حجارة الضيعة
لا! يا بونا
ميلاد
مغرور
قاطع طريق
من مشاكل القرية
المسيح حقا قام!
أبو الغنباز
حديث خرافة
ابن عزرائيل
هيكل
إبراهيم القصصي
السلالم!
حزبية بلهاء
مرفع!
مرشد الأخوية!
مأتم قروي
حظ ونصيب!
السلامة غنيمة!
حردان
دكان الضيعة
الناطور
الجنون فنون
على باب الله!
حجارة الضيعة
لا! يا بونا
ميلاد
مغرور
قاطع طريق
من مشاكل القرية
المسيح حقا قام!
أبو الغنباز
حديث خرافة
ابن عزرائيل
هيكل
إبراهيم القصصي
السلالم!
حزبية بلهاء
مرفع!
مرشد الأخوية!
مأتم قروي
حظ ونصيب!
السلامة غنيمة!
حردان
دكان الضيعة
الناطور
الجنون فنون
على باب الله!
أقزام جبابرة
أقزام جبابرة
تأليف
مارون عبود
حجارة الضيعة
أبو نعوم فات التسعين بضع خطوات وظل يروح ويجيء. لم تهرهر
1
التسعون جدران بنيته الشامخة. هيكل ضخم، أحكم بنيانه مناخ قريته الجبلية، فكأنما استعيرت مواده من صخور ضيعته السمراء. حاجبان ثقيلان، ورأس مدور أسمر، نحاسي، خربش
2
الزمن حول أنفه الأفطس خطوطا مزرقة كأنها الزنجار.
3
ما شان
4
ذلك الوجه الصلب في شيخوخة أبي نعوم المباركة إلا رمد ربيعي اجتمع أشده في السبعين، فصارت حدقتاه كعيني الوروار. وفي الثمانين ارتخى جفناه فانقلبا ظهرا لبطن. أما عقله وجميع حواسه فما أخذت منها الأيام شيئا، عقل ابن ثلاثين لولا أنه يحدث نفسه بصوت عال.
يقعد على صفة
5
قرب حائط الكنيسة يتشمس. إن شرقت الشمس شرق معها، وإن غربت غرب، ومتى غابت يغيب في فراشه. وفي هذه الجلسات قلما يسكت، يهرف
6
مراجعا ذكرياته، لم يتعلم ليكتبها ويحصى بين المؤلفين؛ لذلك كان يحدث بها نفسه إلقاء وإيماء كأنه يكرر دورا تمثيليا ليجيد إخراجه على المسرح، وأن الليلة ليلة تمثيل الرواية.
تجري على لسانه أقوال حكيمة لو قالها في الأربعين والخمسين لأحصي مع الحكماء الكبار، ولكن الشيخوخة متهمة،
7
وإن قالت من الأقوال أثقبها. لو نطق في الأمس بما يقوله اليوم لأحصي مع أبي فلان وفلان وفلان، حكماء الضيعة السعيدي الذكر ...
يقع رف
8
دوري على سنديانة الكنيسة فيتهلل أبو نعوم للغط
9
تلك العصافير وثرثرتها. قد تزرق أحيانا عليه فيمسح صديريته باسما، ولا يتقزز منها فكأنها من حفدته، وإذا غرد الحسون رجح رأسه لتلك الموسيقى التي ألفها، وإذا رأى السنونو تباشر ولوى كتفه كأنه يرمي عنها شباط الثقيل، وعلل نفسه بالعيش إلى العام المقبل، ثم يلج في تحديث نفسه بنبرات عنيفة تارة، وخفوت طورا.
وفي يوم من أيام نيسان البسامة قعد أبو نعوم على حائط قبالة الكنيسة، لم يستطع استقبال الشمس بعينيه المتهدلتين
10
فولاها ظهره، ثم أوغل في ذكرياته وعلا صوته بسردها: حجارة مخرشبة،
11
ولكني أراها مثل البدور، كل ثقب من ثقوبها بوز
12
يحكي وعين تنظر. ما أجمل حديثها وأحلاه! كأنها تقول لي: «أبو نعوم، أهلا وسهلا، مرحبا يا عشير الصبا، مرحبا يا ابني الصغير، أنا ربيت جد جد جدك، تحت جناحي تخبا في الضيقات والشدائد، وفي حضني كان يحدث ربه بكل هدوء وخشوع، وتحت أرجل منبر اعترافي طرح خطاياه فخرج من بركة التوبة أبيض مثل الثلج. ضمن هذه الحيطان تبارك إكليل جدك الأعلى منذ أجيال، وأنت واحدة من ثمرات بركتي، وها هم ناموا حولي جميعا، وها أنا أرعى قبورهم كحارس لا ينام، وناطور لا يغفل.
قم يا ابني، قم قبل خد بابي الأملس، قبله لتحس شفتاك طعم شفاه أجدادك الأقدمين، إن شفاههم الصلبة قد نعمت هذا الخد فصار مثل الحرير».
وتحلحل أبو نعوم رويدا رويدا، ثم نهض ومشى مشية المقيد، وقال بصوت عال: أمرك يا عيوني!
وتقدم من خد الباب فقبله وقال: هه! هذي بوسة ثانية، وهذي ثالثة. والتفت بجدار الكنيسة كأنه يسأله: أبوس بعد؟ ... ثم ترامى على خد الباب وقبله قبلات لا تحصى، وقفل راجعا. رأى جرنا في ساحة الكنيسة فوقف عليه وقال: هذا جرن الشباب، هذا أيضا يقول لي: تذكر، يا بو نعوم، يوم كنت شيخ الشباب، يوم كنت تلعب بهذا الجرن
13
لعبا، كنت تقيمه فوق رأسك خمس مرات حتى إذا انتهيت رفعوك على الأيدي.
واقترب من الجرن، وبعد ألف جهد استطاع تحريكه، فهز رأسه وقال: هاتيك أيام وهذي قبالها.
وما استقر حيث كان حتى رأى دودة سارحة على طرف عباءته، فقال لها: هه! من قبر من طلعت؟ ومن جثة من تغذيت؟ على مهلك، لا تخافي، على كل حال أنت منا وفينا، أنت بنت ضيعتنا.
وفي الغد دق قداس الأحد فكان أبو نعوم أول الملبين، قعد يتشمس في مكانه منتظرا ابتداء القداس، جلس وحده، ولكن واحدا تعود أن يدون أخباره في دفتر لتظل تاريخا للضيعة، قعد حده فطفق يروي له ما شاهد وما سمع من أخبار أمراء لبنان من فخر الدين وآل سيفا إلى المير يوسف والمير بشير الجالس سعيدا على كرسي إمارة الجبل.
وأقبل شاب غريب في يده طبر،
14
وتحت زناره من وراء خنجر جزيني، ملثم بكوفية شامية مفتلة الهداب.
15
شاب معتد بنفسه يعرف شابا وأكثر من الضيعة، فسلموا عليه واحتفوا به.
سأل أبو نعوم الشاب القاعد حده: من أين هذا الشب؟ فأجابه الفتى: غريب.
فقال: أهلا وسهلا، من رأس شفتيه.
وابتدأ القداس فدخلوا الكنيسة جميعا، وكان آخرهم أبو نعوم، فقبع في مكانه المحفوظ حد العضادة
16
بجنب الباب. رأى، وهو داخل، الطبر معلقا بمفتاح الباب فهز رأسه وعبس.
وانتهى القداس فكان أبو نعوم أول الخارجين، وأخذ الطبر وقعد على الصفة، فأقبل الشاب مسلما على الشيخ، وقال له: أعجبك الطبر يا جدي؟
فأمسكه أبو نعوم بيده المرتجفة وقال له: عندنا مثله كثير يا ابني، تعلم في المستقبل ألا تعلق طبرك بمفتاح باب الكنيسة، هذا خرق لحرمة الضيعة، أخذته فكة مشكل، وإلا كان وقع الشر. يا أولاد، هذا من جيراننا وضيفنا، قوموا بواجبه. هذا طبرك يا شب، ثاني مرة خذ حذرك.
وذهب الناس إلى بيوتهم، وراح الشاب مع أصحابه.
وأحب أبو نعوم أن يتمشى في ذلك اليوم المشمس، كان يجد لذة في النظر إلى حجارة الضيعة ويطلق عليها لقب الأصحاب. كان ينفر من الحيطان المرممة، ويأسف لأنها تغيرت عن عهده.
وبلغ في نزهته برج الضيعة القديم، فرأى أن حجارة منه قد أخذت فثار وهاج. خبروه أن بطرس - وجيه الضيعة - احتاج إليها ليكمل مدماكا في بيته الجديد، فأخذ يرغي ويزبد كأنما قتل أحد أولاده: لا كبير ولا صغير، هذه حجارة عاشرت جدودنا وأفضلت عليهم وحمتهم، لولاها ما بقى منها المماليك من يخبر، فبدلا من أن نبني البرج نهدمه؟ يا خيبتنا تجاه الأجداد!
ومضى يعدد مآثر تلك الحجارة التي اقتلعت من مكانها كأنه يرثي ولدا له مات في عز شبابه: حجارة دهرية تخبر عن تاريخ جدودنا وأعمالهم، هي وحدها تربطنا بضيعتنا وبلادنا، أنطمع بها وننقلها من وطنها؟ أؤكد لكم أنها توجعت، والله العظيم إنها حزنت لما فارقت أخواتها بعدما عاشت معهم مئات السنين. قولوا للشيخ يردها مثلما كانت، وإلا فإنها تنتقم منه ومن الضيعة.
وقعد على حائط البرج يبكي، ثم تناسى المصيبة فطفق يحدث نفسه بصوت عال: «هذا البرج حمى الضيعة مرات، هذا أخو الكنيسة في الساعات السود، كيف يأخذ منه واحد حجرا، وفي الضيعة حجارة مرمية على الطرقات، والمقلع على رمية حجر من بيته؟ أي معنى يبقى للضيعة إذا راح البرج؟ في كل حجر من حجاره وجه جد من جدودي. آه، كلما تغير حيط من حيطان الضيعة أحس كأني فارقت واحدا من عشرائي!» «يا مرين، يا مرين، هاتي لي أتغدا يا جدي.»
ولما تيقن أنها سمعت قال لنفسه: أريد أن آكل بين أصحابي وأحبائي.
ثم أخذ يمر يده بحنو على وجه حجر أمثل في البرج كأنه يداعب جدا محبوبا، وألقى نظرة على الجبال القائمة حوله، فخال أنه أحاط نظرا بالمسكونة كلها، فقال: ما أجملك يا بلادنا وما أحلاك!
وسأل نفسه كعادته: قولتكم هاتيك الدني حلوة مثل هذي الدني. من يدريك؟ سلمها ربانية يا بو نعوم.
وفيما هو في هذه النجوى، جاء بضعة كهول ليقفوا على رأيه، الطاعون تفشى في البلاد وظهر في القرى المجاورة فماذا يعملون؟
فصلب أبو نعوم يده على وجهه وقال: الله يرد البلية عن الضيعة، زنروا الكنيسة.
فاستغربوا كلمته، فأفهمهم كيف، فطافوا على بيوت الضيعة واحدا واحدا، وعاد أبو نعوم بعدما تغدى إلى مجلسه على الصفة عند الكنيسة.
وجاءوا بالحوائج التي يعملون منها زنارا: من هنا ملاءة، ومن هناك كوفية، ومن عند هذا ملحفة، وجمعوا كثيرا من الحرير غير المفصل والمخيط من حياكة نساء الضيعة وبناتها.
وحل أبو نعوم كمره عن وسطه ودفعه إليهم، فقالوا له: تعطينا زنارك؟! اتركه، أخذنا من بيتك.
فصاح بهم: خذوا بدني أيضا، بدني من ضيعتي ولها.
وبعد تزنير الكنيسة أمر أبو نعوم أن يحرسوا مدخل القرية، ويمنعوا الغرباء من دخولها.
ولما أمنوا شر الطاعون فكوا الزنار، فكان على من يريد استرجاع حاجته أن يدفع فكاكا، وإذا تركت تباع بالمزاد وثمنها للكنيسة.
وردوا على الشيخ كمره، فقال لهم: فكاكه فيه، نذرته دفع بلاء عن الضيعة.
كان في كمره خمس ذهبات ادخرها ليومه الأسود، ولكن الضيعة وفته حقه حين مات، فجهزوه من مال الوقف، ودفنوه في الكنيسة تقديرا لإخلاصه.
لا! يا بونا
السنبلة تعطيك صورة ست الإخوة، فهي مثلها استواء قامة وانحناء رأس، تزدحم في وجهها المعاني الطريفة: فالعينان كالماويتين
1
تجول فيهما عذوبة مرحة، وتستقر في أعماقها أحلام قصية، والأنف كأنه أصبع الإرادة العنيفة يملي ولا محيص،
2
ولولا ما في فمها وعينيها من وداعة، لكانت أصدق تمثال للعناد، في خديها نونتان
3
تتحدثان عن أنوثتها المثالية كلما ابتسمت، ذات منطق فعال، يوقظ ما في صوتها من غنة
4
كوامن النفس، وإذا صمتت انبرى جمالها يصدق قول الحكماء: السكوت من ذهب.
سموها ست الإخوة لأنها أخت سبعة، كان لها عمة تدللها وترعاها بمقامهم جميعا، وكلما خطرت أمامها رافقتها بنظرة كلها محبة وقالت: سبحان الخالق، كأنها أنا!
وبلغت ست الإخوة أجلها فتهافت الشباب عليها، وقعد لهم ذوو قرابتها بالمرصاد، فقد جرت العادة على أن يكون أمر البنت شورى بينهم ... تألب عليها بنو عمها، وإخوتها، وأعمامها، وأخوالها، وأمها العنيدة، حتى والدها المفلوج؛ ليزوجوها شابا دميما،
5
ولكنه منسوب العم والخال، كثير المال ... كان لكل منهم مأرب إلا أمها التي ذاقت طعم القلة فتمنت البحبوحة لبنتها، بعدما علمها الدهر أن الحب ماض والثروة باقية.
وبعد طوفان من النصائح الثمينة، قالت الأم لبنتها تسهيلا لأمر هذا الزواج، وفكا لهذه المشكلة: عودي نفسك عليه.
فضحكت ست الإخوة وقالت: أهو أكلة يا أمي؟
فأجابتها: أي نعم، كل شيء عادة.
وجربت ذلك ست الإخوة فوجدت مرشح أهلها قريبا أكره منه بعيدا.
أما عمتها التي تحبها فكانت تنفض طوقها كلما استشارتها وتجيبها: أنت حرة، من يغصبك عليه؟!
ولما أطبقت الكماشة فكيها على ست الإخوة كانت تقف عمتها ست البيت حيالها، وتهم بالكلام ثم تنثني، وكثيرا ما كانت تدنو منها فتضع يدها على كتفها، وترفع حاجبيها وتكاد تنطق، ثم تعدل ولا تقول شيئا. وإذا كانت ست الإخوة قاعدة وضعت عمتها يديها على خصرها وانحنت نحوها، ثم تستوي ولا تقول شيئا.
فقالت لها ست الإخوة يوما: احكي يا عمتي، لا تبلعي كلامك. ولكن العمة انقلبت وهي تقول: ماش،
6
ماش.
فقالت البنت لنفسها: حيرتني عمتي يا بشر!
وتذكرت يوما كلمة كان يرددها أبوها كلما اغتاظ من عمتها: قصتها لا تنتهي إلا في القبر. فراحت تبحث عن تلك القصة.
إن المعضلات
7
كالأنشوطة،
8
فبينا تراها معقدة إذا بها تنحل بغتة. فقالت ست الإخوة: عمتي! عملت أحسن عمل واسترحت من هموم الدني.
فتجهم وجه العمة وقالت: هذي إرادة الله فيه، تعب ساعة ولا كل ساعة، الله ساعد.
فاستنجدت ست الإخوة بما عندها من دلال وغنج وقالت لعمتها: الله، الله قال لك: ابقي عزبة يا عمتي!
فضحكت ست البيت وقالت: ليتك تقبريني ما أحلاك! ذكرتني أيام عزي. لا يا حبيبتي، الله ما قال لي لا تتزوجي، ولكن الناس. كل البلاء من الناس. - لا تضحكي علي ... كيف؟ بحياتك فهميني، الفخ منصوب قدامي.
فسكتت العمة وحدقت إلى بنت أخيها، فكادت أسرارها تنهض من أثلام وجهها، وفتحت فمها لتقول شيئا، ولكنها أطبقته، فغمرتها البنت بالقبل، فأبعدتها عنها بلطف، وقالت لها وعيناها تتغرغران بالدموع: قومي، روحي نزور القربان
9
ونرجع.
وهناك في ظل الكنيسة العتيقة التي كانت هيكلا لأدونيس منذ ألفي سنة، وقفت ست البيت واتسعت حدقتاها فبدت كنبي يوحى إليه، فضربت كفها على خد باب الهيكل وقالت بلهجة جندي يتحدث عن معركة ربحها هو: «لو كان لهذا الحيط لسان حكي وشهد! قصتي قصة عظيمة يا بنتي، كل من عرفوها صاروا في ديار البلى،
10
ما بقي منهم إلا واحد لا غير، هو أبوك. قصتي مثل قصتك تماما يا حبيبتي.
سمعت قول المثل: «عروس في الإكليل لا تعرف لمن تصير»؟ أنا صدقته بالفعل. اسمعي الخبر: كنت أحبه من كل قلبي، صدقيني إذا قلت لك: حبه معشش في عظامي. شب مثل السبع، طلعة أسد، ولفتة نمر، ما خلوني آخذه، قطعوا «التحليلة»
11
ليزوجوني غيره، وعينوا الوقت يوم الخميس في جمعة المرفع.
12
تواجهنا قبل الإكليل بيوم، فضربت صدري وقلت له: أنا لك.
فتعجب المسكين وقال: والتحليلة؟!
فقلت: لها حلة.
وقعدنا نتفق على خطة ... فجن المسكين، وسقط على يدي، فقلت له: اقعد بعيدا، ما لك حق. وحق القربان الطاهر، ما سمحت له ببوس ذيل فسطان عمتك.»
فقالت ست الإخوة: بحياتك يا عمتي، سمي لي إياه.
فضحكت وقالت: اسمه مثل اسم صاحبك: مخايل.
فشهقت ست الإخوة وضربت كفيها على ركبتيها، فقالت العمة: اسمعي، اتفقنا على خطة ما عملتها مرأة قبل عمتك الحقيرة بعيونكم. - لا يا عمتي، حاشا قدرك.
13 - بلى يا عيون عمتك، كل ابن عصر يستصغر من كان قبله.
وسكتت ست البيت هينهة حسبتها بنت أخيها ساعة، وتعلقت عيناها بوجه عمتها فتصورتها بنت ثلاثين، انبثق في وجهها نور جديد كان أشد وضوحا في عينيها، لم تشأ البنت أن تقطع صمت عمتها.
كانت ست البيت مكركمة
14
في ثيابها ككل عجوز في شباط، ولكن ست الإخوة خالتها غصن بان، ولما لم تستطع صبرا قالت لها: وماذا صار يا عمتي؟
فهمهمت
15
العجوز، ثم تنهدت وقالت: برزوا
16
عمتك برزة ما لها مثيل، وعمتك كانت ست زمانها، وطلعنا من البيت بين حداء
17
الشباب، وزغاريد
18
النساء، ووقفنا في صحن الكنيسة، جماهير، كانت الكنيسة محشوة مثل الرمانة، وبدأ الخوري يكلل، وتعجب الناس من وجود مخايل فشكروه.
وقرأ الشماس «الرسائل»:
19
يا أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن كما لربنا؛ لأن الرجل رأس المرأة؛ فاصفر وجه مخايل، فغمزته فاشتد حيله.
20
وتابع الشماس: لأن الرجل رأس المرأة، كما أن المسيح رأس الكنيسة، وكما أن الكنيسة تخضع للمسيح، هكذا فلتخضع النساء لأزواجهن في كل شيء.
وبعد «البولص»
21
قرأ الخوري الإنجيل: «ذكرا وأنثى خلقهما، لأجل ذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، ويكونان كلاهما جسدا واحدا، فما جمعه الله لا يفرقه الإنسان.»
وأخذ الخوري يوجه إلي النصائح، فقال كما سمعت عدة مرات في الإكليل: وأنت أيتها العروس المباركة قد سمعت ما قلته لزوجك.
فصار مخايل يخضر ويصفر ويزرق مثل جمل اليهود،
22
فغمزته فتنشط. وأتم الخوري: فالوصية لكما معا، فعليك أن تكوني خاضعة لزوجك كما للرب، ومطيعة له في كل شيء ما عدا الخطية. قدمي له كل كرامة ومحبة، واخدميه في جميع لوازمه. كوني وديعة، فاضلة، عفيفة، حسنة الأخلاق كالنساء التقيات، فالمرأة العاقلة خير من الجوهرة الثمينة.
فضحكت البنت حين سمعت عمتها تروي كل ما جاء في رتبة
23
تكليل العرسان عن ظهر قلب، وقالت لعمتها: حفظت كل هذا! الخوري العتيق بالكد يعرفه.
فأعجب العمة هذا الثناء وقالت لبنت أخيها: عمتك بنت أخوية، كانت ريسة، لا أحد غيرها من بنات الضيعة كان يقرأ ويكتب، صوت حلو، وتلحين ملائكي يسكت الخوري والشمامسة.
ثم استأنفت الحديث بقولها: لا تضيعيني، خليني أكمل لك قصتي: وجد الجد فقال الخوري للعريس: أيها الابن الحبيب لاوندس، أتريد أمة
24
الله، ست البيت هذه، الواقفة هنا، زوجة لك؟ فكان لاوندس أرشق من النسيم وجاوب: نعم، نعم، يا معلمي.
والتفت إلي الخوري وقال: وأنت أيتها الابنة المؤمنة، ست البيت، أتريدين عبد الله لاوندس هذا، الواقف هنا، زوجا لك؟ فما جاوبت.
قال البعض: مستحية، مستحية.
وقال غيرهم: قالت نعم، كلل يا محترم.
فقال الخوري: ما سمعت، وأعاد السؤال.
فأجبته: لا، يا بونا.
فطلع صوت من خلفي يقول: البنت صندوق مقفول،
25
هذي ما صارت.
وماجت الخليقة، وكل من معه كلمة قالها. هذا يقول لي: عيب. وهذا يقول: لا تخيبينا يا ست البيت. وأنا مصرة لا أقبل.
فقال الخوري: وأخيرا يا بنتي؟
فجاوبته: الأخير مثل الأول.
وهم الخوري بقلع البطرشيل،
26
فقال عمي: امهل يا بونا،
27
أنا أقنعها.
فطار صوابي إذ ذاك وقلت للخوري: اشهد يا محترم، أخذت مخايل بطرس زوجا لي.
وصرخ مخايل من بين الناس: اشهد يا بونا، أخذت ست البيت زوجة لي.
وحمي الشر يا بنتي، وجرى الدم ...
انقسمت العرب عربين،
28
ما بقي على المذبح شموع وشماعدين، كسروا العكاكيز، ضرب بالكتب، بالمباخر، بحق البخور،
29
ما سلم إلا «الكاس».
مسكين هذاك الخوري، كان روح قدس! فشل، ورقصت لحيته على الحبل. - وأنت ايش عملت؟ - أنا ايش عملت؟ كنت حاطة روحي على كفي. - والزواج؟ - ثبت يا بنتي، ولكنهم «حرمونا»
30
مدة، فخرقت في البيت. - وأخيرا؟ - وأخيرا، الكنيسة حليمة، حلوا الحرم، وسبقني مخايل إلى أميركا كما اتفقنا، وهناك مرض المسكين بالحمى ومات، ورجعت عمتك من مرسيليا.
سمعت قصة عمتك يا بنتي؟ هذي هي.
فقالت ست الإخوة: إذن «اشهد يا بونا» تغني عن صلاة الإكليل.
31 - معلوم، معلوم، كأن «الصلاة الفرنجية» معمولة لحفظ حرية البنت الضعيفة. - وإذا كان العمل جائزا وصحيحا، فلماذا حرموكم؟ - الزواج صحيح ولكنه غير جائز، وقلما يحدث، ويعد تمردا على ما رسمته أمنا الكنيسة المقدسة؛ ولهذا ما استصوب الناس عملي، ولكن أنا رأيته أحسن من تركيب القرون ... مسألة الحب طبيعة لا تتطلب فلسفة، والضعيفة فيها بطل، فكيف إذا كانت جبارة مثل عمتك؟
المسيح أقام العازار من الموت لأنه كان يحبه، فكيف أقبر قلبي إلى الأبد؟ لي فرد قلب.
سمعت قول المثل: «ظلمك خوريك» لا تصدقي، لا الدين ولا الخوري ولا الشرائع تظلم، الحق كله على الأهل، وعلى البنت الجبانة.
قولي لا، واستريحي طول العمر. الناموس ضروري، وإلا صارت الناس مثل البهائم، ولكن الناموس لا يجبر الناس. ايش معنى قولهم: بسمت الله ورسوله؟ أي: بناموس الله. وإذا تعدى الناس على الناموس فالحق عليهم.
صدقيني إذا قلت لك: لا تمر جمعة حتى أبصره في نومي، وهذي أكبر تعزية.
فتبسمت ست الإخوة، فقالت لها عمتها: اضحكي، صدقيني إذا قلت لك: كلما قلت فعل الاعتراف ووصلت إلى قولي «مار مخايل وجبرايل»، يقشعر شعر بدني، وأهتز من كعب رجلي إلى قرص مخي.
32
مسكين مخايل! لا تضحكي يا بنتي، الحب المتين لا يموت، وكل فرس لها خيال.
قومي نرجع، اكتمي السر ودبري أمورك، البنت من طبعها الحياء، قوي قلبك وكبري رأسك، لا تنساقي مثل النعجة ... خلاصك في يدك يا إسرائيل.
ولما اشتد الضغط على ست الإخوة دخلت على أبيها الذي ما عاق دفنه إلا بقية نفس تتردد بين الجلد والعظم، وهناك صرحت لوالدها بما في نفسها.
فألقى عليها والدها نظرة يأس، ثم اصطكت أسنانه، وقال بصوت كأنه آت من بعيد: البنات من صدور العمات، روحي يا بنتي، الله يستر عليك، نحن في غنى عن «صلاة فرنجية» ثانية ... بيتنا معود ...
ميلاد
- الضغط يولد الانفجار، انفجرت يا جماعة.
ثم أخذ يحدث نفسه عادا أصابع يده اليسرى: يا ميلاد، عش البقرة والعجل، ميلاد سرح العنزات.
1
ثم قال يقلد صوت أمه: ميلاد، بحياتك، تملي الجرة. وبعد سكتة كأنها تفكير انتفض وصاح: ما بقي إلا يا ميلاد كنس البيت، يا ميلاد غسل الصحون، يا ميلاد غسل الثياب، يا ميلاد اعجن، ويا ميلاد اخبز ... وأين الموت يا هو؟ ما عندي دقيقة أحك رأسي.
فتضاحكت أخته فروسينا، فانفجر غضبه وكشر عن نابه متهددا فتضاحكت وقالت له: الذي يسمعك تحكي يقول إنك خوري مرقص غرقان بين كتب اللاهوت والسرياني حتى ينسى غداه وعشاه. هذا شغل الفلاحين مثلنا يا عيوني، أنا قاعدة، وأين أمك؟ وأين أبوك وإخوتك؟ كلهم في الشغل.
وقع هذا الحديث في أذني الوالدة، فألقت عن كتفها حملة الحطب، ووقفت تتنصت، ثم دخلت وهي تتكلف الابتسام استرضاء لابنها ميلاد الساخط، فقال حين رآها: جاءت الجنية، حرمة ما لها دين، لا تستريح ولا تخلي أحدا يستريح.
فقالت له بعطف وحنان: ايش قلت يا روحي؟
فأجابها ميلاد بهزء وسخرية: ماش يا روح حالك، ما أحلى لسانك وأكثر مطالبك! - بلى، سمعتك تحكي. - لا بلى ولا ملا، بيت مثل جهنم، عيشة مقرفة مثل وجوهكم.
قال هذا ومشى وهو يطبطب،
2
ومشت أمه من على يمينه تداعبه وتراضيه، وظلت تطايبه حتى انفجرت ضحكته المعهودة، فهدأت قدره الفائرة.
ورجعت الأم وهي تقول في نفسها: الحق معه، حياة كلها تعب وشقاء، مسكين ميلاد، ما رأى يوما أبيض!
ومر في خاطرها فكر عنيف اسود له وجهها. وسرعان ما تكشفت تلك الغيمة السوداء حين لاحت جارتها على الطريق، فرشقتها بالحديث من بعيد: كل الأولاد صاروا مثل ابنك يا أم سعيد، البلية كلها من ابن أغناطيوس، قعد يومين في بيروت ورجع أمس، ومعه أخبار يا أم سعيد! أخباره أشكال وألوان، الأولاد عقلهم قليل، داري ابنك وإلا فالخسارة عليك يا أختي.
فأقبلت أم سعيد على جارتها تستفهم، فوقفتا على قارعة الطريق. في يد أم سعيد سل
3
فيه أشياء، وتلك جرتها ملآنة على كتفها. دار الحديث نصف ساعة وأكثر، ولو لم يمر «نقادة الضيعة» الناعي على نسائها هذه الخصلة، ما انزوت أم سعيد في بيتها، ولا ذهبت حاملة الجرة في طريقها.
أزعجت أخبار حاملة الجرة أم سعيد، فرقصت شفتاها الضخمتان رقصة هينة، وغل
4
الخبر يديها، فأمست لا تدري ماذا تعمل، تبدأ بعمل ثم تتركه، وظلت كذلك أكثر من ساعة. وأخيرا تذكرت أن الظهر قد قرب وأن زوجها سيعود ليتغدى، هو لجوج لا يرضى بغير الطبيخ أكلا، وخصوصا الضخم منه، شعاره: لا يحمل الركب غير البطن. فوضعت القدر على النار وشرعت تنقي العدس، ولكن أخبار جارتها ظلت تشغل عقلها، وبينا هي شاردة الذهن إذا بجارة أخرى تمر، فصاحت بها أم سعيد بعد رد الصباح: تفضلي!
فتفضلت، ونشر بساط البحث. كان الموضوع ابن الجيران العائد من بيروت، فأقلق القرية الهادئة. وطال الحديث، فنصب ميزان الدينونة. استعرضت المرأتان بيوت الضيعة واحدا واحدا، ثم قر رأيهما على أنها حالة لا تطاق: الكبار راحوا إلى أميركا، والصغار سينزحون إلى بيروت، ولمن تبقى الأرزاق والبيوت؟
وتنحنح أبو سعيد وسعل، ففرت الجارة من الباب الغربي، ودخل هو من الباب الآخر يشخر وينخر، وقبل أن يصبح ابتدرته أم سعيد بيعطيك العافية.
فرد من رأس شفتيه، وتنهد، وقعد فملأ الحصيرة، قال: الحمد لله. فردت أم سعيد كالعادة: كل ساعة. وبعد أن شرب دورق
5
ماء مسح شاربيه بيده، وأومأ مستفهما من زوجته عن تعبيسها، فقالت: اسكت يا رجل، أخبار بشعة جدا.
فقهقه أبو سعيد وقال: بحياتك، قولي لي، متى كانت أخبارك مليحة؟ قلت لك ألف مرة: لا تحملي السلم بالعرض، وصي على غير هذا الوجه يا أم سعيد.
فامتعضت، ولكنها لم تجبه على تهكمه لئلا يقوم القرد.
6
وبعد محاولات واستعدادات انفتح فمها وقالت: الكلام بيننا. فقاطعها: لا تقولي الكلام بيننا، ويكون الكلام بين سيقان الدجاج.
فبهتت وسكتت، فقال: طيب، احكي.
فقالت: ابن جارنا البيروتي لعب بعقل الصبي، حلى في عينه عيشة بيروت، ربما راح معه.
فقهقه أبو سعيد وصاح: صدقت يا مجنونة؟ وإذا راح يرجع مثل الكلب، اتركيه يكشف بخته، متى تغرب يعرف أنه عائش بنعمة.
فتطلعت إليه أم سعيد بعينين واسعتين، فقال لها: كليني بعينيك، بومة!
7
ما عندك إلا بشائر النحس.
فنابت دموع الأم عن الكلام، وتأثر أبو سعيد أول مرة في حياته، فذهب في الكلام مذهبا آخر، وقال لزوجته بوداعة: خلينا نعيش يومين مثل الناس، نسيت قول المثل: «قلبي على ابني وقلب ابني علي الحجر»؟ الله معك، قومي غدينا.
فرضيت المسكينة وقامت، ولكنها تذكرت أن ولدها ميلاد لم يعد بعد، فاستمهلت زوجها ريثما يرجع، فأبى.
وتغدى وعاد إلى عمله، فالطقس ملائم، وعنده أشياء يجب أن يتمها قبل أن يخر المزراب.
8
الجو معكر، والبرق مشتعل منذ ليال.
وفي المساء شاءت الأم أن تفاتح ولدها بحديث بيروت، فقطب أبو سعيد جفنيه الرهيبين، فارتعدت.
وغدا ميلاد إلى بيروت غدوة امرئ القيس، غاب الولد فانتظروا يومين ثلاثة، وأخيرا عرفوا أنه في المدينة. وانقضت جمعة وجمعتان، وميلاد لم يرجع.
وسرت الوشوشة في الضيعة: ابن ابو سعيد دائر على أبواب الناس، جوعان عريان ... ولكن الخبر لم يبلغ أذني أبي سعيد الكبيرتين؛ لأنه لا يخالط البشر، لا يؤمن بغير الحقل، وليمت جوعا من لا يعبد الأرض. مذهبه: من لا يزرع لا يشبع.
