5
تجدد جرح فقد أختي «بدرية» بعودتي. أمي كانت قد عادت إلى قحافة، لكن لقاء ابن عمي وأرمل أختي «السيد أبو زيد»، ورؤية أوضاعه مع أطفاله، جدد الأحزان وقلب المواجع. ولم يكن يعرف شيئا عن البيت وعن الأطفال؛ فقد كانت تحمل عنه كل شيء. فقرر أن يتزوج، وفاتحني في الموضوع. وكانت أمي في حالة غضب كبير منه لعدم احترامه لذكرى أختي، في نظرها. ربما أمي تقارن نفسها به لرفضها الزواج بعد أبي، وعكوفها على تربيتنا. أمي رفضت تماما حضور مناسبة زواجه ، كنت مقدرا وضعه وحاله، فذهبت أهنئه. اقترب مني وقال: «أنت لا تعرف مجيئك دا معناه إيه بالنسبة لي يا «نصر»، «بدرية» تركت فراغا كبيرا في حياتي وحياة الأولاد، واحنا هنعمل حفل على الضيق كدا احتراما لذكراها.» نظرت إليه وأنا أبتسم وقلت له: «لا يا سيد، دا أول فرحة لعروسك، وهي ذنبها إيه، لازم تفرح ليلة عرسها، ودعواتي لك ولها بالسعادة.» وجدت نظرة امتنان في عينيه. وباركت لعروسه وانصرفت.
بدأت أمي وأخواتي في الإلحاح علي في الزواج؛ فقد بلغت السابعة والثلاثين، وبدأت محاولات أمي وأخواتي في البحث عن عرائس لي، حتى ظهرت «أحلام» زميلة أختي «كريمة» في العمل بجامعة القاهرة، وتم الزواج بسرعة. وكنت قد حصلت على شقة من المساكن الشعبية في الدور السادس؛ مما سهل عملية الزواج، وكانت فرحة أمي كبيرة يوم الفرح، حتى إنها قامت ورقصت، وكانت من المرات القليلة التي رأيتها تضحك، وكأنها تقول لنفسها إنها أدت المهمة، وعبرت بأسرتها إلى بر الأمان. حاولت «أحلام» أن توفر جوا من السكينة والهدوء في البيت، وحاولت بقدر الإمكان أن أشركها في اهتماماتي الفكرية. أنهت أختي الصغرى «آية» دراستها الجامعية، وقررت وخطيبها الزواج مباشرة، والذهاب إلى السعودية للعمل. وبزواجها تمت مهمتي؛ ثلاثة وعشرين عاما منذ وفاة والدي.
بدأت أركز على الانتهاء من كتابة رسالتي للدكتوراه حتى أناقشها. وما إن انخرطت في الكتابة حتى باغتني خبر وفاة أستاذي المشرف على رسالة الدكتوراه؛ «عبد العزيز الأهواني» (1915-1980م). لم يقدم لي يوما إجابة بل سؤالا أدخل به في عالم جديد وأعود إليه بعد مدة بإجابات، فيلقاني بسؤال آخر. رحل بعد سبع سنوات معا، يتركني والرسالة لم تكتمل بعد. لكن الدكتور «محمود علي مكي» (1929م) أخذ مكانه في الإشراف على الرسالة وأصبح خير معين. وبدأت أحضر ندوة الثلاثاء ببيت د. «شكري عياد» (1999-1921م) التي كانت خير معين في كتابة الفصل التمهيدي للرسالة، من مناقشة الأفكار مع مرتادي ندوة الثلاثاء. وقرأت أجزاء من البحث على أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر» (1932-1990م) لأخذ رأيه.
هناك فجوة بين المنطلق النظري الذي تقوم عليه دراستي للدكتوراه والتطبيقات التي أقوم بها؛ فعلى المستوى النظري هناك علاقة جدلية بين المفاهيم النظرية والنصوص التي يقوم بتأويلها «ابن عربي»، لكن الإجراءات التي طبقتها في الرسالة كانت تسلم ضمنيا بهيمنة تصورات «ابن عربي» الفلسفية على تأويله للنصوص الدينية التي تستجيب استجابة سلبية لتنطق بما يريده؛ فقد ركزت على تحليل مضمون خطاب «ابن عربي» دون التركيز على بنية الخطاب؛ مما أدى لإهدار الدلالة الكلية للخطاب. ومما جعلني أهمل سياق حياة وخطاب «ابن عربي»، وأكتفي ببعض عناصر الخطاب السطحية المنتجة للدلالة الأيديولوجية، أني أريد أن أعيد كتابة الرسالة مرة أخرى كي أركز على قضايا التأويل عند «ابن عربي» لتكون هي متن الرسالة، وفلسفته هي الهامش؛ لأني استغرقت في شرح فلسفة «ابن عربي» بالرسالة أكثر من اهتمامي بقضايا التأويل.
