أعنتها على ارتداء حقيبة ظهرها؛ ولعلها لا تملك حقيبة للمبيت. كانت ترتدي حذاء طويل العنق يتحمل المشي لمسافات طويلة، وسترة من القطن المتين. لم تكن تمزح بشأن ارتدائها هذا الحذاء؛ إذ كان بإمكانها العودة إلى تورونتو سيرا على الأقدام؛ ففي صيف كل عام، كانت هي وزوجها وبعض أبنائهما يقطعون طريق بروس سيرا على الأقدام. وثمة أمور أخرى تتعلق بها تتماشى مع الصورة الكلية؛ فهي تصنع الزبادي بنفسها، وكذلك الخبز الأسمر والجرانولا. قد يظن البعض أنني ربما كنت قلقة بشأن تعريفها بدوجلاس الذي كان يجنح إلى أكثر الأفكار استفزازا إذا ما تحدث أحدهم أمامه بشيء ينم عن الاهتمام بالصحة. فقد سمعته ذات مرة يخبر الناس أن الزبادي يؤدي إلى الإصابة بالسرطان، وأن التدخين مفيد للقلب، وأن الحيتان كائنات مقيتة. إنه يفعل ذلك على سبيل المزاح، ولكن بثقة شديدة ممزوجة بإضافات صادمة من عنده المقصود منها الاستهزاء والسخرية، مستخدما إحصائيات زائفة وتفاصيل مختلقة؛ ومن ثم يستشيط غضبا أولئك الذين يجادلهم أو يرتبكون أو قد يشعرون بالإساءة الشديدة، وأحيانا ما تغلب عليهم كل هذه المشاعر دفعة واحدة. لا أتذكر أنني فكرت كيف ستتعامل جولي معه، لكنني أفترض أنني لو كنت فكرت في الأمر، لجزمت بأنها لن تجد مشكلة في التعامل معه؛ فجولي ليست إنسانة بسيطة؛ فهي تتعامل بأساليب ملتوية، ودوما على علم بما تفعله وبما ترتاب فيه. ليس من السهل إذن معرفة ما ترمي إليه من خلال دوافعها.
أنا وجولي صديقتان منذ سنوات. وهي تعمل أمينة بواحدة من مكتبات الأطفال في تورونتو. ولقد ساعدتني في الحصول على الوظيفة التي أشغلها حاليا، أو على الأقل، هي التي أطلعتني على الحاجة إلى شغلها. أنا أعمل الآن سائقة لشاحنة تقل مكتبة متنقلة في وادي أوتاوا. أما عن حياتي الشخصية، فقد طلقت منذ فترة طويلة؛ ولذلك من الطبيعي أن تتحدث إلي جولي عن مشكلة تزعم أنها تعجز عن مناقشتها مع كثير من الناس. إنه سؤال في واقع الأمر أكثر من كونه مشكلة. والسؤال هو: هل ينبغي أن تحاول جولي العيش بمفردها؟ قالت لي إن زوجها ليزلي قاسي القلب وسطحي وعنيد ولا يشبعها عاطفيا، غير أنه وفي ومخلص وسامي المبادئ وضعيف. وقالت أيضا إنها لا تريده في حياتها على الإطلاق، لكنها تظن أنها ربما تفتقده أكثر مما تستطيع الاحتمال. وأخبرتني أنها لا تتوهم أن لديها القدرة على جذب أي رجل آخر، لكنها تحس أحيانا أن مشاعرها وحياتها ... إلخ، تضيع هباء.