أما أم سعيد فعرفت أخبار ولدها من حاملة الجرة، الملقبة بالضيعة «بالبوسطة » لثرثرتها، فقعدت تبكي، وقبل عيد الميلاد بيومين قالت لزوجها: اسمح لي فتش عن ميلاد. وقبل أن يقول لا، اندفعت تقول وعيناها عالقتان بوجهه: بحياتك اسمح لي. كيف يمر عيد الميلاد والصبي غائب عن البيت؟
فعبس أبو سعيد، فقالت بانكسار: بحياتك، قل لي: روحي. - روحي، مع السلامة يا أم سعيد، ولكن خيطي فسطانك، له نصف سنة في الصندوق، وكندرتك؟
فأجابت: الفسطان نخيطه الليلة، وأستعير كندرة أم حبيب.
فاستضحك وقال: خيطي على مهلك، الفرس ما قلعت التوتة.
9
بيتربى أحسن إذا ما خليناه يعيد في بيروت. - لا لا لا لا لا. - طيب، الحق معك، اركضي، الحقيه.
وخافت أن يسترد أبو سعيد الإذن فلم تخيط شيئا. استعارت كل شيء حتى النعال والجوارب وغيرها ... وكان ليلة عيد الميلاد في بيروت.
لم ينفتح لميلاد باب رزق في بيروت، فأمثاله في المدينة مثل الجراد الزحاف: هذا يعتل، وهذه تشحذ، وذاك ينشل، أما ميلاد فحاول ذلك كله فأخفق. لم تسد العتالة والشحاذة جوعه، فذبل حتى كاد ييبس، وتوسخت ثيابه وتمزقت، فأصبحت الناس تتقزز منه فيزجر ليبتعد.
وسمع المسكين أن الناس يحسنون ليلة الميلاد ونهاره فاستعد للمعركة، ولكن ضفادع بطنه كانت تنق، وسيقانه لا تحمله، تذكر قول والده: التين مسامير الركاب.
10
فتحسر على لعقة
11
تين، ومشى في السوق كأنه البؤس متجسدا.
رأى شجيرات عيد الميلاد منصوبة عند أبواب المخازن فضحك منها، ولكنها ذكرته تينتهم الشتوية فتأوه، ثم مشى بعين مكسورة يفتش عن الرغيف، والرغيف دولاب هيهات أن يدركه بائس مهدود مثل ميلاد! والتفت فرأى ديوك الحبش مسموطة ومعلقة بمناقيرها فظنها دجاجا فهتف وهو ماش: يا بارك الله! هذا دجاج.
وهاجته وسوسة
12
الملاعق ورنات الكئوس هنا وهناك، فتذكر فطور أمه يوم عيد الميلاد عام أول، وتنهد وزحف بعزم قاصدا ساحة البرج، وأزجت
13
عليه الشمال جامد البرد فوحوح،
14
وتذكر الغارة التي كان يشنها على خابية
15
النبيذ فتحسر على مصة.
ولما أعياه الطواف لطي قرب كاتدرائية مار جرجس، ومد يده أول مرة وصرخ: حسنة عنكم يا أجاويد، دخيلكم! جوعان.
ومرت الناس وما وقف عليه أحد، طرحت له بضعة أنصاف قروش، ولكنها لا تشتري رغيفا، وحمي صراخه فازداد عددها قليلا، فوضعها في لبادته المزفتة.
كان يصرخ ويحسب، فإذا معه ثمن رغيفين، فحمد الله، وتذكر الآية الإنجيلية القائلة: «اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم.» فراجعه توجعه وأنينه، وطفق يتحمس ويجد في التمسكن حتى استولى على أمد بلاغة هذا الفن، ولكنه لم ينتفع لأن الازدحام على مورد «مغارة الميلاد» كان قد خف.
فحبس ميلاد لسانه، وشرع يحسب ما في اللبادة
16
حسابا نهائيا، فضمن العشاء، وبقي له ما يفك به ريقه أن أصبح، فتوكل على الله ونهض، فما كاد يستوي حتى بطحه أزعر
17
من لداته
18
واختطف القبعة وطار.
فزعق
19
ميلاد زعقة منكرة وهم باللحاق به، فدوخه الجوع وسقط كومة في مكانه.
وكانت امرأة تشاهد عن الرصيف الآخر صراع بائسين من صبية الأزقة حول الرغيف، فرق قلبها وحركتها الشفقة حتى اندفعت إلى حيث الصريخ. مشت وهي تتعثر بأذيال فسطان أطول منها، تكوكي
20
وتخمع
21
كأن حذاءها ضيق، وقد كادت تسقط في حومة الطريق لو لم تتشدد.
وبعد ألف جهد وصلت إلى حيث يتكوم الولد المغلوب، فوقفت عليه وعيناها تتغرغران بالدموع، ثم كرجت على خديها حارة تكاد تحرقهما. وبعد هنيهة تأمل، لا يعلم أحد ما وفد فيها من ذكريات على مخيلة تلك المرأة، رأت نفسها تهتز للإحسان، مندفعة إليه، على قلة ما في جيبها من مال.
وأخيرا امتدت يدها إلى الولد فهزته، وقالت له وهي بين الوعي واللاوعي: قم يا ابني، تعال معي، أنا أعشيك.
فشق ميلاد عينيه وصاح: أمي!
مغرور
عرك سياسة القرية وعركته فتوهم أنه بسمرك زمانه أو عبد الحميد، ومتى تمطى بصلبه
1
وقعد يخبرك عن بلائه الحسن في المعارك الانتخابية، تخال أنه يضع من يشاء، ويرفع من يشاء. يظن أنه يقص عليك أحسن القصص؛ فيستمكن من الكرسي ويرفع طربوشه الدهري عن جمجمة كأنما خطت بالبيكار، قلت جمجمة لأن الجزر بلغ أقصاه في ذلك الرأس.
ألقيت عليه نظرة بلهاء، وكدت أتوه في عالم التأمل لو لم يهزني بعنف ويهتف بي: أعجبك رأسي؟ يا ما مر على هذا الرأس من مصائب وبلايا! ضربات لا تهر الشعر فقط، ولكنها تهد الجبال الشامخة. تحب تسمع؟ سماع أخبارا تشيب رءوس الأطفال.
ثم تطاول ونظر بعيدا، فالتفت لأرى ما يرى، فإذا به يقول لي: ما لك؟ فقلت: لا شيء.
ودعمت رأسي بيدي التنتين لأمكن عيني من وجهه الطريف علامة الإصغاء. أما هو فأخذ يحكم قعدته ويرتب فناجين القهوة على الطاولة. كان يعبث بها ويلتفت نحوي، وأنا أنتظر وهو يتهيأ.
وبعد دقائق أظنها لا تقل عن العشر، قال: نعم. قلت: نعم. قال: ماذا تريد؟
قلت وقد كدت أنشق من الغيظ: قلت لي سماع حتى أخبرك، وأنا أنتظر منذ ربع ساعة.
قال: اسألني يا صاحبي، عندي مليون قصة، عمن تريد أن أخبرك؟ تريد أخبارا قديمة أم جديدة؟ أنا تاريخ من لحم ودم.
قلت: عرفت.
قال: عرفت ... ثم كركر
2
في ضحكته الصاهلة وقال: قلت عرفت، هذا غلط. حقا إنني لا أعرف ماذا أعرف.
قلت: حديثك غريب اليوم يا خواجا مخول، لا أفهم قصدك.
فقال: أشرح لك، معناتها لا تسأل، يعني بحر له أول ما له آخر.
ولما يئست منه قلت: والآن ماذا تعمل في المدينة؟ طلقت الضيعة؟ كلما جئت بيروت أراك في هذه الساحة.
فمد نحوي رقبة زهاء فتر،
3
وقال كأنه يفضي إلي بسر دولي: موعود.
لفظ هذه الكلمة مقطعة مفخمة، ثم أعاد تلك الرقبة إلى نصابها وتثاءب، فوجدتني تجاه فم كأنه مغارة قاديشا، تتدلى في سقفه وترتفع من أرضه بقايا أنياب وأضراس ... وكأنه أحس كراهية ذلك المنظر فاتقاني بيد أصابعها كالموز، ثم استرسل في الحديث وقال: كل هؤلاء الجالسين على الكراسي أعرفهم كما تعرفني وأعرفك. أمس تعشيت عند فلان، وأكد لي أن غرضي مقضي، ولولا بعض مشاكل داخلية وخارجية مستعجلة كنت على الكرسي من زمان. كل هؤلاء لولانا ما وصلوا.
فأجبته: ما فهمت.
فتضاحك وقال: بلى فهمت، لا تتجاهل، وصلك مثلما وصل غيرك ما عمله مخول لإنجاح الجماعة. يقولون لي من بعيد: كيف حالك على الفضل؟
قلت: طيب، سلمنا بهذا، ولكن أية وظيفة تقدر عليها أنت؟
فطفق يفح كالصل،
4
ويتلوى على كرسيه، وبعد همهمة وتمتمة، قال بغضب: أنا؟ أنا أي عمل أعمل؟ كل هؤلاء أولادي، ما عرفوا من السياسة والإدارة ربع ما عرفت، أعرف الأقلام الأربعة
5
بلا غلط، هذي أساس علم الحساب، الوظيفة لا تحتاج إلى أكثر. خطي جميل جميل أكثر مما تتصور، كتبت لمعالي الوزير مكتوب تهنئة، ولما التقينا البارحة قال لي: سمعت عن خطك وما صدقت حتى وصلني مكتوبك، هذا خط يدك يا مخول بيك؟ فقلت له: وخط من يا سيدي؟ فقلب شفته وقال: الرجال مخبأة في ثيابها، قليل في الدولة من يخط مثلك.
فعندما سمعت هذه الكلمة ضمنت المركز وتأكدت أنني سأعين في هذين اليومين.
وشرع ينبش محفظة كجراب الكردي وهو يقول لي: هذا مكتوب الوزير، وهذا كرت المدير. كان يلقي كل ذلك على الطاولة ليريني ما كتب على الظرف، وأخيرا صاح: لقيته ... تفضل، هذا خطي ...
وبعد استراحة قليلة صاح بي: آه! لولا تعرف كم تعبت قدامهم وكم ركضت؟ يشهد علي ربي، ما كنت أنام الليل، أترجى هذا وأراضي هذاك ... الغاية وصلناهم، وصلوا وما زالوا حافظين الجميل، ما التقيت بواحد منهم إلا بش لي وقال: ننسى حليب أمنا ولا ننسى أفضالك.
قلت: ولكن كل اعتمادك على الجداول الأربعة والخط، وهذا لا يكفي، أخاف أن تعلق وتخيب، الخيبة مرة.
فضحك وقال: أنت خائف على مخول؟! أنت لا تعرف داعيك؟! والله ثم والله، أنا أنزع الدبس عن الطحينة،
6
خوفك في غير محله.
ثم أخذ يهز برأسه ويقول: هذا مخول، أنت خائف على مخول؟! خوفك في غير محله.
قال هذا وهو يحدق إلى وجهي كأنه يريد أن يأكلني بعينيه، وأخيرا صاح بعدما لطم الطاولة بجمع يده: الدنيا وهم يا صاحبي، لا بد من الجرأة، إذا لم تخف من المقام ركبته، وإلا ركبك. والحمد لله تعالى قلبي أشد من الحديد، كثرة الدعاوى صيرتني أعرف «الشريعة» مثل محام كبير، وتقلب الدول علمني السياسة، لا يهمني شيء بإذن الله ودعاك. - ألا تظن، يا مخول بيك، أن المركز يضرك ماديا ولا ينفعك؟ فجنابك - كما سمعت - صاحب عقارات واسعة تدر عليك أكثر من دخل وظيفة صغيرة تجد وراءها منذ زمان.
فتطاول للفظة بيك، وصفق تصفيقا حادا التفت له كل من في القهوة: هات قهوة يا صبي، عجل علينا.
ثم فتل شاربين معقوفين وقال باستهزاء: من خبرك أنها صغيرة؟ لا، لا يا خواجا بطرس، أنا موعود بوظيفة أكبر مما تفتكر، غدا تعرف.
قلت: هبها كبيرة فأنت في بيتك أكبر منها، والتوتة والزيتونة والعريشة والتينة أكرم من صندوق الحكومة، الناس يدارونك اليوم وأنت لا تداري أحدا، وغدا متى توظفت تضطر أن تداري من يداريك وتستعطف من يلتمس رضاك لتثبت مركزك، وإذا جرت الرياح بالعكس فهناك المصيبة يا مخول ... يا مخول بيك، الصواب ألا تقبل وظيفة.
فامتعض وبان الكدر والغم في وجهه وقال لي: السر بيننا، الحق معك، ولكن ينكيني ناس كانوا خداما عند المرحوم جدي واليوم صاروا يأمرون وينهون، تستقبلهم الناس كأنهم شيء عظيم. بحياتك قل لي، كيف أبقى في ضيعتي بين فلاحين يصبحوني ويمسوني، وإذا حولت ظهري قالوا في قفاي: تأملوا ابن فلان أين صار، وهذا غارز كالوتد. هذاك صار شيئا من لا شيء، وهذا يدلل كل يوم على قطعة أرض، ويكون سعيدا إذا لقي من يشتري. - ولكن أنت واثق من هذه الوعود؟ - مؤكد - وشد على الكاف شدا عنيفا - بهذين اليومين ينتهي كل شيء.
قلت: وفقك الله، هذا ما نتمناه.
وتهيأت للنهوض فقال: اقعد، ما انتهينا بعد. إذا احتجت إلى شيء في المستقبل فأنا مستعد، تعال صوبي، ما غايتي من الوظيفة أن أعمر بيتي، غايتي خدمة إخوان وأصحاب مثل فضلك ... ونكاية بجيراني، ظنوا أني عاجز عن وظيفة؛ ولذلك حلفت للأولاد يمينا أنني لا أرجع إلى البيت إلا والمرسوم في عبي.
قلت: ولكن أراك في هذه الساحة منذ سنة وأكثر.
قال: ما سمعت؟! قلت لك: حلفت ألا أعود إلا ظافرا.
وهممت بالنهوض فصرخ: اقعد، دائما مستعجل.
فقلت: علي قضاء أشغال كثيرة والشمس كادت تغيب، أستأذن. - إذنك معك.
وما خطوت بضع خطوات حتى ناداني وهرول
7
نحوي، ولفني بذراع كأنها يد القدر، وانحنى على أذني يوشوشني، فأبديت أسفي. فقال: بس بس، خمنت
8
أنك ميسور، فقلت تقرضني مائة ليرة أردها لك بعد يومين ثلاثة، بعد التعيين القريب جدا.
ورحت أسعى في قضاء حوائجي، ثم عدت عند الدغيشة
9
فرأيته قابعا في مكانه، ينتظر أوب
10
الناس إلى بيوتهم ليستنجزهم ما وعدوه به، ولكنه قلما يحظى بالمواجهة ... لا يظفر إلا بهذا الجواب التقليدي لقارعي الأبواب من أصحاب الحاجات: البيك ما رجع، غائب، في الجبل، الأفندي مدعو إلى حفلة شاي، وهكذا دواليك ...
ومرت شهور انقطعت خلالها عن زيارة بيروت، ولما هبطت إليها وجدته حيث كان في تلك الزاوية من القهوة، فضحكت وقلت: كيف الحال يا أخا ساحة البرج؟
فأجاب فورا: قال لي: اغد علي، انتهى كل شيء.
قلت: ما أطول بالك!
فقال: الصبر مفتاح الفرج، صبرنا ولقينا.
قال هذا وهو ماش، ثم التفت إلي وقال: لا تؤاخذني، الآن أجدهم في البيت، هذه الساعة المناسبة، وإلا أفلتوا من اليد.
وجعلت أتأمله فخلتني رأيته منذ عشر سنوات: أصفر هزيل، ثياب رثة وسخة، إطار طربوشه مسود كأنه مصبوغ بفحم القدر، عيناه غائرتان حتى تخالهما قابعتين في كهف، خفت خطواته وذهب نشاطه.
ولاح له البيك على الرصيف المناوح فعلق يناديه، والبيك يتغافل ولا يريد أن يسمع، فشمر
11
مخول للحاق به، فكانت مباراة مضحكة أحرز البيك فيها قصب السبق وصعد إلى حافلة التراموي.
وأبى مخول الهزيمة وقد كره المواعيد والتهرب، فصاح: يا سيدنا، يا بيك! والبيك يشق طريقه في الحافلة غير حافل.
وتعلق مخول بمتكأ التراموي تعلقا غير محكم، وكانت محاولة فاشلة، دار دولاب القدر دورته فإذا بمخول يترك إحدى رجليه تحت الدواليب.
قاطع طريق
عاد بو خطار إلى بيته أشعث
1
أغبر، فعلق بندقيته «بالسكيكة»،
2
ووضع الطبنجة
3
في «الطاقة» إلى جانبها، وجعل ما في عبه وجيوبه وطيات زناره على رف مصنوع من الحوارى، ثم تربع في مقعده عن يمين الموقدة، وجاءت امرأته برسيطا بالإبريق والطست فشرع يغسل رأسه ويحكي.
كان يتوقف عن العمل ليطرح عليها الأسئلة، وكثيرا ما يفعل ذلك والصابون يرغي على وجهه، فإذا لذع عينيه أطبقهما وفتحهما وحكى، وطال حديثه فصبت برسيطا الماء بلا وعي، فانتفض وسب الدين، وسرعان ما أدرك أنه ارتكب خطيئة مميتة، فطفق يستغفر ربه، وينشف وجهه ويحكي، كما يتمشط ويسأل، يسأل ولا ينتظر جوابا، حتى إذا جاء دور فتل الشاربين وإقعادهما على طراز دياب ابن غانم كان صمت عميق.
وبعد دقائق معدودة التفت الأسرة حول طاولتها المستديرة (الطبلية) حيث يأتمرون بقتل الطعام، على فخذ كل منهم رغيف كالملاءة المدنرة، شوكاتهم أيديهم، وملاعقهم من خبزهم. كان بو خطار لا يأذن بالكلام على الطعام، فمن يسأل يجب، وإلا فلينشغل بصحنه لتلقى الأيدي في وقت واحد حول قصعة التين أو الدبس، مشاع الأسرة.
وبعد حمده تعالى على ما أعطى من الخبز، ينثر بو خطار عليهم نصحه وإرشاده، يصلح أخطاء النهار للزوجة أولا، وللعجايا
4
ثانيا، وأخيرا يعود إلى أركان حربه، إلى ولديه خطار وشلهوب، فيرسم لهما خطط المهنة، منددا بما ارتكبا من هفوات في بحر النهار، فيقول لخطار: «جئته من خلف وكان يجب أن تجيء من قدام. قلت له: اشلح وانتظرت، وكان الأوفق أن تبغته، تضربه، أو تصيح به على الأقل صيحة تهتز لها مفاصله.» «وأنت يا شلهوب، لو وقفت على المفرق كما فهمتك، ما هرب ذاك اللعين، مؤكد أن المال كان معه، لا بأس، راحت، خيرها بغيرها، انتبه ثاني مرة.» «اليوم ما توفقنا يا أم خطار، السيدة غضبانة علينا ...»
فابتسمت أم خطار ابتسامة مقهورة، ثم مر بو خطار بشئون أخرى مر الكرام، وتأوه وقال: اركعوا حتى نصلي.
وانتصب كأنه عمود ذهب ثلثه، ورأى أن ركوع أحد بنيه غير واف بالمطلوب، فزجره
5
وقامت الصلاة، الأب وولي عهده جوقة، والأم ولفيف الأسرة جوقة ثانية، وبعد طلبة السيدة
6
زاد بو خطار على «الفرض»
7
بضع مرات الأبانا والسلام، صلاها بحرارة، راجيا من العذراء التوفيق في الغد.
وزحف توا إلى فراشه فاستلقى على قفاه، ثم قال وهو يلتحف: حضري الزوادة يا برسيطا، لا تنسي أنها لنهار الجمعة، اسلقي بطاطا. وبعد هنيهة رفع رأسه عن المخدة وقال لها: الشروال مخزوق، دبريه، والكبران
8
مفتوق. ثم همهم: إن وقعت عليه عيني لأخطفن روحه.
وبعد أن قبع تحت لحافه عاد فكشف عن صلعته المجعدة وقال لابنه: سن السكاكين ونظف القرابينة، حمص البارود لئلا يصيبنا ما أصابنا اليوم.
فأشارت أم خطار بيدها تستفهم، فاستمهلها ابنها حتى غفي أبوه، فقال لها: وقعنا اليوم على اثنين، واحد قشطناه، والثاني هرب. الثاني شب أخو أخته.
9
ثم أخرج خاتما فضيا مكتوبا عليه «يزول»، فامتعضت برسيطا إذ رأته وقالت: هذا هدية لمحبوبته، حرام عليكم.
فأومأ خطار نحو أبيه وقال: قولي له، لا تقولي لي أنا. إن قلت له مرة: حرام، يجن جنونه ويقول: ولد نذل، دائما تقول هذا كذا، وهذاك كذا، قشطهم والعن جد جدهم.
وبعد قليل هدأ البيت إلا من شخرات بو خطار الطالعة النازلة، وكان يتكلم بلا وعي، فيتهدد هذا، ويأمر ذاك بالتسليم، ثم يصيح بولده: نبشه يا خطار.
وأفاق كعادته عند الفجر الكاذب
10
فصلب
11
مرات، ثم قعد يصلي للعذراء في فراشه، وتطول النجوى أحيانا، فيعتذر بو خطار إليها عن تقصيره نحوها، ثم ينذر لها ربع ما توفقه إلى سلبه، كأن يقدم لكنيستها ثريا أو شمعدانا أو بخورا أو شمعا، وإن كان التوفيق عظيما يعدها بجرس شغل بيت نفاع.
12
وبعد صلاة ساعة تقريبا يكونون في طريقهم إلى مربضهم، ووراءهم ابنه الصغير حاملا جراب
13
الزاد.
أما بو خطار فلا يترك مسبحته، يظل يصلي، وإن حسب أنه سها أو غلط بحبة أعادها، يريد حساب الصلاة مقوما، خاليا من السهو والغلط، وإلا فكيف يوفقه مقسم الأرزاق؟
كان يصلي ويفكر بمن يسوقهم إليه القدر، فدق جرس القداس، فصلب يده على وجهه، واعتذر إلى ربه عن تركه القداس ووعده أن يشترك فيه بالعقل والروح.
وبلغ مكمنه مع الشمس، فدق جرس «التبشير»،
14
فحسر
15
طربوشه المغربي عن جبهته بعض الشيء، وركع على البلاطة «يبشر» هو وولداه، ثم ربضوا كل في مكانه ينتظرون الرزق الحلال الزلال ... وقلب بو خطار يدله على أن العذراء راضية عنه، وستوفقه.
وسمع قادما يغني فأشار إلى ولديه فاستعدا، ظل القادم مطمئنا حتى رأى رجلا في يده مسبحة يصلي فارتاع وفشل، تعجب من نفسه كيف يخاف من رجل يصلي، ولكنه أظهر الجلد وحيا باحترام عظيم، فقطب بو خطار حاجبيه كالرفراف وحدجه
16
بعين حمراء ناتئة الجذور.
مشى الرجل وعينه على أنف مثل مطفأة الشمع، فأومأ إليه بو خطار بالمسبحة أن قف، ولكنه تغافل ومشى، فصاح به بو خطار: قف، لا تجربني، اتركني أكمل صلاتي.
فأدرك الرجل أنه وقع بين يدي بو خطار، فقال في قلبه: مؤكد هذا هو.
واستمر بو خطار يصلي والرجل منتظر، وأخيرا دنا منه مشيرا بأصابعه: هات ما معك. - ما معي شيء يا بو خطار. - ما معك شيء يا بو خطار، هذا حكي! ثم من قال لك أني بو خطار؟ - شكلك يا عمي. - الله يعمي قلبك، طيب، هات ما معك. - معي عشر مجيديات تدينتها حتى أشتري طحينا للأولاد. - الله يجبرك، هاتها. - بحياة العضرا
17
عف عني.
فهز بو خطار رأسه وأشار بيده أن هات.
وبعد أخذ ورد وتوسل وبكاء، قاسمه بو خطار المال إكراما للعذراء مريم، وانصرف الرجل يدمدم
18
راضيا بنصف المصيبة.
أما بو خطار فصلب بالمجيديات،
19
ثم زجها في عبه وهو يقول مسترزقا: استفتاح مبارك من ابن حلال!
وحدق إلى السماء يناجي حبيبته العذراء مريم وقال: لعيون عيونك ما ظلمناه، عوضي علينا.
وسمع حس ناس يسوقون دواب، وهم في حديث صاخب عن الأسعار، عن إقبال المواسم، وعن ... وعن ... فهمس: جاءت الرزقة، جمهور.
فهيأ خطار بارودته، وأخذ شلهوب يعرض الطبر
20
ويسدده كأن الضحية أمامه.
كانوا ثلاثة يسوقون دوابهم، فصرخ بو خطار صرخة كبرها النهر وضخمها: شباب، اشلحوا تربحوا.
وكان بين الثلاثة شاب معتد بنفسه، فأجاب بفظاظة وسب أمهم، فأطلق عليه خطار بندقيته تهويلا، فأجاب هو بالمثل، أما القول الفصل فكان لطبنجة بو خطار، فخر الفتى صريعا لليدين والجران،
21
وسلم رفيقاه، فسلبوهم كل ما معهم حتى الثياب والزاد .
وقعد بو خطار يحسب ما أصاب في ذلك النهار السعيد، فكان ثلاثا وخمسين ذهبا، وبضعة عشر ريالا، وكيسا (ضبوة كبيرة) من البشالك والزهراويات والمتاليك والنحاسات،
22
فتأفف بو خطار شاكيا ثقلها.
ونظر إلى الأسلاب فإذا هي طبر نحاسي منقش، وخنجر، وساطور، وبارودة «مجهرية»، فقبل الأرض شاكرا ربه على النعمة وصاح بولديه: بوسوا الأرض يا ناكرين الجميل. ثم قال ضاحكا: مال وعدة، هذا توفيق.
وأخذ يداعب العذراء وعينه على الغنيمة: كتر الله خيرك يا ستي، الله يطول عمرك، اليوم فرجت بو خطار، لك مني جرس يرن له الحادي في الوادي. يا ولاد، هاتوا الزوادة، افتحوا جراب الجماعة.
وتربعوا ثلاثتهم على بلاطة في نصف النهر، وأكلوا بقابلية غريبة بعد تلك المعركة الموفقة، فأخذ الصغير شقفة من قالب جبن كان في جراب المسلوبين، فضربه بو خطار كفا على وجهه وقال: اعتبر يا وحش، تتزفر
23
يوم الجمعة! لولا قلة دينهم ما وقعوا بين أيدينا.
من مشاكل القرية
إذا كنت سمعت بالجنائن المعلقة وتريد أن تراها فهلم إلى لبنان؛ ففي نحور شماريخ الجبال قرى معلقة حقا، تبص حين تضربها الشمس كأنها عقود المرجان، ويتلألأ زجاجها في الفضاء كأنه بحيرة الفضة البيضاء سائلة ...
أنوار تموج وتمور
1
فتخالها في صراح ونطاح، بيوت منثورة هنا وهناك تحف بها جنائن غناء تحدث الزنديق بنعمة ربه، وكرم الأرض وسخائها. وحسبه شهادة الطيور الآمنة، المسبحة في كل آن من منحها تلك الوكنات المطمئنة.
وإذا عرفت طبيعة الأرض أكبرت عزم الفلاح اللبناني، فقد فتت معوله تلك الصخور فاستحالت ترابا.
وإذا رأيت القيامة تقوم بين أبطال قصتنا اليوم على شبر أرض فلا تتعجب، فالأرض في لبنان عزيزة وخصوصا في الجبال. ليس في لبنان قرى يملكها واحد من الناس، فالأرض تكاد تكون موزعة بين اللبنانيين بالقسطاس والميزان، إذا استثنينا بعض الديورة.
التراب عزيز في هذا الجبل، فهو قشرة يكاد يبلغ قعرها المحراث، فإذا رأيت أبا فارس الذي نروي لك حكايته يبذل هذه الجهود الجبارة، فلا تقل: ما أتعس القروي اللبناني! إنه يفتش عن حفنة تراب . لا يا سيدي، إنه وإياك بألف خير، فجنينة ابو فارس تدر له آلاف الليرات من نقد اليوم، وإليك حكاية هذا الاقتصادي العنيف:
السماء تطش
2
والفعلة يزمجرون ويتبخترون في الخندق، لا تسمع إلا بب بب بب بب، معاول تشرئب لتنقض، سواعد مفتولة فتل شزر،
3
وأعضد منتفخة تكاد تخرج من الجلد، وألحاظ تنظر بغيظ مخلوط بتهديد إلى عين الشمس الملتفة بغلالة من الغيم.
كانوا يعملون صاخبين تحت نقط المطر، وكان لسان حالهم يقول للشمس: تخبي، وللغيوم: أمطري ما شئت، فلا بد من إتمام نهارنا وقبض الأجرة كاملة، لو جرى هذا الخندق كالنهر ما خرجنا منه قبل الغياب، علينا أن ننقب من الفجر إلى النجر،
4
فلننقب، ليس الإنسان طينا فيذوب.
وهكذا ظلوا يعملون تحت رذاذ المطر، ولو تركوا معاولهم وكفوا عن عملهم ربع ساعة للحقهم الحسم والحط من أجرة يومهم، كلها ربع مجيدي، فما يبقى إذا امتد إليها قلم أبو فارس البارع في الجمع والطرح؟ له عليهم عادة يعرفونها: إذا كفوا عن العمل قبل المغرب بنصف ساعة شطب قلمه ربع النهار ليكون الحساب مقوما لا عوج فيه.
رأى أبو فارس شجرات جاره غضة ترشح الماوية من فروعها وجذوعها، فأدرك أنها تسابق شجراته العزيزة على السماد الذي يكدسه في أرضه كل سنة، فهو لا يستحي أن يلمه عن الطريق، وإذا عابه أحد هز رأسه وقال مبررا عمله: لو كان الحرامي يفهم ما سرق غير الزبل.
رأى أبو فارس أن يحفر خندقا على الحد ينتفع به من جهات: أولها تقطيع جذور أشجار جاره واستئصالها، وثانيها بناء حائط يصون به أرضه؛ لأن جاره لا يراعي شجرات أبي فارس عند الفلاحة، فكثيرا ما يكسر غصونها حين يحرث أرضه، ناهيك بأنه لا يكم
5
فدانه، فينتش رأس غصن من هنا وورقة من هنالك ... وثالثها حفظ التراب فلا تذهب حبة من عنده إلى أرض جاره، فقد كادت أرضه أن تحفى لأنها منحدرة غير مستوية.
قطع الفعلة جذورا واهية فور الشروع في العمل، فتهلل أبو فارس كأنه ملك البصرة ... ولما تعمقوا في النقب رأوا مشهدا لم يكن في الحساب: كانوا يحسبون أن الأشجار تعرف التخوم والحدود، فإذا بظاهر الأرض مقسوم، أما قلبها فمشاع، تسرح فيه الجذور وليس من يقول لها: قفي عندك، هذا حدك. إنها لا تخضع لنواميس الناس وعرفهم.
رأوا الجذور رائحة جائية، متشابكة متعانقة في قلب الأرض كأنها تقول في نفسها: إن سطح الأرض للناس فليقتتلوا عليه، أما قلبها فلنا، نحن الجذور، نعيش فيه بسلام واطمئنان حتى يفرقنا هادم اللذات ...
قال كبير الفعلة: اندهوا
6
أبو فارس.
فطار إليهم إذ سمع اسمه، خاف أن تذهب دقيقة ضياعا، ولعجلته عثر، ولكنه ما بالى بسقطته، فهرول وهو يمسح ما علق بذيل شرواله من تراب وزبل ... ثم أدرك أنه رمى الزبل في أرض جاره فانحنى يلمه ورماه في أرضه. كان أمرهم بقطع الجذور المنسابة من عند جاره، فلما رأى جذور أشجاره تسعى في أرض جاره وراء رزقها بهت واحتار، ولكنه اختار أهون الشرين فصاح بالفعلة: سلمت أيديكم يا شباب، استريحوا، الله يعطيكم ألف عافية، لفوا سيكارة.
هذي أول مرة يسمعون فيها كلمة سلمت أيديكم، فهو لا يرضيه فاعل مهما جد واجتهد، وشعاره مع الفعلة: من يأخذ مالي آخذ روحه.
قعد الفعلة باسمين، وفتح أبو فارس كيسه ولف سيكارة، إنها لا تلف وقت الشغل إلا بفرمان يصدره صاحب الورشة، وكثيرا ما يتقاعس أبو فارس عن إصداره متناسيا ساعة الراحة ... فشكروا للجذور التي اعترضت عملهم فاستصدرت الفرمان.
7
تمددوا على التراب كأنهم على فراش ناعم، فالمطر العابر لم يبلل الأرض، وأخذوا يتنادون. أما أبو فارس فكان يفكر بماذا يعمل، لقد نبش الأساس فهل يطمه؟ وأي فائدة جنى؟ ثم ما نفع حبة تراب يحرص عليها ويتكلف ما يتكلف ما دامت الجذور لا تقتسم الأرض كالناس؟ وجرته فكرته إلى ناحية مجهولة فاضطرب، ولكنه أخفى اضطرابه. مرت في خاطره نزوات فلسفية لم يستطع التعبير عنها ... وتذكر إذ ذاك جاريه بو طنوس وبو خليل اللذين اختلفا على شبر أرض فاستخف عقلهما.
