وأخيرا فإن الروح الفردية المتطرفة تؤدي إلى مظهر آخر من مظاهر الأنانية، هو أنانية الأجيال المتعاقبة؛ فالافتقار إلى التخطيط الطويل الأمد - في المجتمعات الرأسمالية - يعني أن كل جيل يفكر في نفسه فقط، ولا يعبأ بما سيئول إليه أمر الأجيال التالية، وبالفعل نجد في أرقى البلاد الرأسمالية مفكرين ينبهون إلى خطورة الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية دون حساب للمستقبل، وإلى الفوضى التي تؤدي إلى تضخم الإنتاج في سلع ثانوية الأهمية، ولكنها تدر ربحا، وتضاؤل الإنتاج في سلع عظيمة الأهمية، ولكن ربحها قليل، أما سياسة التخطيط البعيد الأمد فهي لا تعني إلا شيئا واحدا، هو أن الجيل الحالي يفكر في الأجيال المقبلة بطريقة أساسها إنكار الذات ويقبل التضحية من أجلها بكثير من مطالبه، وهكذا فإن التخطيط هو - من الناحية الأخلاقية - تعبير عن نوع من «الغيرية» على مستوى الأجيال المتعاقبة، على حين أن ما يسمى «بالإنتاج الحر» إنما هو تعبير عن أنانية الجيل الحاضر وجشعه الذي يحول بينه وبين التفكير في المصالح البعيدة المدى للأجيال المقبلة، وفي هذه الحالة بدورها يتناقض الهيكل المعنوي للمجتمع - الذي تنتشر فيه أفكار مثل «حرية الإنتاج» و«حرية العمل» - مع التركيب الحقيقي الذي تسوده الفوضى والقيم الأنانية، ويتحتم إحلال قيم جديدة محل القيم «الفردية» - على مستوى الأجيال المتعاقبة بدورها - من أجل القضاء على هذا التناقض.
في كل هذه الحالات ينتهي الأمر بالفيلسوف الداعي إلى الفردية إلى تأكيد قيمة الأنانية في صورة من صورها، على الرغم من أن نواياه قد تكون حسنة، ورغبته قد تكون حقيقية في اتخاذ دعوته هذه وسيلة لتأكيد كرامة الإنسان، ومن هنا كان عليه أن يراجع موقفه المعنوي بأسره إذا شاء ألا يكون وسيلة لخدمة قيم التخلف، وإذا أراد أن يكون تفكيره عاملا على إعلاء مكانة الإنسان بحق.
الثبات والتغيير
ومن البديهي أن الإيمان بالتقدم هو ذاته أحد القيم الأساسية في كل مذهب تقدمي، على حين أن إنكار التقدم من أوضح صفات المذاهب الفكرية المرتكزة على قيم متخلفة، على أن فكرة التقدم تفترض مقدما فكرة أخرى، هي فكرة التغير؛ لأن التقدم لا يكون حقيقة أساسية إلا في فلسفة تؤمن بإمكان التغيير وضرورته، فما هو موقع فكرة التغير بالنسبة إلى قيم التقدم؟ وعلى أي نحو ترتبط بها؟
نستطيع أن نقول إن الإيمان بالتغير هو الشرط الأول الضروري لكل القيم التقدمية؛ فلقد أتى على الناس حين من الدهر كان الإيمان بالتغير يعد فيه مظهرا من مظاهر النقص، وكان كل ما هو كامل يوصف بالثبات والأزلية، في ذلك الوقت كانت القيم المحافظة هي السائدة، وكانت الثورة والرغبة في التغيير تعد خروجا على النظام الأزلي للكون، ولم يكن من المستغرب أن نجد في فلسفة أفلاطون أقوى دفاع