আকাওয়াম মাসালিক
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
জনগুলি
وهذا الصنع الجميل الذي صدر من هؤلاء السلاطين العظام مع ما حصل به من تحسين حال الدولة والرعايا مما لا يسع المنصف إنكاره بالنسبة لما كان قبل لم يقنع حزبا من المسلمين مع الرعايا من غيرهم، بل لم يزالوا يطلبون من الدولة إطلاق الحرية بمقتضى قوانين يكون تأسيسها وحمايتها من مجلس مركب من أعضاء تنتخبهم الأهالي، وفي هذه المدة الأخيرة اشتد إلحاحهم في طلب ذلك، حسبما تضمنته صحف الأخبار.
ونحن وإن لم نطلع على أحوال إدارة المملكة العثمانية في الحال، لا سيما في كيفية إجراء تلك التنظيمات اطلاعا يمكننا معه معرفة صحة الأسباب التي يتظلم منها الفريق المذكور أو عدم صحتها، فإنا نسلم أن هذا المطلب الذي طلبوه هو من أعظم الوسائل في حفظ نظام الدول وقوة شوكتها ونمو عمران ممالكها ورفاهية رعاياها، خصوصا في هذه الأزمان. كما نسلم أيضا أن مقصد المسلمين من أهل الحزب المذكور بطلبهم لما ذكر إنما هو إصلاح حال الدولة والرعية، لكن لنا أن نسألهم: هل ثبت عندهم أن مقصد غيرهم ممن معهم موافق لمقصدهم حتى تحصل لهم الثقة بهم، ويصدر منهم ما ذكر؟ فإنا نرى خلاف ذلك منهم بما دلت عليه القرائن من أن مراد أكثرهم إنما هو التفصي عن سلطة الدولة العثمانية، حيث لم يظهر منهم بعد نيل الحرية الموجودة الآن شيء من أمارات النصح للدولة، بل ربما أظهروا حب النزوع إلى بني جنسهم بالتظلم من تصرفاتها واستثارة مبادئ الحيرة معها؛ وذلك لاستمرار إفساد الأجنبي لهم وزرعه بذر الحمية في صدروهم لأغراض له لا تخفى. فربما كان تأسيس الحرية على الوجه المطلوب آنفا قبل التبصر في العواقب مما يسهل غرضهم المذكور؛ إذ من لوازم هذه الحرية تساوي الرعايا في سائر الحقوق السياسية التي منها الخطط السامية، مع أن من الشروط المعتبرة في إعطاء تلك الحرية تواطؤ جميع الرعايا على مصلحة المملكة وتقوية شوكة دولتها، ولأقل من هذا السبب امتنع بعض الدول الأوروباوية من إطلاق الحرية المشار إليها تحاشيا من تحزب بعض الرعايا على تبديل العائلة الملكية كما سيأتي بيانه عند الكلام على حرية أوروبا. فإذا ساغ الامتناع مع كون البدل المتوقع من جنس المبدل منه فلأن يسوغ هنا مع كونه من غير الجنس أحرى وأولى، وأيضا فإن رعايا الدولة ينقسمون إلى عدة أجناس مختلفة الأديان واللغات والعادات، وغالبهم يجهل اللغة التركية التي هي لغة الدولة، بل يجهلون لغة بعضهم بحيث تعسر المفاوضة بينهم لو ركب مجلس من جميع طوائفهم، ولا يتيسر إعطاء الحرية للبعض دون البعض لما ينشأ عن ذلك من الهرج، فيجب أن تعتبر حالة هؤلاء الرعايا من أعظم العوائق عن تأسيس الحرية على الوجه المطلوب بالدولة العثمانية، فمن اعتبر ما أشرنا إليه لا يسوغ له أن يوجه اللوم على الدولة في توقفها إلى الآن عن إعطاء الحرية المطلقة وتأسيس المجلس المذكور، وإن كان ما ذكرناه لا يرفع عنها وجوب الاجتهاد في قطع تلك العوائق التي يكون حسمها بعون الله تعالى من مآثر خليفة العصر الذي رفع من أعلام العدل ما انتكس، وأحيا من رسوم الاستقامة ما اندرس، فإنا بمقتضى ما خوله الله من الحزم الناجح والرأي الراجح نؤمل أن نرى منه، لا سيما بعد اطلاعه على أحوال أوروبا بالعيان، وتطبيقها على ما كان معلوما لديه بالبيان مزيد العناية بكل ما يتيسر به إطلاق الحرية على الوجه الأكمل بإعانة رجال دولته وعلمائها المتعاضدين على إنجاح مصالح الدين والوطن، والعارفين بأسباب التقدم ما ظهر منها وما بطن.