وفي تلك الدقيقة الخطيرة من تاريخ حياته التفت إلى فوق فرأى على عرض الطريق شيخين قاحلين يابسين. كان هذان الشيخان واقفين ينظران هازئين بعمل أبو فارس الشحيح، ساءهما أن يعييهما الفصل في قضية «الحد» المستعصية بين بو طنوس وبو خليل، فشقت الضيعة حزبين.
قال أحد الشيخين: الشر شرارة، كان الخلاف على شبر أرض فصار غرضية وحزبية، انشقوا وشقوا الجوار معهم.
فقال الشيخ الآخر: لا تشغل بالك، تجيء ساعة تنحل القضية فيها من تلقاء نفسها.
وسكتا ليهيئا ما يقولان، فصاح أبو فارس: بو يوسف، أهلا وسهلا، جئت بوقتك، عمي بطرس تفضل معه، انزلوا، منظر غريب، وتأملوا ما أقل عقلنا نحن البشر.
فأجاب بو يوسف: خير إن شاء الله.
ومشى مشية المقيد يتبعه بطرس، يهدجان وتغرق أرجلهما بالتراب المبثوث، وما أشرفا على الخندق حتى قال أبو فارس: بحياتكم، تأملوا، هذا «شلش» عريشة جاري، تأملوا ما أبعده يا بشر! وهذا شلش لوزتي رائح صوبه بالسلامة، فماذا نفعني عملي؟
فتناظر الشيخان وارتجفت ذقناهما، ومر في رأسيهما فكر واحد، فأطرقا، والفعلة يمزحون حولهم ويضحكون كأنهم لم يعملوا نهارهم كله أشق الأعمال، ولا يعنيهم ما يعمل الشيخان وبو فارس، كل ما يعنيهم أن يطول الحديث لتطول الاستراحة، ففتحوا أكياسهم ولفوا سيكارة ثانية.
فمرمر بو فارس وقال: والله العظيم احترت في أمري، مدوني برأيكم.
فقال بو يوسف: رأيي أن الإنسان قليل العقل، الشجر أدرك من البشر، بو طنوس وبو خليل ركبهم الدين وباعوا ما فوقهم وما تحتهم من أجل اختلافهم على الحد، على شبر أرض، انشقوا وشقوا الضيعة والجيرة والبلاد، حروا الدنيا كلها، أشعرت ألسنتنا من الترجي، وكل واحد منهم يريد أن يأكل خصمه، ومحاكم هذا الزمان - والحمد لله - تطول الحبل. باب الشريعة واسع، كلما انسد باب يفتح «الأبوكاتية»
8
عدة أبواب. بو طنوس، امش معي، وأنت يا فارس رافقنا.
فتردد أبو فارس لأن الفعلة قاعدون، خاف أن يخسر شيئا من عرق جبينهم، فأبدى حركات لولبية أسفرت عن تحويل الفعلة إلى عمل آخر، ولحق بالشيخين.
وبعد هنيهة رجعوا ثلاثتهم ومعهم بو طنوس وبو خليل، وقفوا جميعا خاشعين ينظرون إلى الجذور وقفة موسى بجانب الطور، صمتوا كأنهم يتلقون درسا في علم الاجتماع من تلك الجذور الخرساء ...
وطال السكوت فقال بو يوسف: الشجر أكمل عقلا منا نحن البشر، فمن يعتبر؟
فصاح بو طنوس: فهمنا، فهمنا يا عمي، تصافينا.
وقال بو خليل: نعم، نعم، وإن لم يبق على خميرنا طحين.
المسيح حقا قام!
«أسبوع الآلام»
1
مأتم حقا، تحد فيه الكنيسة ولا تتبرج إلا مساء «سبت النور»
2
ابتهاجا بقيامة «العريس» منتصرا، فإذا سماه القروي «الجمعة الحزينة» فقد صدق.
الضيعة خاشعة صامتة، والحزن يملأ كل بيت، لا يحيون بنهارك سعيد، ولا يصبحون ولا يمسون بالخير، سلامهم «يتمجد اسم الرب يسوع»، ورده «السلام لستنا مريم العضرا»، والكنيسة كخلية النحل، ناس تجيء وناس تروح، الجدران تتنهد، والحنية
3
تتأوه، والقبة تولول مهدودة الحيل، الصلوات خمس كل يوم، وعن الصوم لا تسأل، لا يفطر إلا الزنديق، ولا يأكل اللحم والبيض واللبن إلا القليل الدين ...
في ذلك الزمان، جاء الخوري تيموتاوس الهيكل قبل الغروب، ودق الجرس حزنا، ثم أخرج من عبه مسبحة الوردية
4
ليصلي للراكب على المشارق والمغارب، أخذ يذرع ساحة الكنيسة بجلال ووقار كأنما يمشي على البيض، يتنهد أحيانا، وينظر إلى مسبحته ليرى أي مسافة قطع، إن صلاة مساء الخميس طويلة والناس أبطأوا. غريب شكل هذا الخوري! لو عرفه داروين لما احتاج إلى برهان آخر: حاجباه قاعدان تحت جبين نافر كأنه رفراف مطفف فوق نقرتين في صخر منقوش، يمتد بينهما أنف أفطس مشلوق، وتحت هذا الينبوع شاربان كقرني الكبش، تتدلى تحتهما لحية طويلة لو لم تكن سوداء كجناح الغراب لحسبتها مكنسة.
سبحان الخالق ما أكرمه! أعطاه بشاعة بغير حساب، وكأنه شاء أن يجعله آية فابتلاه بالجدري الذي قلل هيبته كثيرا. وبلوته الكبيرة أنه أخيف، فإحدى عينيه خروبية، والثانية زرقاء يحسبها الرائي خرزة عين، لهذا غلب لقب «بليق» على اسمه بطرس، قبل أن مسح بالزيت المقدس كاهنا لله. ثم زاد سمنه في بشاعته، فهو بعد كهنوت الخبز مربوع ثخين أسود لماع.
كان الخوري مرحا في شبابه، يفرفر فلا يستقر بمكان، لا شغل له إلا النط بالضيعة، فما تسمع إلا راح بليق جا بليق. الولد عجزة أبيه،
5
ولد صيفي، مات أبوه والأم لا تربي، فركب رأسه، ما نجت بنت في الضيعة من مداعبة أو سهرة عندها، وكثيرا ما كان يدق عدة أبواب في الليلة الواحدة، وحيث يحل يمتلئ البيت هرجا وضحكا، وإذا خرج نبح أو نهق، فترد عليه كلاب الضيعة وجحاشها.
كاد يتزوج طابيتا بنت ضاهر حنا، ولكنه أطاع أمه وخصى نفسه بعد موت خوري الضيعة، فدرس اللاهوت
6
والسريانية، وبعد سنتين صار كاهنا جليلا.
الميت وحيد أبيه، والليلة قمراء تغري الناس بالخروج، فأقبلوا على الكنيسة جميعا حتى العجز ليحضروا تمثيل مأساة الفادي. لباس الجميع السواد كأنما الضيعة استحالت ديرا، والكثيرون لا يصلحون من هندامهم إماتة
7
لنفوسهم، وبعض الشيوخ الأتقياء يلبسون الجبب مقلوبة كأن الفقيد ابن عمهم لحا. الجميع يصلبون حين يواجهون الكنيسة، بعضهم يقبل خد الباب، وآخرون زاوية الهيكل، ومن يختصر يستلم الحائط ويصلب. التحية للخوري أولا، ثم للجماعة، فيجيب حضرته بتحريك لحيته، يلتفون حلقات وحديثهم كحفيف الحصاد، طنافسهم العشب، وكراسيهم الحجارة.
وجاءت الآنسة طابيتا، وقد زرفنت
8
شعرها كعادتها، فأكبر بعضهم وقاحتها وخصوصا زكريا، وعذرها غيره لأن البنت بارت
9
بعد «بليق»، فهي الآن تتصيد عريسا ولا يهمها أمات المسيح أم عاش. كانت طابيتا غير فصيحة، ولكنها ذات حركات أبلغ من الكلام في التحريك والاستمالة، سمراء مقبولة الصورة.
باست خد الباب بشفتيها الممتلئتين بوسعة بليغة، ومست الأب الجليل فأجاب بحنوة رأس خفيفة، وبلا شعور ارتفع صوته في صلاته فقال: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فضحك الشدياق
10
زكريا وزمرته الملتفة حوله عند جذع السنديانة، فتنبه أبونا تيموتاوس وتنهد يسأل الله الستر ...
لم يكن غير الصبيان يقبلون يديه الطاهرتين فيمنحهم البركة الإلهية، فيستقبلونها مكشوفي الرءوس، ويزودهم بابتسامة لا تتضح إلا على جبينه؛ لأن فمه النقي مخبأ وراء غابة كثيفة ... وما عليه إن ابتسم لهؤلاء وهو يصلي، فالسيد المسيح قال: دعوا الصبيان يأتون إلي.
أما مشايخ الضيعة فكانوا يهزون رءوسهم متعجبين كيف راح بليق وجاء غيره.
وقالت عجوز للقاعدة حدها: الله، الله، كيف كنت يا أم قبلان وكيف صرت! سمع ابنها منها فصار خوري الرعية. فأتمت تلك: وعمر بيتها، واستراحت من هب
11
الفرن والتنور. كانت تأكل من مغزلها وكارتها
12
فصارت أميرة.
أما الخوري جرجس الذي أمسى عاجزا مخرشما
13
فكان جالسا بين أولاده يسمع حديث المرأتين، يحرك شفتيه ولحيته الحالئة
14
ولا يقول شيئا، يتذكر عزه القديم يوم كانت الرعية لراع واحد فيتمتم، وأخيرا زم
15
بأنفه فجأة وقال بحدة وهزء: تف للأيام التي وصلنا إليها، متى كانوا يكرسون للرب نفاية الناس مثل أخينا بالله! ... هذا خوري؟ هذا تنبل.
وحاول أولاده أن يسكتوه، فرفع صوته نكاية بهم وصرخ مرتين: هذا تنبل، هذا تنبل.
أما الشباب عشراء تيموتاوس فتنحوا والتفوا حلقة على الرجمة
16
تحت البانة
17
يتحدثون ويتغامزون، تارة يقضمون الضحكة قضما، وأحيانا يقطونها قطا. وبدا الاضطراب على وجه الخوري تيموتاوس فكان يتئد في مشيته صوبهم لعله يسترق شيئا من حديثهم، الخوري يخاف لسان أحدهم زكريا، وزكريا هذا شاب فات الثلاثين، طويل القامة نحيلها، مبيض البشرة مصفرها، تبتل
18
في الخامسة والعشرين، ولبس الغنباز الأسود المخطط، وشك الدواة في زناره كشدايقة ذلك العصر، وأطلق للحيته الشقراء سبيلها، ولكنه كان يأخذ منها فلا تطول، عبث رفقاؤه بقصيرته أولا، ولكنه صبر عليهم فغلبهم.
الشدياق محمود الصفات، يغض طرفه إن بدت له جارته، يحافظ على وصايا الله والكنيسة، لا يتخلف عن قداس، ولا يفوته زياح، هو وافه الكنيسة (القندلفت)
19
وشماس الخوري ليربح الأجر، لم يفطر يوم سبت منذ بلغ ورشد، ولم يأكل لحما ولا بيضا ولا لبنا يومي الأربعاء والجمعة، وفي الصوم يعاف الزيت أيضا، سيان عنده أجاز البطريرك ذلك أم لم يجزه فهو بطريرك نفسه. متعبد لمريم العذراء، إن سقط «ثوب السيدة» من رقبته لا ينام تلك الليلة نوما هادئا، ولولا تهكمه وعبثه بالناس ما شك أحد في قداسته؛ فهذا العبث بذوي العاهات خطيئة كبيرة تنزل إلى جهنم، والإنسان يلقى غيها فيعاقب نقدا لا صبرا، يخلق الله في ذريته عيوب من يستهزئ بهم.
كان زكريا يعبث دائما بصاحبه الخوري تيموتاوس فهو بطل مهازله، يناديه ببليق حتى بعد الكهنوت فيجن الخوري، ولكنه يخاف الوقوع في لسانه فيسكت على مضض، وزكريا لا يرحمه أبدا. يعرف أنه خراط يدعي البطولة ويموت فزعا إن وزوزت الدبانة، فيفتري عليه الأخبار والمغامرات العنيفة.
تجمع الناس وقامت صلاة الخوري، وقص السنكسار
20
حكاية المحاكمة والجلد والصلب، فتعالت تأوهات العجائز وتنهدات الشيوخ كأن الضرب يقع على جلودهم. تلي الريش قريان (فصول من أرميا وأشعيا ... إلخ) وأخيرا خص الخوري تيموتاوس الشدياق زكريا بتلاوة «البركسيس» (فصل من أعمال الرسل)، فقرأ ببراعة فصلا أعده منذ العصر وهو خبر تلك «التلميذة» التي ماتت في يافا، ودعي مار بطرس من لدة (اللد) خصيصا ليقيمها من الموت، فما بلغ زكريا هذه العبارة: «وصلى بطرس وصرخ: يا طابيتا قومي، ففتحت عينيها»، حتى صاحت طابيتا من بين النساء: ليتك ما تفتح عينيك، يقصف عمره ما أثقل دمه! هذا شدياق؟ هذا قندلفت؟ هذا شيطان!
فضحك الجميع حتى الخوري العتيق، أما زكريا - وتلك عادته - فما خف وقاره ولا نقص، بل مضى في فصله حتى النهاية كأنما لم يكن شيء مما كان.
وتلا الخوري تيموتاوس بضعة أناجيل بصوت مرتجف؛ لأن الصدمة لم تكن هينة، وختمت الصلاة وارفض الناس حزنانين. وصباح يوم الجمعة تنافسوا في جمع الأزهار أشكالا وألوانا، وجاءوا يطرحونها على قدمي الصليب المنصوب في «الباب الملوكي». وقرب الظهر جنزوا وطافوا بالميت ثلاث مرات في صحن الهيكل، ثم قبلوه واحدا واحدا مودعين، ودفنه الخوري والشمامسة خلف المذبح ليقوم في اليوم الثالث كما هو مكتوب.
وعادوا عشاء وتألبوا حول خوريهم، فقعد المحترم على حجر عال، يحيط به زكريا ورهطه، ومشى الحديث، فصلاة الجمعة خفيفة. شرع الشدياق زكريا يهز من عطف المحترم، ويحك له على الوجع، فاستعرض ذكريات شباب بليق قبل أن قمطته أمه بثياب الدرجة المقدسة، فذكر أحدهم دق الجرس، فقال زكريا: أبونا تيموتاوس دق جرس مار نهرا خمسين نزلة.
21
فقال الخوري: وأنت الصادق يا شدياق، مائة وعشرين نزلة بيدي التنتين، وفوق العشرين بخنصري.
فاستكبرها أحدهم، وقال: أف! فصاح به زكريا: اسكت يا هوه، أنا أخبر منك، قدامي أنا قطع جنزير جرس دير قصحيا بكبسة واحدة، ولو خبرتك عن جرس مار ساسين حاقل كنت تجن. لعب بالسبعين أقة لعبا، وخرزة بير كنيستنا هذه لو كان لها فم تشهد.
ثم التفت إلى الخوري وقال له: بحياة قدسك يا معلمي تخبرهم.
فتنفس الخوري وقال: نسيت، ذكرني يا شدياق.
فقال زكريا: قصة المارد. - قصة المارد؟ مارد حب أن يتعدى علينا، مزعت رقبته. - كمل، لا تستح. - راح رأسه عشرين شقفة.
فقال زكريا: أجرك كبير، استراح الناس من شره.
فتهامس الناس قائلين: إذن أخبار المارد صحيحة.
فسمع زكريا فأخذ يتهزأ بهم: الخوري يخبرنا ونقول: صحيح، صحيح!
ثم التفت زكريا إلى جماعته بهيئته الجدية المضحكة ولم تتكلم إلا عيناه، فأطرقوا جميعا عاضين على شفاههم، ثم حول وجهه صوب الخوري وقال: ما لك! أخبارك الليلة قطف.
22
لا تغير عادتك.
فتاق الناس إلى سماع أخبار خوريهم، وظنوا أنه يأكل بشرا. أما الخوري جرجس فأخذ ينفخ ويتأفف ويحاول أن يقول كلمته، فيمنعه ابنه، فيدمدم،
23
ويسكت.
وانتظر زكريا شيئا من الخوري فلم يكن، فقال: اسمعوا آخر خبر، هذا أعظم بكثير من الأخبار التي سمعناها، فقال الخوري: أي هو؟
فأجاب زكريا: المعتر
24
الذي لاقاك لما كنت راجعا من عند ... من عيد مار نهرا.
فضحك الخوري وقال: الشدياق لا ينسى، بطحته في النهر، وبعدما شبعته قتلا، كبست على صدره كبسة واحدة فبق الدم.
فقال أحدهم: قالوا شلحك. - شلحني؟ مسكين! طرمحتني
25
نفسي ونويت على قتله، ولكن قلت: اتركه يا صبي، لا ترم ضيعتك ببلبلة، كانت الحادثة في خراج
26
الضيعة.
فبدرت من الخوري الشيخ كلمة ثخينة تداركها ابنه برفع صوته فطمرها ... ولم ينقطع سياق الحديث.
وانجر السمر البريء إلى تلاميذ المسيح، فتعجب الناس كيف جبنوا وتركوا المخلص بين أيدي اليهود، لم يذكروا خبز العشاء السري
27
وخمره، فما سهروا معه ساعة واحدة، تركوه يبكي وحده في البستان.
28
وبطرس الذي ابتهر وادعى الرجولية أنكره ثلاث مرات قبل صياح الديك.
واحتدم جدالهم، فأمست لهم ضوضاء كأنهم على الجلجلة ساعة الصلب، فقال زكريا بسذاجة ماكرة: يا حسرتي على الرز، ضاعت ملاعقه.
29
لو كان ربنا في أيام معلمنا الخوري تيموتاوس كان عرف اليهود قيمتهم.
فأحس بها الخوري قليلا، ولكنه بلعها، وقال بحدة: سماع يا شدياق، هذي إرادة ربنا يسوع المسيح له المجد، وهو لو حب كان أمحى أثر اليهود. سمعت قول الإنجيل أمس، كلمته: أنا هو، قلبتهم على ظهورهم.
وأعجب الخوري ببلاغته هو، فتحرك أيما تحرك، فبصت لحيته المرعزية
30
تحت ضوء القمر، فضحكت زمرة زكريا، فحار الخوري في ضحك بلا سبب، ولكنه لم يقف، بل التفت إلى القوم التفاتة منطيقي أدلى ببرهان ذي حدين، فرجحت الرءوس إعجابا، وانقلبت شفاه عديدة استكبارا، ورأى الخوري طابيتا شاخصة تأكله بعينيها، فتذكر أياما لم يكن جسده فيها هيكل الروح المقدس، ولاذ «بالنعمة» فأخزى الشيطان، واشرأب وتفرعن.
أما زكريا فاختبى بيديه وقال: الحق مع بلي ... هئ، مع الخوري تيموتاوس. والله العظيم لو كان حضر المعركة كان نتف لحية قيافا،
31
ودعس رقبة يوحانان.
فهزهز الخوري رأسه وقال: هذا نصيبنا، ما أحلى ما يقدر الله!
وطاب الحديث للخوري فانبسط زكريا وقال: لكن خوف الرسل بين يا معلمي، هذا مار يحنا حبيب المسيح كان أول الهاربين، ثم لاحظ كم مرة فزعوا بعد القيامة. أؤكد لك أنهم كانوا يفزعون من خيالهم، مساكين!
فمطمط
32
الخوري وقال: لا يخلو الأمر، عندهم شيء من هذا، ولو كانوا كما يجب ما قال عنهم مار بولس: واختار ضعفاء العالم ليخزي
33
الأقوياء.
فصاح زكريا بلهفة: هذا الصحيح يا معلمي.
وسمع الخوري جرجس هذا الكلام فتهيأ واستعد، فهدأه ابنه. أما الناس فكانوا يصغون إلى الاثنين معجبين بفصاحة خوريهم وبراعة شدياقهم.
وسأل أحدهم عن سبب ظهور المسيح للنساء أولا ثم للتلاميذ، فأجاب الخبيث زكريا: حتى يشيع الخبر حالا ... النسوان لسانهم طويل.
فتمتمت طابيتا كلمة فهمتها جاراتها وضحكن، ولم ينتبه لها زكريا؛ لأنه كان يعد رمية جديدة، فقال: معلمي، يا ترى لو ظهر لك المسيح تفزع منه مثل التلاميذ ؟
فابتسم الخوري كالهازئ وقال: ما قولتك أنت؟
فقال زكريا: قولتي أنا؟ يا جبل ما يهزك ريح.
فأجاب الخوري: هذه نعمة بعيدة عني، أنا عبد خاطي.
ثم تنهد تنهيدة عظيمة وقام إلى الصلاة وهو يقول: يا ليت، يا ليت!
ودخل الكنيسة يواكبه زكريا ويقول على مسمع من الناس: من يعلم؟ من يدري؟ عجائب الله كثيرة.
أما الخوري العتيق فتحلحل ونهض وهو يقول: إيه! صرنا ملعبة.
فغمز ابنه طرف جبته فصرخ: اتركني، ملعبة وأكثر، لولا العيب والحيا كنت أحش لحيته، خوري بهلول.
وبعد ظهر السبت قلعت الكنيسة ثيابها السود، وتزينت ابتهاجا بقيامة الذي وهب الحياة لمن في القبور، فصلوا صلاة خفيفة زحزحت الكابوس عن صدرهم، وعادوا إلى بيوتهم فرحين بعد ترتيلهم: المسيح حقا قام.
أما الخوري جرجس فظل في الكنيسة يصلي منتظرا قداس نصف الليل، وكان بعض شيوخ وعجائز يأتون لزيارة القبر، وما انتصف الليل حتى أقبل الخوري تيموتاوس وقرع الجرس قرعا ذكرهم بشباب «بليق» الأغر، فخف الشعب إلى الكنيسة، وانقسم الشمامسة جوقتين يخدمون القداس.
وفي مثل هذه الساعة التي تدحرج فيها الحجر عن القبر ليقوم السيد، أقبل الخوري تيموتاوس على باب الحنية الأيسر يبخر ويرتل بالسريانية، معظما من غلب الموت بالموت، ويسأله الرحمة لجميع المؤمنين، فطلع إليه من خلف المذبح - حيث القبر - شبح عليه ملحفة بيضاء، فتراجع الخوري مذعورا، وتقدم الشبح ووقف بالباب، فصرخ الأولاد والنساء، ووهل الرجال، واستبق الجميع الباب، وأفاق الخوري جرجس من سهوته على الضوضاء ونهض يستخبر، فرأى أمامه الشدياق زكريا، فقال: ايش صار يا شدياق؟ أين راحوا؟
فأجابه زكريا: هربوا، ظهر لهم المسيح.
فتعجب الخوري وقال: وأين الخوري تيموتاوس؟
فقال زكريا: راح معهم.
فضرب الخوري بيديه على فخذيه وقال: يه، يه، يه، يه، يه، يا هتيكتنا،
34
فزعوا من حمل الله!
ثم تفكر قليلا وقال لزكريا باشمئزاز: عيب يا شدياق، عيب، أنت رجل طيب، الله غضب على الضيعة ورسموه خوري، غلطة وقعت، العصمة لله وحده.
فمغمغ
35
زكريا كلمات، وهدج
36
الخوري جرجس ليعيد الناس، فسمع زوجته - الخورية - تقول: لو كان لنا حظ ما كان ظهر المسيح لخورينا، فصاح بها الخوري: صدقت يا معتوهة؟
37
روحي صلي، روحي، هذا وجه يظهر له المسيح.
وما خطا خطوات حتى عاد الخوري تيموتاوس والرعية مستحيين، فقال له الخوري جرجس بكل هدوء: كمل قداسك، خلصنا.
أما زكريا فظل واقفا عن يمين مذبح البخور كالملاك، تقول عيناه لصاحبه الخوري تيموتاوس أشياء كثيرة ...
أبو الغنباز
بينا كان طنوس يقص على واحد من «الزمرة»
1
أخبار عبثه بجريس في سهرة أمس الأول، إذا بزوجته لوديا تتمرمر، وتقول: حرام عليكم، اتركوا هذا المسكين، كفاه عذاب، خف على «عواقبك»
2
يا طنوس، ربنا قادر أن يبتلينا بولد أقرع وقواق (لجلاج) مثله وأكثر منه.
فصاح طنوس: اضحكي في عبك يا حرمة، إذا حصلنا على هذه النعمة. الضيعة محتاجة دائما إلى واحد على شكله. - يه، يه، يه، ما أقل دينك! أنت هرطوقي.
3
فاستل طنوس يده التي استحالت دبوسا،
4
وكشر وهجم، فردته ضحكة زوجته لوديا من نصف الطريق، وهكذا كان يسلم جلدها من الرص واللبد.
ليس لطنوس سمات تميزه من أهل قريته، فأكثر القرويين من نمط واحد، إلا أنه كان مهذارا يتحدث كأنه يمثل، يحشو كلامه ب«فهمت» و«سمعت» و«لحظت» مشفوعة بنكعة أو لكمة لتفهم غصبا عن رقبتك ... أحصوا عليه هذه الكلمات الثلاث في سهرة واحدة، فوردت في كلامه أكثر من مائتي مرة.
ولعل سيرة طنوس مع عجله «عيوق» عودته مثلها مع الناس، فعصاه كانت تنهض أبدا وترتمي على ظهر ذاك الثور لسبب ولغير سبب؛ فصار عيوق مثلا يضرب في القرية. إن ضرب أب ولده ضربا موجعا صاحت أمه: ليتها تنكسر من الكوع، أهو عيوق؟ وإذا اشتد الضرب بين اثنين قالوا: ضرب عيوقي.
وأدركت عيوق السن فجاء قصاب ليشتريه، فخمن ما عليه من لحم تخمينا لم يعجب طنوس، فلكمه قائلا: قو قلبك، فهمت؟ ثم نكعه ليقول له: لحظت؟ لا يغرك صغره، هذا ملبود.
وغابت الشمس فتعشى طنوس وتمشى. حان وقت السهرة وهو لا يهنأ له عيش إن لم يسهر حيث يكون جريس الأقرع ، فطاف حول بيوت القرية، حتى إذا حزر أين هو، دخل، ومسى، وقعد. نظر إلى جريس فرآه مغتما، ظن أنه يتصنع في الجد ليتأبى عليه ويكف عنه شره، فمساه خصيصا، فرد جريس المساء من رأس شفتيه، فغمز طنوس الحاضرين صارا أصابعه إشارة الاستعداد للمعركة.
كان جريس يوشوش صديقه سركيس بلجلجته المعهودة: عا عا عا عصيت، عا عا عا على الأطباء، ما قدر واحد منهم عا عا على إنبات شعرة في مخي.
5
وكان جريس متهالكا على الحديث، يعاني ما تعانيه الحبلى ليخرج كل كلمة من كلماته، بينا كان طنوس يتهزأ به، يفتح فمه ويغلقه مثله، مضحكا الناس. - ايش العمل يا بشر؟ عجزت والله، كلما جاء «مغربي» يأخذ مني المبلغ المرقوم.
فأجابه سركيس: سلم أمرك لربك.
فقال جريس متوجعا: لربي سلمته من زمان، لم تبق كنيسة من كنائس الله إلا نذرت لها، أمس زرت «الحرضيني»
6
وأخذت عن قبره سل تراب.
فالتفت إلي سركيس التفاتة استغراب ولم يفه بكلمة، فقال جريس: والله العظيم، قلت لك سألني عن الحالة. هيه، هيه، كان في قربوس رأسي شعرة طارت.
فقال سركيس: لا تقطع الأمل يا صاحبي.
فضحك جريس ضحكة هي بالبكاء أشبه، وقال: عشرين سنة قضيناها طالبين رحمة الله، احزر ماذا كانت النتيجة؟ - أنت أخبر، قل. - مصيبة أكبر.
وانحنى على أذنه يصب فيها سر الفاجعة.
فالتفت سركيس كالمتعجب، فقال جريس: والله، لعنة الله على الكذاب، كنت بفرد هم فصرت بهمين.
قال جريس هذا وطفق يتأمل وجه صاحبه سركيس ليرى أثر كلامه فيه، فرآه يمط شفتيه، يصرهما كأنه يتأهب لضحكة، فقال جريس: كل هذا هين يا شيخ، ولكن من يخلصنا من طنوس إذا درى.
ثم أطرقا صامتين حتى انتهيا إلى قول أحدهم: هاتوا الورق.
فصاح صاحب البيت: مساند وطراريح، ضوئي القنديل الكبير يا مرين، وأشار بأصبعين، ففهمت مريم وأشعلت القنديل نمرو 2.
كان من عادة طنوس أن يلعب ضد جريس، أما تلك الليلة فقال: رفيقي جريس، فنسي جريس مصيبته: العليا والسفلى، المكشوفة والمستورة، فانبسط وجهه وقعد، ودار الورق دوراته ، فاحتدم اللعب والجدال حتى كاد يعلق الشر. تكافأ الخصمان فمكنا قعدتهما لربح الدق (الشوط) الأخير، وأشار كل فريق إلى ورقه، وانتظر جريس إشارة رفيقه طنوس، ولكن طنوس لا يشير، تساقط الورق من الأيدي وجريس حيران لا يدري ما يلقي ولا ما يبقي، فصاح بطنوس: أششش أشر. ولكن طنوس لم يخرج عن صمته، ففأفأ جريس وتمتم، فقال طنوس متباردا: لا بد من التأشير يا شريك. - معععلوم.
فأبدى جريس علامة أص الديناري وقال: أقرع. (أي وحيد من نوعه).
فانتفض جريس كما لدغته عقرب وقال: كا كا كا كيت وكيت من ... ولما رأى طنوس متأهبا للصرع أتم قائلا: من دين لعب الورق. وانصرف غضبان.
وأصبح المسكين فإذا حمله الجديد قد ثقل عليه، كان يشكو خفة فوق، فصار يشكو ثقلا تحت. فتق ولد كبيرا ... ثم أخذ ذلك الهم يتضاعف يوما فيوما حتى كان يبوح الشروال بالسر، ففصل غنبازا ستره به، فخلق موضوعا جديدا لعبقرية طنوس. أطلق طنوس على جريس لقب الشدياق، وصار غنبازه حديث الضيعة، وخصوصا على التنور حيث تمتزج القهقهة بالرق.
7
تقولوا عليه ما شاءوا، إلا صاحبه سركيس فكان يهز رأسه ويتمثل: الذي درى درى، والذي ما درى قال: كف عدس.
8
أما طنوس ذاك المخرج الرائع فكلف من نظم له هذه «الردة»:
9
يا مشرشح يا بو الغنباز
لململو ديالو وقصو
اخبز خبزك عند الخباز
لو خبزو وأكل نصو
ورددها الصبيان ترديدا ضيق الضيعة على جريس، فمشى إلى بيروت مشية توجع القلب، مشية البغلة المشدود خناقها لئلا تتعس.
10
وبلغ أسكلة
11
جبيل بعد ألف جهد، فإذا بعربة تقف وصوت يصيح: اطلع يا جريس.
عرف جريس صوت صاحبه طنوس فاستعاذ بالله، ولكنه طلع وقعد حده، وهو يقول في قلبه: سفرة مشئومة.
وقبل أن يبلغوا مخفر جسر بيروت حذرهم السائق من التبغ والسلاح. كانوا في ذلك الزمان يصادرون التبغ الكوراني، وتسهيلا للتفتيش كان «الورديان»
12
يزج «شيشا» في الحمولة حتى إذا شك في عدل
13
ما أمر بتفتيقه. وهكذا فعل حين أوقف عربة طنوس وجريس، أمر الركاب بالنزول منها و«شيش» كيس خيش فيها، ثم فض البقج
14
كلها، وأخيرا تحول إلى المسافرين الستة فمد يده إلى أعماق جيوبهم.
وجاء دور جريس فظن أن تحت غنبازه كيسا، فأقبل عليه ليجسه، فامتنع عليه جريس وصرخ: فت فت فت ...
ثم هرب من وجهه يقهقر في مشيته، والخفير لاحق به يسدد نحوه الشيش وهو يقول: معك تتن، نحن نعرف كل هذه الحيل.
فصرخ جريس: لا لا لا لا ... فت فت فت.
فصاح الورديان: ضربة تفت رقبتك ... وهجم عليه يريد أن يزج الشيش في موضع الظن، فانطوى جريس أمامه، وباح أخيرا بالحرف الثالث، فاحمر وجه «الورديان» وأعاد شيشه إلى مخلاته.
أما طنوس فنكع
15
جريس عند أذنه قائلا له: ها ها، فهمت؟ عرفنا سبب لبسك الغنباز يا مضروب. لحظت؟ استعد لردة تسر خاطرك.
حديث خرافة
أحست أم جبرايل ببهر
1
لما فرغت من تنقية الطحنة، فقعدت كالخفاش
2
تدلك عينيها. وبعد سكوت قصير جدا رفعت خصلة شعر شقراء هاجمة على خدها الأيمن وقالت: كذاب الذي قال «القمح البلدي لي ولولدي». القمح البلدي ثلثه زوان وشيلم،
3
مهما غربلنا ومهما غسلنا لا ينظف.
