عدت من اليابان أحمل معي الدراسات التي أعددتها في هدوء الحياة هناك، حيث ركزت على الخطاب العربي المعاصر بادئا بالخطاب الديني، فاشتركت في الكتاب السنوي الثامن، قضايا فكرية، والذي يحرره الأستاذ «محمود أمين العالم» (1922-2009م) وكان موضوعه «الإسلام السياسي، الأسس الفكرية والأهداف». كتبت دراسة عن «الخطاب الديني المعاصر، الأسس الفكرية والأهداف العملية»، نشرت بعنوان «الخطاب الديني المعاصر، آلياته ومنطلقاته»، أدرس فيها الظاهرة التي يسميها أتباعها «الصحوة الإسلامية»، ويسميها آخرون «الإسلام السياسي». ويجب دراستها في إطار الخطاب الديني العام بشقيه الرسمي والمعارض، وليس فقط في إطار خطاب الجماعات الإسلامية؛ لأن هذا الفصل يوحي أن هذه الجماعات نبت دخيل على الخطاب الديني؛ مما يجعل الحل هو «قطعها بالفأس». فرد فكر هذه الجماعات إلى فقه الإمام «أحمد بن حنبل» (164ه/780م-241ه/855م)، أو «ابن تيمية» (661ه/1264م-728ه/1328م)، وتلميذه «ابن القيم الجوزية»، هو عملية قفز وظلم؛ لأن فكر الجماعات يمر عبر الخطاب الديني المعاصر، وعبر الواقع الذي ينكوي به هؤلاء الشباب. ومن هنا ركزت على الخطاب الديني المعاصر بجناحيه الرسمي والمعارض.
وسؤالي كان: هل هناك خلاف بين المعتدلين والمتطرفين في الخطاب الديني؟ بالدراسة وجدت أن الخلاف يكمن في نقطتين؛ تكفير الحاكم والمجتمع، والثانية في تغيير المنكر باليد. فالتكفير واضح عند المتطرفين، وهو ضمني خفي عند المعتدلين، حتى الدولة تستخدم التكفير كجزء من أيديولوجيتها في مواجهة المعارضين. ومسألة تغيير المنكر باليد؛ فيرى المتطرفون أن التغيير يكون بأيديهم وفي الحال، والمعتدلون يؤجلون تغيير المنكر حين تحين الظروف. ورصدت خمس آليات يستخدمها الخطاب الديني في تفكيره وفي طرح مفاهيمه، وإقناع الآخرين واكتساب الأنصار. وقد يعذر مخالفيه في مخالفته في بعضها؛ أولها: التوحيد بين الفكر والدين. توحيد بين فهم الإنسان وتفسيره وبين الإسلام، فيتحدث عن موقف الإسلام ورؤية الإسلام، وليس فهمه أو تفسيره وتأويله لموقف ورؤية الإسلام. على الرغم من أن الفكر الإسلامي من بدايته يدرك أن هناك مجالا للوحي ومجالا للخبرة الإنسانية، فكانوا يسألون النبي إن كان ما قاله وحيا من الله أم هو الرأي والمشورة. والخطاب الديني المعاصر في توحيده بين فكره وبين الدين كأنه ضمنيا يتحدث باسم الله. الآلية الثانية: رد الظواهر إلى مبدأ واحد، أو بمعنى آخر اختصارها في جانب واحد، فيختصر العلمانية مثلا في مناهضة الدين، والماركسية في الإلحاد والمادية، والداروينية في حيوانية الإنسان، والفرويدية في الجنس؛ فيلغي بذلك القوانين الطبيعية والاجتماعية والسياق الذي ظهرت فيه الظواهر.
آلية أخرى للخطاب الديني: أن يعتمد على سلطة التراث والسلف، فيحول السلف واجتهاداتهم إلى نصوص غير قابلة للنقاش وإعادة النظر، ويربطها بالدين ذاته، فتكتسب قداسته، وينتقي من التراث ومن السلف ما يتوافق مع فكره، ويهمل بل ويلغي ما يتناقض مع فكره. وآلية أخرى: اليقين الذهني والحسم الفكري؛ مما يجعله لا يتحمل أي خلاف جذري مع أفكاره، فهو يمتلك الحقيقة الشاملة الواضحة وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية. الآلية الخامسة التي رصدتها: أن الخطاب الديني المعاصر يهدر البعد التاريخي، فيطابق بين النصوص وفهمه لها، مهملا أن النصوص التراثية لها لغتها وعالمها الذي تنتمي إليه، ويهمل حتى سياق الواقع المعاصر ومشكلاته وهمومه واختلافها عن هموم الماضي ومشكلاته وأسئلته.
