وسيجد القارئ في الجزء الأخير من هذا المقال ترجمة كاملة لثالث هذه الموضوعات، أقدمها مهداة إلى شبابنا الذين نضع أملنا في المستقبل بين أيديهم، ولكنني لا أود أن أعرض عليهم هذه الترجمة إلا بعد أن أقف معهم، ومع كل من تهمه قضايا الفكر والثقافة والشباب في بلادنا؛ لنناقش بهدوء بعض المشكلات التي أثارتها في ذهني قراءة هذه الموضوعات. •••
لقد دأب جيل الكبار في بلادنا على اتهام الشباب بالتقصير في التزود بالعلم والثقافة، وربما كان قدر كبير من هذا الاتهام راجعا إلى رغبة الكبار في تمجيد جيلهم والإشادة بفضله، لا بدافع الاستعلاء فحسب، بل بدافع التشبث بالماضي الذي يعني بالنسبة إليهم أكثر مما يعني الحاضر، ورغبة في الدفاع عن النفس والتمسك بأهداب الزمن الذي ينقضي رغما عنهم، ولا يكف عن الإفلات من قبضة يدهم.
وأنا من المؤمنين بأن الشباب في كل بلد هو على ما يريده الكبار أن يكون، إنهم أبناء جيل الكبار، والآباء - في معظم الأحيان - هم المسئولون عما يلحق بأبنائهم، وكما أن من الأمور المثيرة للسخرية أن يعيب الأب على طفله الصغير - الذي لم تتح له بعد فرصة الاندماج في أي عالم سوى عالم أسرته المباشرة - تفوهه بألفاظ غير لائقة، أو اكتساب عادات سلوكية قبيحة؛ لأن هذه العادات وتلك الألفاظ لم تستمد - في واقع الأمر - إلا من الآباء أنفسهم، فكذلك يكون من قبيل الظلم والعجز عن فهم الأمور أن يعيب الجيل الأقدم على الجيل الأحدث أمورا لا يمكن أن يكون الجيل الأحدث قد اختارها لنفسه، بل لا بد أنه تلقاها على هذا النحو ممن في يدهم مقاليد أموره.
فقبل أن نصدر أي حكم على موقف الشباب من العلم ومن الثقافة الجادة، ينبغي علينا - نحن الكبار - أن نسائل أنفسنا، هل وفرنا لأبنائنا الجو الذي يكفل إقبالهم على المعرفة وسعيهم إلى توسيع آفاق عقولهم؟ هل أنشأنا لهم المدارس الكافية؟ هل قدمنا إليهم برامج تعليمية تساعد على إثارة حب العلم في النفوس؟ هل عهدنا بهذه البرامج إلى معلمين أكفاء يفهمون التعليم على أنه زيادة قدرة العقول على فهم الأمور لا حشوها بمعلومات فجة؟ هل زودنا مدارسهم بمكتبات كافية، ونمينا فيهم حب القراءة والاطلاع؟ هل استطعنا أن نفصل بين الرغبة في التعلم والرغبة في التخلص من ذلك الشبح المخيف؛ شبح الامتحان؟ هل تقوم وسائل الإعلام لدينا بدورها في نشر الثقافة وتشجيع الأجيال الجديدة على أخذ أمور حياتها مأخذ الجد؟ وربما كان الأهم من ذلك كله، هل استطعنا - نحن الكبار - أن نخلص أنفسنا من السطحية والجري وراء المصالح، وأن نضرب لأبنائنا مثلا صالحا في احترام العلم والثقافة؟
تلك بعض الأسئلة التي لا بد أن تؤدي الإجابة عنها إلى تذكير كل من يوجه الاتهام إلى الشباب بكلمة المسيح: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر! فنحن في واقع الأمر ندين أنفسنا كلما اتهمنا شبابنا بالتقصير في طلب العلم والثقافة، ولن يكون لهذا الاتهام أساس إلا لو كان جيل الكبار قد أدى بالفعل واجبه كاملا نحو الجيل الذي سيحمل الأمانة من بعده.