دخلت على الدكتور مكي، وما إن رآني قال: «أين الرسالة، لماذا لم تطبع؟ لقد أجزت الرسالة للطبع.» قلت: «لكني لم أجزها بعد.» وحاولت أن أشرح له قلقي وما أفكر فيه. قاطعني قائلا: «اطبع الرسالة، أنا ما صدقت أنك وصلت للشاطئ، لن أتركك تغرق في بحار «ابن عربي» مرة أخرى، اطبع واستفض بدراسات في المستقبل، «ابن عربي» بحاره واسعة، أخذت الكثير ومرت أعمارهم ولم يخرجوا.» وفشلت كل محاولاتي معه، فبدأت بهمة أنهي الفصل التمهيدي. وكنت أحاول أن أعدل بعض الصياغة كلما تناقشت مع زوجتي؛ حتى يستطيع القارئ العادي أن يصل إلى المعنى. وانخرطت في نقاش طويل مع «جابر عصفور» منذ عودتي من الولايات المتحدة. استفدت من نقاشنا في الكتابة. وعاونني الصديق العزيز «سيد البحراوي» في مراجعة العمل وكتابة قائمة بالتصويبات. وقد انتهي «محمود عبد المنعم أبو هشيمة» من نسخ معظم أجزاء الرسالة بخط يده، واستكملت أنا الباقي، وقامت «أحلام» بعبء تصوير نسخها لكي توزع على اللجنة المناقشة. صدر العدد الثالث من مجلة «فصول» في شهر أبريل سنة إحدى وثمانين، وبه دراسة لي بعنوان «الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص» لتكون أول دراسة تعرض لفلسفة «الهرمنيوطيقا» أو التأويلية باللغة العربية. استقبلت الدراسة بترحاب ونقاش كبير في ندوة الثلاثاء في بيت الدكتور «شكري عياد».
6
بمدرج واسع في كلية الآداب، عم الحضور من الأهل والأصدقاء، وأمي وزوجتي، وفي ليلة رمضانية حارة بشهر يوليو، وفي ظل ظروف احتقان سياسية صعبة تمر بها مصر، التقى أعضاء لجنة المناقشة بأروابهم السمراء. بدأ الدكتور «محمود علي مكي» المشرف، بصوته الرخيم وخصلات شعره الجافة التي يمتزج فيها البياض والسواد وبشرته الداكنة، يقول: نجتمع في إحدى الليالي اليتيمات من شهر رمضان المبارك ليلة التاسع والعشرين الموافق الثلاثين من يوليو سنة إحدى وثمانين، ولعلها تكون ليلة القدر، لمناقشة رسالة الطالب نصر حامد رزق عن التأويل عند قطب من أقطاب الفكر الصوفي، «محيي الدين ابن عربي»؛ لنيل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية. ويسعدني أن يشارك في مناقشة الباحث اليوم الأستاذ الدكتور «شكري عياد» الذي لا أحتاج إلى التعريف به؛ فهو باحث له شأنه المعروف في ميدان الدراسات العربية، وخصوصا ما يتعلق منها بالفن، والتصوف فكر وفن. ويسعدنا أن يكون معنا أستاذ جليل آخر، له في التصوف جولات كثيرة علما وعملا، الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازاني. وأترك الكلمة للطالب ليقدم تلخيصا للبحث مع مراعاة الوقت، فليتفضل.
