وفي هذا الإطار ذاته يمكن القول إن الأزمة التي مر بها العقل الغربي، والتي بدأت في أوائل هذا القرن وما زالت مظاهرها مستمرة حتى اليوم؛ هي أزمة لنمط الحياة البورجوازي الجديد، وهي بطبيعة الحال لا تستهدف العودة إلى علاقات اجتماعية إقطاعية، بل تستهدف أولا التعبير عن ضيق الإنسان الغربي بالواقع البورجوازي السائد، وبحثه عن بديل لم تتحدد معالمه بعد، ولعل الدليل على أن هذا البديل لم تتحدد معالمه هو الأزمة الموازية التي يمر بها العقل في المجتمعات الاشتراكية الأوروبية والآسيوية؛ ففي هذه المجتمعات بدورها أخذ العقل يراجع خطواته ويعدلها وينقدها - وخاصة في الآونة الأخيرة - على نحو ينم عن قدر قليل من عدم الاستقرار، وازدادت المراجعات والتحريفات إلى حد زالت معه الحواجز بينها وبين «الأصل»، بل أصبح من الصعب الوصول إلى «أصل» تعد الاجتهادات الأخرى «تحريفات» بالقياس إليه، وأخذ كل اجتهاد في التفسير يؤكد لنفسه الحق في أن يعد أصلا من الأصول. وعلى الرغم من التباين الشديد بين جذور هذه الأزمة وجذور الأزمة في المجتمع البورجوازي، فإن الأمر المرجح هو أن وسيلة الخروج منها ستكون توسيعا لنطاق العقل وخروجا له من إسار الأنساق الضيقة التي كان من قبل منحصرا فيها.
فإذا طبقنا هذا التفسير على مجتمعاتنا، كانت النتيجة الواضحة هي أن استمرار الدفاع عن مبدأ السلطة - بشتى مظاهره - واضطرار العقل حتى الآن إلى اتخاذ موقع الدفاع، والمطالبة بالحد الأدنى من حقوقه، وهي حريته في التعبير عن نفسه؛ كل ذلك دليل على أن العلاقات الإقطاعية - ولا سيما في المجال الفكري - ما زالت متشبثة بمواقعها، وعلى أن المرحلة التالية في تطورنا الاجتماعي (التي نريدها أن تكون مرحلة اشتراكية) لم تستطع بعد أن توطد أقدامها، وأن تؤثر على عقول الناس وأساليب تعاملهم ونظرتهم العامة إلى الحياة.
وبعد، فلعل النتيجة التي تفرض نفسها بعد هذا الحديث الطويل عن أزمة العقل بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية، هي أن نوع الأزمة في الحالتين مختلف اختلافا جذريا، وأن إحداهما أزمة مجتمع فاض فيه العقل حتى طغت أمواجه على مجالات لم يكن يستطيع من قبل أن يقترب منها، على حين أن الأخرى أزمة مجتمع ما زال العقل فيه يكافح لكي يكتسب حقه المشروع في التعبير عن نفسه إزاء قوى متأصلة تهدده من كل جانب.
وفي اعتقادي أن الدرس الذي نخرج به من هذا التحليل هو أن أعراض الأزمة العقلية ينبغي أن تكون متباينة تماما في الحالتين، أو لنقل بعبارة أخرى إن من يتصور أن مظاهر أزمة العقل عندنا ينبغي أن تكون مماثلة لمظاهر الأزمة في الفكر العالمي لا بد أن يكون شخصا يخدع نفسه ويخدع الناس، ويكفي أن أضرب لذلك مثلا واحدا مستمدا من فكرة «العبث» أو «اللامعقول».