على أنني لا أملك - برغم كل هذه العوامل - إلا أن أقرر بعض الحقائق، وأعقد بعض المقارنات، يدفعني إلى ذلك اعتباران: أولهما أن في استطاعة المرء أن يقوم بمهمة التشخيص، ويعدد العيوب وينبه إليها، دون أن تقترن بذلك التشخيص إدانة أو يترتب عليه لوم للشباب أنفسهم؛ فمع الاعتراف الكامل بمسئولية المجتمع ككل - تحت قيادة جيل الكبار - عن جوانب النقص التي يعاني منها الشباب، ينبغي التنبيه بكل قوة إلى هذه الجوانب، وتبديد ذلك الوهم الكبير الذي يجعلنا ميالين دائما إلى تصوير أمورنا كما لو كانت على خير ما يرام.
أما السبب الثاني والأهم فهو أن من وراء كل حتمية في المجال الإنساني قدرا معينا من التلقائية والاستقلال عن التحديد الدقيق، وحين نطبق هذا الحكم على مجال الشباب، نجد أن لدى الشباب - من الوجهة النظرية - القدرة على التحرر من القيود التي فرضتها عليهم أخطاء الكبار، أو على تجاوز الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه، وذلك في حدود معينة على الأقل، هذا القدر من التلقائية هو الذي يتحقق به التقدم، وهو الذي يجعل كل جيل يضيف جديدا إلى الجيل الذي سبقه بالرغم من تحكم هذا الجيل السابق في مصيره، وباسم هذه التلقائية ينبغي أن يتحمل الشباب نصيبهم من المسئولية عن تكوين أنفسهم، مع اعترافنا الكامل بأن الكبار لم يتحملوا القدر الخاص بهم من هذه المسئولية تحملا كاملا.
ولقد كان الشباب أنفسهم هم الذين طالبوا بهذه المسئولية، واعترفوا بوجود هذا القدر من التلقائية في سلوكهم، حين أكدوا - في مجتمعات كثيرة - أن الكبار لم يعودوا يصلحون لإدارة دفة هذا العالم الذي يسير على حافة الهاوية، وحين فرضوا - بتصرفاتهم العملية - مفهوم «الفجوة بين الأجيال» على باحثي العلوم الاجتماعية، وجعلوا منه إطارا أساسيا تفهم من خلاله العلاقة بين جيل الشباب وجيل الكبار في العالم المعاصر، هذه «الفجوة» إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الجيل الجديد يشعر بقدر متزايد من الاستقلال عن الجيل القديم، ولا يقبل أن يعتبر نفسه مجرد «ضحية» لأخطاء الجيل السابق، أي إنه لا يقبل الاعتراف بالحتمية التي يتحكم بموجبها القديم في الجديد، ويؤكد أن لديه قدرة - تتزايد جيلا بعد جيل - على أن يشكل حياته بنفسه، ويأخذ مقاليد أموره بين يديه، على الرغم من أن الكبار هم الذين يتخذون القرارات الحاسمة المتعلقة به، وهم الذين يملكون سلطة تنفيذها.
في ضوء هذه التلقائية وهذه المسئولية التي هي مطلب أساسي للشباب أنفسهم، يحق لنا أن نحاسب شبابنا على ما يبذلون من جهود في الميدان الثقافي ونحن آمنون من أن يوجه إلينا ذلك الاعتراض الصارخ: «وما ذنبنا نحن إذا كنتم أنتم - أيها الكبار - المتحكمون في مصيرنا؟»
لعل أوضح مظاهر ثقافة الشباب في أيامنا هذه، تلك الظاهرة التي أحب أن أطلق عليها اسم «العطاء قبل الأخذ»، وإنا لنعلم جميعا أن هذه صفة محمودة في مجال العلاقات الإنسانية، لا سيما وأنها هي بعينها شيمة كل من يتصف بالكرم والسخاء، ولكن مثل هذا الكرم ينقلب إلى شيء مذموم في الميدان الثقافي؛ إذ إنه يعني أن يقدم الإنسان إلى الآخرين زادا ثقافيا في الوقت الذي يكون فيه هو ذاته ما زال محتاجا أشد الاحتياج إلى مثل هذا الزاد.
অজানা পৃষ্ঠা