صفاء في جو المكان قلما تشوبه غاشية، وامتلاء في جو الزمان قلما تخلو منه زاوية ... تنتقل فيها من عصر إلى عصر كما تنتقل فيها من حارة إلى حارة، وترجع في تاريخ مصر إلى أقصى الماضي فتلقى لها تاريخا مثله!
هي بلدة خالدة! بل هي بلدة مخلدة! لأن معالم الخلود في الهياكل والتماثيل مستعارة من محاجرها، فهي كالزمن حين تهب الخالدين مادة الخلود ... تلك هي بلدتي أسوان، ولم تكن قط شيئا هملا في عصر من العصور ...
كانت على أيام الفراعنة مفتاح الجنوب، ومثابة التجارة بين جانبي الوادي القديم، وملتقى القوافل بين جوانب الوادي جميعا، وصحراء المغرب والمشرق من البحر الأحمر إلى بحر الظلمات، صاحبت الأرباب منذ عرف الناس الأرباب ... فأقيمت فيها الصلوات لإله النيل، وأقيمت لإزيس وأوزوريس، وأقيمت «ليهوا» رب الجنود، وتلاحقت فيها أديرة الرهبان من أتباع السيد المسيح، وصوامع النساك من أتباع محمد عليه السلام ...
وفد إليها «هيرودوت» و«سترابون» من آباء التاريخ، وكان أبو التاريخ يقول عن كهانها: إنهم كانوا يسخرون به كما يسخر الرجل الكبير في حديثه إلى الطفل الصغير! ... وذكرها «حزقيال» في نبوءات التوراة، وعرفها الشاعر الآبق دعبل، كما عرفها الشاعر رهين المحبسين أبو العلاء:
أسوان أنت لأن الركب وجهتهم
أسوان أي عذاب دون عيذاب
وبين أسوان وعيذاب، كان طريق حجاج المسلمين منذ اضطربت بلاد أبي العلاء بالفتن والثورات، وتحول قصاد بيت الله إلى هذا الطريق.
وفيها من ذكرى العلم، كما فيها من ذكرى الحرب والسياسة، فعرفت فيها أصدق الأرصاد عن محيط الأرض قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من مائتي سنة ... كما عرفت فيها أصدق الأرصاد عن جرم الشمس بعد المسيح بقرابة ألفي سنة ... ولا تزال في جزيرتها بئر يدلونك عليها، ويقولون لك: إنها البئر التي نظر فيها «أراتوستين» علامة زمانه في علوم السماء حين قاس زاوية الأرض من الإسكندرية إلى أسوان ...
واتصلت فيها أسباب العلم من عهد الفراعنة واليونان إلى عهد الإسلام ... فقال «كمال الدين جعفر بن ثعلب» في القرن الثامن الهجري: «قد خرج من أسوان خلائق كثيرة لا يحصون من أهل العلم والرواية والأدب ... قيل إنه حضر مرة قاضي قوص، فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة للقائه ...» كناية عن العالم؛ لأن البغلة كانت ركوبة العلماء ...
وكانت إلى ذلك العهد تسمى «الثغر»؛ لأنها تزدحم ازدحام الثغور الحافلة بطلاب العلم، وطلاب التجارة، وطلاب اللهو والفراغ ... وفيها يقول كمال الدين:
অজানা পৃষ্ঠা