الخطاب الديني وإن اختلفت أجنحته، المعتدل منها والمتطرف، يطابق منطلقاتهم الفكرية غير القابلة للنقاش. ورصدت منطلقين : الحاكمية، والنص. والبعض يرجع الحاكمية عند «سيد قطب» (1324ه/1906م-1386ه/1966م) إلى فترة التعذيب داخل السجون المصرية، ويقارن بين كتاباته في نهاية الأربعينيات وما كتب في «ظلال القرآن» و«معالم في الطريق» بعد ذلك، لكن هذا التفسير لا يفسر الحاكمية عند «أبي الأعلى المودودي» (1321ه/1903م-1399ه/1979م) الذي لم يتعرض لما تعرض له «قطب» وأخذ عنه «قطب»، لكن مع تعمقي في دراسة خطاب «قطب» وجدت أن كتاباته الأولى بها الأصول العامة التي سيطرت على الخطاب بعد ذلك. ومفهوم الحاكمية جزء من التجربة الثقافية للمسلمين؛ فالخطاب الديني في تراثنا كان حريصا على نفي أي تعارض بين الوحي والعقل، واتفق الجميع تقريبا على أن النقل يثبت بالعقل، لكن الخلاف فيما بعد، هل يستقل العقل بعد ذلك أم يظل يمارس فاعليته في فهم النصوص وتأويلها؟ والهجوم على التفكير العقلي ورفض الخلاف والتعددية - قديما وحديثا - يمثل أساسا من الأسس التي تقوم عليها الحاكمية. الأساس الثاني لها: المقارنة الدائمة بين المنهج الإلهي ومناهج البشر؛ فوضع الإنساني مقابل الإلهي يؤدي إلى عدمية الجهود الإنسانية. والحاكمية يستخدمها الخطابان الديني وخطاب السلطة السياسي ضد مخالفيهم.
المنطلق الثاني هو النص، والخطاب الديني يهمل البعد التاريخي للنصوص الدينية؛ فهو يتفق على أن النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء للتاريخية، بقصرها على النصوص التشريعية دون نصوص العقائد أو القصص. وعلى هذا المجال المحدود للاجتهاد، يؤسس الخطاب الديني لمقولة «صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان»، ويعارض إلى حد تكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني؛ فالنصوص دينية كانت أو بشرية محكومة بقوانين ثابتة. وكون القرآن منزلا من الله لا يخرجه عن الخضوع لهذه القوانين؛ فالله سبحانه يخاطب البشر بلغتهم، وبقوانين اللغة العربية الموجودة قبل تنزيل القرآن. هذه النصوص ثابتة في منطوقها، متغيرة في الفهم والقراءة. وحينما قال علماء أصول الفقه بأنه لا اجتهاد فيما فيه نص، فإن مفهوم كلمة نص عندهم تختلف عن مفهوم كلمة نص في لغتنا الآن، لكن الخطاب الديني بكل مستوياته، من معتدل (حكومي ومعارض) ومتطرف ، يقفز على كل ذلك. وإذا كان خطاب الجماعات الدينية يبدو هو الأعلى صوتا، فإنه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات سابقة، من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام؛ صدى كان يتردد خافتا طول الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز السلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات الدينية والخوارج فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت/الاستشهاد.