ثم إن من عوائق نجاح التنظيمات في سائر الممالك الإسلامية تقاعس الدول الأوروباوية عن إدخال رعاياهم المستوطنين بها تحت أحكامها؛ استنادا للشروط القديمة التي لا تليق بهذا الوقت، بل لا ينبغي أن تسمى شروطا لانبنائها على ما يخل بالشرط، وعلى فرض تسليم بعض الشروط وتسليم ما يوجب دوامها، فإنهم لا يقفون عند نصها، بل يستخرجون منها ما ليس فيها مما هو مناف لحقوق المساواة بين الأمم ولحقوق سلطنة الأرض على كل وارد لها، بمعنى أن من دخل مملكة من الممالك فلا بد أن تجري عليه أحكامها؛ وادعاء بأن معارف حكام الإسلام غير كافية لحفظ حقوق رعاياهم، وأن كراهيتهم للنصارى تحملهم على الحيف عليهم. والجواب عن الدعوى الأولى أن مدعيها لا يمكن أن يظن به تعميمها في حكام المسلمين مطلقا، أعني سواء كانوا حكام شريعة أو سياسة، لما هو معلوم عند كل عاقل، خصوصا من هو منصف، أن علماء شريعة الإسلام في غاية المعرفة بأحكامها أصولا وفروعا، فلم يبق إلا أن يريد هذا المدعي حكام السياسة منهم، وهذا غير مسلم لما هو ظاهر من بطلان دعوى من يدعي جهل جميع أهل مملكة من الممالك، بحيث لا يوجد بها من يقوم بأعباء أحكام تنظيماتها، نعم هناك شيء واحد وهو أن جميع الأمور في ابتدائها قبل التمرن عليها والاعتياد بها يقع فيها نوع اضطراب وارتباك حتى يحصل الاستئناس بها وتأخذ مأخذها، وهذا أمر طبيعي لا يقدح به في التنظيمات، فإنا نرى دول أوروبا لم تكن من أول الأمر حاصلة على هذا النجاح في تنظيماتها والمشاهد لها اليوم، وإنما حصلت على ذلك بواسطة إعانة السكان لها على إجرائها بعدم المخالفة والشقاق؛ إذ بدون ذلك لا يطمع في الحصول على شيء من نتائجها، بل لم نزل نرى إلى الآن تفاوت الدول المذكورة في تهذيب تنظيماتها ومعارف حكامها وعفتهم، ولم يمنع هذا التفاوت دخول المتقدم منهم فيها تحت أحكام المتأخر، فلم يبق حينئذ إلا أن نقول: إن هذه الدعوى مجرد توهم، وليست مستندة إلى شيء من الأدلة والتجارب؛ لأنه لم يدخل أحد من رعاياهم تحت أحكام تنظيماتنا حتى يلحقه الضرر منها، بل لنا أن نقول: إنها مجرد مكابرة!
