كل شيء على الشاطئ هنا. المدن صغيرها وكبيرها هنا. البلاجات، المواخير، وحتى مصانع الأسلحة السرية هنا. لا أحتاج إلا لخطوة واحدة، فيتغير الزمن، ويتغير المكان. الجنرال أشعر به من بعيد يراقبني. كان من واجبه مصاحبتي. ولكنه تأدبا أراد لي أن أكون بمطلق حريتي. وأن أفعل ما يحلو لي. لا تتأثر إرادتي حتى بمجرد قربه أو وجوده. ولكن عيني الخلفية تحس به يحرك رأسه أنى أتحرك. ابتسامته لا تتغير، أم غير مكترث بالمرة. عصاه تحت إبطه، رأسها كالبوصلة يتحرك، يتعقبني، يحرك الأشياء أمامي، الزمان والمكان والمشهد. رأس العصا ليس مندمجا في غلظة أو وضوح إنما هو، كوجه الجنرال، ينسكب انسكابا متسقا مع بقية الجسم.
من الغمام الغسقي برز وجه سيدة. أمامي منحنية قليلا وقفت. جيدا لم أتبين الملامح. هل كان لها رأس حقا؟! إنها بالتأكيد سيدة. تكلمت عاما، ربما عامين، ولكني لا أريد أن أسمع، أخرجت من حقيبة يدها، التي تشبه حقائب الدبلوماسيين، أصبع روج. لفت قاعدته، فانبثق من فتحته بدلا من الروج ماركات ألمانية حقيقية. آلاف الأوراق. كل ورقة بألف مارك. لفته مرة أخرى انبثقت دولارات، ليرات، دينارات، ورقات بعشرات الجنيهات. أشحت. أغلقت الأصبع. قدمته بلطف زائد. أشحت. الجهد عجيب. ولكني أشحت. تفرجت وأشحت. بعيني الخلفية أحسست بأثر شعاعي كومضة البرق. ومن عصا الجنرال صدر. اختفت ومجرد خطوة أخرى، وجدتها تنتظرني. ليست فقط بملامح أنثوية واضحة، ولكنها بالملامح الأنثوية التي أريدها. الوجه طويل ينتهي بذقن يتوسطها طابع الحسن، عميقا كالسرة. الشعر طويل ومتهدل ومفروق وكأنما منذ أن نما. من الوسط يتهدل، ويغطي الأذنين، ويغمر الأكتاف والصدر. الشفتان قطعا لشابة في السابعة عشرة. شفاه جربت لا بد القبل، ولكنها لم تمتهن بعد، بأغلى القبل. العيون واسعة، ومليئة بالغريزة المشعة، والرموش طويلة تكاد تبين كل رمش منها نافر وحده كسلك الشمسية. رموش برية، بركانية، كأنما فجرتها بغزارة طبيعية أم بدائية. قبل أن تكلمني سمعتها، كالسائح المغامر قررت أن أسمعها، وأيضا أصافحها. أعرف تماما أن يدي إذا لامست يدها، فمحال أن أستردها.
كالسائح رحت أسمع. وكالرجل الذي بدأ يدمدم فيه البرق رحت أرى. آذاني بدأت تنجذب بقوة. والبركان في نفسي بدأت دمدمته تقل، وتهدد بأن تهدأ. ثاقب كلامها. عقلها يبهرني، يبلغني يغرقني في فيض من رؤى الحياة. أتأملها فأشعر كأني ما عشت الدنيا أو مارستها . مدمر منطقها. مخي أراه رأي العين نسيج عنكبوت تعبره آلاف من ذرات الكلمات الذكيات، وعيي يزداد إلى درجة جاوزت حد الخطر. كنت واثقا أني في اللحظة الفاصلة أستطيع أن أكون السيد والغالب. والمهدم بضربة كل ما شيدته في عقلي من أوهام. ولكن رعبي أنها أصبحت أصلب من الحقائق، وأدرك أني حالا، وبعد ثانية، ومهما هويت، فلن أهدم شيئا.
وفجأة، من الأعماق البعيدة، انتفض صوت النذير، وخطوت غضبا خطوت، مقررا بلا رجعة أن أعود. لقد جئت أتفرج. فجأة أيضا ظهر الجنرال. أمامي وقف. الابتسامة هذه المرة ابتسامة اعتذار واضح. مد يده. بالأدق، حرك يده حركة تصلح أن تكون مشروع مصافحة. لا يا جنرال حتى أنت لا أصافحك، بذكاء شديد أدرك، بذكاء أشد تحولت همة اليد إلى حركة لبقة داعية أن أتقدم. رحت أجمع نفسي، وألتقط أنفاسي، وأرفع القدم وأبدأ أتحرك.