فالمجتمع الغربي قد سادته في وقت قريب موجة تصف العصر الحاضر بأنه عصر العبث الذي لا يكون فيه لأي شيء معنى ولا غاية، ولكن هذا الوصف للوجود بأنه عبث
absurde ، لا يمكن أن يكون له معنى إلا على أساس «مقارنة» ضمنية تحدث داخل ذهن كان يتوقع أن يجد العالم معقولا، وأن يجد له معنى، ولولا هذه المقارنة لما طرأت أصلا فكرة العبث أو اللامعقول على ذهن أحد؛ فالإنسان البدائي - مثلا - لا يصف العالم بأنه عبث، ولا تطرأ على ذهنه فكرة اللامعقول ، وذلك على الرغم من أنه يعيش هذه اللامعقولية في كل لحظة من حياته؛ لأنه لم يكن يتوقع أن يجد العالم غير ذلك، ولم يقم بأية مقارنة ضمنية بين الحالة الفعلية والحالة المتوقعة أو المرغوب فيها، ومن ثم فإن اللامعقولية تفرض نفسها عليه بوصفها الحالة الأصلية والدائمة والمفروضة للعالم، وعندما تكون اللامعقولية حالة أصلية على هذا النحو، يستحيل أن يصل الوعي إلى إدراك فكرة اللامعقول، وبعبارة أخرى: فإن اللامعقول لا يمكن تصوره إلا على أرضية خلفية من المعقول، وفي الحضارات العقلانية وحدها يمكن أن تظهر - من آن لآخر - فكرة العبث، وتبنى عليها فلسفات كاملة وأعمال أدبية وفنية كبرى، أي يمكن أن تصل هذه الفكرة إلى نطاق الوعي الإنساني.
هذا الكلام موجه - أساسا - إلى أولئك الذين يتصورون إمكان قيام فلسفة أو فن أو أدب للعبث في المجتمع الذي نعيش فيه؛ فبالقدر الذي لا تكون فيه مجتمعاتنا الشرقية قد مرت بتجربة عقلانية هزت حياتها من جذورها، لا يكون هناك معنى للقول إن الوجود عبث، لسبب بسيط هو أن العقل الذي يصدر هذا الحكم لم يكن يتوقع أن يجد الوجود على خلاف ذلك، إنه عقل اعتاد اللامعقول طويلا، وما زالت الخرافة وحرفية النص تحتل في حياته مكانة رئيسية، ومن ثم فلا معنى عنده لفلسفة العبث أو لفنون اللامعقول وآدابه، وإذا ظهرت هذه فلن تكون إلا محاكاة ببغائية تفتقر إلى الأصالة.
إن من يعيش طيلة حياته في اللامعقول لا يملك ترف التفلسف أو التفنن على أساس من اللامعقول؛ لأنه لا يشعر بتناقضه و«عبثيته» عن وعي، ولا يقارنه بأي مقياس عقلي مخالف، فلنعرف إذن حدود أزمتنا العقلية، ولنعمل على الخروج منها بمنح العقل حقوقه كاملة، بدلا من أن نقفز - دون تبصر - من مرحلة التفكير الأسطوري إلى مرحلة ما بعد العقل، متخطين المرحلة الوسطى، مرحلة ممارسة التفكير العقلاني، التي هي أملنا الوحيد في أن نصبح مجتمعا مسايرا للعصر.
نحن وثقافة الغرب1
في العالم اليوم حضارة متفوقة تفوقا لا شك فيه - هي الحضارة الغربية - بالمعنى الواسع لهذه الكلمة ، وفيه أيضا حضارات لم تبلغ هذا القدر من التفوق، ولكن كلا منها يعتز بماض مجيد ويفخر بتراث أسهم بنصيب هام في بلوغ المدنية مستواها الحالي، ولما كانت الحضارة الغربية متفوقة ولكنها حديثة العهد نسبيا، والحضارات الأخرى - مع عدم تفوقها الحالي - لها جذور ممتدة إلى أقدم العهود؛ فقد ترتب على ذلك انقسام بين المثقفين من أبناء الحضارات غير الغربية حول الهدف الذي ينبغي أن تتجه إليه ثقافتهم، أهو مسايرة الحضارة الغربية الجديدة؟ أم إحياء الحضارة القومية الأصلية؟
অজানা পৃষ্ঠা