عن فكرة ثبات القيم، وأن يكون أفلاطون في الوقت ذاته هو الداعية الأكبر إلى تركيب سكوني ثابت للمجتمع، تؤدي فيه كل طبقة من طبقات المجتمع ما تصلح له - بحكم تكوينها الطبيعي - من الأعمال، ولا يحق لها فيه أن تتطلع إلى أعمال الطبقات الأخرى؛ ذلك لأن الارتباط بين فكرة أزلية القيم وبين ثبات التركيب الاجتماعي، هو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أية إشارة خاصة، ومنذ ذلك الحين أصبح من سمات التفكير المحافظ المرتكز على قيم متخلفة: الإيمان بأن الكمال مرتبط بالثبات، وبأن التغير نقص، وأصبح هذا النوع من التفكير - الذي ظل مسيطرا على الأذهان عصورا طويلة - ينظر إلى الإنسان على أن له طبيعة ثابتة لا تتغير، ويؤكد أن القيم الأساسية أزلية لا تتبدل، ويساعد بالتالي على توطيد دعائم الاستغلال القائم بتأكيد استحالة تغييره.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون عصر التحول الاجتماعي الجذري - أعني القرن التاسع عشر - هو ذاته العصر الذي تأكدت فيه فكرة التغير في جميع المجالات، وعلى رأسها مجال القيم؛ ففي نفس الوقت الذي أخذت فيه فكرة التاريخ والزمانية تحل محل فكرة الثبات والأزلية بوصفها أساسا لتفسير الظواهر، في نفس هذا الوقت كانت تحدث - على المستوى العملي - تغييرات اجتماعية هائلة تبشر بقرب حدوث ثورة شاملة في علاقات القوى بين البشر، وعندئذ بدأت تظهر لأول مرة حقيقة هائلة كانت هي المقدمة العملية الكبرى لكل ثورة، هي أن النظم الاجتماعية ليست أزلية منزلة من السماء، وإنما هي من صنع الإنسان ومن خلقه، وفي وسعه أن يعدل منها ما يشاء، بل إن الإنسان نفسه ليست له طبيعة ثابتة، ولا تحكمه مجموعة ثابتة من القيم وإنما هو كائن قابل للتشكل إلى غير حد، ولا يقف شيء في وجه قدرته على التغيير.
فالثورة والتقدم يتوقف مصيرهما على الإيمان بفكرة قابلية الإنسان وما يضعه من النظم للتغيير، ومن المؤكد أن آمال الإنسان في تطوير حياته وتحسين أحوال معيشته لا تعود تعرف حدودا منذ اللحظة التي يدرك فيها أن طبيعته ذاتها قابلة للتغيير، وليس أدل على مدى التحول الهائل الذي طرأ على موقف الذهن البشري في هذا الصدد، من أن عصرنا الحالي أصبح يعد التطور والتغير مظهرا من مظاهر الكمال، ويرى في الثبات علامة من علامات النقص؛ فالظواهر التي تنتمي إلى مجال العلم والمعرفة والنظم الاجتماعية ومظاهر الخلق والإبداع بكافة أنواعه، كل هذه أصبح التغير والنمو دليلا على حيويتها وقدرتها على مسايرة الزمن، أما صفة الثبات التي كانت منذ عصر أفلاطون حتى عهد قريب تعد أهم معيار للحقيقة في مجال المعرفة، وأكبر دليل على الاستقرار في مجال العلاقات الاجتماعية؛ فقد أصبحت تعني التحجر والجمود، وتعد عائقا في وجه تحقيق الإنسان لكل ما فيه من إمكانات.
