلسوف الخالص، أم إن هذا العالم لا يتسع إلا لفلاسفة رياضيين أو فلاسفة اجتماعيين أو فلاسفة فنانين فحسب؟ وبعبارة أخرى فبعد أن كان موضوع البحث في القسم السابق هو نمط الشاب الذي لم يلم إلا بقشور من المعرفة، ويطلب إليه فجأة أن يكون فيلسوفا، والذي يخرج إلى الحياة وليس في جعبته إلا مجموعة من الأحكام العامة التي ترتكز على فراغ، أصبح موضوع بحثنا في هذا القسم نمطا أعم، هو ذلك المفكر الذي لا تتوافر له معرفة علمية متخصصة، ولا يلم في هذا الميدان بأكثر مما يلم به الشخص العادي، ومع ذلك يجرؤ على مناقشة أخطر المسائل وأشدها احتياجا إلى المعرفة والأفق الواسع.
هذه المسائل الأخيرة الشائكة لا يمكن البت فيها برأي حاسم في الوقت الحالي، وقد تكون واحدة من تلك المسائل التي لا يحسمها إلا المستقبل، ومع ذلك فإن معظم المحاولات التي تبذل من أجل إيجاد مكان للفلسفة في عصر العلم الذي نعيش فيه إنما يؤدي مباشرة - أو سيؤدي في نهاية الأمر - إلى إنكار نمط الفيلسوف المتخصص، فلنتأمل أهم هذه المحاولات لندرس مشكلتنا هذه من خلالها.
يرى الكثيرون أن أفضل وسيلة لضمان مكان للفلسفة في عالم اليوم هي تأكيد الوظيفة التعميمية للفلسفة، ومعنى ذلك أن مهمة الفلسفة قد تحولت من منافسة العلوم إلى تعميم النتائج التي تصل إليها تلك العلوم ومحاولة الوصول إلى نظرة شاملة إلى الكون تتميز عن النظرة العلمية باتساع نطاقها، ولكنها ترتكز تماما على ما يأتي به العلم من معرفة، ولا تأتي من جانبها الخاص بجديد إلا في تنظيم هذه المعرفة وتطبيقها على المشاكل الإنسانية والكونية القصوى، فإذا كانت هذه هي الوظيفة الوحيدة الممكنة للفلسفة في عالم اليوم - على ما يقول أصحاب هذا الرأي - فلا بد أن يسبق الفلسفة إلمام واسع بالعلم؛ إذ إن التعميم الذي يمارس في فراغ سيكون تشويها لصورة العالم لا تنظيما له.
ومن جهة أخرى، فهناك من يقصرون مهمة الفلسفة على تحليل تصورات العلم واللغة المستخدمة فيه، وهؤلاء يفترضون ضمنا أن على المرء أن يكون متعمقا في العلم قبل أن يتفلسف؛ إذ إن تحليل لغة العلم يقتضي دراية واسعة باتجاهات العلم وتطوراته القديمة والحديثة، وفهما لدلالة كل مصطلح فيه بالنسبة إلى تطوره العام.