بدأت الحديث بقولي: «فليسمح لي الأستاذ الدكتور «مكي» وأساتذتي الأجلاء بالوقوف دقيقة حدادا على أستاذي المرحوم «عبد العزيز الأهواني».» ثم بدأت: إن دراسة الدكتوراه بشكل ما استكمال للماجستير لدراسة جانب آخر من تراثنا في تعامله مع النص الديني، من خلال علاقة المفسر بالنص في التعامل مع الفكر الصوفي؛ فتعرضت لفلسفة «ابن عربي» في جوانبها المتعددة لكي أكشف عن فلسفته في تأويل النص الديني. وانقسمت الدراسة إلى تمهيد وثلاثة أبواب. في التمهيد تعرضت لمغزى دراسة قضية التأويل عامة في ثقافتنا الراهنة، وتطور مفهومي للتأويل من المفهوم العام الذي انطلقت منه بأفضلية التفسير لموضوعيته عن التأويل لذاتيته، وتعرضت للدراسات السابقة عن «ابن عربي». وفي الباب الأول عن التأويل والوجود، حللت مراتب الوجود المختلفة عند «ابن عربي». والوجود عنده خيال، مثل ما يرى النائم. لكل مرتبة من مراتب الوجود فصل من الفصول؛ ففصل عن الخيال المطلق، وفصل عن عالم الأمر، وآخر عن عالم الخلق، ثم الأخير عالم الملك والشهادة، وكل هذه المستويات من الوجود لها ظاهر وباطن.
الباب الثاني عن التأويل والإنسان. وهناك مستويات ثلاثة في تصور «ابن عربي» لعلاقة الإنسان بالوجود. الأول علاقة الإنسان بالعالم؛ جوانب التشابه والاختلاف بين الإنسان والعالم. والثاني دراسة الجانب الباطن من الإنسان الذي خلق على الصورة الإلهية، وجمع في حقيقته وباطنه حقائق كل الأسماء الإلهية. وفي الفصل الثالث تعرضت لمعضلة المعرفة الإنسانية. وفي الفصل الأخير تحليل للعلاقة بين الحقيقة والشريعة، من خلال رحلة «ابن عربي» التأويلية التي تنتظم الوجود والنص معا. في الباب الثالث والأخير: عن القرآن والتأويل، وهو تحليل للعلاقة بين القرآن والوجود، وتماثل مستويات النص القرآني مع مراتب الوجود الأربعة في الباب الأول وتماثلها مع مراتب العارفين في الباب الثاني. وهذا التماثل عند «ابن عربي» يقوم على أن الوجود هو كلمات الله المرقومة، والقرآن هو كلمات الله الملفوظة. في الفصل الثاني من هذا الباب الأخير خصصته للغة والوجود، فحللت مفهوم «ابن عربي» للغة في جانبيها الإلهي والإنساني. والفصل الأخير من الرسالة كان لقضايا التأويل؛ حللت فيه التنزيه والتشبيه والمحكم والمتشابه والجبر والاختيار والثواب والعقاب، كنماذج لتأويل «ابن عربي». «إن هذا البحث مدين بأجمل ما فيه إلى كل من د. «أحمد مرسي» الذي زاملني في رحلة أمريكا في بدايتها، وكان نعم العون والصديق، والمرحوم د. «عبد الحميد الزيني» أستاذ الأنثربولوجي بجامعة «تمبل» لنقاشي معه وتوجيهه لي، وكذلك الأخ والصديق أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر»، وإلى د. «جابر عصفور» والدكتور «سليمان العطار» على نقاشهما الذي أفادت منه الدراسة كثيرا. وأخص بالشكر ندوة الثلاثاء في بيت د. «شكري عياد»، والتي كان للنقاش فيها أكبر الأثر في كتابة تمهيد هذه الرسالة. ولا يفوتني أن أشكر أهلي، وبالأخص أمي - لم أتمالك نفسي وبدأت تخرج مع عيني دمعة وتنهيدة بكاء في صوتي وأنا أذكرها - التي عانت معي الكثير حتى نصل إلى هذا البر؛ فهي الدفء وهي الوطن؛ فإليها أحني رأسي وأهديها هذا العمل، وإلى زوجتي «أحلام» التي قامت بمشقة بتصوير الرسالة، ورضيت أن يشاركنا «ابن عربي» أسرتنا البسيطة. وإلى روح أستاذي الجليل وأبي المرحوم الأستاذ الدكتور «عبد العزيز الأهواني»، أهدي أجمل ما في هذا العمل إليه. وشكرا.»
অজানা পৃষ্ঠা