طابور طويل، قادم من بعيد، من أبعد، وكأنما يبدأ أوله عند الأمس، وقبل الأمس، ومئات السنين. طابور عليه مسحة الحزن الذليل. بنات وسيدات، مسنات وصبايا في الثالثة عشرة، بيض وحمر، وسمر وصفر، شاحبات. أمامي تتردد الواحدة، بانكسار تنتظر. بانكسار ترفع الرأس. بأهداب منكسرة تنتظر الريا. بعيون فيها الحزن الرقيق تتمنى. الأسى أنثوي ويضفي على المرأة أنوثة. وليس أكثر أنوثة من الحزن إلا الصبايا الحزانى. الأسى لا يستثير الشفقة. إنه يستثير الفحولة. اختر ما تشاء. أمامك المائدة حافلة. أمامك. خبرة المدربات أمامك. خجل ربات البيوت أمامك. الأرامل الفتيات أمامك. الفقيرات الجميلات أمامك. يكفي أن تلمس الواحدة فتذوب أمامك. تغوص في مياهها الأنثوية. وتسبح فيها، وتعبث كيف تشاء، وأنى تشاء، يا للغلالات السوداء الرقيقة، حتى الرخيصة منها، وهي تنزاح وتتمزق عن اللحم الأبيض! اللحم الشهي الشاحب الأبيض. يا للوجه المتكسر أسى وهو يموء نشوة وإحساسا بالرجل. يا للدوائر الثديية البنية ذات السيقان الوسيطة المبتورة، وهي تثور وتتمرد على تهدلها الحزين. يا لعواء يأتي من شعر تحت الإبط، ذي العرق اللؤلؤي المنسال الخاص، كل نقطة منثالة منه تحمل كل رائحة الأنثى وغريزتها. يا للحزن حين يستحيل بتأثيرك تهتكا وفجرا، وأمامك الطابور. اختر ما تشاء، بأصبعك أشر، مجرد أن تشير. بإرادتك جرب، مجرد أن تختار. برغبتك، حتى بمجرد انبثاق الرغبة في أعماقك الباطنة، جرب. والجنرال هناك، لا أعرف له مكانا على وجه التحديد، وكأنما هو يختار دائما أن يكون حيث لا أراه. هناك هو بالتأكيد، بنظراته يطبطب على كتفي مشجعا داعيا مباركا، حتى لو اخترت ابنة العاشرة سيبارك الاختيار. اللمس، مجرد اللمس أصبح مغريا إلى حد مستحيل المقاومة. ولكني خائف خوف الموت أو المس. أعرف ومتأكد أنه بمجرد اللمسة سيصبح الطابور كله لي، والطابور طويل طويل، والنساء كثيرات، متباينات، حتى بكل أساهن الجنسي الخاص. أصابعي تأكلني. الرجل في يعوي وأنا كالصخر الثابت أتفرج. والفرجة ليست دنسا، وقلبي نظيف كبفتة «المحلة» البيضاء. الرغبة في صدري مكممة الأفواه، مكتفة الأرجل والسيقان. مخنوقة تماما لا تملك أن تعبر عن نفسها أبدا. أخاف حتى مجرد أن أعبر عن نفسي؛ فبمجرد التعبير سأبدأ أنهار. الطابور يختلط. الألوان تفرز الألوان. النسوة الكثيرات يستحلن إلى غابة. الألوان زاهية زاعفة، كبالونات الأعياد تنهمر. الثوب يختصر إلى الميني جيب والميكرو جيب واللاجيب، السيقان أصبحت مصنوعة ومضبوطة على أدق مقاييس الجمال. الساق منها أنثى كاملة. مصنوعات فليكن. وليكن الإنتاج «ماس برودكشن». الباروكات أجمل من الشعر الأصيل ألف مرة ومرة. العيون الصناعية أحلى وأروع من الطبيعية مليون مرة. وحسبما وكيفما تريد. يابانية ضيقة، وصينية معوجة، وأميركية واسعة، وعربية سوداء، وإنكليزية زرقاء، وخضراء وبنفسجية. المصنوعات يرقصن. بنطلوناتهن محزقة. البلوجنز يفتك بالنظر، تقشعر له العين، وتنتصب له الرموش قبل أن يقشعر الجسد. الرقصة أمامي تحدث، الوسط يتلوى، بكل التواءة وسط تقول خذني. السيقان تتشنج ممدودة تجأر، مكنونة تستجير. الأكتاف تهتز، تضيق، تتسع، تنادي، تقبل، تدبر كي تقبل أكثر. الشفة السفلى تتدلى، تسترخي تنقبض. الفم يضيق ضيقا داعرا مجنونا. أنا يا عم أتفرج. أموت رغبة، تقتلني الرغبة، ولكني لن أفعل إلا أن أتفرج. لقد جئت فقط كي أرى وأتفرج. يا جنرال أعرف أنك خلفي وأنك تراقبني وأن برأس عصاك إشعاعا، يخضع الأشياء لكل ما أتمنى وأرغب، ولكني سأظل أتفرج.