وشعرت بدوار
4
لما استوت، شعرت كأن رجلها يابسة فجلست قائلة: تقبر الأرامل! حياتنا كلها طحن وخبز، وطبخ ونفخ، وغسيل وترقيع، ما لنا ساعة نشاهد فيها وجه ربنا، عيشة من قلة الموت، اسمي أم جبرايل، وجبرايل ابن غيري. وانطوت تمتحن خدر
5
رجلها، تقرصها فلا تحس أنها منها، وتمدها فلا تشعر أنها لها. ولما عادت الدماء إلى مجاريها قامت لحاجاتها: جلت زجاجة قنديل الكاز، وزيتت الفانوس الخاص بعلف الفدان، وأقبلت على العشاء تعده، فالطبخة ناضجة لا ينقصها غير القلية والتوابل.
إن أبا جبرايل يخور،
6
وإذا أبطأ عليه الأكل ملأ البيت مسبات.
7
والبيت حد الطريق، وأم جبرايل فتية، كبيرة النفس، يعز عليها أن يتحكم بها أرمل، وعندها للسر بئر عميقة تقبر فيها ما يحدث من مشاكل بين المرأة وزوجها، وكثيرا ما تحتمل الضرب وتسكت طلبا للسترة، وكسرا للشر.
أما لحود - أبو جبرايل - فبارود مزيبق
8
يلتمس سببا لينفجر، ويعلم الناس أنه ناري الطبع فيستهابوه، لا يجد أمامه من يبرز عند هذه المكرهة
9
ويسكت إلا زوجته، فجعلها هدف «مراجله».
10
يدخل البيت لابسا وجه النمر، فتحاول أن تكسر شراسته بابتسامة ناعمة، فيزداد عتوا
11
ولا يرد المساء، وإذا استوضحته عن أمر فجوابه نبرات عنيفة، أو سكوت مؤلم.
وضع النير والجراب في مكانهما وأخذ الفانوس فرأى فتيلته، التي سب لأجلها أمس، ممروتة ناعمة نظيفة كأنها خصلة حرير تلفح النار لفحا. لم يجد مجال القول ذا سعة ليقول، فأخذ الفانوس بيد والسل بيد، ومضى إلى القبو يفتش عن سبب آخر. رأى الدجاجات دخلت التبان
12
وذرت التبن، فطفق يعر ويهر.
13
لا يستطيع أن يلوم زوجته؛ لأنه هو الذي ترك باب القبو مفتوحا، ففكر فاهتدى ... أليس على المرأة أن تكون متنبهة دائما؟ فأشغال الرجل كثيرة، وعلى هذا البناء هاج بحره. ورأى جبرايل أن «خالته» لا تستحق هذا الشتم والسب فتنطح، ولكن والده ألقمه مما تعود أن يطعمه إياه عند دخوله شخصا ثالثا، فسكت.
وبعد دقائق معدودات ذهبت غيمة شباط فعاد لحود كأحسن ما يكون الرجال، رقيق الجانب، دمث الأخلاق، يخاطب فروسينا بيا أم جبرايل، ويا بنت عمي. ثم انتهى العشاء على خير.
وامتلأ البيت ناسا، فأبو جبرايل ذاهب إلى البندر
14
ليتقمش لابنه العريس، فأسعار دكان الصليب غالية، والمثل يقول: رح إلى البندر وتغندر. عرس جبرايل بعد يومين، والطحنة الكبيرة التي نقتها أم جبرايل بمعونة جاراتها هي لتلك المعركة الطاحنة التي سيكون لها ما بعدها.
وشرع الساهرون يكلفون أبا جبرايل قضاء حوائجهم من المدينة، وهو يتقبل طلباتهم ببشاشة ولطف. يقول لهذا: «تكرم»، ولذاك: «بسملله»، ولتلك: «من عيني». وكلف بشراء بابوج للشبينة،
15
فأجاب بقوة العادة: «على راسي». فابتسم الكهول، وقهقه الشباب، فانتفض، ولكنه لم يقل كلمة احتراما لبيته.
وجرى حديث التموين، فعيد السيدة (15 آب) ميزان الأسعار عندهم، والمثل يقول: لا يرخص في الشتاء غير الماء. التموين واجب، وهم قادرون، فموسم الحرير كان مقبلا، والعنب طيب، والتبغ جيد، والزيتون ممتاز، لا يبقى غير الحبة، ولا يسد هذا العجز بأرخص الأسعار غير البترون، فكلفوا أم جبرايل درس حالة السوق، وتذمروا من كثرة الزنابير، فقال أحدهم: سنة حشرات، الحيات بحر. وانساق الحديث فطال، حديث حيات ... ثم انتقلوا إلى حديث الجن فقال واحد: يا بو جبرايل، إياك أن تنسى، توق جن شير بنور، فوعة
16
جن في هذه الأيام ما لها دين.
فهز لحود برأسه وقال: عمك عم يا ملخم، أنا أبو جبرايل.
فضحك فتى وقال سرا: تشرفنا. ثم غمز رفيقه كأنه يقول: سنرى. فأسفرت تلك الغمزة عن مؤامرة مرتجلة، كان لها شأن جليل في تاريخ القرية.
لم يسمع أبو جبرايل وأتم حديثه قائلا: لا تخافوا علي، معي الخوري، بركة صليبه تحرسني.
فقال آخر: انتبه لئلا ينشلوا الطحنة. مرة قعدت الجنية لرجل في عرض الدرب، وأخذت تنوح وتبكي طالبة منه أن يركبها على دابته من النهر إلى الضهر، فأعجبه جمالها، فحط طحنته وأركبها، أعطته ليرة فرح بها، ولكنه لم يجد الطحنة لما رجع، وافتقد الليرة فإذا هي شقفة فخار.
وقال ثان: وظهرت الجن لبو أنطون بشكل حطب، فحطب وعاد، وكان يتعجب من خفة حملته، فلما حطها قدام الباب دق جرس الظهر فصلب، فاختفى الحطب كله إلا عودين من الزيتون.
فقال شيخ: الزيتون مبارك.
فصرخت أم جبرايل: اسم الصليب وذكر الصلبان.
وقال واحد: ملاعين الجن، سبحان خالقهم، أعطاهم خاصة ما أعطانا إياها. قال عمي بو جبرايل معه الخوري، كأنه نسي قصة الخوري متى لما دعوه ليكلل لهم العريس، صلب الخوري فانطفأت الأنوار واختفت الجماهير، فمات من الفزع، وبقي لسانه مربوطا شهرين.
كان أبو جبرايل يسمع ويعتبر وينظر إلى عضلاته الغليظة ... نوى في تلك الساعة أن يرجع قبل المغيب، وتسلح قبل الرحلة بكتاب مار قبريانوس، وبصليب ورثه عن جده، ولكن الدواب قصرت في العقبات الكثيرة فوصلت آخر السهرة وتبعها أصحاب الحوائج فكوا الحمولة ونزلوها، وانتظروا أبا جبرايل فما جاء.
رابهم أمره، فقالت إحدى النساء: سمعت حس مشي خلف الدواب، فأين اختفى؟ وكيف وصلت وحدها؟
فأجاب مستشار الضيعة: جن، قلت له لا تتأخر فما سمع كلمتي.
فولولت أم جبرايل، فقال فتى: نخوة يا شباب، يا الله، امشوا إلى مغارة شير بنور. وبعد دقائق بلغوها فوجدوا أبا جبرايل منبطحا ببابها، يرن ويئن، وأفاق بعد إسعاف عنيف فخبر أن شابين لون وجههما أحمر، وشعرهما أصفر، وعيونهما مشقوقة بالطول، عزموا عليه، وحولوه بالقوة إلى المغارة ليحضر وليمة العرس، وصلب قبل أن يمد يده إلى الطعام فاختفى كل شيء.
فابتسم الشابان وقالا: صحيح، ونحن سمعنا أغنيات ما سمعنا مثلها.
واجتمع مجلس القرية صباح الأحد بعد القداس فقرروا جميعا أن استفحال أمر الجن ناتج عن أن القرية عندما انكسر جرسها بدلته بأكبر منه، فلم يدخل القبة حتى هدموا الأقواس التي يقوم عليها الصليب، فظلت القبة بلا صليب ... وقر الرأي على أن يرفعوا صليبا عاليا يشرف على قرارات أوديتهم.
ومضت سنوات لم يحسوا فيها أثر الجن، حتى كان أبو جبرايل يوما في قطعة أرض له عند النهر فيها مغارة تأخذ منها النساء حجر «الملحقاق» ليعملن المعاجن والقدور، رأى امرأة منبوشة الشعر فتأكد أنها جنية، فترصدها حتى دخلت المغارة، ثم أقبل يرشق وجهه بإشارات الصليب ويدهدي
17
الصخور برشاقة على بابها.
وصاحت المرأة صيحات رج لها النهر: دخيلك، أنا مرتا يا لحود، أنا مرتا يا بو جبرايل.
ولكن أبا جبرايل ظل يردم بخفة ويقول: لا مرتا ولا لحود، غشي غيري، ما انقطع جنسكم بعد يا محروقة الدين؟
وابتعد الصوت لكثرة ما أهال لحود على باب المغارة من حجارة وتراب، فاستهوى وتنهد ... وإذا بجرس الضيعة يدق، فتسمع وقال بعدما أبدى إشارات الرضى بهز جمع يده اليسرى: هذا جرس يقطع أثر الجن كلهم.
ابن عزرائيل
جاءت أم إبراهيم بعين مكسورة تستكتب معلم ذمتها
1 (الخوري) رسالة إلى ولدها المهاجر، فاستأجلها. ولما أشعرته أن البريد على سفر امتشق قلمه من أنبوبة دواته، ثم لاقها
2
وطفق يكتب.
وتلا على أم إبراهيم ديباجة الكتاب الناعمة فترطبت أهدابها، وراح الخوري يتعصر كحبلى تتمخض، وبعد ألف جهد نزلت على سن قلمه الكلمة المأثورة: من أخذ من ملة غير ملته مات بعلة غير علته . وأحس طعم هذا الإلهام الرفيع فاهتزت لحيته، وانفتح فمه الأدرد
3
عن ثنية
4
ما زالت غارزة باللثة
5
كأنها سن ثوم.
قعدت منه أم إبراهيم مقعد الكلب تتحرك جوارحه كلما تحركت يد صاحبه، تحاول بزفراتها المديدة حث الخوري، وأخيرا هتفت به بلا شعور: ايش كتبت يا معلمي؟ البوسطجي معجل.
فاستمهلها بالخمس اللطاف، وعينه على القرطاس، حتى إذا انهال عليه الوحي تلقاه بلهفة وكتب: سمنجون بنت خالك مثل قلب الصباح، قامتها رمح رديني،
6
وعيونها لوزية، وخدودها مثل التفاح الشامي. صورة بورق يا ولدنا، والمثل يقول: أهلك ولا تهلك.
وزفر الخوري زفرة استهولتها أم إبراهيم، وقرأ ما خربش، فقرعت صدرها داعية بطول عمره، وانكبت على يده الطاهرة تقبلها بحرارة، سحرتها فصاحة الرسالة فضمنت عود ولدها غب اطلاعه عليها، ولكنها استقصرتها، فاستزادته، فكتب: طلاب سمنجون مثل النمل، الناس تقصدها من بني وبني ... وأنا أصبحها وأمسيها. احضر حالا حالا حالا، المرأة حاجة الدهر، والإنسان لا يجدها كل ساعة، يكفيك ما جمعت، ولمن تجمع إذا مت بلا عقب؟ - يا أم براهين، عجلي، البسطجي رائح.
وغلف الخوري الرسالة، فصرخت أم إبراهيم: لا يا معلمي، لا. ونتشتها من يده وأخذت تحرق أطرافها بسيكارة الخوري.
وبعدما ابتعدت بها خطوات تذكرت أنها لم تقبل يده شاكرة، فانفتلت صوبه، ثم أدركت حرج الموقف، فاعتذرت من بعيد وهرولت.
وبعد أشهر خف إخوة إبراهيم وبنو عمه إلى ميناء بيروت ليستقبلوه، وزحف من بقي في الضيعة من أحياء إلى دكان على مفرق الطرق، يحسبه الرائي منطرة،
7
لا حانوتا يتبضع منه القرويون ويتقمشون. أما الدفع فموعده كتلك الساعة التي لا يعلمها أحد إلا الآب ... وبعد انتظار ساعات في تلك البرية أطل الموكب تتقدمه الحمولة: أعدال نقل
8
وحوائج، وصناديق أميركية تتلألأ تحت أشعة عين الشمس؛ فارتفعت الأصوات بالتأهيل والترحيب، ثم تناوبوا التقبيل حتى شكا إبراهيم خدرا في رقبته وطلب الهدنة ... ثم استؤنفت المعركة، وأخذوا يعرفونه بمن درجوا وشبوا في غيابه، فيقبلهم ويربتهم
9
تربيتا أميركيا، يضحك له البعض، وينشده الآخرون. وساروا به أخيرا، فريق يهزج، وفريق يغربل وينخل ، وكلهم يقولون: يا بارك الله، هامة جمل! وكانت أمه تنتظره في ساحة الكنيسة حيث يمر، فازارته القديس، ووفت نذرها. وفي البيت كثرت السؤالات عن الغائبين فكان الجواب: الجميع بخير.
وفتحت أم إبراهيم كفها فأطعمت وسقت بسخاء، وسهر إبراهيم إلى ما بعد نصف الليل، فأصبح شاكيا قلق فراشه ويبوسته، مع أن الوالدة نفشته أي نفش، ولكن التخت خشبي وبلا رفاس، فبيت إبراهيم من المحافظين ما زال كما فارقه.
وجاء الجيران مع الصبح، فقعد يحدثهم بابتسامة اكتسابية، رأوه شابا كبير الظل، أخذ التعب شيئا من نضرته أمس، أما اليوم فهو عظيم جدا: شاربان قاعدان كأنه الزناتي خليفة. سألوه عن «توفيقه» فشكر ربه برطانة
10
المهاجر الحديث العود. وبعد أيام قاطع على ألوف من الحجارة، كما يفعل المهاجر «الموفق»، فتحدثت الضيعة بذلك أياما، ودبت الحياة في مقالعها المهجورة.
أما سمنجون - وهي بيت القصيد - فشعرت بهبوط درجة الحرارة مذ رأته وحدثته، كانت تتوقع تجاوزها الحد فإذا الأمر بالضد، فقالت في نفسها: لم يتغير فيه شيء، هو هو، ولكن هناك شيئا صعبا فهمه، هذا الإبراهيم غير هذاك، وإن كان إياه. أما كيف فما أعرف ... منذ خمسة عشر عاما و«برهون» ملء قلبي وأذني، فما لي إذ جاء لا أرى تلك اللهفة؟ ما لذكريات الصبا غافية لا تفيق، وقربي منه لا يرغبني فيه؟ عجيب! لما كنا وليدات كنت أحبه أكثر.
ووزع إبراهيم هداياه على الأخصاء من مواس، وساعات، وأقلام حبر، وخواتم ذهب أميركي، وغير ذلك، وحمل إلى سمنجون الساعة الثمينة مع سلسلتها الطويلة من الذهب الخالص، والخواتم، والأساور، فترطب قلبها وتندى، ولكنها تذكرت دملجا
11
زجاجيا أهداه إليها في الصغر، قبل الهجرة، فرأت أن تلك الزجاجة الزرقاء كانت أحب إلى قلبها من هذا الذهب والألماس، فما سر ذلك؟
وأدرك إبراهيم أنه لم يظفر منها بتهافت العشاق رغم الهدايا النفيسة، والبيت العظيم الذي بلغ الأعتاب، فأخذ يتفاصح ويتظرف، وإذا بالأمر بالعكس، فهو غائبا عن العين أقرب إلى القلب، تتأمله سمنجون فتقول في نفسها: «رجولة تامة، غنى وافر، جاه
12
يمتد بسرعة الغيم، هذا مطران الأبرشية شرف للسلام عليه، وتهنئته بالرجوع، ومدير الناحية يجيء بعد يومين، و«البروش»
13
الذي أهداني إياه في السهرة الأخيرة يسوى مائة ذهب، فما أريد بعد؟ ليس هناك رجل آخر أحبه لأقول قلبي مشغول، فما هو السبب يا ترى؟
يتحدث إبراهيم عن شأنه في المهجر أحاديث تحبب وترغب، وكلما أمعن في أحاديثه جد قلبي في الهرب، فما العلة يا ترى؟ قصتي عجيبة والله!»
وأتى المدير ليهنئ بالعود الأحمد، فبالغ السنيور إبراهيم في إجلاله وتكرمته، أعد له غذاء ملوكيا قلما أعد مثله في البلاد، ودارت الأنخاب على المائدة، فأثنى صاحب العزة على كد إبراهيم وجده، ورفع اسم الجالية عاليا بما أنشأ من روابط متينة مع رجال الدولة في «الريو». وأخيرا رفع المدير كأسه شاربا نخب المهاجرين بشخص زعيمهم برهون، وتمنى عودتهم جميعا غانمين مثل إبراهيم أفندي.
فهز شيوخ القرية رءوسهم إعجابا عند كل جملة، خصوصا حين قال عزته: «إبراهيم أفندي».
أما سمنجون فكانت حاضرة كالغائبة، واستؤنف الأكل والشرب، ونثرت النكات والأحماض
14
التي هي مسرح القرية وحياتها؛ فانتشى إبراهيم وأفاض في سرد ما عنده من نوادر وفكاهات محفوظة، وأكثرها تدور حول المرأة، وختمها بهذه الحكاية فقال: «تزوج عزرائيل امرأة مترجلة كانت تتحكم فيه، فرزقه الله ولدا اختارت له أمه الطب مهنة، وأجبرت زوجها عزرائيل على ألا يقبض روح مريض يعالجه ابنهما، فأطاع حتى يستريح من شرها، وبعد حين كره عزرائيل الحياة مع زوجته المتأمرة، فهجر البيت، ولكنه ظل يلتقي بابنه عند المرضى.
ومرضت الملكة مرضا عضالا عجزت عن مداواته حكماء الدولة، فدعوا لها ابن عزرائيل، فتركها له أبوه حسب الاتفاق.
وعاشت الملكة طويلا، فوبخ الرب عزرائيل، فصمم على قبض روحها، ودعوا ابنه فجاء، ولكن عزرائيل ما تزحزح هذه المرة، ولما عجز الابن عن إخراجه أخذ يفكر، فما وجد حيلة أنفع من أن يتهدده ويخوفه بأمه، فصاح به: أبي، أمي ورائي، اهرب.
ولما سمع عزرائيل ذكرها طاح كالمجنون، وصحت الملكة.»
أضحكت الحكاية الناس إلا سمنجون، وفي الغد ردت عليها ردا قاسيا، فأعادت إلى إبراهيم هداياه.
هيكل
قصر هيكل عن العلم صبيا فشب هبالا
1
واكتهل دجالا.
2
عصاه بنت عم المخل، وحبات سبحته كمح
3
البيض كثافة ولونا، يلوح بإحداهما لمن يناوحه على الرصيف الآخر. في عروته نسيلة
4
صفراء يزعم أنها شارة وسام رفيع استحقه في الجبهة الغربية التي شهد معاركها متطوعا، وكان يدهده
5
الجماجم في الخنادق كرءوس البطيخ.
هيكل مفري
6
الشفة العليا خلقة، ويزعم لك أنه جرح بطولة جرحا كان قتله لولا لطف الله، وصلاة أمه، ودعاك.
رأسه براق مدور كقالب جبن فلمنكي، يجتمع فيه النقيضان: في القمة بقية وبر كصوف السنانير، وفي المنحنى شعر مثل شوك القندول. يصح في تلك الكرة ما قاله برناردشو في لحيته الكثة وصلعته الجرداء: كثرة إنتاج، وسوء توزيع ...
يلاقيك هيكل مبتسما، ويسألك على الفور: كيف حال من فارقت؟ وإذا قلت له: تعرفني؟ من أنا؟ حك صدغه، وعض جحفلته
7
بأسنان كحب الفول المسوس، ثم أطرق إطراقة الأفعوان ومغمغ: اسمك، اسمك ... على رأس لساني، حتى إذا ذكرته خاصرك وتمشى وهو يقول: أوف.
ثم يقف محاولا تقديم سيكارة لعلك تسبقه إلى تلك المكرمة ... وإن غفلت أو تغافلت تقصى جيوبه، ثم قال: هات سيكارة، نسيت علبتي عند فلان. ويسمي لك إما وزيرا وإما مديرا.
ومن مواهبه النادرة أنه يرود الأرض في دقائق معدودات، فإن رأى قلة خيرك انصرف إلى غيرك.
مسرح هذا البطل ساحات دور الحكومة وأروقتها؛ فهو «أبو فتح» جديد، يتصيد في الحرام وعلى عيني وعينك يا تاجر. هناك - في السراي - يعرض خدماته على الوارد والصادر، وخصوصا على من لا ظهر له، ولولا همته القعساء - كما يقول - مات حق الفقير.
صنارته في تصيد العوام تحية المأمورين القادمين إلى الدواوين، فإن ظفر بكلمة من أحدهم فاز بطعم كثير الخير والبركة.
إذا وفد قوم على السراي زج بنفسه بينهم ليقول بعد الخروج للمغفلين: هذا وفد من القرية الفلانية، كان ميعادهم أمس وجاءوا اليوم، عرفناهم بمعالي الوزير. مساكين، راحوا شاكرين حامدين.
ويغادر هيكل السراي مع المأمورين كأنه واحد منهم، يكمن لطرائده عند باب أحد مقاهي ساحة البرج كمون العنكبوت للذباب، حتى إذا استحوذ على جليس هاها بصبيان القهوة وصفق لهم، ثم يتلطف ويقول: اطلب، فنجان قهوة، قدح بيرة، كاس عرق، قنينة كازوز، تحب وسكي؟ أبدا غير ممكن، لا بد من شيء.
وإذا امتنعت أنت طلب هو، فتشرب على صحته، وله الغنم وعليك الغرم، فأساليبه في التغافل عن الدفع غريبة عجيبة. إن خاف أن تنزل به الكارثة ابتدر وابتكر، فكل مار على الرصيف، شرط أن يكون من ذوي الجثث الضخام، هو عنده إما موظف كبير، أو زعيم خطير، ينهض له هيكل إجلالا واحتراما، فإن رد التحية قال لك: هذا فلان بيك، صديقي جدا. وإذا أومأ ذاك المار برأسه أو يده أوهمك هيكل أنه دعاه وله معه كلام. - انتظرني، أنا راجع حالا.
وهكذا يرهنك عند صبيان المقهى كما رهن الغراب الديك في الأسطورة المشهورة.
وتلتقيان بعد حين فيعتذر ويدعوك إلى فندق شهير فيطعمك ويسقيك، فإذا رأى منك الجد، حرن
8
في منتصف الطريق، وصك
9
وجهه صكة مشئومة، وصرخ صرخة ترتعد لها: علي موعد، الله يخزي الشيطان، كيف نسيت؟! فلان - ويختار من الأسماء الرائجة أوقعها في نفسك - يكون قاعدا على نار.
ثم ينفخ كالثور ويقول: أوف، ما أثقل البشر! خنقوني يا عمي، صدقني إذا قلت لك: لا أرتاح دقيقة، من بيت وزير إلى بيت مدير، ومن عند رئيس إلى محافظ، من دائرة إلى دائرة، ومن محكمة إلى محكمة، وفوق التعب تدفع من كيسك، كلت
10
يميني يا إنسان.
ثم يتنهد ويجاوب عنك: المسألة بسيطة، من لا يحس مع الناس لا يكون من الناس، إنما مصيبتك فيهم أنك إذا قصرت عن مسألة قامت قيامتهم، أأنا رب العز حتى أعمل كل شيء؟
وتغتر بهذا الكلام فتكشف له عن وجهك وتفضح نفسك عنده، فيقبل عليك ببطنه المندلق،
11
وقوائمه القصار ويقول: يا مرحبا بك، قضيتك عند سعادته؛ أي عند القاعد على نار. الآن هو في بيته، رخص لي، أين ألاقيك الصبح؟ في القهوة؟ انتظرني هناك.
وهكذا يمد لك السفرة على الطريق ، فيربح المعركة الثانية، وفي الغد يربح الثالثة.
يصبحك بقصة ملفقة: سعادة البيك - القاعد على نار - طلع إلى صوفر، ولكن التعب ما ضاع، سهر هيكل في بيت رفيع العماد، كثير الرماد، وصاحبه طويل النجاد ... هناك، لحسن حظك، التقى سيدة تقدم وتؤخر، ينام البيك على يدها، تزود منها بطاقة توصية تحرق العشب. ثم يريك ظرفا مخربش العنوان باسم جناب البيك، ويسألك كراء سيارة. وبعد أن تتدهور فلوسك في هوته يودعك: فلا تؤاخذنا يا شيخ. ويلتفت بعد ابتعاد خطوات ملوحا بسبحته قائلا بابتسام: ادع لنا بالتوفيق.
وإذا أعرض عن هيكل ذو حاجة أو استخف به، بث حوله وسطاءه وسماسرته فقالوا له: هيكل رجل داهية، عفريت، الدنيا وسائط، لا توكل أحدا. ثم يعددون له ما حل من مشاكل كبار عدا الصغار، أصحابها إما موتى، وإما غائبون، أو مجهولون.
أما هيكل، وهو من المغامرين في الثرثرة، فعنده لكل مقال مقام. يلجأ هنا إلى ما قل ودل، فيتطلع تطلع النسر، ثم ينحني صوبك ليهمس في أذنك: الكبير منهم بيدي مثل الخاتم في الخنصر. وإذا بانت في وجهك دهشة قال لك باستهتار: نعم، نعم. كبر وصغر يا سيدي.
ويتعرم عليك هيكل مشيحا بوجهه عنك، فيقرصك الوسيط قرصة لاذعة ليقول لك: صدق يا سيدي. ويروي لك واحدة من خوارق الأستاذ هيكل ويختمها بقوله: الشكران في الوجه مذمة. ثم يغمزك صارا أصابعه، مرجئا الحديث لئلا يجرح تواضع الأستاذ بلا علم ...
الناس مغارس، وكذلك هم هؤلاء الدجالون الهبالون، إذا مات منهم سيد قام سيد، قلما يخلو منهم بلد. أما هيكل فهو رجل الساعة، له في كل عرس قرص، ينشر في الصحف كلاما يتملق به أولي الأمر كما تتملق هرتك بحك جلدها، فيمسي مقربا منهم ولا حاجب عليه ولا بواب.
قد ينقع الحر الكريم عند أبوابهم ساعات ويأتي هيكل فيجره بطوقه، وإن احتشم فبطرف ردائه كأنه يدعوه إلى مأواه، حتى إذا توسط به الديوان قدمه إلى صاحب الكرسي على أنه بيضة البلد وزعيم المنطقة ... وبهذا ينفتح فم محفظتك، ولو كان مصابا بالكزاز،
12
لمن وقاك مهانة الابتذال وذل الوقوف على الأبواب.
وصدق هيكل نفسه فغرته عينه بجميع البشر، واتجه حديثه اتجاها جديدا لما كبر، فصار يقول: أمس كنا مع فلان في «البار الفلاني»، وأول من أمس كنا في «السرك» الفلاني. خسر أكثر من ألف ليرة، شرب حتى تلف، ثم يدق على صدره مؤكدا: أنا وصلته إلى بيته، منذ عشرين سنة لا نتفارق، مثل اللحم على الظفر.
وذكروا له، في إحدى السهرات، شابا ولي الرئاسة قبل إبان الرئاسة، وسألوه: منو
13
مفتاحه؟
فضرب هيكل صدره البهم وقال على الفور: أعرفه مثلما أعرفكم، كان المرحوم أبوه يعزني، الله يعزكم، كان - الله يرحمه ويرحم موتاكم جميعا - يقول لي: دبر الصبي يا هيكل، أنا متكل عليك. أمس رافقته إلى الجبل لزيارة شخص عظيم ورجعنا موفقين. مستقبله عظيم، هكذا تنبأت لوالده، يا ليت والده عاش ليراه على الكرسي، ولكنه، في كل حال، مات مجبور الخاطر.
فقال صاحب الدار: لهذا الشاب - ودل على أحد الساهرين - دعوى في محكمته، يدفع ثلاثمائة ليرة إن ربحها.
فانبسط هيكل وكاد يخرج من ثيابه وقال: خذوها من لحية عمكم هيكل.
وضربوا له موعدا فأتاهم، وقال وهو يقعد: على العشا قلت له: يا صبي، دعوى فلان تهمني. احزروا ماذا قال؟ وحياة عيونكم قال: خذها من عيني التنتين يا عمي هيكل. ما ذكرت له المبلغ حتى أعرف إن كان يذكر الفضل. مسكين، والله ما نسي، ولكني أخيرا أخبرته.
وبعد أخذ ورد قبض هيكل المبلغ وودع. فما بلغ الباب حتى استوقفه الشاب صاحب الدعوى وقال له: تؤكد، يا خواجا هيكل، أنك تعرف القاضي؟
فهز هيكل برأسه وقال: يا سبحان ربك، نحن نغني في الطاحون؟ قلت لك: تعشيت أمس عنده.
وكان صمت غير طويل تحدثت في أثنائه عيون القوم، فأدرك هيكل أن الفخ انطبق، ولكنه تماسك وقال: إن كنتم لا تصدقوني فهذا مالكم.
وبينما كان القاضي يسترد المال أراق على جوانب شرف هيكل الرفيع شيئا غير الدم ... فاستخذى هيكل وخرج وهو يمسح وجهه بكمه.
إبراهيم القصصي
بعد معارك طاحنة وطويلة الأمد، قطع إبراهيم الشوط الأول من البكالوريا، ثم قصر في عقبة
1
الفلسفة فقعد حسيرا ملوما، وصبا إلى الجامعات فما فتح له الجزء الأول من البكالوريا أبواب معاهد الحقوق؛ فقلع ثوب «جنسيته» وجاءها متنكرا بهوية غريبة، فقبل على الرحب والسعة.
ورسب عدة سنوات فيئس وطلق الحقوق ثلاثا. التفت يمينا وشمالا فلم يجد خيرا من «الباب الواسع» فولجه، وأخذ يمد الصحف بالأخبار المحلية، فأحس الناس بوجوده. ثم تخطى إلى معالجة سياسة البلد وشئونه الداخلية، فانفتحت له أبواب ضواطير السياسة، فأمسى وإياهم يمرحون في صعيد واحد ...
وتذكر بعد حين أنه عرض على معلمه - حين كانوا يتعلمون العروض - ما قرزم من شعر، فقال له: إنك ستكون قوالا،
2
فهاجم أحد الرؤساء بقصيدة وقعت منه موقع استحسان؛ لأنه طعن بها على السلف وقدس الخلف. وأعاد الكرة في مناسبة أخرى فحك للممدوح حكا أرضاه فقربه وأدناه؛ فهام صاحبنا في أودية الشعر، ثم طمح إلى القمم مستعينا بالصحف فجعلته الشاعر الكبير، فمات من الفرح.
ورأى أنه يحسن «الريبورتاج» فأخذ يمتحن ما يجريه قلمه من الأنهار في صحارى الصحف، فرأى فيه عناصر القص، فشاء أن يكون قصصيا كبيرا، كما صار شاعرا كبيرا بباعه وذراعه ومعونة صحف كان يغمرها بأخباره الملفقة.
انكب على قراءة بلزاك واستندال ودوستويفسكي، فما رأى عندهم معجزا. رأى أنه مثلهم، وأنه يستطيع ما استطاعوا، فتمخض ووضع قصة عجيبة، لف المولود الجديد بأقمطة براقة، وطاف بتحفته على دور النشر، فوعدته بمطالعتها ورد الجواب. وبعد أسبوع أعيدت إليه مع الشكر، فغضب وسب دين بلاد ليس فيها من يتذوق الأدب السامي، وأخذ يعلن في الصحف التي يراسلها عن قصته العجيبة، ويعد العالم العربي بظهورها قريبا، ومما كتبه في أحد الإعلانات:
فريدة، قصة جديدة ... مؤلفها الشاعر الأكبر ... فتح جديد في لغة الضاد.
فيها اشتباكات ديماس، ووصف زولا، وتحليل دوستويفسكي، وعوالم بلزاك، وشخوص شكسبير، وخيال شاتوبريان. هي القصة التي يحل بها الأدب العربي محله العالمي، فليبشر أبناء الضاد فقد صار لهم أديب مسكوني.
3
وبعد هذا الإنذار كر على دور النشر، فظلت هادئة الأعصاب ولم تندحر أمامه، فرأى أن يعمل بقول المثل: ما حك جلدك مثل ظفرك. فعزم، بعناد، على أن يكون مؤلفا وناشرا، فدفع قصته إلى كاتب شهير، فقدمه إلى القراء، وتعاونا تعاونا وثيقا على غزو العقول، فصدرت المقدمة مرقومة بالحروف الأبجدية، عشرون صفحة علم فيها الكاتب الشهير الناس كتابة القصة، واتخذ لها نموذجا قصة «فريدة» ذات الحوادث العجيبة، والتصوير الغريب، والتحليل النفساني الذي لم يدرك استندال بعضه، ولا دوستويفكي أقله.
وظهرت القصة الفريدة فاستقبلتها الصحف المعلومة بالتهليل والتكبير، وعظمت صاحبها أيما تعظيم، أما الأدباء الحق فصمتوا. ونعم إبراهيم بشهرة صحفية واسعة، ولم يكتف بما استجداه من ثناء الأقلام الجوفاء، وبما كتبه هو عن نفسه بلسان الآخرين، فطمع باستدراج النقاد الكبار ...
وبلغ به حب الشهرة حد الوسواس،
4
فإذا جالسته أخذ يستدرجك إلى التنويه به والثناء عليه، وكلما فتحت فاك لتقول كلمة تبتدئ بالفاء والراء ينتفض ظانا أنك ستقول شيئا عن فريدة ... حتى إذا أيأسته من هذا جال في ميدان البحث الأدبي، وتفوق على ابن الأثير في مدح نفسه، ورأى أنه أغزر ألوانا من جبران.
