190

ولكن كنت أعود دائما إلى نفسي فأراجعها معتذرا عنها، فما أدراني أنها عرفت ما أنا فيه؟ وأما الأستاذ علي مختار فإنه لم يأت لزيارتي مرة، ولم يحضر في يوم جلسة من جلسات المعارضة، بل إنه لم يبعث إلي بكلمة مع أحد أتباعه، كان ساعي مكتبي هو الرجل الوحيد الذي جاء ليواسيني ويقول لي: «تشجع.» وهممت مرارا أن أسأل صديقي عبد الحميد عنه، ولكني تكبرت أن أسأل عن رجل يتخلى عني هكذا مع أنه شريكي في كل كلمة أنشرها.

وجاءني عبد الحميد عياد يوما وكان معه أحد أصدقائي من المحامين الشبان، وذلك في الليلة التي تسبق جلسة المعارضة الثالثة، وبدا لي صاحبي على غير ما كان منذ رأيته آخر مرة، عاد كما عرفته من قبل مستقيم العود حاد الملامح هادئ الحركات رصين النبرات، وكان في مظهره شيء كثير من العناية التي تقرب من التأنق، ودار أكثر حديثنا حول جلسة المعارضة، ولكن المحامي الشاب لم يكن يعرف شيئا عن القضية، وخيل إلي أنه لا يعبأ كثيرا بأن يعرف عنها شيئا، فشعرت من حديثه بكثير من الضيق حتى لقد تمنيت لو حدث شيء يحول بينه وبين حضور الجلسة، ولما انصرف بعد زورة قصيرة مع صاحبي عبد الحميد، هجم علي سيل من الهواجس حتى صارت الساعة الثانية بعد نصف الليل، واضطربت الأفكار السوداء حولي من كل جانب، وأخذت أسأل نفسي عما يكون إذا حكم القاضي باستمرار حبسي مرة بعد مرة، فهل تبقى أمي وأختي بالقاهرة تقيمان في غرفتي المحطمة؟ وهل عندهما ما يكفي لنفقتهما التي ضاعفتها عليهما بحبسي؟ أم أتركهما هكذا لصاحبي عبد الحميد ينفق عليهما وأنا كالمفقود في سجني؟ وقد جعلتني هذه الهواجس أشعر بأنني قد اقترفت جريمة شنيعة؛ لأني لم أفكر في أن ما يصيبني لا يقف عند شخصي، فلو كنت وحدي في الحياة لكان مقامي بالسجن لا يزيد على مغامرة تخصني ولا تمس غيري، ولكني جنيت على أمي وأختي وأرغمتهما على أن تغامرا معي بغير أن يكون لهما شعور الرضا الذي يصاحب المغامرة، وقد ألح هذا التفكير علي حتى صرت أقول لنفسي: «من أجل أي شيء أقدم على هذا التضحية؟ من أجل حرية بلادي؟ وكل هؤلاء الذين يستقرون في بيوتهم ألا يحسون شيئا من أجل حرية بلادهم؟ ألا يزعم الأستاذ علي مختار مثلا أنه مجاهد في سبيل الحرية؟ وأين هو الآن؟ أليس يقيم سعيدا في بيته؟ وماذا يكتب يا ترى في بريد الأحرار؟ لا شك أنه محا عنوان «أنا الشعب»، وجعل في مكانه عنوان قصة عاطفية تغري بالقراءة مثل «غرام غانية» أو «الحب المحرم».

وعندما بلغ بي التفكير إلى هذا المدى تنبهت إلى أن الجزع قد استولى علي وجعلني أنكر كل عقائدي وأبدل كل آرائي، فهل كنت هازلا عندما آمنت بالثورة وبالجهاد من أجلها؟ أهكذا أنكل عند أول صدمة وأسمح لضعفي أن يغلبني حتى أكفر بأعز ما آمنت به وأمحو بيدي تلك الصورة التي نصبتها أمام عيني لتكون أمنية كبرى تجعل لحياتي معنى؟ وأخذت أستعيد لنفسي ذكرى وقفتي عند قبر أبي؛ إذ خيل إلي أني أسمع صوته يقول لي: «إن الحياة تناديك يا ولدي.» وتذكرت أني عاهدته على أن أؤدي واجب حياتي، وماذا تكون قيمة هذا الواجب إذا كان أداؤه لا يحملني الآلام ولا يكلفني المتاعب؟

وثقل جفناي آخر الأمر بالنوم، ولكنه كان نوما متقطعا مضطربا، وقمت في الصباح الباكر لأستعد للذهاب إلى المحكمة وجاءت الأخت مرسيديا بنفسها لتحمل إلي إفطاري وتودعني معتذرة بأنها ستكون مشغولة عني، ولعلها لا تراني قبل خروجي، وقالت لي وهي تهز يدي: «أرجوك أن تسأل عنا بالزيارة بعد أن يفرج عنك، فسيفرج عنك اليوم بغير شك!» وقلت لها باسما: إلى اللقاء يا ملاكي.

فضحكت ضحكة عالية وقالت: لقد تعلمت الملاطفة هنا.

وانشرح صدري لكلمتها واستبشرت بالفرج القريب، وكان وداع عوض الله أفندي لا يقل عن وداعها بشرا وظرفا، وكان أسفي عظيما؛ لأني لم أودع اللواء مجاهد؛ إذ كان ذلك اليوم غائبا عن المستشفى.

ولما خرجت في العربة ذاهبا إلى المحكمة ظهرت المدينة أمام عيني باهرة، كأنها منظر أنيق لم يقع عيني عليه من قبل، وكنت أحس في بدني قوة جديدة من أثر العلاج الذي كان أكبر الفضل فيه للأخت مرسيديا، فاستقبلت نسيم الصباح في صدري رطبا عطرا يملؤني نشاطا واستبشارا، وكنت ما أزال محتفظا في جيبي بالمائة جنيه التي ردها إلى حمادة الأصفر وبعشرين جنيها أخرى كانت معي من قبل، فما كدت أرى صاحبي عبد الحميد واقفا عند باب المحكمة، حتى أخرجت المحفظة ودفعتها إليه بعد التحية قائلا: خذ هذه النقود فأوصلها إلى أمي، وأرجوك أن تحملها على العودة إلى دمنهور إذا حكم القاضي باستمرار حبسي.

فقال عبد الحميد باسما: فإذا رفضت؟ على كل حال أرجو أن يكون الحكم بالإفراج عنك.

ولم أجد وقتا للمجادلة؛ لأن الحارس جذبني في رفق من ذراعي ليسير بي، وقلت مختصرا: أترك كل شيء لتقديرك، وعلى فكرة أرجو أن تبعث إلي ببعض أعداد بريد الأحرار.

وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيت عبد الحميد ينظر إلي مبهوتا وهو يسير إلى جانبي.

অজানা পৃষ্ঠা