وأما دعوى الكراهية فلا يخفى أنها بعد تسليمها مشتركة الإلزام؛ إذ للمسلمين أن يظنوا أن النصارى أيضا تحملهم العداوة على الحيف عليهم وقت حلولهم ببلدانهم، لكن الحق أن العداوة الدينية لا تستميل الحاكم عن الإنصاف المؤسسة عليه الشريعة، وعن الوقوف مع الحق حيث يجب، حتى لو وجب على الحاكم نفسه لأنصف طالبه منه كائنا من كان، عملا بما هو من قواعد الدين الذي هو أعظم وازع، حتى لم يبق معه لإيثار النفس أثر، فقد ورد أن زيد بن سعنة جاء قبل إسلامه يتقاضى من النبي
صلى الله عليه وسلم
دينا له، فجذبه من ردائه حتى أثر في عاتقه الشريف، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل. فانتهره عمر وشدد عليه في القول، حيث لم يتوخ الرفق في الطلب، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر؛ تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي.» ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث.» وأمر عمر أن يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روعه، فكان سبب إسلامه رضي الله عنه. وورد أيضا أن يهوديا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب عليا كرم الله وجهه في حق، وكان علي عنده، فقال له عمر: قم يا أبا الحسن واجلس مع خصمك. فريء في وجه علي الغضب، فلما انفصلت النازلة قال له عمر ما معناه: تغضب لطلب أن تساوي خصمك. فقال له علي: ما غضبت لذلك، وإنما كرهت تكنيتك لي بمحضر خصمي. فالحاكم إذا كانت ديانته تلزمه الاتباع للشريعة بمقتضى الوازع الديني والاقتداء بمن سلف من الخلفاء الراشدين الذين هم نجوم الاهتداء، كيف يتوهم منه ترجيح جانب المسلم على غيره؟! وبعد هذا لم يبق لمن له إنصاف من الأوروباويين أن لا يرى فيما ذكرناه ضمانة كافية لحفظ الحقوق، كما أنه لا يتأتى له أن يرى إمكان إجراء القوانين على وجه يثمر النتائج المقصودة منها مع امتناع بعض السكان من المساواة فيها، لا سيما والممتنع بيده غالب الصناعات والمتاجر، ثم إنهم لم يكتفوا في التعطيل بذلك الامتناع حتى صار بعضهم ينفر رعايا بعض الممالك الإسلامية من قبول التنظيمات التي رام ملوكها تأسيسها، بأن يلقوا لهم أن هذه التنظيمات لا تليق بحالكم فرجوعكم إلى ما كنتم عليه أولى بكم، مع أن ذلك مخالف لقواعد سياسة بلدانهم، وبعضهم يقول لهم: إن الحرية التي منحتموها من دولتكم لا تفي بحفظ حقوقكم! مع أنها في الواقع أكثر مما منحتها رعايا بلدانهم. فلذلك نضطر أن نعتقد أن لا داعي لذلك إلا قصد دوام التحيير في الممالك الإسلامية؛ لتعطيل نجاحها. وبالجملة فسياسة الدول الأوروباوية في ممالكنا متناقضة، فإن منهم من ينصح بعض الممالك بالإعانة على التراتيب المناسبة، ومنهم من يعطل ذلك بتلك المملكة، ويبذل النصيحة المذكورة لغيرها على حسب اختلاف أغراضهم.