ونام ذات ليلة حزينا، ضامه ركود الثناء وهو ممن يحبون أن يذكروا كل يوم، فقال في قلبه: الشهرة أقصى أماني الرجال وخصوصا الأدباء.
وبعد أن استرخى في فراشه رفس اللحاف وقعد يحسب ما ربحه من سوق الدعاية، فعزم على إنفاق ما جمع في أشرف السبل، وبعد محاولات هدأت أعصابه فنام، وملأ قلبه أمل لا حد له ولا طرف.
وبكر في الغد للاصطباح عند أحد أصدقائه، وسأله أن يؤدي له خدمة لا تكلفه شيئا، وعرض عليه الفكرة، وبعد أسابيع كان احتفال في أكبر فنادق الثغر، «علفة»
5
لها ما بعدها أقيمت على شرف القصصي العظيم.
قام الشعراء والخطباء بما وجب، وتقدم أناس معدودون لهذه المهمة وسألوا المؤلف أن يوقع على نسخ من قصة «فريدة»، ففعل ذلك بتواضع. وفي الغد ظهرت كلمة في جريدة رصينة هذا نصها:
حقا إن الأدب مهزلة في هذا البلد، إذا أقيمت حفلة على شرف مؤلف «فريدة» فماذا نترك لمؤلف تغريبة بني هلال؟ يا ضيعة الحبر تسود به صفحات لا تبيض وجه البلاد! كان قد هان علينا الأمر لو لم يمثلوا هذا الدور المضحك المبكي، ولو درى المؤلف المغفل أنها مهزلة لاختار طريقا أمثل من الطريق الذي سلك. إن سكون ريح النقد عندنا جرأ زعانف
6
الأدباء على التأليف، ولولا التدجيل الذي يؤدي إلى التضليل لظل صاحب «فريدة» في حقله، ولم يقتحم الغابات العذراء التي لا يرتادها غير النوابغ ... فما دامت الأقلام تحابي وتكتب ما يوحى به إليها، فلا ينتظر أن يكون لنا أدب صحيح.
وفي غرفته التي رتبها ونظمها على طراز فني، قعد صاحبنا تحت المصباح الكهربائي المحجب بمظلة بنفسجية يطالع «رسالة الغفران». وجاءه أحد أعوانه بالصحيفة فقرأ ما كتبه بحيرة ودهشة وقال في نفسه: يا للعجب! إن قصتي لمامة، الفصل الأول من عند موباسان، والثاني أخذ عن فلوبير، والتحليل لدوستويفسكي، والغرائب عن ادغار بووديماس، والتعابير أكثرها عن فصحاء العرب، فكيف لا تكون قصة «فريدة» فريدة؟ الحق مع المتنبي والشعراء الذين قلدوه فيما بعد: إنه الحسد، فأكثر النقاد حساد ... فليفطسوا.
ثم بدا في وجهه غضب حليم، فضرب مكتبه بجمع يده وقال: أنا خالد، وكتابي خالد، غدا تقدرني الحكومة فتزين عنقي بقلادة المجد، أو تبصم صدري فيشع عليه نجم الافتخار. وقد ألفت منذ اليوم لجنة تعنى بتكريمي وتلتمس ذلك.
وجره الحزن العميق إلى وادي الكرى، فرأى أنه في العالم الثاني، العالم الذي لم يره، ولكنه قرأ وصفا له. رأى نفسه في كوخ حقير، ليس فيه غير حصير مقطع، وقربه كوز معشوشب، وليس حول ذلك الكوخ غير قندول، وعجرم، وعليق،
7
فلم يعجبه ذاك المصير.
والتفت فرأى من بعيد رجلا ينظر إليه ويبتسم، فقال له: من أنت؟ فأجابه: ما عرفتني؟ أنا الصاحب بن عباد، لقد مت بموت دعاتي، ومات معي من دعوت له كذبا وزورا، وعاش بعدي وبعده الشاعر العظيم. كان يجب أن تعتبر بي، فكل ظل يزول إلا الأدب الصحيح، فسبحانه! إنه الحي الباقي.
السلالم!
لما لملمت عاصفة الانتخاب أذيالها حتى انقض القرويون من جبالهم الصلعاء على العاصمة، يلوحون بعصيهم ونبابيتهم،
1
وعلى رءوسهم لبادات
2
كقوالب السكر، معصبين عليها بكوفيات مختلفة الألوان. السكاكين المزرعانية والخناجر الجزينية مشكوكة في زنانيرهم العريضة، وفي يد كل فتى معتد بنفسه طبر
3
ودبوس.
4
وفي كل هنيهة تنطلق غدارة
5
فتوقظ القمم الغافية حول الطريق.
لم يبق في القرى إلا الحزب المقهور، تأكل قلبه الخيبة، وينتفض كلما قرع الجرس، أو غني بيت «عتابا» أو «ميجانا» يحسب كل بادرة في القرية نكاية وتحرشا به.
مرت الوفود عجالى على ساحة البرج يعرب هزجها عن الفرحة الكبيرة بفوز «النائب» الكريم، وإن كان أكثرهم لم يروا خلقته ... يتقدم كل ضيعة زعيمها الذي زرع الدنيا آمالا وأماني، حين دعا للنائب مأجورا أو موعودا ... فريق أكبر همه عزل المختار المستبد، وفريق يرى كل النصر في فض البلدية وتعيين الرئيس والأعضاء من أفراده، وجماعة يحلمون بشق الطريق، فضيعتهم من لبنان عند الجابي، وليست منه ساعة اقتسام الميزانية ... هي حبيبة قلب النائب حتى مساء يوم الاقتراع، ويغيب عنها وجهه الكريم ووجه سماسرته مع غياب شمس ذلك النهار. وجماعة ينتظرون المياه، فقد أسقمتهم مياه الآبار الموبوءة، وجميعهم موعودون «بمدارس» يتعلم بها أولادهم الهمل.
6
أما قيدومهم
7
فتوظيف «ابنه» يشغل باله ... «فالمحروس» حامل السرتفيكا، والسرتفيكا اللبنانية تخول حاملها حق فتح مدرسة ... ووجيه القرية تعب وضحى، ولولا مساعيه المشكورة لم تقم للحزب قائمة. أما كان الفرق سبعين صوتا بين المجلي والمصلي؟ إذن فأصوات ضيعتنا هي التي أمالت الكفة، ومن قال غير هذا نفقأ في عينه حصرمة ... لو ضوءوا أصابعهم العشر قدامنا ظلوا مقصرين. هكذا كان يقول في قلبه.
كل هذه المآرب تكومت حول بيت «النائب» الذي ملأ الدنيا وعودا لو تحقق واحد منها لباهى لبنان سويسرة. ضاقت ساحة البيت على الوفود التي تنصب فيها، فتصادموا بالرءوس والمناكب ليفوزوا بطلعته البهية، وحميت المجاحشة بين الوجهاء على الدنو من جنابه، وهز يده بحرارة على عيون الناس، فالعظيم من وقف حده.
كان استقباله لهم مرضيا، وإن قل عرض ابتسامته بعض الشيء، وهزلت هشاشته وبشاشته عن ذي قبل. لقد غاض كثير من ذلك اللطف العرمرم الذي بدا منه حين زار الضيعة، كان ينحني فيها احتراما للمكاري
8
والمعاز،
9
وقد خلع كتف الخوري حين انكب على يده يقبلها إظهارا لتقواه، واليوم يستقبل برخاوة يد حتى أبو طنوس الذي فتح بيته، وسيب
10
معجنه للمصوتين مدة «المعركة».
لم يدرك العوام ذلك فظلوا يحدون ويتهددون خصمهم، كانت أغاني القوالة
11
تملأ آذان النائب فيفرح بالثقة الكبرى، والشعبية القوية التي لم تر بيروت مثلها، ويلتفت إلى زميله قائلا وهو يهز برأسه: قلوب طيبة ياهو، ما شلاه!
12
فيضحك النائب الآخر ويقول: وجماعتي أطيب!
كان وجه النائب يعبس حين يذكره «الهازجون»
13
بوعوده الغزيرة. ولما جاء دوره خطب فيهم وأجاد الشكر، وقال إنه لا يضن على أنصاره بشيء حتى روحه، فصفقوا تصفيقا حادا، وأطلقوا آخر ما معهم من خرطوش، وعادوا إلى ضيعتهم يبتهرون
14
ويتهددون، فنبض نائبهم قوي كما كان قبل الانتخاب، وإن انكمشت ابتسامته واصفرت قليلا ...
وانتظروا مهندسي الري والطرقات، وترقبوا الصحف ليقرءوا مراسيم العزل والتوظيف وفتح المدارس. تذاكروا شئون حقولهم التي تصلح جنائن، والطريق المزفتة التي تنقل ثمارهم العتيدة
15
إلى أسواق المدن، واستعرت
16
نيران المنافسة بينهم على من ستكون جنينته أحسن، وأخيرا تركوا الحكم للأيام ... وكان حكمها قاسيا.
أما «صاحبهم» فكان مشغولا بنفسه، يعللها بمنصب أسمى، ويستغل تلك المظاهرة، فهاب المضطلعون بالحكم «شعبيته» وأصاب السهم المعلى.
17
وانتظر جماعته حتى ملوا، عملوا حساب فضلهم عليه فوجدوا أنهم لو لم يؤيدوه لكان اليوم يبيع مما يملك ليفي ديونه. إذن فلهم عنده دين مستحق، وما عذره، وهو رجل الساعة؟ وإذا كان لا يعمل، فمتى؟
وخرجوا من الكنيسة يوم أحد قال فيه الإنجيل: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. فقال عقيدهم: نخوة
18
يا شباب، إذا كان سيدنا يسوع المسيح، وهو أبو الرحمة، لا يعطي بلا طلب، ولا يفتح لأحد بدون دق باب، فكيف الحكومة؟
وبعد التشاور وجهوا إليه ثلاثة انتخبوهم بعد جدال عنيف، فاستكان على مضض من ظنوا أن القرعة تصيبهم.
ومكث الوفد أسبوعا في العاصمة حتى قابل الزعيم ثلاث دقائق، وعاد من عنده مثقلا بالوعود. وبعد أشهر ظهرت الميزانية وليس فيها شيء، لا طريق، ولا ماء، ولا مدرسة، ولا موظف، ولا ولا ... فغضبوا غضبة مضرية، ولكنهم بلعوها خوف الشماتة ... وكان صاحبهم يعلو ويسمو وآمالهم تكبر وتنمو، ولا شيء يتحقق. شعاره معهم قول المثل العامي: أسقيك بالوعد يا كمون.
19
وأخيرا عولوا على اقتحام المدينة جميعا مهنئين ومطالبين «نائبهم» الجالس سعيدا على كرسي الحكم، وإذا لم ينجحوا اتخذوا خطة أخرى، وتعلموا درسا جديدا من الحوادث.
كان عهدهم ببيت «النائب» صغيرا، وهو في شارع كذا، فإذا به صار قصرا، وحوله عرصات فسيحة ظهروا قليلين فيها، فتهيبوا الموقف. على البوابة جندي يخفر المدخل، فدخلوا الباحة بعد الاستئذان، وحاولوا الارتقاء في السلم الرخامي ذي الساعدين المعقوفين فمنعوهم. والتمسوا مقابلة «صاحبهم» فقيل لهم: مشغول بشئون الدولة، خارجية وداخلية.
استقبلهم بالنيابة عنه أحد رجاله؛ فأصروا على مقابلته هو لأن لهم قبله مطالب وليسوا بالمتطفلين عليه.
فأجابهم: اكتبوها ... فهز أحد الأهالي رأسه وقال: كأنك لا تعرف قول المثل عن الحبر والورق!
وصاح الجمهور: أين صارت الطريق؟ ... ففات الرجل مثل الحبر والورق، فضحك وقال لهم: معاليه مهتم بها. - والماء؟ - أيضا. - والمدرسة؟ - أيضا وأيضا. - والبلدية والمختار والناطور؟ - كله يصير. - هذا كلام سمعناه مرات، قل له يطل علينا على الأقل، لنا حديث معه. - هذا غير ممكن الآن، في رأسه ألف مشكلة، دوخه شغله الكثير. فقال جسورهم: ونحن تركنا شغلنا وقابلناه لما زارنا، وتقاتلنا لأجله. يتخبأ كأنه لا يعرفنا؟
فقلب الكاتب شفتيه، وهز كتفيه ... وانفتحت البوابة بعنف، فدخل وسفق
20
الباب خلفه، فعلا الصراخ والصياح، ولوحوا بالنبابيت والدبابيس والعصي، فهرع الخفير إلى التلفون يطلب قوة ترد الرجال المحمرة عيونهم عن بيت الزعيم، ولكن شيئا من هذا لم يقع.
وقع حادث غريب جدا، تحقق حلم سلم يعقوب الذي امتد بين السماء والأرض فصعدت عليه الملائكة ونزلت، هذا سلم قصر الزعيم يقف في الجماعة خطيبا، استحال ساعداه يدين رهيبتين أشار بهما إلى الحشد فخرجوا جميعا، وأصغوا إليه بأفواه نصف مفتوحة، فقال لهم:
يا إخواني، تريدون دخول القصر العظيم، هيهات هيهات، في الدنيا سلالم مختلفة: سلالم حجرية، سلالم خشبية، سلالم من لحم ودم، وأنتم واحد منها.
أما سمعتم قول ذلك الفيلسوف: كانوا سلما لي فصعدت عليهم؛ ولذلك اضطررت إلى دوسهم لإتمام سيري، أما هم فحسبوا أنني أستخدمهم للصعود والاستراحة عندهم.
مساكين أنتم يا جماعة! أنا أحمل الناس على ذراعي ليدخلوا القصر الشاهق، فأكافأ منهم بمسح أرجلهم بجبهتي. يستندون على أصابعي لئلا يسقطوا، وإذا دخلوا قعدوا يتنادمون ويسمرون، وأظل خارجا، أقاسي حر الصيف وبرد الشتاء، وإذا منوا علي فبقليل من الماء، ومكنسة عتيقة ليذهبوا أقذارهم عن سواعدي وصلعتي.
21
أنا سلم، أما أنتم فسلالم ومطايا تحملون الذين يصعدون على ظهوركم ورءوسكم وأعناقكم. أقسم لكم بالله أنني ما دخلت القصر، وكثيرا ما ينسفونني ويهدمونني إذا تعرضوا للخطر ... نحن في الهوى سوا يا إخواني ...
وتعجب الخفراء من صمت الجمهور العميق وتحديقهم إلى القصر، فقالوا لهم: لا تنتظروا، فالزعيم خرج من الباب الخلفي، روحوا في سبيلكم.
وتعجب الجمهور من بلاهة الخفراء فقالوا لهم: ما سمعتم وعظة سلم القصر؟
فصاح بهم عقيد الخفراء: مجانين أنتم يا بشر، السلالم تتكلم؟!
فأجابوا: نعم، نعم! وأبلغ وعظة سمعناها وعظتها.
فضحك العقيد وقال لهم: مساكين أنتم! من لم يكن لنفسه واعظا كلت عنه جميع المواعظ. امضوا بسلام، وانتظروا الدورة الآتية ... ولكن المجاذيب لا تتعلم!
حزبية بلهاء
مل العقال حياة القرية الصاخبة بعد ما تعودوه من العيش الهنيء الهادئ، رجعوا إلى أنفسهم فأدركوا أن في تقسمهم أحزابا سلب راحة وضياع مال، عرفوا أنهم آلات مسخرة يديرها فلان وفلان طمعا بوجاهة محلية رخيصة، فحاولوا إصلاح الحال، ولكنهم لم يقدروا على توجيه بنيهم؛ لأن كلا منهم يتعصب لرجل تعصبا أعمى. إذا اجتمعوا في عرس تشاجروا، وإن ضمهم مأتم حولوه ساحة عراك، وإذا جاء عيد - وما أكثر أعيادهم - تسيل دماؤهم على حبل الجرس، وتنوب العصي والشتائم عن تسابيح العيد وتهاليله، وهكذا أصبحت تلك المواسم مآتم للأمهات.
ورثى وجوه
1
القرى المجاورة لمنقلب جارتهم المضحك المبكي، فتوافدوا إليها لإصلاح ما أفسدته الحزبية البلهاء، ورتق ما فتقه الشيطان، ولكنهم خابوا؛ فكل زعيم من هؤلاء الزعانف يدعي البراءة ويتنصل من التبعة ملقيا المسئولية على كتفي خصمه، وإذا دعاهم المصلحون إلى اجتماع طمعا باستحيائهم إذا وقعت العين على العين، لاذوا بمحاذير كاذبة، ومضوا في غوايتهم يشدد بعضهم بعضا، أو يقهرون خصومهم ويمحقونهم.
وهكذا صارت القرية الآمنة وكر شغب وعش نكايات: كبس بيوت واستغاثات، نبابيت ودبابيس تنطق بتمجيد رءوس فارغة، فلم ير بعد هذا من يتجول وحيدا، يسيرون في الأزقة والدروب ثني وجماعات، معتمدين على خناجرهم وسكاكينهم. وقد تطلق مفرقعة فيعلو صراخ من يحب الاتهام زورا وبهتانا، وترفع الشكوى حتى أزعجت برقياتهم مركز المتصرفية.
وبلغت أخبار القرية مسامع السيد المغبوط
2
فوجه إليها أحد أعضاء ديوانه، فعاد كما جاء. زعم لصاحب الغبطة أن القلوب قاسية متحجرة لا يسمعون كلام الله، فالسعي عبث، والتعب ضائع مع أناس همج
3
أو كالهمج؛ فرأى غبطته أن يرميهم بالمرسل البطريركي الخوري يوسف اللاذقاني لعله يلقي في تلك القلوب الصخرية بذور المحبة، وأمره أن يعمل لهم «رياضة» روحية، لا تنقضي حتى يتوبوا ويعودوا إلى الله، فقد تعود هذا الأب الحسن السيرة أن يتغلب على الشيطان الرجيم ويطرده من كل قرية عشش فيها.
الخوري يوسف طويل جدا، كأنه القناة المثقفة، أصفر كالزعفران، لحيته كالتي رآها ابن الرومي في وجه حبيب قلبه البحتري، أنفه معقوف كمنقاد النسر، أهوج،
4
ناري الطبع يهب كالبنزين إذا امتد إليه أقل قبس،
5
يحب حتى الهوس حل المشاكل، وكلما تعقدت ازداد فيها رغبة. وثق الناس بفضائله المسيحية حتى غالوا فيها، فنسبوا إليه المعجزات وخصوصا بعد غيابه سنوات في المهجر.
وبلغ الضيعة خبر مقدمه، فاهتزت قلوب العجائز لهذه البشرى، وحمدن الله الذي سيكحل عيونهن برؤية اللاذقاني قبل الوفاة، والتماس بركاته ودعاه.
أما البنيات فطرن فرحا بتشريفه، وهو من عرف لدى الخاص والعام بالحملة على الشبان الذين يؤجلون الزواج، فإذا دخل قرية واعظا يعنيه قبل كل شيء أن يعرف «اللفايات»؛ أي تردد الشباب على هذه وتلك ، فيستأصلها إما بزواج مقدس يباركه هو قبل تحوله عن القرية، أو بقطع كل علاقة بين هذي وهذا، ففي شرعه أن كثرة الترداد تفسد النيات السليمة وتفرط ما نوى الشباب على عقده.
وإذا درى بعلاقة جنسية غير نقية شهرها
6
من على المذبح، وإذا نصح المتحابين وما ارتدعا لجأ إلى «الحرم». وصاحب الغبطة لا يرد لمرسله طلبا، وبالجملة هو عدو العشاق الأكبر، جبار في الكنيسة، لا يحابي ولا يصانع، شعاره في أعماله الرسولية الآية القائلة: «هو ذا الفأس ملقاة على أصول الأشجار، فكل شجرة لا تثمر ثمارا صالحة تقطع وتلقى في النار.»
ألقى مقدمه الرعب في قلوب الرعية وخصوصا الزعماء، خافوا على عنادهم من الاندحار فأتمروا على الثبات في وجهه.
قال أحدهم وهو كبيرهم: اعقلوا يا جماعة، أنتم لا تعرفون اللاذقاني، هذا خوري لا يلعب، توقوه،
7
قلت لكم، فبكلمة واحدة منه يخرب بيوتكم إلى أبد الآبدين، البطرك يسمع له ويصدقه، والحكومة تلبي البطرك، وقد فهمت أنه جاءنا واعظا، ويصير قاضيا إذا خالفناه، ويرمينا بحجره، توقوه يا جماعة.
فتناظر الشبان ثم قالوا: يفرجها الله، أهلا وسهلا باللاذقاني.
وسألوا أم طنوس، جدة الوجيه الذي ينتصرون له، عن اللاذقاني؛ لأنه نزل في بيتهم يوم كان زوجها وكيل وقف الضيعة، فأخذت تخبر أخبارا عن عجائبه أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، منها أنها امتحنته ليلة، فوضعت له شمعة حد مخدته ولم تترك له علبة كبريت، وهذا الخوري يستحيل أن يكلم امرأة ليلا، فتحسس فلم يجد علبة النار، فنفخ نفخة غضبان لحرمانه صلاة الليل، فاشتعلت الشمعة وركع يصلي فرضه.
وروت عجوز أخرى أنه كان يخبز «البرشان»
8
للقداس، ففرت دجاجة بعثرت ما أعده الخوري قربانا وحطمته، فزجرها داعيا عليها: ليتك في بوز
9 «الواوي»! ففرت الدجاجة فتلقاها ابن آوى غنيمة باردة ببركة اللاذقاني ودعاه الصالح ...
وظلت الضيعة هائجة مائجة منتظرة المرسل، والمرسل لا يأتي، إلى أن ظهر يوما بغتة. دخل الكنيسة صباح الأحد، والناس في القداس، فعرفه من الخبر من لم يعرف وجهه، وساد الهيكل سكون عميق. مشى في صحن الهيكل بوقار، فخلت سروة تمشي، واستقر على «الخورس»
10
خاشعا مصليا، وقبل نهاية القداس مشى إلى المذبح وقرأ على الناس مرسوم صاحب الغبطة، ودعاهم جميعا إلى حضور الوعظ: مرتين للرجال والنساء معا، صباحا ومساء، ومرة للنساء وحدهن عند العصر، وتسهيلا لأشغال الضيعة، وعد بانتهاء وعظة الصباح مع شروق الشمس، والابتداء بعظة المساء بعد الغروب، فالحضور واجب ولا سيما أن القرية خلت من المحبة المسيحية، فلا بد من إعادة السلام إليها طوعا أو جبرا.
فهز المعتدون بأنفسهم رءوسهم، وقال فتى جاهل: نبض المحترم قوي. فأسكته القاعدون حده.
ومشى الوعظ بحسب البرنامج الذي تعود وعاظ الرياضات
11
اتباعه: محبة القريب، السعادة الأبدية، جهنم، الدينونة، عواقب الإنسان الأربع. فكانت ترتج الكنيسة وترتعد الفرائص
12
عندما كان اللاذقاني ينتفض على المذبح صارخا: تذكر عواقبك يا إنسان.
كان اللاذقاني يؤخر المواعظ الراعبة إلى آخر الرياضة، ويقلل الأنوار في الهيكل عند إلقائها، فيمتلئ الشعب رهبة إذ يرى على المذبح شبحا رهيبا كأنه مارد ألف ليلة وليلة.
ورأى أن مواعظه لم تؤت الثمر المطلوب فأخذه العجب، ورماهم بأرهب عظاته. العظات معدة، وهو يعرفها واحدة واحدة، فيختار منها ما يطابق مقتضى الحال. كان إذا ألقى أصغر قنابله ترتفع الآهات وتعلو الزفرات ويتصاعد النحيب من زوايا الكنيسة، فما بال الضيعة قاسية قلوبها؟ إذن فليلق قذيفة من العيار الثقيل.
والتفت فرأى دموعا تترقرق على وجنتي المعاز الهرم مخايل ساسين، ونظره عالق دائما بوجه الخوري لا يتحول عنه أبدا. أفرح المشهد قلب اللاذقاني، وظن أن كلامه وحركاته أثرت بالمعاز فراح يبالغ فيها.
والتفت مثنى وثلاث ورباع فرأى الدموع تطرد فوق خد المعاز فحدثته نفسه باستغلالها، فحول وجهه صوب الموعوظين وصاح: قال السيد في إنجيله الطاهر حين وعظ على الجبل: طوبى للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله. عجيب غريب، لا يؤثر كلامي إلا في المعاز، أما الوجوه والأعيان فقلوبهم متصلبة. نعم، نعم، إن حناجرهم قبور مفتحة، وسم الأفاعي تحت شفاههم، كما قال النبي داود.
وسكت هنيهة، ثم تنحنح وقال: إن دموع العم ميخائيل ترد غضب الله عنكم أيها الأشرار، فدمعة توبة صادقة تخمد نار جهنم، ولكن يا ميخائيل، بالله قل لي ما يبكيك؟ أنا متأكد أنك نقي القلب وستعاين الله.
فتنهد مخايل وأجاب بعدما ألح عليه الخوري مرات: يا حبيب قلبي أنت، يا معلمي خوري يوسف! عندما تلوح بيدك وتشترب (تشرئب) أتذكر فحلنا
13 «بروش» الذي أكله الذئب عام أول.
مرفع!
في ليلة شباطية كأنها العروس في ثوب الإكليل، قالت أم طنوس لرجلها على إيقاع موسيقى أسنانها: أين نحن من المرفع؟
1
الكبش رزح إليته، يا بارك الله، صارت أكبر من الجاروش.
2 - اعلفيه، كلما زاد الخير نفع، لا تقولي إلا جا المرفع، بعد جمعة ونصف يا أم طنوس.
فرقص الأولاد تحت اللحاف وسنوا أضراسهم لمعركة الرفع، اشتاقوا إلى اللحم، فقد ودعوه في تشرين. ذبحوا كبشهم الأبرش يوم عيد مار جرجس، فأكلوا ما أكلوا، وملئوا البراني
3
شحما ولحما. تلك وقود أيام كانون ولياليه متى خرت المزاريب.
4
اللحم يدفئ العظام، أما النار فتدفئ الثياب. هكذا خبرهم السلف الصالح.
هذا بعض سمر
5
الليل، أما حديث النهار على أبواب المرفع فكان: كم رطلا تجرد
6
مرفعية مخول؟ وكم يعمل ثني
7
يوسف؟ وجدي حنا لحمه رخص مثل الندي، وكبش إيليا لحمه عاس، وقرقور حنينة يأكل ولا يجتر، مسموم لا يسمن، وخروف أم طنوس يفوت العشرين رطلا.
وقبل المرفع بأيام يعاير بعضهم بعضا ويتخاطرون، والموعد الأحد في الثاني والعشرين من شباط، وإذ ذاك تعرف القرعاء من أم قرون.
8
وجاء أحد المرفع فتحلقوا في ساحة الكنيسة يتنافسون بمرفعياتهم، أحاديث حامية أشبه بالنقار واللغط منها بالمذاكرة، الخوري يروح ويجيء تاليا صلاة الصبح الطويلة في كتاب الفرض، يكاد ينشق صدره من أحاديثهم. أما جاءوا ليسمعوا كلام الله، ويذكروا «موتاهم» بصلواتهم هذه جمعة الموتى؟ فما بال هؤلاء المجانين لا يلهجون إلا باللحم والخمر؟ نسوا تعاليم الكنيسة التي تأمرهم بالصلاة في هذه الجمعة. صح فينا المثل: عند البطون ضاعت العقول.
وأطبق كتابه ليقول لهم هذه الكلمة، ولكنه خشي أن يجاوبه أفرام الشقي فيقع الشر بينه وبين أولاده، فأرجأ ذلك ليقوله في الكنيسة.
ودخلوا الهيكل وكلهم يلهجون بالمرفع وأفراحه المنتظرة، وأقام الخوري صلاة الموتى الجهورية يعاونه الشمامسة.
9
وفي ختامها سأل الشعب أن يصلي لأجل راحة أنفس الموتى الراقدين بالرب، وشرع يتلو قداسه.
لم يكن الإصغاء كالعادة، فتمرمر الخوري على المذبح. لم تقع عينه، وهو يبخر الشعب، إلا على رجل واحد متخشع يصلي بحرارة، تارة يسجد مقبلا الأرض، وطورا يرفع نظره إلى صورة قديس الضيعة، ويقرع صدره بانسحاق قلب. كان الخوري يتعزى إذ يرى هذا الفقير يصلي بحرارة فيقول في نفسه: أنا أعظم من ربنا؟ أما قال للوط: لا أهلك المدينة من أجل العشرة؟ غنطوس وعيلته فوق العشرة.
وهجمت عليه بغتة فكرة ثانية، فقال: غنطوس يصلي بحرارة لأن ليس عنده مرفعية، الآن فهمت كلام الإنجيل: طوبى للمساكين، إن لهم ملكوت السموات.
وشعر بتشتت أفكاره فجمعها ومضى في قداسه. وبعد أن تلا الإنجيل قام في رعيته واعظا، فقال:
يا إخوتي المباركين
جعلت الكنيسة المقدسة هذه الجمعة تذكارا للموتى، وما معنى تذكار الموتى وكيف نذكرهم؟ بالبكاء والنحيب! لا، هذا ممنوع، والدليل قول بولس الرسول: إن الذين يموتون بالرب لا ينبغي أن تحزنوا عليهم. إذن، فبم نتذكرهم يا إخوتي؟ نتذكرهم بصلواتنا، نتذكرهم بتضرعاتنا، بصدقاتنا وإحساننا إلى المحتاجين منا.
فتنهد هنا غنطوس عن غير قصد وبلا شعور، وجأر بالصلاة هاتفا: أعطنا خبزنا كفاف يومنا.
ومضى الخوري يقول:
ما وجدتكم فاهمين هكذا، ما سمعت في الجمعة الماضية إلا حديث مرفعيات: هذه الذبيحة تعمل كذا، وهاتيك تعمل أكثر من هذي، ونبيذ فلان أطيب من نبيذ فلان، وخابية فلان باردة، وخابية فلان مثل النار ... حديث لحم وخمر كأن ضيعتنا المشهورة بالتقوى والعبادة استحالت خمارة.
لا تكونوا مثل الذين قال عنهم بولس الرسول: آلهتهم بطونهم، البطن مخزن التجارب فلان تحشوه باللحم والخمر.
تذكروا موتاكم، يا إخوتي، في هذه الجمعة. كانت جمعة الأموات فصارت جمعة الخوات.
10
جمعة الأعراس والسكر، جمعة الرقص والدبك، والشر والتقاتل.
منكم ناس إذا قلنا لهم: لا تشربوا الخمر، قالوا: مار بولس جوز لنا ذلك لما قال: قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان، وخذ قليلا من الخمر لإصلاح معدتك. صار المجانين لاهوتيين. مار بولس قال: قليل من الخمر، ولكن أنت، يا ابني، تشرب خابية ولا تروى. مار بولس قال: خذ قليلا من الخمر لإصلاح معدتك. أما معدنا نحن إذا أصلحناها فكل طحين الشام لا يكفينا.
وأنكى شيء هو قولكم: خميس السكارى. متى كان للسكارى خميس؟
كلوا، يا إخوتي، وسروا، وافرحوا، ولكن لا تنسوا الإحسان والصدقة. تذكروا وأنتم تأكلون، من ليس عنده أكل.
أشركوه في ذبايحكم، أشركوه بالخيرات التي أنعم الله بها عليكم.
وكان غنطوس لا ينفك يصلي بحرارة كأنه لا يفهم ما يقال ولا يعنيه منه شيء، وكانت عين الخوري عليه دائما، فقال:
فكروا بالقريب وأنتم ترقصون وتدبكون، وتغنون وتزمرون. حافظوا على عادات أجدادكم الطيبة في هذا الأسبوع. لا تعملوا كما يعمل غيرنا من جهال القرى: إذا لم يكن في الضيعة عرس عملوا عرسا كاذبا.
فتغامز بعض الشباب بالأيدي والعيون كأنهم اهتدوا إلى فرح جديد لم يخطر ببالهم.
وقال الخوري:
يا إخوتي، من عادات جدودنا أن يزوروا الضيعة من أولها إلى آخرها، وبهذه الزيارة يغسلون القلوب، ويتصافى المتخاصمون بهذه الطريقة، أنا مستعد أن أمشي معكم يوم «قطع الزفر».
11
فأجابه أحد المتورعين:
12
اقبلها راسا براس، اشكر ربك، يا محترم، إذا بقيت الحال على ما هي.
وختم الخوري عظته بالكلمة المأثورة:
كما ترفعون بخير تصومون وتعيدون بخير.
واستحالت الضيعة، كل جمعة المرفع، مطبخا: دعوات وولائم تقام هنا وهناك، أهازيج وأغان، ميجانا وعتابا ومعنى، وأبو الزلف وموليا، والقرادي، شيخ الزجل في هذا الموسم، يقولونه مدحا وجفاء، رقص وزمر ودبك، دق كبة وقلي أقراص، وقتار
13
اللحم المشوي ينبعث من كل بيت ... جنت الضيعة على مرأى خوريها وسمعه، وهو يسأل الله أن يمضي الأسبوع بسلام.
وخاب أمل الشباب بالعرس المنشود، فعملوا عرسا كاذبا أنفقوا عليه بسخاء، فأدرك الخوري أنها غلطته إذ ذكرهم لما وعظهم بما كانوا ناسين، ولكن الخوري ظل راضيا لأن جو الوئام لم يتعكر.
