أن الواقع في تغير مستمر، وأن التحول قانون الحياة في العالم الطبيعي والإنساني معا.
فإذا جمعنا بين هذين المبدأين، أمكننا أن نقرر أن الفكر الاشتراكي ينطوي - ضمن مقوماته الرئيسية التي لا تنفصل عنه - على مبدأ ضرورة مراجعته وتعديله وإعادة النظر فيه، ولو لم نعترف بهذا المبدأ الأخير، لكنا نرتكز في عدم اعترافنا هذا على قضايا تتنافى مع أصول الفكر الاشتراكي نفسه؛ إذ إننا عندئذ إما أن نكون ممن ينكرون تغير الواقع، فنظن أن هذا الواقع قد ثبت وتحجر عند وضع معين، وإما أن نكون من القائلين بإمكان وجود نظرية تظل محتفظة بصلاحيتها بالرغم من تغير الواقع الذي ظهرت أصلا لكي تعبر عنه.
على أن لفظ «المراجعة» قد أصبح من الألفاظ المشينة في المصطلح الاشتراكي، وأصبح الاتصاف به وصمة لا تغتفر، والواقع أنه إذا كان المقصود من المراجعة هو معنى المروق والخيانة؛ لكان لهذه الطريقة في فهم اللفظ ما يبررها، أما إذا كان المقصود منه مجرد الانحراف عن خط أصلي أو إعادة النظر فيه، فلست أرى في اللفظ ما يشين؛ إذ إن الخط الأصلي قد ظهر في ظل واقع معين، والواقع دائم التغير، فلا بد من عملية إعادة نظر دائمة في هذا الخط، وإذا أدرك المرء هذه الحقيقة عن وعي، واستوعب مضمونها استيعابا كاملا؛ لتبين له عندئذ أن الوضع المرغوب فيه هو «المراجعة» - بشرط أن تكون مخلصة واعية - وأن الوضع الذي ينبغي أن تنصب عليه الإدانة والاتهام هو التمسك المتحجر بقضايا ونظريات تتغير الأرض من تحتها دون انقطاع.
على أن تغيير الواقع الذي يستتبع ضرورة مراجعة النظرية لا يعني أن النظرية ذاتها عميقة ، أو أنها تعجز عن أن تقدم إلينا أي أساس للتنبؤ؛ ذلك لأن التغير - كما قلنا من قبل - حقيقة طبيعية ترتكز عليها كل فلسفة ذات صبغة علمية، ومن جهة أخرى فإن هناك نوعا آخر من التغير، يمكن أن يوصف بأنه تغير مفتعل أو متعمد، يتم فرضه على الواقع قسرا من أجل هدم الأساس الذي ترتكز عليه النظرية، والحيلولة دون حدوث النتائج التي تتنبأ بها؛ فالنظرية الاشتراكية تتنبأ بانهيار النظام الرأسمالي، أو على الأقل بتزعزع أركانه؛ نتيجة لحدوث تطورات معينة، تتخذ صبغة التناقض الحاد في داخله، والنظام الرأسمالي حريص على بقائه، ويدرك من جهة أخرى أن تطوره لو سار في طريقه الطبيعي فسوف يؤدي إلى تحقيق التنبؤات التي تقول بها النظرية الاشتراكية، ومن هنا فإنه يعمل على تغيير مسار تطوره بطريقة مفتعلة حتى يحول دون تحقيق تنبؤاتها، مثل هذا التغير هو بمعنى معين - أي بالمعنى السطحي الظاهري - تكذيب للنظرية الاشتراكية، ولكنه بمعنى آخر أعمق تأييد وتأكيد لها؛ إذ إنه لم ينبعث إلا عن مقاومة النظام الرأسمالي لها، وإدراكه لخطرها على كيانه، أي عن اعترافه الضمني بصحتها.
ومع ذلك فإن النظرية الاشتراكية إذا تمسكت بطابعها التقليدي، ولم تعمل على مواجهة الواقع الذي تعمد النظام الرأسمالي إحداث تغيرات مفتعلة فيه، فإنها تكون بذلك قد ساعدت - بطريقة غير مباشرة - على تحقيق أهداف خصومها، وبالتالي على هدم نفسها بنفسها، وبعبارة أخرى فإذا كان كل تنبؤ يرتكز على واقع معين، وإذا كان النظام الرأسمالي قد تعمد تغيير الواقع الذي يعتمد عليه التنبؤ الاشتراكي، فإن من الخطأ التمسك بحرفية هذا التنبؤ المبني على واقع تم تجاوزه - حتى لو كان هذا التجاوز قد تم بطريقة مفتعلة - بل إن المسلك الصحيح في هذه الحالة هو التعديل المستمر للنظرية في ضوء الواقع الجديد.
وربما بدا للمرء أن هذه عملية لا نهاية لها؛ إذ إن هذا الواقع الجديد بدوره يمكن تغييره، وعندئذ يتعين على النظرية أن تعدل نفسها من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية، ومن الجائز أن هذا صحيح، بل إن من الممكن أن يذهب المرء إلى حد القول إن نفس عملية وضع نظرية ترسم خطوطا محددة للثورة الاشتراكية في المستقبل، يمكن أن تعد بمعنى معين معوقا لهذه الثورة ذاتها، من حيث إنها تنبه الخصم إلى نقاط ضعفه الداخلية وتدفعه إلى بذل جهوده من أجل تلافيها، والحيلولة دون تحقيق الظروف التي تصدق في ظلها النظرية، كل ذلك قد يكون ممكنا، ولكنه لا يدعو إلى اليأس أو التوقف عن العمل والتفكير، بل إن كل ما يدل عليه هو أن طريق الكفاح أمام الفكر الاشتراكي طويل وشاق ومتعرج، وأن أصحاب النظريات التي ترسم لهذا الكفاح مسارا واحدا يسير في خط مستقيم، غالبا ما ينتهي بهم الأمر إلى واقع يصدمهم ويكذب تنبؤاتهم.
