61

ولم تكن المقالات الأدبية أقل في موضوعاتها، وازدحام مناسباتها من مقالات السياسة في الصحافة اليومية وملاحقها الأسبوعية، فقد كان الأسبوع لا ينقضي على غير كتاب ينقد، أو قصيد يتبع بالتعليق عليه، أو خبر عن أديب مشهور في الثقافة الغربية يستحق الكتابة عن سيرته أو ذكراه، أو مناقشة مذهبه ومذهب مدرسته في مسائل الفن والفكر وما إليها، وقد يتسع المجال كل وقت لكتابة المقالات المتتابعة عن موضوع من موضوعات الأدب التي تتجدد مناسباتها ولا تحتاج إلى مناسبة خاصة لإعادة البحث فيها، ومن هذا القبيل مقالات الشعر والقصص والمبادئ الفكرية، وهي حاضرة في أذهان قرائها وعلى أقلام كتابها لا يستغرب ابتداؤها والعودة إليها في سن من السنين ولا في موعد من مواعيد الصحف والمجلات ما لم يكن هناك موضوع يشغل الأذهان لمناسبة عاجلة تميزه بالتقديم، فهو في هذه الحالة يختار نفسه للكتابة فيه، ولا يلقي على الكاتب مؤنة الاختيار. •••

هذا هو الغالب في أسباب اختياري لموضوعات المقالات والفصول، ولكن اختيار موضوعات الكتب يجري على غير هذه الطريقة في أهم موضوعات التأليف عندي، وهو موضوع التراجم والسير التاريخية أو الأدبية.

فالقاعدة في اختيار ترجمة ما للكتابة فيها أن تكون كتابتها لازمة لإبراز حق ضائع أو حقيقة مجهولة، وتستوي في ذلك سير العظماء والنوابغ من كل طراز، وفي كل طبقة من طبقات العظمة والنبوغ.

فالحافز الأكبر على تأليف كتابي عن «ابن الرومي» أنه مجهول القدر، مبخوس الحق، يصطلح على بخسه، والنزول به عن قدره جهل النقاد، وظلم الأغراض والأهواء، ورأيي فيه أنه أعظم شعراء العالم بلا استثناء في ملكة الوصف التصويري، والعاطفة الممثلة في قالب الحس والخيال، ولكن نقادنا يذكرونه، ويحسبون أنهم يتعطفون عليه إذا ألحقوه بشاعر كالبحتري أو ابن المعتز على غير مساواة، وهما بالقياس إليه كمن ينطق بحروف الهجاء في مجالس البلغاء. •••

ولقد كان إنصافه - مما أصابته به خرافة الجهل وخرافة الشؤم - حافزا يوشك أن يكون من حوافز الغيرة الدينية إلى جانب لذته الأدبية، وفضلت البدء به على البدء بتأليف غيره في موضوع النقد وتواريخ الآداب.

ولا يقال عن عظمة النبي - عليه الصلاة والسلام - إنه بحاجة إلى إنصاف أحد، أو دفاع في وجه ناقد ناقم يفتري عليه؛ لأنها عظمة القداسة التي تعلو على إنصاف المنصفين وافتراء المفترين. ولكنني كتبت «عبقرية محمد» للقارئ «الإنسان» الذي تضطره مقاييس الإنسانية العليا إلى تعظيم نبي الإسلام ولو لم يكن على دين المسلمين، وتوخيت في بيان خلائقه وأعماله أن تسقط عذر الخلاف في الدين لمن يحجم عن تقدير تلك العظمة جهلا منه بدين الإسلام أو بتاريخ النبوة الإسلامية، ولم أشأ أن أجعل الاعتراف بها موقوفا على صفة يدين بها المسلم لأنه مسلم، ويرفضها المخالف لأنه يرفضها بحكم العقيدة الدينية.

وممن أختارهم للترجمة عظماء الفرصة الذين بلغوا بالحيلة ما يلم يبلغوه بالقدرة الخالصة، وتوسلوا إلى منافعهم في أزمنتهم بتلك الوسائل التي نسميها اليوم بالوسائل «المكيافيلية»

1 ... فإن الغرض الأول من الترجمة التاريخية أن يعرف الناس الفارق بين حق الفرصة في زمن من الأزمان وحق القدرة في كل زمن، ومع اختلاف الفرص وعوارض الظروف، فلا ينبغي أن يأخذ عظيم الفرصة من التاريخ فوق ما أخذه من منافع عصره، وبخاصة حين يكون حكم التاريخ الكاذب جورا على خصومه، وتغطية لنقائض عصره. ولست أجد في نفسي باعثا قويا للكتابة عن العظماء الذين اتفقت لهم الفرصة والعظمة معا فاستحقوا المجد الذي نالوه، ولكن بشيء من المبالغة العاطفية أو مبالغة الظروف ومناسبات الحوادث؛ ولهذا أفضل الكتابة عن عبقرية خالد على الكتابة عن عبقرية صلاح الدين؛ لأن إنصاف صلاح الدين لا يحتاج إلى مزيد. •••

ومن حظوظ التآليف التي لها حكم كحكم الحظ في كل شيء، أنني أؤجل أحب الموضوعات عندي وقتا بعد وقت على أمل في اقتراب الوقت الموافق لتأليفها، فلا يقترب كما أريد مع توالي الأعمال، واعتراض المطالب العاجلة التي لا تحتمل التأجيل، وأحب الموضوعات عندي تلقى مني هذا التأجيل بعد التأجيل؛ لأن توفية الكلام فيها تستغرق الوقت الطويل، وتستلزم الإحاطة بجميع الأطراف، ولا يتم إجمال القول فيها - فضلا عن التفصيل - فيما دون المئات من الصفحات. وقد تأخرت من أجل هذا كتابتي عن أبي حامد الغزالي، وهو أحب المفكرين الإسلاميين إلي، وأقدرهم تفكيرا على الإطلاق، ولم يتيسر لي أن أكتب عن خليفته الأستاذ الشيخ «محمد عبده» إلا بعد أن أجمعت على اطراح التردد في أمره، وأقنعت نفسي بثلاثمائة صفحة تكتب في ترجمته، حيث كانت ألف صفحة دون الكفاية عندي لمثل هذا الموضوع.

إن الاقتراح يعمل في تأليف الكتب أحيانا عمل الاقتراح في تأليف المقالة الصحفية، وقد ألفت كتبي عن «سن ياتسن» و«شكسبير»، و«برنارد رشو»، و«فرنكلن»، و«عقائد المفكرين» وغيرها؛ تلبية للمقترحات التي وافقت رغبتي كما وافقت زمانها في إبانها، ولكنها كلها - من التراجم وغير التراجم ومن الموضوعات التي أختارها أو أوافق على اختيارها - لا تخرج عن مقصد واحد لا هوادة فيه، ولا يتجرد منه موضوع كتاب أو مقال: وهو إحياء الثقة بالروح الإلهي الخالد من لوثة المادة، ومهانة الإنكار العقيم، أو مهانة كل اعتقاد وخيم يغلب فيه عامل السلب والنفي على عامل الثبوت والإيجاب.

অজানা পৃষ্ঠা