ومشى الخوري وخوريته ليلة السبت إلى بيت غنطوس يحملان أقراص الكبة وطنجرة هريسة،
14
وما بلغا الباب حتى سمع الخوري غنطوس يقول لعيلته: صلوا مرتين «أبانا» ومرتين «السلام»؛ لأجل عمكم المنقطعة أخباره في أميركا.
وعند انتهاء صلاة تلك العيلة البائسة دخل الخوري وزوجته بالطعام، فكان عشاء سري حقا.
وصباح اثنين الصوم لم يحضر القداس وحفلة «الرماد»
15
غير طنوس وعيلته، وبضعة عجائز وشيوخ؛ فتذمر الخوري، ولكنه «قبلها راسا براس» كما قال له أحدهم.
وقعد المصلون تحت سنديانة الكنيسة يتذاكرون حوادث المرفع في أثناء انتظارهم ساعي البريد، ثم انضم إليهم كثيرون من ذوي المهاجرين، وكل يترقب النجدة من وراء البحر، فانكشف ذاك النهار الميمون عن أعظم حدث في تاريخ القرية المتواضعة: رسالة من قنصل أميركا يسأل فيها عن غنطوس إلياس المحفوظ له في صندوق حكومة الولايات المتحدة مبلغ مائة وسبعين ألف دولار تركة له من أخيه.
فغرز الخوري أصابعه في لحيته الأشبة
16
وصاح: هذا مرفع يا غنطوس!
فاهتز غنطوس لهذه البشارة ومات موقتا.
مرشد الأخوية!
لحيته عامرة شمطاء،
1
فائرة
2
على وجنتيه كالعجين التاخ
3
على حفافي المعجن. تكاثرت فانشقت حزبين، وعلى رأس كل حزب شارب حائم على المورد: كلاهما متدليان كالصفصاف، يوقظهما «المحترم»
4
كلما جد في الكلام، فيرفعان رأسيهما هنيهة، ثم يعودان إلى التهويم
5
شيئا فشيئا. على رأسه «قاووق»
6
ناصل
7
الصباغ، تجهل - أول وهلة - أين تنتهي حدوده في صحراء جبهته البراقة. قاووق كفلكة
8
المغزل فوق قامة طالت واستدقت فضاع «أبونا» في جبته.
يشد خصره شدا عنيفا بزنار كان في فوعة
9
صباه قرمزي اللون، فتخال خصره الزنبوري مفروضا فرضا، أما عينا الخوري فقادحتان قلما ثبت لهما أحد من أبناء رعيته. ومن يدم النظر إليه يغض طرفه غصبا عنه، ويهتز كمن مسته الكهرباء.
ومن هذا «المركب» النحيل ينبعث صوت جهوري عريض يوبخ ويؤنب بلا مبالاة ولا خوف، صوت كاهن مؤمن بسلطانه الرسولي فلا يمالئ ولا يحابي، يعلم ويعمل ناشدا الكمال المسيحي لنفسه ولرعيته.
أنشأ «أخوية»
10
استمد روح نظامها من «أعمال الرسل»، محاولا إحياء الاشتراكية المسيحية الأولى بين أبناء رعيته، فحقق كثيرا مما ابتغى واشتهى. وعمت أخويته القرية، فكان له في كل عيد ثورة على الجيوب المنيعة، يتوقع خيرها الجزيل كل رقيق الحال.
وجاء موعد صلاة الأخوية - قرب ظهر الأحد - فدق الخوري الجرس أول مرة، وطفق يصلي متمشيا تحت تلك الشميسة الناعمة، شميسة مواتية يندر وجودها في كانون، فاستبشر الخوري وعدها نعمة.
وعند الدقة الثالثة أطبق «شحيمته»
11
ودخل الكنيسة، ثم عاد وهو يقلب صفحات كتاب كرشوني
12
لماعة مبقعة تزلق عنها الأصبع لكثرة ما تداولتها الأيدي ونقطت بالشمع، أكل الدهر حبر ذلك الكتاب الخطي كما قرض الحبر الكثير الزاج بعض صفحاته فبدت كأنها مخرمة. ولما وقع الخوري على الفصل الموافق لخطة في رأسه طوى زاوية الورقة وأطبق الكتاب، ومشى إلى الجرن الموضوع حد زاوية الكنيسة، ثم استوى فيه فصار كأنه فوق منبر.
واستدارت حلقة أبناء الأخوية في تلك الشميسة، هؤلاء على حجارة، وأولئك على جذع السنديانة الدهرية، وبعض الصغار في جوف الجذع يتوشوشون، فزأرهم الخوري فخرسوا.
أما النساء فقعدن ناحية، على صفة في ظل جدار الكنيسة المنخورة حجارته العتيقة، تتوسطهن الخورية والشيخة.
شخصت أبصارهم جميعا إلى الخوري منتظرين ما يقرأ، ثم ما يشرح ويفسر ويعلق من حواشي، كانت تعجبهم تعليقاته على هامش الموضوع أكثر من الكلام المكتوب المعاد، فالخوري - على جفاء شكله - خفيف الروح، مرح، غير زميت،
13
طيب القلب، إذا راودته النكتة في أقدس الساعات لا يصدها.
أخذ يتجمع في ذلك الجرن ويتكوم حتى إذا ما تمكن فيه شق كتابه، وهو يتمتم: أول من أمس كان عيد الميلاد، وبعد أيام يجيء عيد الختانة أيام راكضة. ثم التفت إلى القندلفت
14
وقال: دق دقة البداية يا سمعان.
فقرع سمعان الجرس خمس ضربات وجلس، فتنحنح الخوري وسأل دون أن يلتفت: كمل الجمهور؟
فنظر سمعان إلى الجدول وقال: باق فلان وفلانة.
فسعل الخوري وقال مغتاظا: فلانة معذورة أم طفل، ولكن الشيخ بطرس ما هو عذره؟
فقال أحدهم: رأس السنة، حساب كمبيالات وتحصيلات.
فقال الخوري: المثل يقول: ساعة لك وساعة لربك. وأتبعها بكلمة وهزة رأس أعجبت أبناء الأخوية فضحكوا. وشرع يقرأ فصلا موضوعه: أحبب قريبك كنفسك.
ووافقت نهاية الفصل قدوم جناب شيخ الضيعة، فأطبق الخوري كتابه والتفت إليه قائلا: خلصت من سماع كلام آبائنا القديسين، فسماع يا شيخ، كلام هذا الخاطي. ربنا وصانا، يا إخوتي، بمحبة قريبنا كنفسنا، سمعتم قصص الذين عملوا الخير وكيف كان جزاؤهم فوق، وسمعتم كذلك حكايات القادرين على الإحسان وما فكوا ريق فقير، وكيف استقبلتهم إخوتهم الشياطين تحت. المكاوي طالعة نازلة، خذ وهات، على أيديهم، على أرجلهم، على رقابهم، على صدورهم، على بطونهم وظهورهم، ما تركوا من جلودهم مغرز إبرة بلا كي.
وأخيرا ذوبوا الفضة التي كنزها الغني الشحيح والذهب الذي خزنه، وكل قرش أخذه وأعطاه هذاك القليل الخير، وصبوها كلها دفعة واحدة في بطنه، ولوسيفورس
15
قاعد قبالته يتلذذ بالمنظر الشهي.
هذا الذي أصاب من حب ماله؛ وترك قريبه يشقى لأنه جوعان، عريان، بلا مأوى. الشيطان ذكي منحوس - وجر واو منحوس جرا طويلا - يخترع القصاص الملائم والمؤلم المنكي.
وفيما كان الخوري يعظ بحرارة صاح مكار من خلف الكنيسة: معنا بطاطا، بطاطا ممتازة، بطاطا بقعكفره.
فامتعض الخوري وعدل شاربيه وصاح: تعال يا بياع، اقعد اسمع كلام الله ونفق حمولتك.
ثم التفت صوب الخورية - زوجته - وقال: عشرة أرطال تكفينا يا خورية؟ فأيدت قوله بحنوة رأس، وابتسمت مع الضاحكين.
وقرفص
16
المكاري بين الموعوظين، ومضى الخوري في الإرشاد: يا أولادي، لا يا أولاد مريم، ما معنى كلمة أخوية؟
فأجاب أكثر من واحد: معناتها أخوة.
فقال الخوري: إذا كنتم إخوة فاقسموا قسمة حق، كما يقول المثل. لا يا إخوتي، أنا لا أطلب قسمة حق، بل ربع ربع ربع الحق. يعني: أعطوني من الجمل أذنه. نعم يا أحبائي، عندنا عمل خيري كله أجر، وصيت حسن. الأجر مؤجل، والشرف معجل، فتنبهوا وانتظروا.
ومضى الخوري في حديثه يمط ويمغط، فقال واحد: تفضل يا معلمي، احك.
فأيقظ الخوري شاربيه النائمين، وقال: أخوكم منصور حنا بلا بيت، عار على ضيعة مثل ضيعتنا أن ينهد فيها بيت منذ سنتين ولا تعمره.
فتعالت الأصوات: قائمة - لائحة - امسكوا قائمة .
فقال الخوري: شيخ بطرس، تفضل.
فتلكأ الشيخ، فقال القندلفت: هذي قائمة، قولوا.
فزجره الخوري بنظرة حادة، وإذ لم يلحظ صاح به: أعط الشيخ الورقة.
فقال أحدهم: قيدوا، شغل عشرة أيام.
وقال ثان: خمسة.
وقال ثالث: سبعة.
وقال مكار: شغل ثلاثة أيام على الدابة. وقال آخر: ريال مجيدي. وقال غيره: نصف مجيدي.
وكثر المتبرعون بأرباع المجيديات والبشالك والزهراويات.
17
ثم طغى التبرع فرقصت لحية الخوري الدبكة.
وانتظر الخوري دفعة الشيخ، ولكن الشيخ ظل هادئ الأعصاب، فقال الخوري: والشيخ بطرس؟
فمأمأ جناب الشيخ وقال: ار ... ار ... ريالين.
فصرخ الخوري: وا لو! ابن عمك منصور يدور على أبواب الناس؟ افتح كيسك، افتحه، الله يفتح بوجهك باب السماء ... إلياس دفع نصف مجيدي وما عنده عشا ليلة، ومتى مشته العضة بالرغيف ويدفع بشلكين، وأنت الشيخ بطرس، يدخل لك كل طلعة شمس مبالغ ... تدفع ريالين؟ هذي ما أنزلها الله بكتاب.
ولم ينفع الكلام، وحرن الشيخ. ظل عند قوله لا يتزحزح. نتش الخوري القائمة وعدلها بنظرة مستعجلة وهز برأسه وقال: تأخرنا، قوموا نصل.
وبينما هم خارجون من الكنيسة إذا بعجوز تدفع إليه بيد مرتعشة صرة نقود قائلة: احسبها يا معلمي. فحسبها الخوري، فأربت على ثلاثة ريالات، فألقاها في الكيس وبارك أم جرجس.
وكانت السهرة تلك الليلة عند المحترم، وفيما هم يسمرون فرحانين بما عملوا، جاء أحدهم وكان قد غاب عن الأخوية بإذن، فقال: عرفت أنكم تبرعتم اليوم لأخينا منصور لتعمروا بيته، لا تستأجروا معلما، أنا أبني البيت من أول حجر إلى آخر حجر.
فتناظر الحاضرون متهللين، وقبله الخوري في جبهته قبلة رنانة، والتفت نحو الجمهور متحدثا إليهم بكل جوارحه ما عدا لسانه.
وانتصف الليل وما شعروا. وفيما هم يتسلون بأكل الزبيب والتين اليابس والجوز واللوز إذا بصراخ حاد: دخيلك يا معلمي، عجل يا خوري يوسف، بطرس حصل له عارض.
ألقت زوجة الشيخ بطرس كلمتها من الباب وعادت أدراجها وهي تطبطب:
18
هذا كله من تغضب الخوري ... الله يقصف عمر البخيل ... ساعة عمر مثل الأوادم تسوى الدنيا وما فيها، رجل دينه ومعبوده المال.
وسار الخوري مشمرا، فسبقها إلى البيت، رأى الشيخ بطرس قاعدا في فراشه يدعم رأسه بيديه التنتين، فتقدم منه جاسا نبضه، وقال: بسيطة يا شيخ!
فأجاب الشيخ: قصة حلم بشع، هذي وحلة وعظة النهار ...
فضحك الخوري وقال: مليح، فإذن زرت جهنم ورجعت، الحمد لله على السلامة.
فتضاحك الشيخ وأخرج من عبه مفتاحا أصفر معلقا بتكة المصر،
19
وزحف نحو الصندوق.
كان في نيته أن يدفع خمس ذهبات، فلما رأى أنه لا يزال حقا على الأرض جعلها ثلاثا، ولما واجه صندوقه اكتمل وعيه فأسقط المبلغ إلى اثنتين.
وأدار المفتاح في القفل فطن ناقوسه تلك الطنة المحبوبة، فطرب الشيخ ولم تطاوعه يده على تسريح أكثر من واحدة من ذلك الجيش العرمرم. وبعد تردد طويل سقطت الليرة الذهبية في كف الخوري.
فحدج
20
الشيخ بعينيه السوداوين، ووقف هنيهة وقفة المتردد، وأخيرا أدخل يده في جيبه وهو يقول لمن معه: الشعرة من ظهر الخنزير بركة. امشوا ...
مأتم قروي
ولد شلهوب وعاش في قرية تصبحها الشمس وتمسيها، فانتفع بالنور السابق واللاحق، وكثيرا ما كان يدقق في حساب عمره، فيجد أنه عاش عمرين بالنسبة إلى جاره متى الذي لا يفلح إلا إذا حمي النهار، ويفك فدانه
1
قرب العصر. كان يتهلل لهذه النتيجة فيشيع بشر صارم في قسمات وجهه المتنافرة، ويرضى عن نفسه كل الرضا، فيثني عليها بصوت عال: مثلك تكون الرجال يا شلهوب!
النوم عند شلهوب ابن عم الموت؛ ولهذا قلله ليطول عمره، فكان يقضي السهرة إما بحوك القصب سلالا وقوصرات، أو بخصف
2
النعال، أو بفتل حبال من الجلد فتل شزر
3
فتصير أطول عمرا.
ما مر قط بمسمار أو قطعة حديد أكلها الصدأ، أو طربوش عتيق، إلا التقطها ليقايض
4
بما لا ينتفع به مباشرة، فيكون للأولاد قضامي وحلاوة بلاش. أما مآثره التي يتباهى بها ويعتد، فمنها أنه تأهل في السادسة عشرة، وأصاب أرضا مغلالا، فكان له اثنا عشر ولدا وأربع بنات. كان يقلب فيهم رأسه الصغير المدور وعينيه اللوزيتين، ثم يزم بأنف كمنقار البطة ويقول: الله يدبر. ومتى تجمعوا حواليه داعب هذا، وزجر تلك، ويده لا تنفك عن عمله.
وشاخ شلهوب فقسم ما يملك بين بنيه، وراح ينتقل في تلك الأبراج الاثني عشر، وهو لا يملك من دنياه التي أنماها غير أربعين ذهبا، ادخرها لتكون تكاليف رحلته إلى الآخرة.
أما زوجته فقد استراحت وأراحت، ما كانت ترضى، لم تطب لها الحياة مع شلهوب لبخله وتقتيره،
5
وكان في قلب شلهوب منها حسرة، فصارت بموتها حسرتين. عذبت قلبه بتدللها قبل الزواج، وكلفته جهازا ينسى حليب أمه ولا ينساه، كما كان يقول. وإذا حسب ما بذر في حياته جعل ثمن فسطان العرس المخملي ونفقة العرس في رأس القائمة.
كان يحسب هذا المبلغ وفائدته المركبة طوال خمسة وخمسين عاما، فيصفق كفا على كف تحسرا على ثروة ضخمة أفلتت من يده، ويقول بصوت عال: راحت.
فيخال بنوه أنه متحسر على المرحومة والدتهم، فتغرغر عيونهم بالدمع. ثم يتوغل شلهوب في دنيا ذكرياته فيتخيل مأتمها الحافل وما كلفه من ذهبات فتتزعزع أركانه: ثلاثة آلاف قرش! ليتني ما سمعت من الناس وعملت بعقلي، كنت وفرت نصف المبلغ على الأقل.
وتلمس «كمره» الذي كان لا يحله لا ليلا ولا نهارا فاطمأن. لم يكن يأسف على فراق دنياه كأسفه على هذه الذهبات التي سيتفرق شملها يوم دفنه، والفراق مر، فيقول: قلة عقل، خوري واحد كثير علي، مسكين ابني داود! ركبته العيلة، أمس كانت حرمته طائفة بالحارة تفتش عن أقة خبز، سمعتها تقول لأم جرجس: جمعة عمي عندنا، وما في معجننا رغيف، فانسلخ قلبي.
وكبرت مروءة شلهوب عند هذه الذكرى، فمد يده إلى عبه ليعطي كنته مجيديا ثمن عجنة، ولكنه استظهر على التجربة بإرادته الحديدية فلم تلك اليد وبزق على الشيطان. إن المبذرين إخوان الشياطين.
وعجت البقرة فصاح بكنته: عشي البقرة يا عمي، هذي حيوان لا يحكي ولا يبكي.
ثم عاد إلى تفكيره. أدرك أنه يضيع الوقت بالتفكير، فعذر نفسه؛ لأن العتمة تعوقه. ولو أنه ضوا السراج كانت الخسارة أجسم، فما يعمله لا يوازي ثمن الزيت، فهو إذن قد وفر.
ونام تلك الليلة بعد صراع هواجس عنيف، فرأى أحلاما غريبة: موتى يخالطهم كأنه وإياهم في شبابه، ورأى امرأته أيضا جاءت تطالبه بأشياء أشياء، وحسر اللحاف عن رأسه فرأى النور ينسل من شقوق الباب فنهض من فوره، وخرج يتمشى على المصطبة مزيحا كابوس أحلام الليل عن صدره، ولكنه غرق في أحلام اليقظة فقال: يظهر أن الله راض عني، انتظرت عزرائيل مرات وما جاء. ثم استضحك وقال: الله يبعده.
وطفق يتأمل الضيعة وإطارها الجميل، فرأى منظرا عجبا، قد يكون كان، ولكنه لم يحس به كهذه المرة. كل ما في الحقل جميل ثائر: جنت الزهور وتطاولت الأعشاب، واشرأبت شفاه البراعم، والسنونو تهبط وترتفع كأنها ترقص في الجو، فأعجبه المنظر وتذكر الموت فقال عفوا: الله يبعده.
ومر واحد من لداته فعزم عليه فعرج، وقعدا يتذكران أيام الشباب ويتحدثان عن الدينا الزائلة، وذكر له شلهوب أنه أبصر في منامه زوجته، وتذاكرا في تأويل ذلك الحلم، فأجمعا الرأي على أن زوجة شلهوب محتاجة إلى معونة روحية، فنوى شلهوب على إعطاء خوري الضيعة حسنة قداس.
وأيقظ ابنه الصغير، فأخرج المعزى من المراح، وبعد أن استعرض شلهوب ذلك الجيش، شيع «الشيخ» - وهو كراز عزيز على قلبه - بنظرات أبوية وابتسامات مملوءة إعجابا، ثم أخذ مسبحته وتمشى يصلي فرضه.
وفي مساء هذا اليوم الجميل نفضت شلهوب البرداء فاصطكت أسنانه، قاوم ما استطاع، ولكنه لم يثبت فنام.
وطالت نومته وكثر عواده، فهو على حرصه وتهالكه على الدنيا كان يغالي في عيادة المرضى ابتغاء للأجر. كانت مروته عظيمة، جواد سخي بكل ما لا يمس كيسه، ولكل شيء عنده حساب مقوم.
وساءت حال شلهوب فاستعدت الضيعة ليومه، وليس المأتم في القرية بالأمر الهين؛ فعلى كل بيت واجبات كإطعام المؤاجرين، وتقديم المرطبات، والسيكارات، والقهوة حتى الكحول والنقل والإركيلة.
وبان الموت في شلهوب فقعد الخوري حد رأسه لا يفارقه خوفا عليه من عدو البشر، والناس شطران، شطر يروح وشطر يجيء. والغادي يسأل الرائح: أين صار؟ أما المحترم فكان يجيب الجميع بضجر: الأمر بيد الله ... ما بقي إلا القليل.
وقف دولاب العمل في القرية، فجميعهم ينتظرون الساعة، وعقرب الساعة بطيء جدا.
وكانت الحشرجة تتقطع فيخالون أنه مات حتى إذا امتدت يد إلى الكمر ردتها يد شلهوب وعاد يغرغر.
وبلغ أنسباء شلهوب في القرى النائية أنه نوى الرحيل، فتهافتوا على القرية فملئوها، واستحالت البيوت مطابخ، فاستهلك العواد ما هيئوه ليوم الدفن، فهرع صاحب الدكان إلى البندر يتحوج. وطال نزاع شلهوب فراح الناس يعللونه على عادتهم فقال واحد: في رقبته ذخيرة عود الصليب، فأجابه الآخر: من أين له الذخيرة؟ فتشه الخوري فما وجد غير ثوب السيدة.
فقال آخر: إذن واقد نير.
وبينما كان عواده الغرباء يتغدون في أحد البيوت قرع الجرس حزنا فتنفس الجميع الصعداء وهرولوا إلى بيت الفقيد، أما سمعان - مجهز موتى القرية - فكان أرشق من النسيم. حلق ذقن الفقيد، ثم انتزع «الكمر» وشرع يلبس شلهوب بذلته الدهرية: شروال جوخ، وصدرية مخمل، وزنار حرير مخطط، وكبران، وبعدما أصلح هندامه أنامه نوما مريحا، فبرز في أحسن سمت، فاكتسى وجهه سيماء الطوباويين.
وانعقد على الأثر مؤتمر المناعي، فشق كبير الضيعة الحديث قائلا: كلنا غلة الموت، شقي المرحوم وتعب، ولكنه جمع. مات - والحمد لله - مجبور الخاطر بالمال والرجال.
وبعد هذه الخطبة البليغة التفت إلى بطرس ابن شلهوب البكر يسأله عن كبر المأتم وصغره.
فأجابه: الثوب الذي تفصله نحن نلبسه.
فصاحت أخت الفقيد وهي عجوز درداء: أملاكه نصف الضيعة وتقول: كبير وصغير!
فصاحت بنته: لا تستخفوا فينا، انعوا البلادين.
وانقطع الكلام، فاستل الشيخ مسبحته من جيبه وطفق يعد القرى التي اعتادوا أن ينعوا إليها الوجهاء، فزاد عددها على الخمسين وتجاوز عدد كهنتها المائة.
ومشت الأقلام على الأوراق، فتقدم كهل من الشيخ وقال بصوت منخفض: أنطون حرد لأنكم ما نعيتم قرية زوجته.
فقال الشيخ: سيدنا البابا فقط معصوم من الغلط. أنطون، لا تؤاخذنا يا عمي.
وتبادلا ابتسامة رضى زاد بها عدد الكهنة خمسة.
وقال متزعم: ما افتكرتم بسيدنا.
فصاح الجميع: محفل كبير بلا مطران.
فقال الخوري: المال لا يكفي الخوارنة، ما مع المرحوم غير أربعين ليرة.
فاصفرت وجوه أبناء شلهوب، فقال واحد من الناس: اجعلوا «المعلوم» نصف مجيدي.
فقال الشيخ: لا يا جماعة، لا تمسخوها، المال موجود.
ومال على بطرس يوشوشه، فقضي الأمر واقترض بطرس خمسين ذهبا.
وحمل الشباب نعي شلهوب إلى البلاد ساحلا وجردا، لم ينسوا النادبين والنادبات.
وانصرف بعضهم إلى إعداد غداء المحفل الكبير، فذبحوا خمسة رءوس من معزى المرحوم وفي مقدمتها «الشيخ» الذي كان يحبه حبا جما.
وأفاق شلهوب من غفوته الطويلة فقالت له حفيدته الصغيرة: ذبحوا «الشيخ» يا جدي.
فأجاب شلهوب: الله يقطع رقبة من ذبحه. ونظر إلى ثيابه وقال: من قال لكم حتى تلبسوني بذلتي؟
فقالت البنية: قالوا إنك ميت. - من قال؟ لا، ما مت بعد، وأين الكمر؟
وعلقت عيناه بوجه ابنه بطرس، إلا أن بطرس لم يكن يدرك شيئا في تلك الساعة، كان مشغول البال بمن نعى، وبما استدان، وبما ذبح من القطيع، ولكن شلهوب كان عند حسن ظن ابنه هذه المرة، فمات بعد هنيهة وانفرجت الأزمة الشلهوبية.
حظ ونصيب!
كانت لوسيا خصبة البطن، فما دار القمر تسع دورات حتى أهل الصبي، فملأ الفرح البيت وتعداه إلى القرية، فزوجها اسطفان محبوب من كبار القرية وصغارها، عرف بالفتوة والمرح، فكنوه قبل الزواج بو مروه. شاب تام الخلق، وإن لم يكن آية في الجمال، شجاع، غيور، كريم النفس، لا يتخلف عن فرح ولا يقصر في ترح، قيدوم الشباب في الحوادث السوداء والبيضاء، هو أول من يحدو للعريس، وأول من يندب الميت، حاضر القلب واليد واللسان، لا عيب فيه غير حول في إحدى عينيه فصح فيه قول المثل: يا حينو لولا عينو.
سلف جميع الناس فهبوا جميعا يهنئونه بابنه البكر، فامتلأ بيته سكرا ورزا، وصابونا وفراريج. وكان اسطفان مزهوا بهذه النعمة يقعد شاربيه بين دقيقة وأخرى، ويقدم النقل والقمح المغلي لكل زائر وزائرة، ويحشو جيوب الصغار لوزا وزبيبا. يكاد الفرح يقطر من عينيه، ولكنه يحاول ألا يعرض إحداهما فينظر بالوراب.
وكانت الأم الراقدة في زاوية ذلك البيت الطويل المتواضع تهش وتبش، رادة التهنئات والتحيات بأحسن منها، مع أنها كانت ممغوصة، ولكن سرورها بثمرة أحشائها المبكرة غطى على وجعها.
وبعد أشهر مرض الطفل فعالجته القابلة بالبابونج والحقن، فانكسرت شوكة الحمى، ولكنه ظل كزهرة لا تيبس ولا تينع. اتسعت حدقتاه وقشط اللحم عن وجنتيه، فأمست ذقنه حادة بعد استدارتها الفاتنة. كان الطفل يذوب وأمه تذوب معه فتضعضع الوالد. أم تبكي، وولد يئن، ووالد يقعد كئيبا حزينا قدام باب بيته يشكو إلى الله همه.
ورأت أم إلياس طبيبة أطفال الضيعة، وهي عجوز ربت خمسة عشر ولدا، أن الكي ضروري فكووه أولا في القمة، وإذ لم ينجع طبها هناك انحدرت إلى لحف الذقن، ثم هبطت إلى البطن فكوته ثلاثا فوق السرة، ففارق بعد أيام.
وبعد عام رزق اسطفان ولدا آخر كان حظه كأخيه، ثم ثالثا ورابعا فلحقا بأخويهما حتى مات صبره وكاد يكفر بربه. لا يدري كيف يعزي زوجته التي يحبها فيطفر إلى الحقل، أما الزوجة المسكينة فأين تهرب؟
كانت تبكي كلما وقعت عينها على السرير وتقول في نفسها: الذنب ذنب من يا ربي؟ من المذنب منا؟ إن كنت أنا أو زوجي فما خطيئة أطفال أبرياء حتى لا يعيش منهم واحد، دخيلك يا مار جرجس، وا لو، صبي واحد فقط حتى نقدر أن نعيش، مسكين ابن عمي! ما تغير أبدا، ما رأيت منه إلا كل خير.
ثم أقبل الخامس فأشارت إحدى العجائز أن يسموه باسم أحد الوحوش ليردوا عنه «القرينة» التي خنقت إخوته جميعا، فقالت الأم إنها علقت في رقابهم جميعا «كتاب مار قبريانوس» وطوق قصحيا، والله العظيم ما تركت واحدا بلا كتاب ولا طوق، عن مذبح كل قديس أخذت بركة، يا قلة الحظ!
فقالت العجوز: اعملي مثلما قلت لك، سميه نمرا أو أسدا أو فهدا فلا تقربه «المطرودة» أبدا، نسوان كثير أصابهم مثلما أصابك وخلصتهم بهذه الواسطة.
ثم كان مؤتمر خماسي من الجدين والأبوين والعجوز، فاختاروا اسم فهد للمحروس الخامس، وتهللت الأم وعاشت زمنا بهذا الأمل الجديد.
وجاء يوم العماد فحملت الولد عرابته، ومشى والده وعرابه خلفهما إلى الهيكل حيث كان الكاهن والشمامسة وبعض الأقارب ينتظرون، وشرع الكاهن في رتبة العماد، ولما بلغ قوله: أنا أعمدك يا ... سأل العراب عن الاسم المختار، فتعالت أصوات من الشعب: فهد، فهد، يا أبونا.
فرقصت لحية الخوري غضبا وقال: فهد، ايش هو هذا الاسم؟ الوحوش في غنى عن العماد، أنا لا أعمد الضباع والفهود، هاتوا اسم قديس، فاهد، ما شاء الله! - نرجوك يا محترم. - لا لا لا، مستحيل يا أولادي، مستحيل، لا تجربوني. وكان الجد من العارفين بهذه الأصول فصاح بهم: لا تغلطوا الخوري، الخوري معه حق. سم يا معلمي الاسم الذي تريده.
فتماسك الخوري وضبط نفسه وقال: أنا أعمدك يا ساسين باسم الآب والابن والروح القدس.
فهمس الشيخ في أذن جاره: هذا اسم قديس ابن عم فهد. ثم قال للخوري: عال يا معلمي، عال، كان الله قاعد على لسانك، أصبت عصفورين بحجر واحد.
وجاء دور الغداء فأكلوا في البيت طعاما شهيا أعدته أم فهد، وتأنقت فيه ما شاءت، وخرج الكاهن داعيا للولد بالسلامة، وللبيت بالبركة ...
وفي ليل ذلك النهار استيقظت لوسيا على صراخ ولدها، فأخذت تصلب فوق سريرة، ثم جاءت بكتاب مار قبريانوس فعلقته فوق رأسه في عمود السرير الأفقي، فنام حتى الصباح.
ومرت أيام وأسابيع لم يشك فيها الطفل ألما ولم يوجعه شيء، ثم حبا ودب وتجاوز عمر إخوته، وأمه ما تزال مضطربة، خافت ألا يكون اسم فهد كافيا لصد «القرينة» فقالت في نفسها: لماذا لا نلتجئ إلى مار ساسين سميه في العماد؟ مار ساسين قديس نشيط، تفزع به الأمهات الأولاد متى تشيطنوا.
وظل هذا الفكر يروح ويجيء حتى قلقت في إحدى ليالي كانون وقلق زوجها معها فقالت له: ناوية أن أنذره لمار ساسين، فما رأيك؟ الأحسن أن نمسك الحبل على الطرفين. - الرأي رأيك، اعملي مثلما يلهمك ربك.
وفي الغد فصلت لوسيا لفهدها ثوب راهب، ونذرته للقديس ساسين، وأرخت شعره على أن تقصه في تمام السنة الرابعة يوم عيد القديس ساسين ، وفي مقامه، وتزن ثقل الشعر ذهبا.
وبعد سنتين وبضعة أشهر كانت أم فهد وزوجها في الطريق إلى حاقل، ومعهما خروف يقوده زوجها، وخرج من القمح المدقوق على ظهر الدابة التي تركبها الأم والصبي، وما أطلوا على «حاقل» حتى رأوا الرءوس تموج في ساحة كنيسة القديس ساسين كسنابل الحصاد، موسم يقصده المؤمنون من أماكن بعيده، وفود وفود معها نزور وقرابين، شمع وبخور، زيت ونقود.
وبعد أن زاروا الكنيسة واستراحوا ذبحوا الكبش، وأوقدت النار تحت الهريسة التي نذرتها أم فهد فطورا للمعيدين.
تلك كانت أول مرة شهدت فيها لوسيا عظمة عيد مار ساسين، إنها لم تحضر إلا عيد قريتها، وعيد قريتها ليس من فحول الأعياد؛ لأن القدماء لم يحسنوا اختيار قديس من أصحاب العجائب الكثيرة، والمعجزات الكبيرة. قديسهم وسط؛ ولذلك كان عيده بين بين.
وقفت أم فهد كالمشدوهة تسمع وترى: رقص ودبكة، أغاني عتابا وميجانا، شباب تسامى للعلى وكهول، فتحت سوق عكاظ بين القوالة، واحتدم القول حتى أدى أخيرا إلى «الجفاء» الذي يسميه الشعر الرسمي هجاء، ولولا العقلاء علق الشر.
هوذا ضيعة كبيرة جاءت جرد العصا، فحسب العقال للعاقبة حسابا. كانت أم فهد مكروبة ولا تدري لماذا، أما أبوه فكان يمشي كالراقص، يحيي هذا، ويصافح هذاك، يعرف الكثيرين من الزائرين فهنئوه بالسلامة، ودعاهم إلى أكل الهريسة على سلامة المحروس، فوعدوه خيرا.
وكان الصبي يسأل أمه أسئلة ساذجة فتجيبه وهي كالساهية، ترتاع كلما اشتد الصخب وتتأهب للرجوع ثم تتذكر أنها ناذرة، وغدا موعد قص شعر الصبي ووضع النذر على المذبح.
وتلاحى شباب قريتين فحجز العقال بينهم وصالحوهم، فعادوا إلى مجالسهم يشربون ويأكلون ويسمرون، وانقضت الليلة على سلامة وعافية.