2
كان التعرض لقراءة اليسار الإسلامي في ممثله «حسن حنفي»، المولود عام 1352ه/1935م، وكيف تعامل مع التراث كنوع من نقد الذات من خلال نقد قراءة أستاذي، في دراسة نشرت في مجلة ألف بالجامعة الأمريكية، في عددها العاشر، بعنوان «التراث بين التأويل والتلوين، قراءة في مشروع اليسار الإسلامي». والتأويل هو علاقة جدلية بين الدلالة والمغزى، بين الذات والموضوع. والتلوين هو الوثب على المعاني دون مراعاة هذه العلاقة الجدلية. وهذا الوثب ينتج قراءة مغرضة. وليس معنى هذا أن القراءة المنتجة هي قراءة بريئة، إنما هي حركة بندولية بين الدلالة/الأصل وبين المغزى/الغاية. ومشروع «حسن حنفي» سواء في صورته سنة ثمانين، والتي كان يسميها في حواراتنا «المانيفستو» أو في مجلداته الخمسة التي نشرت عام ثمانية وثمانين تحت عنوان «التراث والتجديد». والعدد الوحيد من مجلة اليسار الإسلامي الذي كتب معظمه «حسن حنفي»، واحد وثمانين، هو إعلان عن حسن النوايا يتلفح بالمبدأ الشيعي التراثي؛ التقية؛ تقية في مواجهة الخطر السياسي. وقد اعتمد التوفيقية على المستوى الفلسفي، لكني وجدت أن التوفيقية هي ركن أصيل في خطابه. ومزجه، ولا نقول خلطه، بين السياسي والفكري والأيديولوجي والإبستمولوجي دون تأسيس للفرع على الأصل، لا يكفي تبريره بالحيرة بين دور العالم ودور المواطن.
نقطة الانطلاق في خطاب اليسار الإسلامي هي توصيفه للمرحلة الراهنة للأمة بأنها تشبه عصر النهضة الأوروبي. من هنا تتحدد الاستراتيجية المناسبة، بالإصلاح الديني والاتجاه الإنساني ونشأة العلم، وأن الخلاف بين جناحي الأمة خلاف جذري فيما يرتبط بعلاقة كل منهما بالتراث؛ فالسلفية تمثل الاتباع، والعلمانية تمثل الابتداع، ويصبح الإبداع الذي يمثله اليسار الإسلامي بتجديد التراث. وهذه نقطة خلاف لي مع الخطاب؛ لأن تعامل جناحي الأمة مع التراث يتركز في طريقة استعمال كل منهما للتراث؛ فهو عند السلفيين إطار مرجعي، وعند العلمانيين غطاء وسند، وفي الحالتين فقد التراث وجوده الموضوعي لحساب التلوين الأيديولوجي والنفعي، وفشل كلا الاتجاهين في تأسيس معرفة علمية بالواقع أو التراث. خطاب «حسن حنفي» في تعامله مع التراث «يتردد بين أن يكون التراث فاعلا والماضي أساس الحاضر، وبين أن يكون التراث مجالا لفاعلية التجديد ويكون الحاضر أساسا لفهم الماضي بمعنى تبادل ثنائية الماضي/الحاضر، التراث/التجديد، مواقعها طبقا لزاوية التناول والتحليل دون أن تتأسس العلاقة بينهما كما ينبغي على أساس جدلي.»
والاختلاف بين اليمين الديني وبين اليسار الإسلامي في نظرتهما للتراث، حيث إن السلفي يربط ميكانيكيا بين الإسلام والتراث بعد اختزال التراث في جانب منه دون جوانب، إلا أن اليسار الإسلامي يرى التراث نتاج الواقع والبشر؛ فهو تاريخي خارج دائرة المقدس. لكن هذا الاختلاف على مستوى السطح، أما على مستوى البنية العميقة فيتفقان على تصور أن حل مشكلات الواقع الراهن يقبع في التراث؛ فاليمين يطرح شعار «الإسلام هو الحل»، واليسار الإسلامي شعاره تجديد التراث هو الحل. واليسار الإسلامي يرى التراث بناء شعوريا. وهذا التصور هو أساس عمليات الوثب التي يقوم بها؛ فهناك اختلاف بين البناء الشعوري والبناء التاريخي، حيث يكون الفكر مستقلا عن الواقع، لكن التصور المثالي للتراث المفارق للتاريخ والواقع يحول التراث إلى مطلق.
لكن المقتل الأساسي لمشروع اليسار الإسلامي لتجديد التراث «الإبقاء على بنية العلم كما صاغتها العصور المتأخرة على غرار البنية العقدية الأشعرية، مما سجن التجديد في إطار إعادة الطلاء وليس إعادة البناء.» فإن وضع لافتات جديدة ذات دلالة عصرية إلى جانب اللافتات القديمة، جعل التجديد يكمن دوره في المتن، ووضعت النصوص القديمة في الحاشية، فتحول التجديد إلى تلوين.
অজানা পৃষ্ঠা