وأغلق دكانه وسرنا في حلقة صاخبة نتبادل الفكاهات عن كل ما يقع عليه بصرنا وأدهشني الشيخ؛ لأنه كان أكثرهم مرحا وطربا، حتى خيل إلي أنه شخص آخر غير الذي رأيته في ساعة الظهر.
ولم يكن المنزل بعيدا فدخلنا من بابه الخشبي القديم إلى ردهة مظلمة سرنا فيها على ضوء أعواد الكبريت، حتى بلغنا فناء مربعا فيه مصباح بترول صغير على حامل خشبي مثبت في الجدار، وفتح الشيخ الغرف التي في صدر الفناء حاملا إليها المصباح، ودعا أصحابه للدخول فيها حيث جلسوا على حصير حوله بعض «الشلت» الصغيرة، ثم عاد وأوقد عودا من الكبريت ليضيء لي الطريق إلى أعلى السطح حيث كانت غرفتي.
وكان القمر ساطعا فأغنانا عن إشعال الكبريت في السطح، وفتح الشيخ باب الحجرة، وأوقد مصباحا على رف خشبي فيها، فاستطعت أن أرى منزلي الجديد.
وكان هناك سرير قديم ولكنه نظيف، وكرسي أسيوطي و«كليم» صغير ومنضدة وكنبة، ولم أجد فرقا كبيرا بينها وبين الغرفة التي اعتدت النوم فيها بمنزلي، فأظهرت الارتياح وشكرت الشيخ، فاستأذن مسرورا عندما عرف أن الغرفة أعجبتني.
الفصل الثالث عشر
ألفت الحياة في القاهرة، وبدأت أعتاد ضجتها وسرعة حركتها وضخامة هيكلها، وبدأت أتذوق ما فيها من معالم القرن العشرين وأطلال العالم القديم.
فكنت في ذهابي إلى بيتي أمر بشارع فؤاد، وأنقل بصري فيه متأملا ما هناك من تبرج وبراعة وسذاجة وصراحة فيها شبه من بلاهة الطفولة المدللة المغرورة، ثم أمضي في سبيلي حتى إذا اقتربت من مسجد أبي العلاء وجدت نفسي في مدينة أخرى من بقايا عالم قديم كان يمتاز بالغموض والكبرياء والوعي الغريزي، ولكنه عالم اندثر ولم يبق منه إلا روح متمرد جبار يتحصن في بقايا الأطلال المتداعية حتى لا تقهره المدنية الجديدة.
فإذا اقتربت من بيتي، أو بقول آخر: إذا اقتربت من بيت الشيخ مصطفى حسنين خيل إلي أيضا أنني انتقلت من مدينة إلى أخرى أو من عالم إلى عالم آخر، ولست أدري ما الذي جعلني أرتاح إلى الإقامة في هذا الحي على ما فيه من قذارة وظلام وفوضى، فإني مع شعوري بكل ما فيه من عيوب كنت أجد في جوه شيئا مؤنسا ساحرا لا أدري ما هو.
وكانت عطفة الشيخ مصطفى لا تكاد تبلغ في سعتها أربعة أمتار، وكانت دائما مبللة بما يلقى إليها من الماء القذر من أعلى البيوت أو من أسفل الأبواب، وأما جدران البيوت فكانت عارية تبرز منها أسنان من الطوب الأحمر المتآكل، وتتخللها نوافذ لا تزيد على ثقوب تسترها قطع من الصفيح أو القماش أو جانب قفص من الجريد، ومع هذه فإنها أصبحت مألوفة عندي، وألفت غرفتي حتى صرت لا أجد فيها شيئا من الضيق عندما كنت أضطر للاستحمام في «محل الأدب» من صفيحة ماء، ولا عندما كان الهواء البارد يهب علي في ساعة الصباح من النافذة المكسورة.
وكنت في كل يوم أقضي ساعة بعد عودتي إلى المنزل لأعد عشائي مما أحمله معي من البيض والجبن والزيتون، ثم أجلس ساعة قصيرة أشرب بعض أكواب صغيرة من الشاي الذي كنت أتحرى في اختياره وأتأنق في إعداده، وأبدأ بعد ذلك في عمل الليل وهو القراءة والكتابة.
অজানা পৃষ্ঠা