وفي الغد كانت أم فهد في الهيكل راكعة قدام المذبح، فجز الكاهن شعر فهد، ووزنت الأم ثقله ذهبا، وقعدت بين النساء تصلي صلاة الشكر متضرعة إلى مار ساسين حارس ولدها. أما أبوه فكان بين الرجال، يحدث هذا، ويتندر على ذاك، وزوجته تصرف على أسنانها متألمة من استهتاره، تنظر إليه نظرة تبكيت وكأنها تقول له كلما وقعت عينها على عينه: سماع كلام الله يا رجل، احترم صاحب المقام الذي حفظ لك ابنك. بيد أنها كانت تتعزى إذ ترى أكثر المصلين مثله.
وما انتهى القداس حتى كانت أم فهد وبعض المؤاجرات يكسرن الهريسة، بينا كان الشباب متحلقين حول حبل جرس مار ساسين. الجرس شهير يقصده الشباب الأشداء، وينتظرون عيده ليظهروا مواهبهم العضلية، فكان الحبل ينتقل من يد إلى يد.
وكان شاب ذا شاربين معقوفين كذنب العقرب، وأنف أقنى كأنه منقاد نسر، عيناه كالجمر لكثرة ما وقد من الكحول؛ فاحمرت أعين الشباب حسدا واحتكوا به، وكان الخبط واللطم واللكم، وماجت الجماهير في تلك الساحة حتى خلتهم قطعة واحدة تتحرك.
واستيقظت أم فهد من همكتها بالهريسة على صراخ الجماهير، وسباب الشباب، فما رأت فهدا حولها، فصرخت: ابني، ابني!
وزجت نفسها بين الجماهير تصرخ صراخا يفتت الأكباد ويسمعه حتى صاحب المقام ... ففعل صراخها في الجماهير ما لم تفعله همة المصلحين، فهمدت الضوضاء، وانجلت المعركة عن عدة جرحى، وبعج بطن فهد، فأكلت الهريسة عن نفسه ...
السلامة غنيمة!
النار في الموقد تبربر وتغني وإبريق القهوة يدندن، حتى إذا دب الخادم بالحطب هزج الإبريق وبقبق، وهلال منبطح في الزاوية ملتف بعباءته، يجرد ساقه ورجليه إظهارا لجوربيه المخططين وبابوجه المزركش، يغصب نفسه على القراءة ناظرا من وراء نظارتين ذهبيتين، غرته الأبهة فركبهما فوق أنفه الأفطس. كان يتزنر بحبل القد أو الشعر، ويكوكي خلف والده حاملا الجراب فلا يبلغ الحقل إلا بعد ألف جهد، حتى إذا مشى القلم المجهول في لوح القدر، تبدلت صورة هذا البيت.
فر أبو هلال من وجه العدالة إذ جرح أحد بني عمه جرحا مميتا، فإذا الثروة في انتظاره بالريو ديجانيرو. ربح الجائزة الأولى في «البيش»، فأصبح بين ليلة وضحاها من أصحاب بيوت المال، طويل التجارة، عريض الجاه. ومشى قدما، فأمسى سيدا خطيرا توقره الجالية، وسمعت كلمته أصحاب المقامات من رجالات البرازيل.
وأخذت السفاتج ترد على ابنه هلال حتى ازدحمت ببابه، فشخر ونخر. شاور والده في بناء بيت رفيع العماد تخسأ من النظر إليه أبناء عمومته فأجابه:
ولدنا العزيز هلال
احسب حساب غدرات الزمان، السترة تكفينا، ما سمعت قول المثل: على قد بساطك مد رجليك؟ لا تكبر فشختك يا ابني.
والدكم: مرهج
وطوى رسالته هذه على حوالة بألفي ليرة إنكليزية، فخطا هلال خطوة واسعة أدت إلى خطوات أوسع وكثرت أقاويل الجيران، هذا يقول: توفيق غريب عجيب، المال مكبوب على الطرقات حتى يجمعه مرهج! والله العظيم قصة عمنا مرهج قصة غريبة. وإذا بزوجته ترد عليه قائلة: الدنيا سعود وبخوت.
ومثل هذا الكلام كان يتداول في زوايا بيوت عرشين وعلى مصاطبها كلما اجتمع اثنان، أما عند بيت مرهج فتسمع: هاتوا الطين، قدموا حجارة، أصوات تتعالى على الحيطان، ووجوه الجيران تتقلص وتتمدد وتصفر وتخضر، والسن تقول: كان هلال في شروال خام مصبوغ، وصديرية ديما، وكانت الأرض لا تطبق ثقالته، فكيف به وقد لبس الجوخ؟ من ينجينا من شره متى كمل القصر؟
وما صفف قرميد بيت هلال حتى لاحت للقرية أشباح النفوذ الرهيب وتحققت ظنونهم. طمح هلال إلى مشيخة الضيعة وراح يسعى لها، سخت نفسه عن مائتي ليرة إنكليزية إن صيره مدير الناحية شيخا.
ودرى حزب الشيخ بما يطبخ هلال فتهيئوا للكارثة، كيف تفلت المشيخة منهم؟ هذا لا يكون. فأعدوا للأمر المال والرجال، فغلا سعر السوقة وتدللوا حينا، وخفض لهم الأنصار جناح الذل، وظلوا يداورونهم حتى اشتروا أصواتهم آخذين عليهم العهود والمواثيق، ثم حاموا حول صاحب الرفعة مدير الناحية فرضي بالتي هي أحسن ...
لم يكن عزل شيخ في عهد المتصرفية بالأمر الهين، ففكر المدير بحل مريح مربح، فبقي الشيخ في منصبه الرفيع، وعمل من هلال بيكا. كان موسم التبرع للأسطول العثماني، فتبرع هلال بخمسين ليرة عثمانية إعانة للأسطول الشاهاني المظفر، ونامت المائة والخمسون الباقية عند المدير نومة أهل الكهف، ففتح البيك هلال بيته على مصراعيه: سفرة ممدودة للرائح والجائي، أكل وشرب قهوة وإركيلة وسكاير أكسترا عند البيك، سهرات تارة تكون صامتة تقضى بلعب الورق، وحينا باجتماع القوالين يغنون للبيك الطازج، داعين لأفندينا بطول العمر ... وهلال ينفق عن سعة، والحوالة في ظهر الحوالة.
هوذا رجال البيك ينصرفون من «الدار» قرب منتصف الليل، ممسين جنابه واحدا واحدا، وهو يرد كل مساء بأحسن منه، وخصوصا لمن يودعون جنابه بالبكوية، ويكشر بوجه من يغلط ويقول: خواجا هلال. والويل لمن يقول: هلال فقط.
صار بيكا بشطحة قلم وهو يحفظ بطاقة مدير الناحية، في قلب قطعة من الأطلس الزاهي، مدبجة بخيوط استعيرت ألوانها من قوس قزح، وقد حف بها إطار يشع كعين الشمس، عرضها في صدر القاعة ليقرأ كل زائر:
إلى سعادة قائمقام كسروان المحترم
إن صاحب الدولة مظفر باشا متصرفنا المعظم يشكر أريحية هلال بيك مرهج لتبرعه بخمسين ذهبا عثمانيا، إعانة لأسطول الدولة العلية، أيدها الله، فبلغوا المومأ إليه شكر أفندينا، ودمتم محترمين.
مدير القلم التركي
ن. ر.
وما خرج آخر واحد من السمار حتى صاح هلال بك: فريدة، هاتي ورقة عن الكنسول، عتم، توقي.
النار لا تزال تثرثر، وإبريق القهوة يبربر، فارتفع الغطاء واندلعت القهوة على الوجاق، فهرولت فريدة، فصاح البيك: على مهلك، كب القهوة خير، ربما جاءنا مكتوب من الوالد، طول، ضاقت يا فريدي.
فصاحت فريدة: وكيف لا تضيق فيك، لو أعطوك مال القارون تبذرقه بيومين، اخبزوا، اطبخوا، حمسوا البن، هاتوا السكر، أين الدخان يا فريدي؟ كل مال البرازيل لا يشبعك. - قلت لك ألف مرة: هذا لا يعنيك، لا تنقي، اعملي إركيلة. - إركيلة! راح الليل يا معلمي. - نعم إركيلة، هاتي الورقة.
ونتشها بغضب فما صارت في يده حتى خربش عليها: سيدي الوالد. ولكنه ضرب عليها وكتب: يا بيي، وهو يقول: بلا سيدي بلا بطيخ أصفر. ثم بدأ كتابه كالمعتاد: بعد تقبيل أيديكم. ولكنه عاد فخربشها وقال: أنا هناك حتى أقبل يده! ما قبلتها حتى أقول له ذلك. بحياتك يا ربي ألهمني كيف أكتب حتى تصل البوليصة مثل البرق، انفضحنا، كبرنا «الفشخة» فانفسخنا، مؤكد أن أولاد الحرام كتبوا له عن كل شيء، ما تركوا كبيرة ولا صغيرة حتى خبروه عنها، وخصوصا ابن عمي بولص الحسود الكلب، رأى نفسه صغيرة ، لا أحد يسأل عنه، مؤكد هو الكاتب لوالدي. تركته رنجه وقالت لأم سليم: بيك مثل هلال أفضل بكثير من فلاح مثل بولص. كان الوالد يبعث الألف خلف الألف، ومنذ سنتين ما بعث بارة، معناتها أنه هناك أرذال يبخون، ركبنا الدين، وإذا تأخر الوالد انفضحنا، كل هذا هين عند حجز حوائج البيت، أو الحبس.
ووقفت فريدة تتأمل اضطراب البيك، وتنظر إذا كانت الإركيلة تدخن، فلم ينتبه هلال إلى موقفها منه، ولما أدرك أنها سمعت بعض نجواه قال لها: روحي نامي يا بنت، اتركيني وحدي، وانكب على الورقة بحدة يكتب:
بعد السلام والكلام، أخبرك حصلنا بجاهك وكدك على عز ما حصل عليه أحد في بلادنا، ولكنه يتدهور إذا لم تعجل بإرسال الدراهم، عجل، وإلا راحت البكوية طعام القرد، عجل، أنا على نار، انقطاع تحاريرك قطع ظهري، ابعث ألف ليرة بالتلكراف حالا حالا حالا حالا.
ولدك: هلال
ثم أخذ المكتوب وأحرق بجمرة إركيلته زواياه الأربع، ووضعه في مغلف كان أحد التلامذة نسخ له عليه عنوان أبيه، ونام على أمل أن يسلمه في غد إلى ساعي البريد.
نام وملء رأسه الهواجس، فقضى ليلته تلك بين الغافي والواعي، نام ولكنه لشدة اضطرابه خال أنه لم ينم، فقضى ليلته لا ينتهي له حلم حتى يبدأ آخر. وأفاق مع الصبح فإذا به لا يتذكر إلا واحدا: رأى أن بئره فارت كالقدر، ولكن لون الماء غير صاف، ثم طغى الماء فكاد يطم البيت فاستنجد وصرخ، فإذا بساعي البريد يدق الباب، فقعد في فراشه يفرك عينيه وهو يقول: الله يعطينا خيرك.
فأجاب الساعي بعد السلام والإكرام: كله خير يا جناب البيك، المدير يتغدى عندك يوم الأربعاء.
فوجم هلال، وسترا لضعفه أجاب بنبرة: أهلا وسهلا.
أما فريدة، وكانت تهيئ القهوة للبيك، فصاحت: العمى، ما لهم شغل غير الأكل والشرب، اطبخي وانفخي يا فريدة ...
وقال البيك: ومن أميركا؟
فمط الساعي شفتيه، وهز جفنيه وساد السكوت.
وبعد أيام رؤي كهل نحيل أصفر اللون، مرتخي الشاربين، في يده حقيبة أكل الزمان شيئا من زواياها الأربع، يقطع طريق الضيعة بضعف وتوان، ولا يسأل عن أحد، يقف متأملا كل شيء.
استغرب الأهالي زيه فأطلوا من الأبواب يرون أين يقصد، وأي بيت يدخل، ولم ينزووا في بيوتهم إلا حين دخل بيت هلال بك، فقعدوا يرجمون، هذا يقول: غايته كذا، وذاك: هذا مرسال.
ودخلت واحدة من أولئك النساء المترجلات على المجتمعين وقالت: يا جماعة، إن صدق ظني، هذا أبو هلال.
فصاح بها زوجها: مجنونة أنت! أبو هلال يهز البلاد متى جاء، الله يرد عنا، يد البيك قصيرة ولا يهدأ.
فدقت المرأة يدا بيد وصاحت بعناد: هذا هو، من يشارط منكم؟
وكان هو، ما عليه غير ثياب عتيقة، وفي يده حقيبة رثة فاضية، أغناه البيش، وأفقرته البورصة.
حردان
قال الراوي: كان عهدي به مد النهار كالذي صرعه عنترة في حومة الموت، فإذا بذاك الشحم قد ذاب، وأمسى قليلا ظله ... كان ذا قفا كالطبل، فإذا به لا يرج ولا يمور. كان يلبس الألبكا صيفا، والصوف المارينوس شتاء، فكنت إذا ما رأيته منتصبا تخاله عدلا قنطاريا من الشعر يستوعب مئونة البيت من القمح. لقد دق جناب «البيك» واسترق، فماج في ثوبه الرحراح حتى يحسبه الرائي أنه مستعار وليس لجنابه أصلا.
كدت أنكره حين بادرني بالتحية، ولكن نبرة خاصة في صوته لا تزال ترن في أذني منذ سنتين ذكرتني به. أما الوجه الذي يحمله اليوم فلم أستطع فك مشاكله ولا حل رموزه الهيروغليفية إلا على ضوء صوته، كان ذا عينين تقاومان المخرز، فإذا بهما ذابلتان تشتكيان حتى ضوء النهار الغائم، وكان ذا وجه مرح طروب فإذا به كوجه طفل يتهيأ للبكاء، تكرش وجهه واتسع فمه كمغارة الضبع، وشاء أن يحذف بضع صفحات من سجل عمره فأحفى شاربيه فتبشع، وبان العيب الفاضح في عنوان كتابه.
أدهشني منه أن يستولي على المبادرة في التحية بعد أن كان لا يردها. كنت في الأمس أسيج الطريق بقدي الممشوق، ووجهي الصبوح، أستعد على ابتسامة تقيد الأوابد، ولكن البيك، في عز سلطانه، كان يفر من المأزق كالغزال الشارد، لا يرعوي لروعة حسن ولا لسحر جمال ... فأقعد آسفا على لحظة محيية أفلتت مني ... فليس رد تحية وبشة قليلة من موظف كبير بالأمر الهين.
وازداد عجبي حين قال لي: تفضل أين تستريح؟ ثم جرني معه جرا إلى أول قهوة، وانزوينا.
قعد سيدنا البيك ولكنها قعدة قلقة مقلقة، فكأن سعادته على شوك، نفيخ وفحيح، تنهد وتأفف، أتطلع فأرى شعرات جفنيه «البشيريين» واقفة على سلاحها، استعداد وتأهب في مناطق الوجه كلها، يريد جنابه أن أفتح أنا الحديث، فأخذ يلقي شباك نظراته ويغمرني بالتفاتات معناها: تكلم، فتجاهلت غمزاته وومضاته.
وانتقل مولانا إلى إيه، ونعم، ولكني ظللت معتصما بالصمت والتجاهل، فاضطر إلى إلقاء الدرر وقال لي: من أين جاءك هذا السكوت؟ أعرف أن لسانك يلحس أذنيك.
فأجبته: علمنا الجدود أن السكوت من ذهب.
فنفخ نفخة تذري بيدرا، وهكذا انفتح الجراب.
فقال: يرحمهم الله، كانوا خيرا منا وأحسن.
فأجبته: لا خير ولا أحسن، ولكن الحنين إلى الماضي من طبع البشر. التمدن على قدم وساق، والمدارس ملء الأرض، والأمل بحياة جديدة ينعش القلوب، شباب طماح ...
وما سمع كلمة «شباب» حتى ازرق وجهه واخضر، وكدت أسمع صريف أسنانه، ثم فتح فمه متثائبا. وبينا هو يربت بأصابعه الجرداء على باب المغارة، قال مجمجما: لا تذكر الماضي ما لم تترحم عليه.
قلت: ولماذا؟ ابدأ بضيعتك، أليس جيرانك اليوم أحسن منهم أمس؟
فضرب رخام الطاولة بنريج إركيلته، فاشرأبت نحونا الأعناق، ولكنه لم يبال وصرخ: كيت وكيت من جيراني، ما بقي في الدنيا جيران مثل الناس، جيراني؟ ليتك تقبر كل جار مثل جيراني، جيراني كانوا أول من عيد يوم عزلي، ولولا الحياء «نورت» بيوتهم.
قلت: إذن جيران أوادم، فنحن بألف خير يا مولانا، ما دام في الدنيا حياء.
فهز جمجمته هزات، فقلت: وأصحابك الجدد أليسوا أرقى وأكيس من الذين آخيتهم في ماضيك ال ... في الماضي العتيق.
فامتعض أولا، ثم زالت الامتعاضة حين أصلحت تعبيري وقال: أصحابي! وأين هم أصحابي؟ كلهم ذئاب كاسرة، فسدوا مثلما فسد الزمان الذي نحن فيه.
قلت : والجماعة.
فتنهد وقال: أية جماعة؟ حزبنا! صار حزبنا بلا راس، لا تذكر شيئا من هذا، كل واحد يشد صوب صدره، الناس مع الواقف، إنهم لا يذكرون شيئا من تضحياتي، لا المال ولا الجهاد ولا ولا ... كأني لم أعمل شيئا يستحق الذكر.
قلت: الرب يعوض، عندك أولاد، المستقبل لهم.
فتنفض كديك الحبش، وانفتحت حدقتاه، وطفرت منهما عينان حمراوان خلتهما بيضتي عيد، وقال: كل البلا من أولادي، لا يرجى منهم خير، خاب الأمل، يضحكون مني، يهزءون بماضي والدهم، لا يذكرون يوم كانت الناس على أبوابهم مثل النمل، نسوا كل ذلك، أولاد مناحيس، شرب عرق، ولعب قمار، ورقص إلى آخر الليل، هذا شغل أولادي، طيروا كل ما جمعت.
ولما عجزت عن سماع كلمة ثناء منه نهجت نهجا آخر وقلت: وكيف ترى الطبيعة، هل تغيرت مثل الناس؟
فقال: أية طبيعة؟
فأشرت بيدي التنتين وقلت: الطبيعة ... كم يوجد طبيعة في لساننا؟
فهز برأسه وقال: تريد الطبيعة المعروفة؟ فهمت، إي نعم، كل شيء فسد، لم يبق شيء كما كان، الهواء فسد، والأرض فسدت ... أين موسم الحرير اليوم؟ أين الغلال في وقتنا الحاضر من الغلال الماضية؟ خيرات كانت دافقة، كان رطل القمح بقرشين يا شيخ، لا أمراض ولا وباء، صحة مثل الحديد، انظر اليوم، الأكل بالقراريط، الدنيا مقلوبة رأسا على عقب ... ألا ترى بعينيك؟
قلت: أرى ما تراه أنت، فما سبب كل هذا؟
فأجاب: السبب ... السبب ... السبب. وظل يمضغ السبب ويعلكه، فقلت: الاستقلال طبعا.
فالتفت ليرى إذا كنت جادا، ولكني لم أدعه في حيرته، فقلت: تذكر جلستك هنا منذ سنوات، كنت تحاضر عن محاسن هذا الزمان، كنت ترى كل شيء مليحا، وتغضب لهمسة انتقاد.
فتمكن من كرسيه وحدق إلي بغضب وقال: ماذا تعني؟
قلت: أعني أن كل هذه المساوئ فينا، ونحن نتهم بها الزمان ... مسكين الزمان، ما زال الزمان كما كان، وما زال أهله خيرا مما كانوا.
فقال: لا أوافق على هذا.
فقلت: توافق أو لا توافق، هذه حقيقة وعليك أن تعرفها، فلو ظلت المياه في مجاريها لكنت ترى الدنيا بألف خير. إن الذي ساءت حاله هو أنت، فخلت أن كل ما حولك قد ساء، فلو عدت إلى حضن إبراهيم لما قلت إن الناس في جحيم، فهذا النسيم الذي تصوره لنا أحاديثك ريحا سموما يستحيل في الحال بردا وسلاما، وتقول للناعقين كما تنعق أنت الآن: في فمكم التراب، سدوا بوزكم، كل ما في البلاد يكذبكم.
فأطرق صاحبي وأخذ يفتش في جعبته عن آخر سهم، ولما وجدها فارغة تحامل على نفسه وقام، وكأنه أبى أن يخرج من المعركة مغلوبا، فقال - وكان المطر قد انحبس: ما رأيك في هذا الطقس؟ هل مر مثله على البلاد؟
قلت: هذا كله من الاستقلال.
قال: يعني ...
قلت: وما معنى قولك يعني؟
قال: والأمراض التي لم نكن نسمع بها.
قلت: وهذي أيضا وصى عليها الاستقلال.
فكظم البيك، ودرى أن الحديث استحال استهزاء، فشاء أن يغير المجرى، فقلت: دعني أكمل، وأين جارك الذي مات أمس؟ وبيت ابن عمك الذي احترق منذ جمعة؟ والجسر الذي سقط البارحة؟ والقطار الذي حاد عن الخط أول من أمس؟ وحمارة جاركم التي ضربها «الملعون» فماتت مأسوفا على شبابها الغض؟ كل هذه البلايا والمصائب سببها الاستقلال، أليس كذلك؟
فنهض البيك عن كرسيه، والامتعاضة ملء وجهه المتجعد، ترك طربوشه على الطاولة عربون العودة، وبقيت وحدي أفكر في هؤلاء الناس الذين يقيسون الدنيا بمقياس غضبهم ورضاهم. وفيما أنا أتبحر بقول الشاعر:
إن نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام، هذا إن عدل
تذكرت المثل السائر: فلان يحكي أكثر من قاض معزول.
لم يخرجني من منطقة تفكيري إلا صوت صبي من باعة الصحف ينادي: معنا جريدة الوطن، تعيينات جديدة. ثم أقبل علي وبسط العدد أمامي قائلا: اقرأ، اسمك فيها، لعلك تعطيني البشارة إن شاء الله.
فعبست وقلت للفتى: ومن قال لك إنني طالب وظيفة؟
فقال الولد: مالك غضبان؟ قلت ربما، أتهمتك بسرقة حتى غضبت كل هذا الغضب؟
فضحكت وقلت: طيب، خل لي العدد.
وبعدما قبض ثمنه شاء أن يدلني على اسمي طمعا بالبشارة، وما كان أشد دهشتي حين قرأت:
عين الأستاذ فؤاد إبراهيم قاضيا في محكمة بداية المجدل فنهنئه، وبهذه المناسبة نرى لزاما علينا أن ننوه بخدمات والده الجليل بطرس بيك إبراهيم، فقد قضى الشطر الأكبر من حياته في القضاء، وكان مثال النزاهة. إننا نتمنى أن يصح في نجله الكريم الأستاذ فؤاد قول فيلسوف الشعراء:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
فقلت في نفسي: صدفة غريبة! وقعدت أنتظر عودة بطرس بك، وأخيرا جاء يهدج ويلهث.
فقلت له: أطلت الغيبة يا بيك، وقد حدث في غيابك ما حدث.
فقال: وماذا صار؟
فقلت: تقرأ، أو أقرأ لك.
فقال: نسيت نظارتي في البيت، تفضل اقرأ، وماذا في هذه الأيام غير أخبار المصايب والبلايا والضرائب السخنة.
فلما تلوت على مسامعه خبر تعيين ابنه قاضيا، قلت: أهذا خبر سيئ يا مولانا؟ كنت أحب أن أسمع رأيك الجديد في زماننا وأهله، ولكن الأفضل إرجاؤه إلى البيت عندما نقوم بواجب التهنئة.
فنهض وهو يقول: أهلا وسهلا، ننتظرك الليلة.
فقلت: نعم، لنسمع الأسطوانة الجديدة ...
فما زاد جوابه على ضحكة صارخة دلتني على أنه شمل «الزمان» برضاه ...
دكان الضيعة
من رأى الخوري يتمشى مستعجلا ظن أنه يقيس سطح قبوه ... زكى غيظه وحنقه لون سمرته فصار باذنجانيا، يتحدث ويشير كأنه يماشي شخصا، يسيره شعوره الداخلي فتارة يبطئ وطورا يسرع، ومن رآه تحت أذيال تلك العتمة الرمادية الهابطة على الضيعة رويدا رويدا خال أن أحد عمالقة التوراة قد نشر.
وقبل أن يلف الليل القرية بشملته السوداء مر بطرس على الطريق الملازق بيت الخوري، فطار عقل الكاهن حين وقع نظره عليه، فبصق من حيث لا يشعر، وعلت همهمته وحث مطيتيه كأنه رائح إلى دفن ويخاف أن تفوته الصلاة وما يليها ... ثم انفجر يقول: دكان بطرس خرب الضيعة، كنا بألف خير قبل هذا الدكان، عود الناس على الشرب ولعب الورق، فهجروا الحقول، الكروم وبساتين الزيتون والتين أكلها الشوك والعليق، الأرض كلها بور، قندول وبلان، كانت الضيعة تبيع من كل الأصناف، فصرنا لا زرع ولا ضرع .
حنا طنوس كان يطبخ قنطار تين ويبيع قنطارين وأكثر، واليوم اشتهى أولاده قشرة التين، ومن أين يأتي التين؟! الأرض إن أطعمتها تطعمك، وإذا دينتها توفيك القرش عشرين، ولكن الذي كان يدينها راح، وترك أولاده غارقين في دكان بطرس، لا شغل ولا عمل، شغلهم القمار وشرب بيرة وعرق.
وأخذ يفتش عن أسماء المشروبات الحديثة فما دار على لسانه اسم واحد من أسمائها، فانتفض وأشار بيده إشارة غضب وقال: مشروبات غريبة ما لها دين ولا مذهب، ما عاد يعجبهم النبيذ والعرق، ولكن الشرب هين عند القمار ... يا عضرا نجينا، تدرجوا من لعب المنقلة والداما والطاولة إلى لعب الورق، ومن لعب الورق إلى القمار، متى كان الإنسان يبيع الطنجرة؟ جرجس بن حنا طنوس باع الطنجرة حتى يقامر، يا خراب الضيعة!
ضيعتك تخرب قدام عينك، يا خوري يوسف، وأنت واقف قبالها مثل الخيال؟! لا لا لا لا، وبخ وأنب ولا يهيننك أحد كما قال بولس الرسول.
يعلم الله أنا ما قصرنا، ولكن على من تقرأ زبورك يا داود؟ ناس مثل الحيطان، إذا لم نسكر دكان بطرس راحت الضيعة، وعلى الشرف والطهارة ألف سلام.
بنات ونسوان، شباب ورجال في دكان بطرس الملعون، يقابلهم بضحكته الشيطانية، يتدحرج بينهم مثل البرميل، كرشه قاعد قدامه كأنه في الشهر التاسع. لعنة الله على هاتيك السحنة الملعونة! المنافق يعمل حاله مثل المهرج ويضحك على ذقون الناس، والناس حمير لا ينقصهم إلا الذنب. كان أفقر واحد في الضيعة فصارت الليرات معه مثل التراب، تعجبك ضحكته عندما يزوي هاتيك العين الحولاء ... الشيطان بذاته.
وكانت زوجة الخوري تتنصت ولكنها لا تسمع إلا كلمات متقاطعة، ما فهمت منها إلا ما دلها على أنه يتكلم عن بطرس ودكانه، وبطرس عزيز على الجميع، ودكانه ملتقى الخلان ... يحول عينه الحولاء صوب الجيوب، وليفعل الناس في دكانه ما شاءوا، فهو غير قيم على الأخلاق، لا يعنيه إلا أن يبيع ويقبض.
وتقدمت زوجة الخوري منه وقالت: نسيت حالك يا خوري، نحن في كانون، الطقس بارد.
فكز المحترم وقال: ما عليك، الطقس بارد، وأنا حامي.
فقالت في نفسها: الله يطفيك. ثم قالت له بعطف: اقعد، تدفأ واحك، من يعارضك.
ودخل الخوري، وقبل أن يقعد انتفض رافعا رأسه ويديه نحو السماء، فلاحت أصابعه كالمدرى وانتفشت لحيته كالبلانة وصاح: غضب الله، من فوق، ينزل عليك يا بطرس، خربت الضيعة. سألني الوعاظ عن دكان بطرس فنكرت الحناء وأثرها محافظة على سمعة الضيعة، أما الآن فغير ممكن أن أسكت. - اسمع مني يا خوري، ما لك وما لهم، كلهم من حزب بطرس، يدين هذا، ويقرض هذاك، ولولا نفوذه ما عينوه أمس مختارا، وما سألوا عن أحد، هذا شر، ما لك وما له. - اسكتي يا خورية، لا تشوري، هذا شغلي، هذا واجب كهنوتي ديني، من يحمل عني خطيتي يوم الدين؟ أنت يا حرمة؟! وأنت كم مرة قلت لك: لا تدخلي دكان بطرس، لا تشتري شيئا من عنده، كوني مثلا صالحا، لا توصلي موسى بطرس إلى لحيتي؟ سمعتي؟ - ايش بك الليلة يا خوري؟ نحن يجب أن نكون لعموم الضيعة. - هذا مطلوب من الخوري لا الخورية، الخوري يكون للعموم، فهمت؟ الآن أقدم عريضة لسيدنا البطرك التمس فيها «الحرم» لبطرس ومن يدخل دكانه، القمار ممنوع دينيا. - ليس هذا من رأيي يا خوري، اسمع مني، لا تتعب نفسك وتقلق الضيعة. - من سألك عن رأيك حتى تقولي ليس هذا من رأيي؟ كان يقع في «الصينية» أيام الآحاد لا أقل من مائة قرش، فصارت لا تجمع إلا عشرة قروش. كانت «صينية» عيد الميلاد تجمع خمسمائة قرش، البارحة ما جمعت إلا أربعين، أكل البيضة وقشرتها ابن الحرام. القرش الذي كان يحطه الولد في الصينية صار يشتري به علكة من دكان بطرس، أنا ساكت، ولكن كيف أسكت عن القمار؟ من يسرق فسطان أمه ويبيعه؟ ابن رشدان باع فسطان أمه المخمل في البترون ولعب بحقه، يا خزيتنا ويا هتيكتنا!
قومي هاتي الدوا.
فترددت الخورية وأخذت تتفرس في وجه الخوري، فصاح بها: ما عرفتيني بعد؟! أنا خوري يوسف. - ايش بك الليلة. - قومي قلت لك.
وقدمت له الدواة ولفيفة الورق الطويل العريض، فنشر واحدة منها وانكب يكتب لصاحب الغبطة.
وتحلحلت الخورية فصاح الخوري: إلى أين؟ إلى الدكان إن شاء الله.
فقالت الخورية: حس عياط. فقال الخوري: وماذا نسمع بعد اليوم غير العياط، القلة تورث النقار يا خورية، قولي لي ما لك وما لهم.
حرق أنيابه فأسمع صريف القعو بالمسد، وأخذ يقرأ ما يكتب: فيا سيدنا الكلي الطوبى، إن هذا الدكان جهنم أرضية، فإذا لم ترشقوا صاحبه بالحرم الكبير راحت الفضيلة وطار الدين، نصير مثل البهائم، لا بل البهائم خير منا، البهيمة لا تقامر على غداها وعشاها، أما أولاد ضيعتنا فصاروا يقامرون على كل شيء، ولا يستبعد أن يسرقوا أواني الكنيسة الفضية والذهبية ليقامروا.
وكانت الخورية تسمع وتتمرمر، وخبرت أخاها القادم من الدكان عما نوى عليه زوجها فقال لها: اتركيه يعمل مثلما يريد، الحالة لا تطاق يا أختي، سمعت العياط طبعا، سكر خليل وجرمانوس وكان ختام السكرة ضربة سكين.
فصاحت الخورية: ضربة سكين!
فقال أخوها: نعم، نعم، وقريبا يلعب الرصاص، اتركي الخوري.
فقالت الخورية: وماذا عمل بطرس؟
فأجاب أخوها: بطرس مشغول باله، خبرته امرأته أن ابن غاريوس أخذ ثلاثة رجال يعرفهم من الدكان وغداهم في بيته، فقامت قيامته عليه؛ لأنه خسره بضعة قروش.
فرقصت لحية الخوري غضبا وأخذ يشد على مغلف العريضة البطريركية وهو يلصقه، كأنه يشد على رقبة بطرس الغليظة ويقول: هذا النوري يريد أن يمحو صيت الضيعة وكرمها، يريد أن يحرم الضيافة ابن الكلب حتى يربح قرشين ثلاثة، ومتى رحنا إلى القرى والضياع من يطعمنا إذا عرفوا أننا نبيع الغرباء الخبز والبيض والزيتون؟ الله يقصف عمره ما أرداه!
ثم التفت بالخورية وقال متهزئا: قولي لي بعد: لا تطلب «الحرم».
هذا لا يكف شره عن الضيعة غير «الحرم». عندما ينقطع الناس عن المعاطاة معه وتقف حركة دكانه يتربى.
فقالت الخورية: ومن يسأل عن «الحرم» اليوم؟ الذين كان يخوفهم «الحرم» ما بقي منهم أحد.
فمد الخوري يده إلى حذائه القريب منه، فحنت الخورية رأسها لتتقي الضربة، ولكن المحترم لم يفعل توقيرا لأخيها، فقال الأخ للخورية: لا تقولي مثل هذا الكلام يا أختي، نسيت أنك أنت خورية؟
فصاح الخوري: تغيرت أختك يا سلوم، دائما تعارض وأنا صابر.