وهناك أخيرا رأي ثالث يجعل من الفلسفة دراسة لمشكلات نهائية لا يتناولها العلم، كالحرية ومعناها ومصير الإنسان وموقفه، وقد يبدو لأول وهلة أن أصحاب هذا الرأي هم الذين يجعلون من الفلسفة مبحثا متخصصا، ما دامت هذه الموضوعات تقف «إلى جوار» العلم ولا تندمج فيه، ويظل لها كيانها الخاص، المرتبط بماهية الإنسان ذاته، مهما طرأ على العلم من تغير أو تطور، ولكن إمعان النظر في هذا الموضوع يثبت لنا على نحو قاطع أن ربط الفلسفة بالموقف الإنساني هو الذي يقضي تماما على طابعها المتخصص؛ فحين تغدو الفلسفة مرتبطة بي من حيث إنني «إنسان» فحسب، فعندئذ أكون قد ضللت نفسي والآخرين إذا ما ادعيت أنني المتخصص فيها دون سواي؛ ذلك لأن الفلسفة لا تعود في هذه الحالة احتكارا لأحد، وإنما يكون لكل شخص منها نصيب في ميدانه الخاص، والفارق بين الفيلسوف وغير الفيلسوف لن يعود عندئذ فارقا بين شخص دارس للفلسفة وآخر غير دارس لها، وإنما يغدو فارقا بين شخص اكتمل لديه الوعي بذاته وبموقفه من حيث هو إنسان، وشخص آخر يعيش حياة سطحية لا تنعكس على ذاتها ولا تتأمل مشكلاتها بوعي ذاتي عميق، ومثل هذا الفارق الأخير لا يرتبط ضرورة بدراسة الفلسفة، ولا يخضع للتخصص فيها، وإنما هو فارق بين أنماط إنسانية وذهنية بأعم معاني هذه الكلمة، وبعبارة أخرى فقد يكون المرء دارسا متعمقا للفلسفة، وقد يصل إلى أرفع درجات التفوق في هذا الميدان، دون أن يكون له نصيب في عملية «التفلسف»، تبعا للمعيار الذي يضعه أصحاب هذا الرأي؛ لأن صلته بالفلسفة إنما هي صلة دراسات وكتابات وقراءات، وليست صلة حياة وتجربة عميقة يعيشها بكيانه الكامل، وعلى العكس من ذلك، قد ينطبق هذا المعيار على أشخاص لم يعرفوا الفلسفة معرفة علمية على الإطلاق، إذا كان منهاجهم في الحياة يجعلهم يشعرون في كل لحظة بموقفهم من العالم ومن الآخرين ومن أنفسهم شعورا كاملا، وهكذا فإن الفلسفة حين تغدو مرتبطة بإنسانية الإنسان ذاتها، تبتعد عن التخصص إلى حد تغدو معه عبارة «الفيلسوف المتخصص» مناقضة لذاتها، وعندئذ يكون على كل شخص أن يسلك في الحياة سبيله المعتاد، وتصبح الفلسفة - في الوقت ذاته - نشاطا موازيا للنشاط الذي يقوم به في حياته المعتادة، نشاطا يزداد أو يقل شعورا بذاته تبعا لما يمر به الإنسان نفسه من تجارب ومواقف، وتبعا لنوع الحياة التي اختارها لنفسه.
والخلاصة أنه سواء أنظر إلى الفلسفة على أنها تأتي عند نقطة نهاية العلم - كما يقول أصحاب الرأي التعميمي - أم على أنها تأتي عند نقطة بدايته - كما يقول أصحاب الرأي الوضعي التحليلي - أم على أنها تسير في خط مواز له وتحتل مجالا غير مجاله - كما يقول أولئك الذين يربطونها «بوجود» الإنسان - فإن وجود نمط «الفيلسوف المتخصص » أو «الفيلسوف بلا علم» يزداد صعوبة، إن لم يصبح مستحيلا في كل هذه الأحوال. وهكذا يبدو أن الفلسفة مضطرة على الدوام إلى الاندماج بمحتوى علمي أو فني أو أدبي في ذهن الإنسان، وأنها في عالمنا هذا تزداد بالتدريج عجزا عن أن تملأ وحدها الفراغ الثقافي في أي ذهن يريد أن يساير هذا العالم ويؤدي فيه وظيفته الصحيحة، وقد يرى البعض في ذلك انتقاصا من قدرها، ولكني لا أعتقد أن شيئا من مكانة الفلسفة ينتقص إذا ما تحولت وظيفتها من التعليم إلى التثقيف، ومن إمداد الذهن بمضمون معرفي إلى تنظيم المضمون الذي يستمده الذهن من مصادر العلم الأخرى، ومن مهنة متخصصة إلى نشاط خلاق تمارسه كل الأذهان إلى جانب أية مهنة أخرى يتخصص في إجادتها كل ذهن منها على حدة.
অজানা পৃষ্ঠা