هذا، وإن سياسة غالب الدول الأوروباوية لو كانت كما ذكرنا، لكن من الحق أن نقول في خصوص مبحث الشروط أنا رأينا عند المحادثة مع رجال بعض الدول الغربية منها أنهم يسلمون عدم لياقة تلك الشروط بهذا الوقت، ولا يمتنعون من تبديلها بما يناسب، لكنهم يطلبون منا قبل ذلك إعطاء الضمانة الكافية في حفظ حقوق رعاياهم، بترتيب مجالس للحكم وتمشيتها مدة من الزمان حتى يثبت عندهم بالتجارب حسن إجراء الأحكام، بحيث يتيسر لهم تسليم رعاياهم على التدريج بحسب ما يرونه من نجاح التراتيب حتى يتم دخولهم تحت أحكامنا. ونحن نقول: لما كان بقاء الأجانب على ما هو مشاهد اليوم مضرا بالممالك الإسلامية، والدول الأوروباوية لا تساعف على تبديل الشروط إلا بما ذكرناه، وجب على الدول الإسلامية السعي في إزالة هذا الضرر بإعطاء تلك الضمانة وإبرازها للخارج. ومن العوائق للتنظيمات، وهو أعظمها، تعرض بعض المتوظفين في تأسيسها وإجرائها لما لهم في تعطيلها من المصالح الخصوصية، التي منها دوام تصرفاتهم في الخطط بلا قيد ولا احتساب. هذا، وإن الأمة الإسلامية لما كانت مقيدة في أفعالها الدينية والدنيوية بالشرع السماوي والحدود الإلهية الواردة على الميزان الأعدل، المتكفلة بمصالح الدارين، وكانت ثمة مصالح تمس الحاجة إليها، بل تتنزل منزلة الضرورة، يحصل بها استقامة أمورهم وانتظام شئونهم، لا يشهد لها من الشرع أصل خاص، كما لا يشهد بردها، بل أصول الشريعة تقتضيها إجمالا وتلاحظها بعين الاعتبار، فالجري على مقتضيات مصالح الأمة والعمل بها حتى تحسن أحوالهم، ويحرزون قصب السبق في مضمار التقدم، متوقف على الاجتماع وانتظام طائفة من الأمة ملتئمة من حملة الشريعة ورجال عارفين بالسياسات ومصالح الأمة، متبصرين في الأحوال الداخلية والخارجية ومناشئ الضرر والنفع، يتعاون مجموع هؤلاء على نفع الأمة بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، بحيث يكون الجميع كالشخص الواحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.» وكما قال
صلى الله عليه وسلم : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد.
فرجال السياسة يدركون المصالح ومناشئ الضرر، والعلماء يطبقون العمل بمقتضاها على أصول الشريعة، وأنت إذا أحطت خبرا بما قررناه علمت أن مخالطة العلماء لرجال السياسة بقصد التعاضد على المقصد المذكور من أهم الواجبات شرعا لعموم المصلحة، وشدة مدخلية الخلطة المذكورة في اطلاع العلماء على الحوادث التي تتوقف إدارة الشريعة على معرفتها. ومعلوم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبيان ذلك أن إدارة أحكام الشريعة كما تتوقف على العلم بالنصوص تتوقف على معرفة الأحوال التي تعتبر في تنزيل تلك النصوص، فالعالم إذا اختار العزلة والبعد عن أرباب السياسة، فقد سد عن نفسه أبواب معرفة الأحوال المشار إليها، وفتح أبواب الجور للولاة؛ لأنهم إذا استعانوا به فامتنع صاروا يتصرفون بلا قيد. نعم يعاب على العالم شرعا وعقلا التكلف في الدين والتمحل في النصوص الظاهرة في خلاف ما أراد منها، وارتكاب الأقوال الضعيفة؛ ليوافق الأهوية والأغراض، لا لأجل مصالح تتنزل منزلة الحاجة والضرورة حتى ينقلب ذلك الضعيف قويا. وحيث كانت إدارة المصالح السياسية مما لا يتيسر لغالب الولاة إجراؤها على الأصول الشرعية لأسباب شتى يطول شرحها، وتقدمت الأدلة على ما يترتب على إبقاء تصرفاتهم بلا قيد من المضار الفادحة؛ رأينا أن العلماء الهداة جديرون بالتبصر في سياسة أوطانهم واعتبار الخلل الواقع في أحوالها الداخلية والخارجية، وإعانة أرباب السياسة بترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة، معتبرين فيها من المصالح أخفها، ومن المضار اللازمة أخفها، ملاحظين فيما يبنونه على الأصول الشرعية أو يلحقونه بفروعها المرعية، ذلك المقال الوجيز المنسوب لعمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوه من الفجور، وما في معناه من أدلة أن الشريعة لا تنسخها تقلبات الدهور.
অজানা পৃষ্ঠা