177

ومد يده بالقروش الباقية من نصف الريال، فأشرت إليه أنها له، فتبسم راضيا ووضع الطعام على المكتب ثم قال: تصبح على خير.

وأغلق الباب وراءه، وتركني أحاول أن أفكر في خطة لقضاء الليلة.

فجررت المكتب قريبا من النافذة، وجلست عليه وبدأت آكل، وكنت مع كل ضيقي أحس جوعا شديدا، وكانت شهوتي للطعام عظيمة حتى أكلت الرغيف وأخذت أقشر الخيار لأستغني به عن الماء والفاكهة.

وكان من حسن حظي أن الغرفة تحتوي على مصباح كهربائي صغير، فكان نوره مساعدا للضوء المنبعث من الطريق في إزالة كثير من الوحشة التي كانت تخيم على صدري، وأخرجت من جيبي قصة إنجليزية مما تعودت أن أحمله معي دائما لأقطع به الوقت في الساعات التي كنت أضطر لقضائها في غرف الانتظار في جولاتي لتلقف الأخبار، وكانت في تلك الليلة لقية نفيسة، وشغلتني القراءة فيها عن التفكير في متاعبي، وهي قصة لأحد الكتاب الشبان يصور فتاة مثل الفتاة التي رأيتها تجمع أعقاب السجاير من الطريق، وكان من سوء حظها أنها كبرت وصارت حسناء، فاستطاعت أن تصبح خليلة ثم راقصة، ثم اجتذبت قلب أحد الشباب المنعمين، وكان من سوء حظها أنها أحبته، فألفت لها الأقدار مأساة، وألقت بنفسها إلى النيل من العوامة التي كانت تعيش فيها، هل تستطيع هذه الطفلة المسكينة أيضا أن تسترعي نظر الأقدار؟

وأخذت عيني تثقل للنوم فخلعت سترتي وجعلتها تحت رأسي ونمت فوق المكتب جامعا ركبتي إلى قرب صدري.

الفصل الرابع والعشرون

صحوت متعبا إلى حد الإعياء في الصباح، وكانت الساعة السادسة، فجلست على المكتب حائرا، وكان رأسي مصدعا ثقيلا ومفاصلي وأضلاعي تنبض بالألم، وقمت أترنح إلى الباب فدققته دقتين حتى انفتح، وكان الذي صبحني بوجهه شرطي عابس أصفر الوجه كأنه هو الآخر قضى ليلة مثل ليلتي.

وسألته: أأستطيع أن أغسل وجهي؟

فأشار بيده إلي بغير أن يتكلم، واتجه بي إلى دورة الماء ووقف عند الباب ينتظرني، وكانت النوافذ هناك محصنة بقضبان حديدية متينة هي الأخرى.

وشعرت بشيء من الانتعاش بعد أن غسلت وجهي بالماء البارد، وتمنيت لو أمكنني أن أتوضأ لأصلي فريضة الصبح التي تعودتها منذ صغري، ولكن كيف أخلع ملابسي وحذائي وأين أضعها؟ وهل أتوضأ ثم أسير حافيا إلى الغرفة على الأرض التي كنت لا أقدر على تمييز لونها من الطين الذي فوقها؟ فاكتفيت بأن جففت وجهي في منديلي، وعدت في حراسة الشرطي إلى مقعدي فوق المكتب، وكانت المتاجر ما تزال مغلقة والطريق خاليا، وكل شيء هادئا تحت أنفاس الصباح الرطبة، فلم أجد شيئا يشغلني عن الهواجس العنيفة التي انفردت بي؛ ولهذا مرت علي ساعة كانت من أطول ما مر بي في حياتي، ثم بدأت الحركة تدب شيئا فشيئا في الطريق، وكان من أول من ظهر لي هذا الطفلان البائسان اللذان رأيتهما بالأمس، وكانا يسرعان من رصيف إلى آخر كعصفورين جائعين يلتقطان رزقهما في الصباح مع فارق واحد، وهو أن العصافير تخرج عند مطلع الشمس من أوكارها التي تأوي إليها في ساعة الغروب، وأما هذان فليت شعري أين قضيا ليلتهما؟ هل هما أخ وأخته؟ أم هما شقيان آخى بينهما الشقاء وألف بين قلبيهما؟ أيكونان في الحياة الواسعة وحدهما بغير ثالث؟ وماذا يفعلان بهذه البضاعة التي يجمعانها بين الصباح والليل؟ وهل هي تكفي لإطعام هذين المسكينين؟

অজানা পৃষ্ঠা