أخطاء التقدميين
على أن كثيرا من المؤمنين بالقيم التقدمية يقعون - دون وعي منهم - في أخطاء موروثة من تلك العهود الطويلة التي كان الثبات والأزلية يعدان فيها قيمة عليا لكل الظواهر التي تتصل بالإنسان، من أهم هذه الأخطاء التقيد المفرط بالسلطة؛ فمن أوضح الصفات المميزة للتقدميين في عصرنا هذا، التجاء الكثيرين منهم إلى نصوص ثابتة يعدونها مرجعا أخيرا وحكما فاصلا في كل المشكلات التي يدور حولها أي خلاف، والحجة التي يتذرعون بها هي أن هذه النصوص ذات طابع تقدمي في أساسه، ومع ذلك فمن الواضح أن النص التقدمي عندما يصبح مرجعا نهائيا، وعندما يتخذ سلطة أخيرة لا تناقش، يتحول إلى أداة تخدم أغراض التخلف؛ ذلك لأن الإيمان العميق بالتغيير، وبأن الواقع المتطور نفسه هو المعيار النهائي لكل حقيقة، يحتم علينا ألا نقف من النص موقف التقديس الخاشع مهما كانت درجة تقدميته ، وأقصى ما يمكننا أن نفعله إزاءه هو أن نتخذه دليلا هاديا، أما إذا أصبح متعارضا مع التجربة الفعلية للمجتمع (وهو أمر لا بد أن يحدث بمضي الوقت) فلا مفر عندئذ من التضحية بالنص ومجاراة الواقع، وفي اعتقادي أن الخطأ الذي يرتكبه كثير من التقدميين في هذا الصدد إنما يرجع إلى تحمسهم البالغ للحقيقة الجديدة التي كشفها لهم النص التقدمي، وهي حقيقة تبهر عيونهم وقد تعطل - إلى حين - ملكة التفكير النقدي لديهم، وهذا أمر مشاهد بالفعل في كل عصور التحول الكبرى؛ ففي الفترات الأولى بعد ظهور الأديان كانت القاعدة الشائعة هي التمسك بحرفية النص الديني، واتهام كل من يحاول إيجاد تفسير مستنير له بالمروق والخروج عن الدين، ولكن استمرار التطور أدى في معظم الحالات إلى التخفيف من هذا التزمت، وإلى النظر بعين التسامح والفهم إلى كثير من «الخوارج» و«المارقين»، ومثل هذا لا بد أن يحدث - وهو قد بدأ يحدث بالفعل - في مجال التفكير السياسي بدوره؛ فالإيمان الحقيقي بالتطور لا بد أن يخلص الأذهان من عادة الاستشهاد - في كل صغيرة وكبيرة - بنص جامد، والاعتقاد بأن أي خلاف في الفكر النظري أو التطبيق العملي يمكن أن يحل بالرجوع إلى ما ورد عنه في الكتب، حتى لو كانت هذه الكتب وثائق كبرى للفكر التقدمي.
أما الخطأ الآخر الذي يقع فيه كثير من التقدميين فهو الاعتقاد بأن التغير ينبغي أن يسري على القيم المتخلفة وحدها، على حين أن القيم التقدمية - عندما تتحقق لها السيطرة - ستظل ثابتة، أي بأن الهدف النهائي لكل تطور هو تحقيق مجتمع اشتراكي مكتمل العناصر، بالمعنى الذي نفهمه الآن لهذه الكلمة. هذا الاعتقاد في رأينا غير صحيح لسبب جوهري هو أن التطور لا يعرف غاية نهائية يقف عندها؛ فمنذ اللحظة التي نعترف فيها بأن الإنسان كائن قابل للتشكل، وبأن التطور الدائم يكون جزءا من طبيعة الحضارة البشرية، يصبح من الضروري أن نمتنع عن تحديد أية نهاية لعملية التغير والنمو التي تطرأ على أنظمة المجتمعات وعلى نواتج العبقرية البشرية، ومعنى ذلك أن غاية التطور - عند من يؤمن حقا بالقيم التقدمية - ليست هي الاشتراكية وحدها، وليست أي نظام آخر يستطيع العقل البشري أن يتصوره في مرحلته الراهنة، إن الاشتراكية هي في واقع الأمر نقطة بداية تطورات هائلة لا بد أن تتلوها، وهذه التطورات سوف تسفر قطعا - خلال المستقبل البعيد للبشرية - عن أنواع من التنظيم لا نستطيع الآن أن نتكهن بها ولو على صورة تقريبية، وكل ما يمكن تأكيده بشأنها هو أنها - من الوجهة السلبية - ستخلو تماما من جميع مظاهر الاستغلال؛ ففي التطور العلمي المذهل الذي تزداد سرعته بمضي السنين، تفتح في كل يوم إمكانات جديدة أمام الإنسان، وإذا اقترن ذلك بتنظيمات اجتماعية تتخلص تماما من الاستغلال، فإن النتيجة تكون ظهور عهود جديدة للإنسان لا يستطيع أشد الناس إغراقا في الخيال أن يتخيلوها، والمهم في الأمر أن هذا التطور لن يسير حتما حسبما تقرره الكتب أو الدراسات النظرية، وإنما سيسير مسترشدا بالتجربة ويأتينا على الدوام بالجديد الذي لم يكن نحلم به.
অজানা পৃষ্ঠা