أما ثاني الأخطاء التي ينبغي أن يؤدي بنا التفكير الجاد في هذه المشكلة إلى التخلص منها، فهو الاعتقاد بأن القيم الروحية لا تعدو أن تكون تراثا قديما يتعين علينا أن نحتفظ به سليما؛ ذلك لأن القيم الروحية - وإن تضمنت هذا العنصر من غير شك - تتجاوز هذا النطاق بكثير؛ فهي في أساسها خلق متجدد في ميدان العمل، وهي مرشد يهدينا في محاولتنا بناء مستقبل أفضل، وليست مجرد أثر من آثار الماضي يتعين علينا أن نكرس حياتنا لحمايته من عوادي الزمان. إن القيم الروحية تختنق لو أصبحت مجموعة من المبادئ الموروثة، وتحيا وتزدهر إذا استحالت إلى قوة دافعه توجه المرء في حاضره ومستقبله، ولن يخدم القيم الروحية في شيء ذلك الذي يقتصر على اختزان مبادئ التراث في صندوق مقفل خشية أن تمتد إليها يد لتختطف منها شيئا، بل إن خادمها الحقيقي هو ذلك الذي يجددها، ويخلق منها المزيد في كفاحه من أجل حياة أفضل للناس جميعا.
ولو قمنا بهذه المراجعة - بصدق وإخلاص - لما عاد هناك تعارض بين الاشتراكية أيا كان المدى الذي تبلغه وبين القيم الروحية، ولاختفى نهائيا ذلك الوهم الذي صور لبعض الناس أن هذه القيم تمسك بيد الاشتراكية حتى منتصف الطريق - وربما ربع الطريق أو عشره - ثم تفترق عنها إلى غير رجعة.
أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟1
خلال ذلك الوقت العصيب الذي انقضى منذ هزيمة يونيو، والذي كنا نتلمس فيه أسباب الهزيمة داخل نفوسنا وفي عقولنا وطرائق تفكيرنا، دار قدر كبير من النقاش الذي أثارته هذه الصدمة الأليمة حول موضوع العلم، وكان هناك ما يشبه الإجماع بين كل من أدلوا بآرائهم في هذا الموضوع على أن موقفنا من العلم كان من أول أسباب الهزيمة، وعلى أن تعديل هذا الموقف أو تغييره جذريا هو أول خطوة في الطريق الشاق الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى النصر.
ولقد سارت المناقشات التي استهدفت تحليل موقفنا من العلم في اتجاهين: أحدهما يدعو إلى توسيع نطاق «مضمون» العلم ورفع مستواه، وذلك بإبداء مزيد من الاهتمام بالبحث العلمي وتدريس العلوم وتقديم كافة التيسيرات التي تتيح للعلماء جوا مستقرا يمارسون فيه أبحاثهم على النحو الذي يكفل - آخر الأمر - أقصى انتفاع من العلم لصالح المجتمع ذاته. أما الاتجاه الآخر فيدعو - بالإضافة إلى ما سبق - إلى الأخذ «بالمنهج العلمي» أو «بالأسلوب العلمي في التفكير»، في مقابل الأسلوب الخرافي أو العشوائي الذي كان ولا يزال سائدا في جوانب متعددة من تفكيرنا، ويتميز هذا الاتجاه الثاني بأن تطبيقه لا يقتصر على المجال العلمي البحت فحسب، بل إنه يمتد إلى كافة جوانب حياتنا العملية أيضا؛ فالأسلوب العلمي في التفكير يمكن أن يستخدم بنجاح في ميادين كالحرب والدعاية والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي وفي السياسة الداخلية والخارجية، وغير ذلك من المجالات التي يؤدي تطبيق المنهج العلمي فيها إلى تغيير طريقة تناولنا لها من التخطيط والارتجال إلى التنظيم والترتيب والتعمق.
على أن للمشكلة جانبا ثالثا لم يعره أحد اهتماما، وكأنه جانب مهمل لا قيمة له في تحديد موقفنا من العلم، مع أنه ربما لم يكن يقل أهمية عن الجانبين السابقين، بل قد يكون هو الذي يحدد مقدار انتفاعنا أو عدم انتفاعنا من هذين الجانبين، هذا الجانب هو «الأخلاق العلمية»، أعني تلك المجموعة من القيم والقواعد والمعايير التي ترتبط بممارسة العمل العلمي، وإن لم تكن هي ذاتها من صميم العلم، والأخلاق العلمية كما أود أن أتحدث عنها في هذا المقال، ليست هي السلوك الشخصي للعالم من حيث هو إنسان، بل هي سلوكه من حيث هو عالم فحسب، أعني أسلوبه وطريقة تعامله مع الآخرين في المجال العلمي ذاته؛ فليس هدفي هنا هو الحديث عن الأخلاق في صلتها العامة بالعلم، بل هو ينصب على وجه بعينه من أوجه الأخلاق، هو ذلك الذي يمارسه المرء بوصفه عالما فحسب.