وبينا هم في هذا الحديث جاء أحد الآباء يشكو ولده الذي يسرق كل ما تصل يده إليه، ويقايض عليه في الدكان إذا لم يكن معه دراهم.
فصاح الخوري: هه، قولوا لي بعد: لا تحرمه.
وما سمع الشيخ كلمة «الحرم» حتى وقع على يدي الخوري يقبلهما، ثم أخذ يبحث عن رجله المتحصنة تحت ذيل جبته ليقبلها أيضا، فنبح الكلب وهجم، فزجره الخوري، فعاد إلى مقعده، ولم تنقطع موسيقى هريره.
وقال الخوري للرجل: قل لهذه المجنونة بنت عمك، خبرها أن الحرم هو لعنة الله، ومن تحل عليه مصيره الخراب والهلاك إذا لم يصلح سيرته الفاسدة.
وبينا هم يتحدثون عن ويلات الدكان علا الصياح، وهرع بعضهم إلى بيت الخوري يسألونه الإسراع للحجز بين العائلتين الملتحمتين بسبب ضربة السكين.
فقال الخوري لفتى من ذوي قرباه كان عنده: البس ثيابك، واغد علي لتأخذ مكتوبا إلى بكركي.
قال هذا وهو يشد حذاءه، ثم توجه إلى حيث المتشاجرون، وبعدما حسم الخلاف قال لبطرس وهو عائد إلى بيته: ما قلت لك يا بطرس لا تسق أحدا في دكانك؟ ما قلت لك لعب القمار يخرب الضيعة؟
ولما جاء الأحد كان الحرم في عب الخوري، فتلاه على مسامع رعيته بعد قراءة الإنجيل، فهدر الشباب وهمهم الشيوخ، وأراد بطرس أن يحتج فأسكته عتل من جماعة الخوري، فانسحب من القداس وقعد قدام دكانه يبتهر، فقال له أحد العقلاء: لا تهد ولا تقد، «الحرم» على القمار والسكر يا بطرس، فلا تقع ولا توقع الناس.
وهدأت الرجل أياما، وانكف الكثيرون عن ارتياد الدكان حتى أفاق الناس ليلا على صياح بطرس واستغاثته: احترق الدكان!
وكثر القيل والقال، قال فريق: هذا الحرم. وقال آخرون: الحرم لا يحرق البيوت ولكنه يضر بالشخص. أما الخوري فاحتار في حل هذه المشكلة، وهو يعرف قصصا كثيرة عن مفاعيل الحرم، إما أن يحرق دكانا وكل ما فيه من بضاعة فهذا كثير.
وبعد كد ذهن واجتهاد عنيفين وصل أخيرا إلى هذا الحل الوسط: إن لم يكن هذا الحادث من مفاعيل الحرم فهو دون شك من تأثيره؛ فالله لا يترك دينه، إنه ينجده من وقت إلى آخر ليعتبر البشر.
ونام مطمئنا إلى هذا الظفر، وقبل أن يغطي رأسه بلحافه قال للخورية: كيف رأيت «الحرم» يا خورية؟
فقالت: يحرق بيوت الناس ... وبصوت لا يسمع: ويروي غليل الخوري ...
وظل الخوري والناس مشغولين بتعليل هذه الأعجوبة، حتى كان بعد ظهر السبت، فقرع الخوري الجرس وأقبلت الرعية على الاعتراف، وفي طليعتهم حنينة زوجة بطرس صاحب الدكان.
وبعد أخذ ورد اعترفت حنينة للخوري بأنها هي التي أشعلت النار في الدكان، فعجب الخوري وصاح: أوه! أنت حرقت دكانك يا بنتي؟ هذي من يعملها غير المجانين.
فأجابت حنينة: أحسن من أن يحترق قلبي وقلبك ... حلني يا بونا.
الناطور
حنا ديب من بيت حط عليه الدهر، ولد في علية تسامي الكنيسة وتنظر إليها شزرا، أكل جده ديب حصرم الوجاهة فضرس والده، باع توته وزيتونه وكرمه وتينه حتى العلية، ولم يترك لابنه حنا غصنا يقع عليه الطير، فشب حنا واكتهل في قبو جاثم على كتف «الوطا»، تلك البطحاء الواسعة اللابسة من ورق الزيتون ثوبا لا يبلى، إذا سرحت فيها نظرك من قدام قبو حنا تخالها مظلات جيش مرابط في ذلك الغور، ترتفع بينها شجرات عفص وسنديان وبطم ركبها العريش فبدت كأنها عذارى دوار في ملاء مذيل. على حفافي هذا المنخفض المنبسط تنوء الأشجار المثمرة بأعبائها، وفي وسطه طريق عام يربط ثغور لبنان: صيدا وبيروت وجونيه وجبيل؛ بقصباته المشهورة: دوما وبشري وإهدن. كان ذلك يوم كان لبنان منيعا لم تهتك حرمته الوعرة طريق الدواليب، فقلما خلا ليل من قفل مكارين تلطف أجراس بغاله وجلاجلها وحشة الليل.
كثيرا ما كان يسمع الناس عياط المكارين: يا حنا، ما عندك ماء تسقينا؟ وكان حنا يهتز للسقيا، على قلة الماء في القرية وبعد البئر عن قبوه، فكان لا يمسي إلا وجرته ملآنة استعدادا للطوارئ، وهو ابن بيت أطعم بسخاء، فكيف لا يسقي؟ والماء لا يكلفه إلا قليلا من التعب. فعند كل غروب شمس كان يرى منتصبا كالبرج فوق أرجاء بئر الدرب أو بئر الدكان يملأ جرته «البغالية»، ثم يحملها بيده اليمنى دون أن تنطوي قامته الشامخة. وإذا التقى بأحد، وهو على حاله تلك، ينبسط وجهه تجملا، ولكنه لا يبتسم ولا يضحك.
إن رؤية بيت دب فيه ثم هجره ابن خمس كانت تؤلمه جدا، وكيف يتحامى ذلك، والآبار كلها حول الكنيسة أو قربها، وهو محتاج إلى الماء؟ لا بد إذن من النظر إلى علية بيت الكريدي وتذكر أيام عزه في الطفولة. ومع أن حنا مشته العضة بالرغيف كان يتجمل ويري الناس أنه بألف خير شبعان مكفي مثلهم، بل كان يفوقهم بأنفة يدل عليها شمم طبيعي في هيكله المتناسب بدانة وطولا. كان في خده صعر لا يستقيم، وكبرياء موروثة، إذا دخل بيتا ولم تبسط له طراحة أو مسند على الأقل يظل واقفا، ثم يلوذ بعذر وينصرف. عرف الناس هذه الخصلة فيه، فإذا رغبوا في مسامرته، أو كانوا في حاجة إلى «شريك» في لعب الورق، مدوا له الطراحة والمسند، فيقعد بطل لعبة «الداكا» وتختم السهرة بأكل الجوز والتين اليابس والزبيب.
كان لحنا شاربان معتدلان، لونهما خروبي كجلدة وجهه، يركزهما حين يؤاتيه «الورق»، وإذا خانه الحظ حك نقرة في ذقنه، ومتى غلب يصعد الدم إلى وجهه فيسود، ثم لا يلبث أن ينقلب إلى وكره، فيستقبله كلبه غبار محييا بذنبه، مقبلا بملء شدقيه، حتى إذا سمع حس إنسان أو حيوان وقف على حائط المصطبة قدام باب القبو وطفق ينبح، ولا يزال يهر حتى يبتعد الحس أو ينقطع، فيعود ليقعد حد صاحبه الذي يربت له على ظهره مثنيا على نخوته.
كان حنا يحدث كلبه كأنه بشر، وكثيرا ما كان الكلب يفهم عنه. وهذا الكلب أنوف عفيف، فيه كثير من أخلاق صاحبه، لا يطوف على الأبواب كرعاع الكلاب، رباه حنا على عزة النفس والأنفة، فهو لا يتبذل ويلحق بصاحبه في الضيعة، وإن كان لا يتركه في البرية، يظل مع ابن خاله الحمار يتداعبان، وإذا غاب حنا وحماره، ينطر غبار القبو ولا يبرحه.
وكان خلاف على الناطور، فانشقت الضيعة حزبين، حزب يؤيد الناطور السابق، وحزب لا يريده، فسعى محبو السلامة في فض الخلاف، فلم يقعوا على شخص يرضى عنه الجميع، فقال الخوري: حنا، يا أولادي، هذا رجل طيب أمين، بيته على كتف «الوطا» ولا يملك عريشة ولا زيتونة، وما قال أحد إنه قطف عنقود عنب، أو حبة زيتون. ضيعتنا تحتاج إلى ناطور أمين، صاحب ذمة مثل حنا.
وفوتح حنا بذلك فأجاب: الدهر يجور على السلاطين، الحاجة لا تصير ابن ديب الكريدي كلب الضيعة، لا لا لا.
قال حنا هذا ورفع يده بإباء، فوقف كلبه على سلاحه، وازداد حنا حدة فهر الكلب، فاضطر حنا أن يبتسم له حتى يسكت.
وبعد مساع عنيفة قبل حنا عصا النطارة وأظهر عبقرية عجيبة. كان بخلاف النواطير صامتا فلا يعرف أحد أين يكون، إن خراج القرية ذو التواءات، والوطا مشتبك الأشجار، ولكن صمت حنا ذلل هذه المصاعب كلها وهابه الذين يعبثون بالأرض. أما كلبه غبار، رفيقه الدائم، فكان يلزم الصمت حين يأمره حنا بذلك، وكثيرا ما كان يستنيبه فيرسله وراء خروف ضال أو عنزة شاردة، فيسوقهما أمامه ويجيء بهما إليه، فيأخذ حنا الضريبة المفروضة له على كل رأس.
وظل حنا في وظيفته هذه عشر سنوات لم يلطخ اسمه بشهادة زور أو سوء أمانة. وفي أيام المواسم حين كان يخشى غزو الثمار، كان لا ينام إلا غرارا، يرابط كل ليلة في مخرم فيصون الكروم والإجاص والسفرجل، ولا يستريح باله حتى يتم قطاف الزيتون. وفي ذلك الحين يتبرع له الفلاح الوسط برطلين ثلاثة حلوان سهره وتعبه، أما الملاك الكبير فلا يعطيه أقل من خمسة، وبعضهم كان يعطيه عشرة.
وفي أحد أيام الشتاء انتصب حنا كالمارد على شرف من صخور شير الكروم ليشمل بنظره خراج مملكته، قلب رأسه صوب كسارة العين، والفتاح والبياضة، فما رأى بهيمة في غير موضعها، فتطاول لسطوته التي أمست تغنيه عن اللف والدوران والوقوف بالمرصاد. نعم، ليس كانون كشهر أيلول حين تكون المئونة على العود، فاليد في الصيف ممدودة، ولكن متى كانت الحال هكذا؟ لا معازة ولا بقارة، ولا قطع إحراج. أعجبت حنا نفسه كثيرا وشكر ربه على هذه النعمة، ورفع يديه ابتهالا وحمدا، فإذا بالصخر يزحل من تحته، وظلا منحدرين معا حتى استقرا على شفير النهر.
وكان في الجبل المناوح معاز يرعى قطعيه فصاح: راح طعام القرد، الله يسهل ... الله يسهل، استراحت المعازة والبقارة. ولكن حنا نهض وأخذ ينفض ذيل شرواله ويمسح يديه المقلوقتين، ثم طلع في الجبل يفتش عن عصاه وطربوشه المغربي. كان طربوشه عالقا في رأس شجرة زعرور فتسلقها وأخذه، أما عصا الرعاية فلم يجدها، فعاد إلى البيت على أمل أن يعود ويفتش عنها في غد.
وما بلغ الرامية، وهي ساحة عمومية تحت بيته، حتى خف كلبه غبار إلى استقباله، يبصبص بذنبه، ويرتمي على صاحبه كأنه فرح بنجاته.
ونام حنا تلك الليلة، ولكن أفكاره لم تنم، طفق يحاسب نفسه فقال: خطية من برقبتي؟ والله العظيم ما اتهمت أحدا زورا، ما حكمت على أحد بتخريب إلا بعدما رأيته بهذه العين التي يأكلها الدود، فما هو ذنبي إذن حتى وقعت هذه الوقعة؟
وبعد أخذ ورد طويلين استخلص من الحادث الجلل أن الله راض عنه، والبرهان نجاته، فلو سقط طير سقطته ما سلم. وكان آخر سهم رماه في فضاء التخمين قوله: لو كنت مت كانوا قالوا: مستاهل، رجل ظالم. أنا ما ظلمت، ولكني وقفت الناس عند حدهم، نشكر الله.
وأيقن البقارة أن لن يغدو حنا إلى النطارة كعادته، فسرحت أنعامهم في الأرض المحمية، فإذا به يفاجئهم ويدحرهم إلى الأرض البور.
وجاء أول السنة المارتية التي كانت تؤرخ بها الدولة العثمانية، فاتفقت كلمة الضيعة على تجديد ولاية حنا فظلت عصا النطارة في يده، وفتش الناس عن مشكلة أخرى تغذي حزبيتهم.
وفي صباح يوم من أيام الربيع، استيقظت الضيعة على دقات حزن فهلعوا، ولما علموا أن الميت هو حنا خف الجزع. وقع في حفرة قدام بابه لا يزيد علوها عن قامة فانتشل منها ميتا، وكان الحزن عليه خفيفا؛ لأنه خاتمة أسرته فكاد أن يكون مأتمه صامتا لولا بناته. أما زوجته فكانت تبكي على مهل، لم يمش أمام جثمانه غير كاهن واحد هو خوري الضيعة، وكان ترتيله نيئا؛ لأن لا مسعف له، فحنا كما عرفناه لا يملك مالا فينعى إلى قرى عديدة.
مشت القرية كلها في جنازته شاعرة أن رجلا من الطيبين مات، لم يتفجعوا عليه ولم يبكوه، ولكنهم قدروا أمانته بصمتهم.
وكان كلبه غبار في عداد المشيعين، يمشي من عن يمين التابوت كئيبا حزينا. أثر منظر هذا الكلب الوفي في المؤاجرين فكانوا ينظرون إليه باعتبار وتقدير حتى قال أحد ظرفائهم: هذا الكلب أحق بالتعزية من زوجة حنا ...
أما الصغار فكانوا يداعبونه، ولكنه يجد، فيتركونه وشأنه.
وعاد الناس عند الظهر نافضين أيديهم من تراب الفقيد، ما عدا الكلب فإنه نام على التراب المهال على باب القبر، كان يشق عينيه إذا ناداه من مر باسمه، ثم يغرق في كآبته العميقة.
وعند الصباح رأى الناس التراب منبوشا، والكلب قد لفظ أنفاسه فيما حفر، فجروه من المنطقة المكرسة. وظلوا عاما يتحدثون عن وفاء غبار ويخلقون لموته أسبابا وعللا.
أما القول الفصل فكان حين فتح باب قبر حنا، بعد سنة ونصف، بوجه ضيف جديد، رأوا أشلاء حنا مبعثرة خارج تابوته، فعلموا أن «غبار» مات حزنا وجزعا على صاحبه إذ لم يستطع إنقاذه.
الجنون فنون
عرفته يوم كنت في أسكلة جبيل، وإني لأضحك من نفسي كلما تذكرت كيف تهيبت صمته وسمته يوم اجتمعت به. عرفته - أول مرة - في سهرة عند أحد أبناء عمومته فرأيت عجبا: صدرا عريضا نافرا كالترس، ورأسا كالبطيخة كأنه ودع موقتا بين كتفيه الناشزتين، تندلق تحت ذقنه غدة تخفي رقبته القصيرة، عينان تبصان فوق أنف صغير بالقياس إلى ذلك الوجه المفرطح.
راعني صمته فحسبت له حسابا، وأخذت ألملم أطراف حديثي وأزن كلماتي، أحكي وعيني معلقة بوجهه، أنتظر كلمة من فيه لأعرف زيادته أو نقصه كما علمني العم زهير، ولكن إبراهيم لا يتكلم.
وانصرفنا وصاحبنا ما فرط بشيء من وقاره، فقلت لرفيقي في طريقنا إلى البيت: حقا الصمت زين.
فقال: تعني صمت الشيخ إبراهيم؟ هذا رجل مجنون عاقل.
قلت: مجنون عاقل! هذا فوق علمي، فسر، حفظ الله عقلي وعقلك.
فأجاب: تقول الناس إنه مجنون، ويقول هو: الناس مجانين، لا يفهمون عنه. يتحدث غالبا كالمجانين، وأحيانا كالعقال.
فقلت لرفيقي: شوقتني إلى حديثه. فقال: إن نطق أبو الهول تسمع من القصص والأحاديث ما يمونك شهرا.
ونمت تلك الليلة وخيال إبراهيم يطوف حول سريري، وما أصبحت حتى كنت عنده، فوجدته منهمكا في حساباته، منكبا على دفتر طويل مرقم، كتب في صفحته الأولى:
عند السلطان عبد الحميد مليون ونصف ليرة.
عند الإمبراطور غليوم خمسة ملايين.
عند المسيو لوبه مليونان.
عند قيصر روسيا سبعة ملايين.
عند والي بيروت 300 ألف ليرة.
وهناك أرقام غير هذه لا تعد ولا تحصى، لم يسعها دفتر إبراهيم فاستعان بحيطان بيته، كان كلما سمع باسم ملك أو عظيم نزل اسمه في سجله وحيطانه.
حدثني إبراهيم عن علاقته المالية مع بيت روتشلد حديث واثق جاد، قال: إنها بلغت المائة من الملايين، الجماعة أمناء، ولكن حلاوة المعاملة أخذ وعطاء.
فقلت له: دين أهل بلدك، الغريب يتعبك.
فتنفس كالقنفذ وحملق، فالتفت لأرى أين أنا من الباب، ولكن ضحكة بلهاء أطلت على أثر ذاك الهيجان أمنتني، ولا سيما حين قال: أنا مجنون؟! من يدين مجانين، أنا أدين مائة ليرة ومائتين؟ أنا لا ألعب بهذه المبالغ الصغيرة. البارحة سلمت البنك العسملي عشرين مليونا، كنت أدين مبالغ صغيرة، ولكني صرفت الكتاب واسترحت من بلادتهم، نوم للظهر، طق حنك في المكاتب، شرب قهوة وتدخين. خربوا بيت الشيخ إبراهيم، الله يخرب عمرهم.
ورأى من شباكه المطل على الطريق غناما يسوق قطيعا صوب بيروت فنهض وقال: أستأذن، هذا القطيع لي جمعة منتظر، لا بد من مرافقته إلى نهر إبراهيم.
فقلت: أرافقك إذا أمرت.
فضحك وصاح: هذا كلام من يعرف قيمة البشر، تفضل، أهلا وسهلا، نشكر الله حظينا بواحد عاقل، أهل بلدنا كلهم مجانين، يضحكون علي؛ لأني أرافق غنمي إلى قرب النهر، بحياتك قل لي من يسيب رزقه؟
وبعد أن قطعنا ميلا قلت له: رعيانك أمناء، والشمس على الغياب، فما قولك في رجعتنا؟
فقال: لا بأس، عددت الغنم ثلاثمائة راس، أنا في التجارة أسلم تسليم أعمى.
وبعد أن زود الرعاة بنصائحه الثمينة وودعهم قال لي: معك سيكارة؟ قلت: نعم، لا تؤاخذني يا شيخ، ظننت أنك لا تدخن.
فقال: ظنك في محله، ولكن أحيانا يضيق صدري، أنا مهموم. - أنت مهموم! الملوك والسلاطين مديونة لك ويضيق صدرك؟ ايش خليت للفقراء والمساكين يا شيخ إبراهيم؟
فهمهم وغمغم، فقلت له: لا بد لك من حرمة، تزوج تنفرج همومك.
فقهقه، وألقى على كتفي يدا كالمهدة، فسمرني على قارعة الطريق، وقال: طفت الدنيا وما لقيت واحدة ملائمة، أنت تعرف بنات البلد، عاشرتنا أربع خمس سنين، اسمع أعد لك، وكدبني إذا قدرت. «أسمى» قامتها طويلة، طلعة مثل البدر، تلميذة الراهبات، تفهم من الإشارة، ولكن يا حينها لولا عينها، شرسة، كلامها نبر مثل رشق الحجارة.
و«مي» بنت أصل، جمال ومال، أنا صاحب ملايين ومهما زاد الخير نفع، ولكنها متكبرة تحتقر البشر، نظرت بعينك كيف سلمت بتواضع على الرعيان وسألتهم عن أحوالهم، إذا أنا ما حاسنتهم وجاملتهم يسرقوني ... وواحدة مثلها لا تطيق الراعي يخش في البيت.
و«سلمى» دينها ومعبودها دفاتر الموض الجديدة، تسأل مأمور البوسطة عنها كل يوم، حديثها وشغلها البيزيك والباصرة، وأنا مشغول مع المديونين وكلهم ملوك وسلاطين.
و«جوزفين» حلوة جدا ولكنها تقامر، بطير التركة إذا استولت عليها بعدي. - العمر الطويل يا شيخ براهين. - وعمرك يطول، تدك بيرا ووسكي حتى تنتفخ، فما رأيك ببيت صاحب ملايين مثلي يصير قهوة للرائح والجائي؟
وحملق بي وقال: ربما قلت لي خذ «سنية»، آه من «سنية»! كنت فكرت فيها، ولكن نفرت منها بعدما سمعتها تسب إخوتها، وتلعن أمها، وتظل معبسة بوجه أهل بيتها، مع أنها تبتسم لعابر الطريق ، لا شك أنها تعاملني كأهلها متى رفعنا الكلفة.
و«مرتا» كسلانة لا تفيق إلا قرب الظهر، ثم يمضي النهار بين غسل وجه، وضفر شعر، ونتف حواجب. الشغل عندها عيب، إذا عملت فنجان قهوة تذمرت وقالت: تقبر القهوة ما أثقل دمها. بحياتك خبرني أين تصير الملايين إذا تزوجت واحدة مثلها؟ أكثر المديونين عدوهم الدفع، ومن يقيم دعوى على سلطان وإمبراطور؟! قل لي. - لماذا دينتهم؟ - دينتهم يا سيدي، علقنا. سماع أكف لك، و«بهية» زرناها فقعدنا على كرسي مخمل عليه شبر غبار، بيتها منبوش مثل شعرها، شعر جنية، ثياب موسخة، فما يصير بحال الشيخ براهين إذا أخذها؟
انظر ترتيب ثيابي ونظافتي ... كيف ... هكذا يكون صاحب الملايين.
و«هيلانة» لسانها مثل المبرد، شغلها الحكي في قفا الناس، رفيقاتها عدواتها، حمارة متفلسفة، قالت: إبراهيم من يأخذه؟! نسيت المجنونة أن إبراهيم تلميذ عينطورة، يحكي الفرنساوي مثل البلبل: ناسبا موسيو؟ بارول دونور جاتيه لابرميه دان ما كلاس. جميلة هيلين لو ما تكون مدعية متعجرفة.
و«سعدى» وقحة، متفرنجة لا تنطق إلا بالسب واللعنات، تصرف فوق طاقة أهلها، تضرب الخادمة كما تضرب الحيوان، هذي من يقاربها يا شيخ؟
قلت: لا أحد.
فقال: إذن الحق معي.
قلت: معلوم، مؤكد، أما ...
فانتفض وقال: بلا أما، وبلا مما، سماع ما كفيت بعد: و«ليلى» جاهلة ومن يقنعها أنها جاهلة؟ كل دخل إخوتها لا يكفيها ثمن بودرة وحمرة.
و«جميلة» لا تعرف شيئا من أمور البيت، غريبة عن أورشليم، تستعين ببنات الجيران على تفصيل قميص، وترقيع صديرية، وإذا كانت لا تحسن تدبير نفسها فكيف تدير بيت صاحب ملايين؟
وأخيرا تنهد تنهيدة بقرة وقال: ما بقي إلا «المحروسة»، عرفتها طبعا، آه! هذي كانت موافقة جدا، ولكنها تكبرت علينا، عرفت أني أحبها من كل قلبي فتدللت. قالوا لي إنها جنت، مسكينة! تمر أغلب الأحيان على الطريق فينسلخ لها قلبي، صارت تهرب من الناس، ما صدقت حتى رأيت بعيني.
والتفت فرآها فقال لي: انظر، هذي هي، تأمل كيف مالت عن الدرب، حقيقة إن الإنسان متى فقد عقله صار كلا شيء.
فقلت: والديون يا إبراهيم، متى تحصلها؟
فقال: أمس طالبت السلطان عبد الحميد مطالبة مرة، خوفوني من حالته المالية، يفرجها الله يا شيخ، ملايين كثيرة.
وكان في الأسكلة مجنونة اسمها «حلا» يشتد جنونها على الهلة، فقال لي إبراهيم: سماع صريخها، هذي حلا، مسكينة! جننها واحد اسمه مرقص. يا حلا، سدي بوزك، خمنت أنك وحدك مجنونة؟
وهم بالعود إلى حديث النساء فإذا بأربعين خمسين رأسا من البقر تساق صوب بيروت فقال: هذي البقر لي.
ووقف يحدث أصحابها، ويوصيهم بالصبر على البيع ليحصلوا على أحسن الأسعار: توقوا أولاد الحرام، خذوا، هذي توصية لوالي بيروت خليل بك، كتبت له أن يعطيكم عشرة آلاف ليرة، قيدوها له على الحساب.
ونظرت لأرى كيف يكون كتاب التوصية عنده، فإذا به لم يعطهم شيئا. - اشتروا البضاعة اللازمة لحمص وحماة، برجوعكم نحاسبكم ونكرمكم ...
والتفت إلي وقال: في الحركة بركة.
وارتعد إبراهيم فجأة فروعني، اهتز عضوا عضوا كمن ركبته الحمى النافضة، وكان يصحب تلك الرجفة اهتزازات كالموسيقى الموقعة، ولدها اصطكاك أسنانه وهمهمته، فتركته وفررت خائفا مذعورا، وما ابتعدت عنه قليلا حتى انقطع ذلك الإيقاع، فالتفت فرأيته مهرولا ليلحق بأبقاره.
على باب الله!
رءوس شهوركم وأعيادكم كرهتها نفسي، وإن أكثرتم من الصلاة فلا أسمع لكم.
أشعيا
رأيتهم ليلة عيد الميلاد.
ثالوث غريب الزي والوجه واللسان: أب صديق يحبو إلى الخمسين، وأم فتية لا ترفع بصرها حياء وخفرا، وصبي فيه من الحسن كل معنى طريف.
تحير البؤس في وجوههم ثلاثتهم، وفاحت رائحة الفقر من أردانهم، يمشون كمن لا عهد له بهذه الأرض، فكأنهم رجال الكهف قد بعثوا.
أبصرتهم عند خمسة أبواب، وتواروا عني في ثلاثة، ثم ما عدت رأيتهم.
نظرت هذه العائلة عند بوابة دير يعد رهبانه فطور الميلاد، فاللحوم تعذب على النار، ورائحة قتارها تفتح لهى المكظوظين. أما عن الخمور المعتقة فلا تسل، فأصغرهن سنا تذكر حكم الأمير بشير، تتلألأ في الأباريق البلورية وقد اشتعل رأسها شيبا، والديوك تنقف أعناقها انتقاما من «جدها» ديك بطرس الجاحد، والفواكه تنقى وتصفف.
هناك بباب ذاك الدير سمعت هذه العائلة البائسة تطلب خبزا باسم من قال: وكنت جوعانا فأطعمتموني. ثم رأيتها تصرف خماص البطون، اشتهى الصبي ليمونة فمد إليها يده فانتزعت منه وفركت أذنه ...
وعند باب دير آخر سمعت الأم تطلب من الراهبة قميصا عتيقا لولدها المقرور، ولزوجها الحافي حذاء مرقعا، ولها فسطانا كيف كان، فردت الراهبة في وجهها الباب، ولولا لطف الله لهرس أصابع الصبي.
وعلى باب قصر سيدة مترفة لمحت الأم تعرض ولدها خادما باللقمة، ثم لا تستجاب طلبتها. وتؤتى تلك السيدة بجرو كلب فتشبعه ضما وشما وتقبيلا، ولا تستحي. تطعمه أشكالا وألوانا من الطعام والحلواء، «وابن الإنسان» ببابها يأكل بعينيه ما لا يشتهيه ابن الكلب، ثم لا يجاد عليه به.
وعن باب «قيصر» شاهدت صاحب إذنه يطردها ويدفعها إلى الشرطي، ليتهم سجنوها فاستراحت!
ورأيتها أمام بيت «قيافا» تضحك بملء فيها، كأن ما فيه من أصباغ وألوان وتماثيل أنساها بؤسها، ثم خشن الصبي الوديع وجذب ذيل أمه صارخا: أماه، لا نريد قوتا من هنا فخبزهم مر.
وفي نصف الليل مرت «العائلة» أمام باب الكنيسة، وبعد تردد دخلتها ...
ها هي بين المعيدين تحدق إلى المغارة مستغربة ... ولما خطر رئيس الكهنة بطيلسانه وتاجه وصولجانه، دهش الصبي وتزعزع. وتعالى الغناء: المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام. فقطب وعبس كأنما عاودته ذكرى قديمة، ولما خشخشت الفلوس، وتعالى صراخها على «الصينية» الفضية هتف الصبي: بيتي بيت الصلاة يدعى ... وهجم على الطبق، فضربه الشرطي وطرده؛ لأن السوط لم يكن معه فيعرفونه به، كما عرفناه عند كسر الخبز.
وبعد القداس صادفتها تطوف في المدينة، طلبت مأوى وقوتا فأعياها، واستجارت برواق الهيكل من الليل المطير فقلعوها، فتاهت في المدينة، وما انفكت سائرة حتى تجاوزتها نافضة غبارها عن أرجلها.
انتهت إلى قرية ما دخلها الملوك فأفسدوها، كان فقراء الضيعة ساهرين، على عادتهم، يهجسون بملكوت الله، يتذاكرون حكاية الميلاد في الماضي السحيق، فرحبوا بالعائلة البائسة ورثوا لحالها، أدخلوها بيتا قزما وأضرموا النار حتى تلاقت سماء البيت واللهب، ثم مدوا لضيوفهم سفرة من «حواضر» البيت القروي.
أثر منظر الصبي بإحدى النساء فاهتزت للكرم وهرولت إلى بيتها، ثم رجعت ومعها بيضة، هي البيضة الوحيدة في القرية، خبأتها أم يوسف لمثل هذه الساعة العصيبة.
وعظمت غبطة القرويين بضيوفهم الثلاثة، أما ربحوا أجرا ليلة العيد؟ أما أطعموا فقيرا وقبلوه باسم يسوع؟
وتعالى الدعاء لأم يوسف من جميع قراني البيت، قد بيضت وجه الضيعة، فمن عنده بيض في كانون غير أم يوسف الدهرية؟
وعمل الخيال عمله فرأت الضيعة في ضيوفها رمز «العائلة المقدسة» فاقتسموها بينهم: أنامت أم يوسف الصبي مع أولادها، ونامت المرأة عند امرأة أخرى، ونام الأب في بيت ثالث.
ونما إيمانهم بما رأوا فصار يقينا، فأسرع شيخ صديق يخبر القرية بما رأى، فتحامل الكاهن العجوز على نفسه وجاء، ولشد ما دهش الناس إذ لم يروا أحدا، إلا ورقة تحت المخدة حيث كان الصبي نائما، وقد كتب عليها: جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله ...
فلما قرأها الخوري سمعان صك وجهه وقال: ما كان أسعد سمعان الشيخ! وما أتعسك يا خوري سمعان! وأجهش، ثم شرع يبكي كالطفل.
وطار الخبر إلى المدينة مع الصبح، كتب الخوري سمعان إلى رئيسه الروحي بما وقع في قريته، فاستهزأ وغضب، دعا إليه أحد خوارنته وأمره أن يكذب الخبر في قداس الساعة العاشرة، فامتثل الكاهن وقال للشعب بعد تلاوة الإنجيل:
أيها الأبناء الأعزاء
بلغت مسامع راعينا الصالح الكلي الاحترام تلك الإشاعة المضحكة التي جاءتنا اليوم، صباح هذا العيد المبارك، من قرية بطباب، فالصبي الوقح الذي تجاسر ومد يده إلى «الصينية» في قداس نصف الليل ستؤدبه حكومتنا الجليلة، أيدها الله، متى قبضت عليه. هي جادة خلفه، ولكنني على قصر معرفتي، أرجح، بل أؤكد، أن غضب ربنا حل عليه فانشقت الأرض وبلعته مع أبيه وأمه.
يا إخوتي المباركين، إن سيدنا يسوع المسيح، له المجد، لا يظهر بهذا الشكل الزري، بل يأتي ببهاء ومجد عظيمين ليدين الأحياء والأموات، هكذا قالت الرسل.
نحن منتظرون، أيها الإخوة الأحباء، أن نلقى ربنا في السحب، كما يقول مار بولس الرسول، فلا تخافوا من هذه الأخبار والأراجيف ولا تصدقوها.
إن ربنا قال لنا من فمه القدوس: أنا معكم إلى منتهى الأجيال.
أما «جدنا» الخوري سمعان الذي روج هذا الخبر وصدقه من كل عقله، فهو - كما تعرفون - صار «اختيار» الله يساعده ويساعدنا عليه وعلى أخباره.
فضحك فريق، وتنهد آخر.
ومضى الخوري يتم قداسه، ثم لم الصينية كالعادة، ولم يحدث شيء.
অজানা পৃষ্ঠা