وعلى الرغم من أن ضرورة إعادة النظر في أسس الفكر الاشتراكي تبدو أمرا واضحا لا يحتاج إلى تبرير، فإن الكثيرين ممن تتيح لهم تجاربهم ويسمح لهم مستواهم الفكري، بممارسة نقد النظرية الاشتراكية، يحجمون عن ذلك النقد، أو لا يسيرون فيه إلى الحد الذي ينبغي عليهم أن يمضوا إليه، وبطبيعة الحال فإن أعداء النظرية لا يترددون في توجيه شتى ألوان الانتقادات إليها، ولكنا لا نود أن نتحدث عن هذا النوع المغرض من النقد، بل إن موضوع اهتمامنا هو النقد النزيه المحايد، فضلا عن النقد النابع من باطن الفكر الاشتراكي ذاته، مثل هذا النقد الأخير يعاني في عصرنا أزمة ينبغي له أن يتغلب عليها، وربما أمكننا أن ندرك أسباب هذه الأزمة إذا اختبرنا الموقف الذي تتخذه كل فئة من فئات المفكرين القادرين على النقد، إزاء أسس النظرية الاشتراكية.
فهناك فئة من المفكرين تجعل للاتساق المنطقي أهمية تعلو على كل الاعتبارات العملية، وهذه الفئة لا تتردد - حين تجد ما تتصور أنه تناقض في النظرية الاشتراكية - في الانحياز فكريا إلى المعسكر الآخر، بحيث إن خصومتها الفكرية البحتة تنتهي بها إلى اتخاذ موقف الدفاع عن الرأسمالية، هذه الفئة التي تبدأ في واقع الأمر بداية محايدة لا تتحكم فيها اعتبارات المصلحة أو التحيز، تغفل في تفكيرها حقيقة هامة لا ينبغي أن تغيب عن ذهن أي مفكر نزيه؛ هي أن الاشتراكية حتى لو بدت مفتقرة إلى الاتساق المنطقي ومنطوية على بعض الصعوبات الفكرية، هي في الوقت ذاته ضرورة عملية، وإن قيمتها العملية هذه ينبغي أن تدفعنا إلى بذل الجهد اللازم من أجل تخليصها من أية صعوبات نظرية تقع فيها، وإذن فموقف هذه الفئة من المفكرين سلبي ومفتقر في حقيقة الأمر إلى تلك النزاهة التي يدعيها أصحابها لأنفسهم، وحسبنا أن نذكر أن النظام المضاد - الذي ينتهون إلى الدفاع عنه - ينطوي على مزيد من التناقضات النظرية، فضلا عن أضراره العملية والإنسانية الفادحة.
وهناك فئة أخرى من المفكرين تدرك عن وعي هذه الحقيقة التي نبهنا إليها في صدد الفئة السابقة، فتوجه إلى الفكر الاشتراكي نقدا نظريا، ولكنها تؤكد ضرورة التمسك بممارسته عمليا، هذه الفئة - وإن كانت أشد إخلاصا من الفئة السابقة - تعاني نوعا من «الفصام»؛ إذ إن موقفها النظري يسير في جانب وموقفها العملي يسير في جانب آخر، مع أن التجانس بين النظر والعمل شرط لا بد من تحقيقه لكي يكتمل إيمان الإنسان بالهدف الذي يعمل من أجله؛ فالمفكرون المنتمون إلى هذه الفئة يتخذون إذن موقفا لا يمكن الاستقرار عنده طويلا، بل ينبغي تجاوزه.
وهناك فئة ثالثة تخشى أن يؤدي بها نقد الفكر الاشتراكي إلى النهاية التي انتهت إليها الفئة الأولى، أي الانحياز إلى الموقف المضاد، فتحجم عن النقد، لا خوفا من أي عامل خارجي، بل حرصا على البقاء في زمرة المفكرين التقدميين، هذه الفئة تؤمن بحتمية انتصار الاشتراكية في آخر الأمر، وتعلم أن السير في طريق الاشتراكية معناه مسايرة تيار التاريخ ذاته، ونظرا إلى أنها لا تريد أن تقف في وجه حركة التاريخ، فإنها تمتنع عن الجهر بما تشعر به في قرارة نفسها من ضرورة مراجعة أسس فكرية معينة للنظرية الاشتراكية، وهذا الموقف بعيد كل البعد عن الانتهازية، بل إنه ناجم عن الإخلاص الشديد للمبدأ الاشتراكي ذاته، وعن الرغبة في عدم اتخاذ موقف النقد حتى لا يفيد منه الخصم في المعركة الضارية التي يشنها على الحركة الاشتراكية، ومع ذلك فإن حركة التاريخ هذه لا تسير آليا، وعلى نحو منفصل عن جهود الإنسان من أجل تحقيقها، بل إن سيرها في طريقها الصحيح يتوقف إلى حد بعيد على قدرتنا على تخليص القوة الدافعة للتاريخ - أعني المبدأ الاشتراكي - من كل ما يمكن أن يبعث فيها أي نوع من الوهن أو التردد، وإذن فموقف هذه الفئة بدورها يفتقر آخر الأمر إلى الحكمة وبعد النظر.
অজানা পৃষ্ঠা