وعلى الرغم من أن الأخلاق العلمية شيء متميز عن العلم ذاته، فإن بين الاثنين علاقة متبادلة وثيقة، صحيح أن العلم ينتمي إلى مجال تقرير الواقع وفهمه، وأن الأخلاق تتعلق بتقدير القيم والسلوك على أساسها، ومع ذلك فإن كلا من العلم والأخلاق العلمية يدعم الآخر ويزيده من الارتقاء في الأخلاق العلمية ومن الحرص على مراعاتها، والتمسك بالأخلاق العلمية يؤدي - من جهة أخرى - إلى مزيد من التقدم العلمي، ويزيل كثيرا من العقبات التي تعترض طريق العلم، ولكن هذا الحكم العام لا يمنع - بطبيعة الحال - من وجود حالات فردية لا يجتمع فيها العلم مع الأخلاق العلمية، ولا يعمل فيها كل منهما على دعم الآخر.
والأمر الذي لا شك فيه أننا - في تلهفنا الشديد على بلوغ مستوى علمي رفيع نعتقد عن حق أنه هو الكفيل بحل مشاكلنا القريبة المدى والطويلة الأجل - لم نحاول إبداء أي قدر مماثل من الاهتمام بالأخلاق العلمية، ومعنى ذلك أننا نتصور إمكان حدوث نهضة علمية دون أن يواكبها ارتفاع مناظر في مستوى القيم التي يسلك بمقتضاها المشتغلون بالعلم، وهو في رأيي تصور باطل من أساسه؛ ذلك لأن كل نهضة علمية تحتاج إلى مناخ أخلاقي معين لا تزدهر إلا فيه، وكل تقدم في العلم يرتبط بمراعاة تقاليد سلوكية راسخة توطدت دعائمها في المجتمعات التي سبقتنا في هذا المضمار، وازدادت فيها تأصلا كلما ازداد العلم ذاته نهوضا.
ومن المؤسف أن الجرائد اليومية هي التي ذكرتنا بهذه الحقيقة الأليمة - أعني افتقارنا إلى التقاليد العلمية الراسخة - بطريقة قد لا تخلو من الابتذال، ولكنها لا تغير من الواقع المؤلم ذاته شيئا، وعلى الرغم من أني لست في وضع يسمح لي بأن أصدر حكما على اتهامات السرقة العلمية التي وجهتها الصحف، في الآونة الأخيرة إلى أكثر من واحد من أساتذتنا الجامعيين، ولا أود أن أشارك في تعبئة مشاعر الرأي العام المثقف ضدهم، فإني أعتقد مع ذلك أن الطريقة الدرامية الصارخة التي اتبعتها الصحف اليومية في إثارة هذا الموضوع الشائك لا تخلو من فائدة؛ فهي أشبه بالصدمة الكهربائية التي تنبه الحواس الخاملة، وهي بالفعل قد أثارت فينا سلسلة من ردود الأفعال العنيفة المفاجئة، ولكن التفكير الذي أثارته كان مقتصرا على الوقائع التي كشف عنها النقاب فحسب، ولم يمتد إلى الجذور العميقة للظاهرة نفسها.
إن ظاهرة الاستيلاء على ثمرة جهود الآخرين - في الميدان العلمي - ظاهرة لا تقل خطورة عن السرقة الفعلية، بل إننا نجد لدى سارق الممتلكات المادية - في معظم الأحيان - دوافع ترغمه على ارتكاب جريمته، فضلا عن أن مستواه العقلي - في الغالب - هابط إلى حد لا يسمح له بتقدير مدى الخطأ الذي يرتكبه، أما العدوان على الجهد العلمي للآخرين فيقوم به شخص ليس مضطرا إلى ارتكاب هذه الجريمة لكي يعيش أو يعول أسرة، فضلا عن أن قدراته العقلية تسمح له بأن يكون على وعي كامل بمدى مخالفة فعلته هذه لكل ما تعارفت عليه الأوساط العلمية من قيم.
অজানা পৃষ্ঠা