بل لم يعد في طاقتي البشرية، أن أبقى، وأن أتفرج.
الزورق وقهري للابتسامة والدعوة على وجه الجنرال تودعني، مشفقة لغبائي، ساخرة. هزة الرأس أسفا، بعيوني الخلفية أراها مودعة. الزورق يتحرك. أحس الآن بحركته، وبالزمن بدأت أشعر. أنا ألهث، مستريح الضمير ألهث كمن نجح في امتحان شديد القسوة. ومستريح الضمير. لم ألمس. لم أتدنس. طول الوقت أتفرج. بقيت نظيفا كبفتة «المحلة» البيضاء، كضمائر الناس الكثيرين المتزاحمين، على شاطئ، فوق المرسى، أتفرج. أعناق مدلاة فوق الحاجز وسكون. سكون حب الاستطلاع، سكون الفرحة، سكون يوم الدين، ولكن إلى نفس السكون العظيم أعود.
ولكن شيئا جديدا، لم أتوقعه أبدا، لمحته، هناك، وغير بعيد عن مكان المتزاحمين فوق المرسى القديم، لمحته. ابني، حافي القدمين في جلباب النوم، واقفا، شعره مشعث، ملامحه فيها جمود المستيقظ لتوه من غفوة، وكان ناحيتي ينظر. إلي ينظر مرة وإلى المتفرجين المدلاة أعناقهم مرة، شاحب الوجه، رفيعا، نحيف الساعد، ولكن في ثبات ينظر. دهشت، جعلتني الدهشة الأولى أحبه أكثر. إنه ابني، دمي أنا ولحمي، قطعة مني قد انفصلت، وأصبحت كائنا مستقلا فاتصلت بي أكثر، كائنا له وجهه الخاص، ورأسه الخاص، وساعده النحيل الخاص.
وصل الزورق، يهدر. لامس الخشب القديم ولكني لم أغادره. النظرة الكامنة في عيني ولدي ثبتتني في مكاني. لا ذرة بنوة واحدة ألحظها في النظرة. ماذا حدث؟ تحرك ساعده. امتدت يده إلى فتحة الجلباب. خرجت اليد قابضة على شيء معدني أسود. كان مسدسا. حسبته لعبة أطفال. ولكنه كان مسدسا رجاليا كبيرا. ماسورته بطول الساعد الناحل. مسدس حقيقي له فوهة. والفوهة تتحرك، لتصبح دائرتها السوداء موجهة إلى صدري مباشرة. بالضبط إلى مكان القلب من الصدر. تعلقت نظرتي مستغيثة بكل ما لي فيه. لم تجب استغاثتي بادرة. الوجه قاض، والنظرة جلاد، والفم يتمتم بالحكم. لا، أنا لم ألمس يا بني شيئا. يا مجنون، كنت مثل هؤلاء جميعا أتفرج. ارجع، لا تكن مجنونا. ما الجريمة أن أقف وأتفرج؟ قلبي نظيف كبفتة المحلة البيضاء، كقلوب هؤلاء الناس، ولم أفعل إلا التفرج. ارجع، أرجوك، أستحلفك. اعقل، فكر. ما الجريمة يا أحمق أن أتفرج؟
التمتمة تكف. الشفاه تنطبق في إصرار. الدوي، ارتعاشة اليد، الرصاصة في كتفي، الدمعة ألمحها تترقرق في عينه. الرصاصة الثانية كالكتلة تدك صدري، دويها لا أزل أسمعه. الثالثة لا أعود أسمعها.
অজানা পৃষ্ঠা