ولكنه كان أيضا يكلفني في بعض الأحيان أعمالا تشبه الخدمة الخاصة، فيبعثني إلى البيت لأحمل إليه فاكهة أو لأوصل إليه رسالة أو نقودا، فكانت نفسي في أول الأمر تثور على ذلك، وكدت مرة أرفض طلبه لولا أن ملكت شعوري حتى لا أغضبه، ولكني كنت أجد ترضية كافية تنسيني غضبي إذا صادفت منى في الحديقة، حتى صرت فيما بعد أشعر بالارتياح كلما كلفني القيام بخدمة أذهب فيها إلى البيت، وكنت أجدها في كثير من الأحيان تلعب مع بعض صاحباتها إذ يقفزن فوق الحبل أو يلعبن «الأولى» أو لعبة الانتباه، فإذا رأتني أسرعت إلي وأصرت على أن ألعب معها دورا، وكان هذا يؤخرني أحيانا، ويعرضني للوم السيد أحمد فلا أجرؤ على أن أقول له السبب في تأخري، وقد تعرضت مرة لموقف محرج من جراء إصرار «منى» على مشاركتها اللعب؛ إذ ذهبت يوما كالعادة إلى البيت أحمل فاكهة، وتمسكت بي «منى» لألعب معها لعبة «الانتباه»؛ وذلك بأن أحجل على رجل واحدة وهي تجري أمامي في حدود مربع مرسوم على الأرض، وأخذت أحجل بحماسة وهي تجري وتزوغ مني حتى أكاد أقع واستمر الدور أكثر من عشر دقائق حتى استطعت أن ألمس كتفها، ولما التفت إلى ورائي وأنا ألهث من التعب وجدت السيد أحمد جلال واقفا من بعيد ينظر إلينا، فارتكبت ارتباكا شديدا وشعرت بأن وجهي يتقد وذهبت نحوه أجرر قدمي، ولا أدري ماذا أقول له، ولكن منى صاحت بي غاضبة تدعوني إلى إتمام الدور الثاني لتنتقم مني، فلما رأت والدها أسرعت إليه تطلب منه في حماسة أن يتركني حتى ألعب الدور الثاني فتبسم السيد وأخذها من يدها متجها نحو ميدان اللعب وقال لي: «أكمل دورك يا سيد أفندي، وهذا جنيه يا منى للفائز منكما.» فصفقت منى مسرورة وبدأنا اللعب، ولكني لم أتحمس، فصاحت منى غاضبة وساعدها أبوها قائلا: «يجب أن تبذل جهدك حتى يكون الانتصار حقيقيا.» فاندفعت في اللعب بكل قوتي حتى تعبت منى ووضعت قدمها الثانية على الأرض بغير أن تمسني، وسلمني السيد الرهان، وكان سرور منى بفوزي أضعاف سرورها بانتصارها علي في المرات السابقة، وقد عرفت فيما بعد أن مصطفى عجوة هو الذي سعى عند السيد أحمد جلال، وجعله يتبعني إلى المنزل ليرى أن سبب غيابي هو انشغالي باللعب مع منى، فإني عندما عدت مع السيد إلى المحلج سمعته يستدعي مصطفى عجوة ويشتمه بصوت مرتفع ويلعنه ويأمره بألا يرى وجهه مرة أخرى.
وجاء مصطفى عجوة بعد تلك المقابلة العاصفة وجعل يتودد إلي ويحلف لي أنه يحمل لي إخلاصا لا حد له.
على هذا استقر عملي بالمحلج، وزال عني كثير من الشعور بنفسي وبضآلة وظيفتي، وكان العمال والموظفون الآخرون يأنسون إلي كما صرت آنس إليهم، لا يشذ منهم سوى مصطفى عجوة؛ إذ كان يذكرني دائما بأنه ما زال الصبي الخبيث الذي كان يملؤني غيظا عندما كنا معا في زمرة حارة «أبي طاقية».
وكان من عادة السيد أحمد جلال أن يحتفل في كل عام في شهر رمضان بإطعام العمال والفقراء وتوزيع الملابس عليهم في ليلة العيد، فلما مرت السنة الأولى من عملي بالمحلج عهد إلي السيد أحمد أن أقوم على تدبير ما يجب تدبيره لذلك الشهر من طعام وكسى، بعد أن كان يكل ذلك إلى مصطفى عجوة.
فوضعت لذلك خطة توفرت على إحكامها، وأظن أن السيد ارتاح إلى عملي فصار يعهد إلي بذلك في كل عام كلما أقبل رمضان، وكنت أجد في قيامي به ارتياحا شديدا لما فيه من البر، كما كنت أغتبط بما فيه من دلالة على ثقة السيد بي واعتماده علي، ولم أفطن إلى أن عملي هذا يثير علي غيظ مصطفى عجوة إلا بعد عدة سنوات عندما وقعت حادثة صغيرة في شهر من شهور رمضان المتعاقبة، كان لها على صغرها أثر كبير في تغيير اتجاه حياتي.
أقبل شهر رمضان في أحد الأعوام المتتالية وأعددت العدة لما يجب له من كل شيء، مهتديا بتجاربي السابقة، وتحريت أن أطرف العمال والفقراء بين حين وآخر بأنواع من طرف الطعام لأدخل على قلوبهم السرور، وكنت أقضي بعد الظهر من كل يوم في تدبير شئون المطبخ ثم أمكث حتى الغروب في خدمة الطاعمين حتى يفرغوا من الإفطار، وأذهب بعد ذلك إلى بيتي لأفطر، وقد أتاحت لي ساعات وجودي معهم فرصا كثيرة للاستماع إلى ما يقولون ولا سيما بعد أن صاحبتهم سنة بعد سنة وأنسوا إلى مودتي.
وبدأت أحاديثهم الصريحة عند ذلك تطلعني على جانب عجيب من الطبيعة الإنسانية لم أفطن لها من قبل، وبدأت أتعلم حقا أن الناس كما يقولون: «صناديق مقفلة» تخفي في كثير من الأحيان ما فيها من الحقائق.
كنت يوما أجلس في حلقة من العمال حول إحدى الموائد بقصد مؤانستهم فسمعت أحدهم يتحدث ساخرا بالسيد أحمد جلال.
فقلت له في رفق: إنه لا يستحق منك هذا يا صديقي.
فأجابني في دفعة: أتقصد أنه يطعمنا؟
অজানা পৃষ্ঠা