وطوال الوقت الذي كان يتحدث فيه، كانت ليديا تحاول التفكير فيما يذكرها به أسلوبه في الحديث. لم يذكرها بشخص معين، رغم أنها ربما تكون قد قابلت معلما أو اثنين في الكلية يتحدثون بهذا الأسلوب. جعلها هذا تفكر في وقت لم تكن فيه قلة قليلة من الناس - فقط القليل منهم - يشغلون بالهم أبدا بأن يتحدثوا بديمقراطية أو بتملق؛ فقد كانوا يتحدثون بجمل رسمية ومدروسة ومتفاخرة بعض الشيء، رغم أنهم كانوا يعيشون في بلد قد لا يجلب عليهم التزامهم فيه بالرسميات والتحذلق سوى السخرية. كلا، لم تكن هذه الحقيقة كاملة. لقد جلب عليهم السخرية والإعجاب المسبب للضيق. ما فكرت ليديا فيه بسببه، فعلا، هو الثقافة العتيقة للمدن الإقليمية في الماضي (شيء لم تعرفه قط بالطبع، ولكنها استشعرته من الكتب)، ونبل المشاعر، واللياقة في التعامل، وكراسي الحفلات المخملية الصلبة، والمكتبات الهادئة. كان إعجابه بالكاتبة المختارة جزءا من هذا. كان متقادما بنفس تقادم حديثه. فكرت في أنه لا يمكن أن يكون معلما؛ فهذا العشق ليس من سمة المعلمين، حتى في مثل سنه. «هل تدرس الأدب؟» «لا، أوه، لا. لم أحظ بهذا الامتياز. كلا، حتى إنني لم أدرس الأدب. لقد بدأت العمل منذ أن كان عمري ستة عشر عاما. وقتها لم تكن هناك خيارات كثيرة؛ فعملت في الصحف.»
تبادر إلى ذهنها صحيفة متحفظة وتقليدية إلى حد السخف تصدر في نيو إنجلاند بأسلوب نثري رجعي.
سألته: «أيها؟» ثم أدركت أن فضولها لا بد وأنه بدا فظا بالنسبة إلى أي شخص متحفظ. «ليست صحيفة معروفة. مجرد صحيفة يومية لبلدة صناعية. بالإضافة إلى عملي في صحف أخرى عندما كنت في مقتبل العمر؛ هذه كانت حياتي.» «والآن، هل تريد تأليف كتاب عن ويلا كاثر؟» لم يبد هذا السؤال في غير محله بالنسبة إليها؛ لأنها كانت تتحدث دائما إلى أشخاص ممن يريدون تأليف كتب عن موضوع ما.
فقال بجدية: «كلا، حالة عيني لا تسمح لي بقراءة أو كتابة أي شيء بخلاف ما هو ضروري.»
لهذا السبب كان متأنيا في تناوله للطعام.
واصل قائلا: «كلا، لا أعني أنني لم أفكر في وقت من الأوقات في ذلك، أقصد تأليف كتاب عن ويلا. كنت سأكتب شيئا عن حياتها على هذه الجزيرة وحسب. لقد كتبت سيرة حياتها بالفعل، ولكنها لم تتناول كثيرا تلك المرحلة من حياتها. الآن تخليت عن هذه الفكرة، وأتقصى في الأمر لمتعتي الشخصية. اعتدت أن آخذ كرسيا خفيفا إلى هناك لكي أجلس تحت النافذة التي كانت تكتب فيها وتتطلع إلى البحر. لا يذهب أحد إلى هناك مطلقا.» «ألم يتم الحفاظ على المكان؟ ألم يتحول إلى نوع من النصب التذكارية؟» «كلا، في الواقع لم يتم الحفاظ عليه على الإطلاق؛ فالناس هنا، رغم تأثرهم الشديد بويلا، وإدراك بعضهم لعبقريتها - أعني عبقرية شخصيتها؛ لأنهم ما كانوا ليدركوا عبقرية عملها - فإن البعض الآخر منهم اعتبرها غير ودودة ولم يحبها. شعروا بالإهانة لأنها لم تكن اجتماعية، رغم اضطرارها إلى ذلك، لكي تمارس الكتابة.»
قالت ليديا: «يمكن أن يصبح مشروعا. ربما يمكنهم جمع المال من الحكومة. الحكومة الكندية والأمريكية أيضا. يمكنهم ترميم البيت.» «حسنا، لا يعود القرار إلي في هذا.» ثم ابتسم وهز رأسه قائلا: «لا أعتقد هذا. كلا.»
لم يكن يريد أن يأتي أي عشاق آخرين ليزعجوه وهو جالس على كرسيه. لا بد وأنها كانت تعلم ذلك. ما قيمة رحلته المقدسة الخاصة هذه لو شاركه فيها آخرون، ورفعت اللافتات الإعلانية، وطبعت المنشورات الدعائية؛ لو أعيدت تسمية هذا الفندق، الذي يسمى الآن «إطلالة البحر»، ليصبح «ظلال على الصخرة»؟ كان سيفضل هدم البيت ودفنه تحت الحشائش المتنامية على أن يرى هذا يحدث. •••
بعد محاولة ليديا الأخيرة الاتصال بدانكن - الرجل الذي كانت تعيش معه في كينجستون - تمشت بطول الشارع في تورنتو، وهي تعلم أن عليها الذهاب إلى البنك، وشراء بعض الطعام، وركوب قطار الأنفاق. كان عليها أن تتذكر الاتجاهات، وترتيب القيام بالأشياء: أن تفتح دفتر شيكاتها، وتتقدم إلى الأمام عندما يحين دورها في الطابور، وأن تختار نوعا معينا من الخبز بدلا من نوع آخر، وأن تلقي قطعة معدنية في الفتحة المخصصة للعملات. بدت لها هذه الأشياء أصعب ما قامت به في حياتها. كانت تواجه صعوبة بالغة في قراءة أسماء محطات قطار الأنفاق والنزول في المحطة الصحيحة، لكي تستطيع الذهاب إلى الشقة التي تقطن فيها. كانت تعجز عن وصف هذه الصعوبة. كانت تعرف جيدا المحطة الصحيحة، وتعرف المحطة التي قبلها، وتعرف أين هي، ولكنها لم تستطع أن تربط بين نفسها وبين الأشياء الموجودة خارج ذاتها؛ وبالتالي فالنهوض ومغادرة العربة وصعود السلالم والسير في الشارع، كل ذلك بدا أنه ينطوي على مجهود غريب. فكرت بعد ذلك أنها قد تعطلت، كما يقال عن الآلات. وحتى في ذلك الوقت الذي كانت ترسم فيه صورة معينة عن نفسها، تخيلت نفسها شيئا مثل كرتونة البيض؛ مجوفة من الخلف.
عندما وصلت إلى الشقة جلست على كرسي في الردهة. جلست قرابة ساعة أو أكثر قليلا، ثم دخلت الحمام، وخلعت ملابسها، وارتدت قميص نومها، وخلدت إلى الفراش. وفي الفراش، أحست بالانتصار والراحة ، بأنها عالجت الصعوبات كافة ودفعت بنفسها إلى المكان الذي من المفترض أن تكون فيه وليس عليها أن تتذكر أي شيء آخر.
অজানা পৃষ্ঠা