لم يقف تأثير روسو السياسي عند إنشاء الثورة، فأنتم تعرفون أثر الثورة الفرنسية في نشر الديمقراطية في أوروبا، بل في بلاد الشرق بعد الحرب الكبرى، فحياتنا نحن الديمقراطية، ومذهبنا نحن في فهم الحكم وفيما نريد من المثل السياسي الأعلى، تتأثر بهذه الفكرة التي كان جان جاك أول من أشاعها وأذاعها في كتاب «العقد الاجتماعي».
ثم لجان جاك أثره في الناحية الأدبية، وهو ليس أقل خطرا من أثره في السياسة؛ فهو في كتابه أو قصته «هولويز الجديدة» منشئ مذهب الرومانتزم، وهو المؤثر الأول في الكتاب والشعراء الذين ملكوا العقل والحياة الأدبية في أوروبا، وهو المؤثر الأول في جوت وشاتوبريان وهوجو وغيرهم من الأدباء الذين ظهروا في أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم له تأثير غريب متناقض - إن صح هذا التعبير - روسو هو الذي هدم السلطان الديني؛ هدم سلطان الكنيسة في فرنسا وأنكر سلطان القسس، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن كفولتير عدوا للدين من حيث هو دين، وعدوا للكنيسة من حيث هي كنيسة، كان عدوا لطغيان رجال الدين وعدوا لطغيان الكنيسة، وهو ينتهز هذه الفكرة التي ظهرت أول أمرها فدمرت سلطة الكنيسة، والتي كانت نفسها معيدة لسلطان الدين والكنيسة بعد الثورة الفرنسية، فإذا كان روسو هو الذي أوجد «روبسبير» وأوجد خصوم رجال الكنيسة، فهو الذي أوجد «شاتوبريان»، وهو الذي أوجد المدافعين عن الدين في أوائل القرن التاسع عشر والذين مهدوا للصلح بين فرنسا الثائرة وبين الكنيسة.
ليس يعرف التاريخ الأدبي ولا السياسي ولا الديني رجلا كان أشد أثرا في حياة الشعب الفرنسي وفي حياة الشعوب الأوروبية من هذا الرجل الذي نشأ مضطربا، نشأة الشاب الذي لم يبرأ من السرقة ولا من الفجور ولا من جميع أنواع الفساد الذي انتهى إلى هذا الجنون الذي رأيتم بعض صوره.
لم يعرف التاريخ رجلا أحدث من الآثار كهذا الرجل، ألستم توافقونني على أن درس حياة هذا الرجل في شيء من التفصيل وبشيء من المهل والتأني، خليق أن يثير في أنفسنا شيئا غير قليل من الرحمة والإشفاق على هذا الرجل الذي أحسن إلى الإنسانية أشد إحسان، ولقي من الإنسانية أشد إساءة؛ لأنه كان في حياته نفسها مستحقا لما لقي من إساءة.
أما أنا فلا أحب جان جاك، لكني أرحمه وأشفق عليه إشفاقا عميقا، ولست أؤمن بآراء جان جاك كلها ولكني أعجب بها.
ومن حسن حظه أنه ربما كان الفيلسوف الوحيد من فلاسفة القرن الثامن عشر الذي ظفر بعناية كاتب من كتابنا المصريين، فكلكم فيما أظن قد قرأ الكتاب الذي وضعه الدكتور هيكل بك والذي أؤكد لكم أنه من أرقى وأحسن ما كتب عن هذا الفيلسوف العظيم.
رينان
سيداتي، سادتي
سأحدثكم اليوم عن رجل مخالف كل المخالفة للرجلين اللذين حدثتكم عنهما في المحاضرتين الماضيتين؛ فالفرق عظيم جدا بين «أرنست رينان» وبين «فولتير» و«روسو» وهذا الفرق طبيعي، فقد يكون الوقت الذي انقضى بين ظهور هذا الرجل في الحياة الأدبية الأوروبية وظهور صاحبيه قصيرا، ولكن الأحداث التي حدثت في ذلك الوقت عظيمة جدا، أحداث كان يكفي أو كان يجب لحدوثها عصور طوال، وحسبكم أن بين «فولتير» و«روسو» من ناحية، وبين «رينان» من ناحية أخرى الثورة الفرنسية كلها، وإمبراطورية نابليون كلها، وعصر الرجوع إلى الملكية إلى حد ما.
فإذا تمثلتم الأحداث الجسام التي حدثت في آخر القرن الثامن عشر وفي أول القرن التاسع عشر، والتي غيرت وجه الأرض في أوروبا على أقل تقدير، سواء من الناحية السياسية أم من الناحية العقلية أو الأدبية؛ إذا تمثلتم هذا لم تدهشوا حين ترون الفرق العظيم بين «رينان» وبين صاحبيه، ومع هذا فالفرق ليس نهائيا - إن صح هذا التعبير - فبين هذا الرجل وبين فلاسفة القرن الثامن عشر تشابه أرجو أن أستطيع تصويره لكم في آخر هذه المحاضرة. «رينان» ولد سنة 1823 في مدينة من مدن بريتانيا الفرنسية، من أسرة متواضعة، وكان أبوه ضابطا من ضباط البحرية التجارية من هذا الإقليم الذي ولد فيه «بريتانيا»، وكانت أمه من جنوب فرنسا، والفرق بين هذين الإقليمين عظيم؛ فأهل بريتانيا قوم أخص ما يوصفون به إيثارهم الصمت، ثم قوة الحياة الداخلية في نفوسهم؛ فهم يحيون حياة داخلية قوية جدا، ثم هم قليلو الميل إلى الكلام، وهم كذلك من أشد الفرنسيين ميلا إلى المثل الأعلى، بل هم يدفعون إليه دفعا شديدا، ثم هم من أشد الفرنسيين استمساكا بالرأي وتشددا فيه، وحرصا على المحافظة وحب القديم وبغضا للتجديد والانتقال من حال إلى حال، ثم هم محتفظون بشخصيتهم الإقليمية الفرنسية، وهم قليلو الاندماج في الوحدة الفرنسية العامة، ولعلكم تذكرون أنهم في الأعوام الأخيرة الماضية حاولوا أن يستردوا شيئا من استقلالهم الخاص، ودعا بعضهم إلى الوحدة الإقليمية.
অজানা পৃষ্ঠা