أنصت إليها، وحدثت نفسي أن شكواها تشبه شكاوى الكثير من النساء، وحقيقة الأمر أنها أشبه كثيرا بالشكاوى التي كنت أصدع بها حينما كنت متزوجة. إلى أي مدى ستستمر هذه الأحاسيس؟ وإلى أي حد ستتعمق؟ إلى أي مدى يعتبر بذل هذه المشاعر ممارسة تحقق التوازن للعلاقة الزوجية وتبقي عليها؟ سألتها عما إذا كانت قد وقعت في الحب من قبل مع أي شخص آخر غيره، فقالت إنها حسبت أنها وقعت ذات مرة في حب شاب التقت به على الشاطئ، لكن الأمر كله كان هراء، وتلاشت مشاعرها نحوه. وخلال السنوات الأخيرة، ظن رجل أنه وقع في حبها، لكن هذه العلاقة كانت هراء أيضا ولم يتمخض عنها شيء. قلت لها إن للوحدة وجها قبيحا، ولا شك أنني نصحتها بإعادة النظر. أحسب نفسي أكثر من جولي شجاعة لأنني أقدمت على المخاطرة، بل في الواقع أقدمت على أكثر من مخاطرة. •••
تناولت أنا وجولي ودوجلاس ريدر الغداء في مطعم يقع في بناية خشبية بيضاء عتيقة تطل على بحيرة صغيرة؛ تمثل واحدة من سلسلة من البحيرات. وقتئذ، قبل أن يتم إنشاء الطريق، كان ثمة مرسى ترسو عليه قوارب البحيرة؛ إذ كانت القوارب تجلب الزوار الساعين لتمضية الإجازة آنذاك - وكذلك الإمدادات - إلى الشاطئ. كانت الأشجار تغطي الشاطئ وتحيط بجانبي البناية، وغلب عليها شجر البتولا والحور. ولم تكن أوراق الأشجار قد نمت أعلاها بعد، مع أننا كنا في شهر مايو، بل كادت كل الفروع تكون عارية إلا من نفحة من الخضار، وكأن الأخضر هو لون الهواء . وتحت الأشجار كانت هناك مئات الزهرات الثلاثية البيضاء. وكان اليوم غائما رغم محاولات أشعة الشمس النفاذ من بين السحب، وبدا ماء البحيرة متلألئا وباردا.
جلسنا في شرفة طويلة محاطة بألواح من الزجاج على مقاعد عتيقة الطراز، مختلفة لا يشبه أحدها الآخر، ومطلية بألوان زاهية تشبه كراسي المطبخ. وكنا الرواد الوحيدين هناك. وكان الوقت متأخرا إلى حد ما لتناول الغداء، لكننا تناولنا دجاجا مشويا.
قلت: «وكأننا نتناول عشاء الأحد حقا؛ عشاء يوم الأحد بعد زيارة الكنيسة.»
قالت جولي: «إنه لمكان جميل.» وسألت دوجلاس كيف تعرف على هذا المطعم.
قال دوجلاس إن الفرصة سنحت له للتعرف على الأماكن كلها؛ فقد أمضى فترة طويلة جدا في الترحال والتنقل بين أرجاء المقاطعة، حيث إنه مسئول عن جمع المواد لدار المحفوظات المحلية وشرائها، من مذكرات ورسائل وتسجيلات قديمة بأنواعها المختلفة، والتي عادة ما تهمل وتضيع أو تباع إلى غيره من القائمين على جمع المواد من خارج المقاطعة أو البلد كله. وفي عمله، كان دوجلاس يتتبع العديد من الأدلة ويعتمد على حدسه، وعندما تقع يداه على كنز ما، فإن حيازته لا تئول إليه مباشرة؛ فعادة ما يتعين عليه إقناع ملاك هذه المواد القيمة ببيعها - سواء المتحفظون أو المتشككون أو الطماعون - والتفوق على التجار الخصوصيين.
فقلت لجولي: «إنه قرصان من نوع ما فعلا.»
تكلم عن التجار الخصوصيين وسرد قصصا عن منافسيه. فأحيانا كانوا يستحوذون على مادة قيمة، ثم يحاولون بيعها له بمنتهى الصفاقة مرة أخرى، أو يحاولون بيعها لأعلى المزايدين عليها من خارج البلد؛ وهي الكارثة التي أقسم على الحيلولة دون وقوعها.
অজানা পৃষ্ঠা