أخذتني الحياة بعيدا عن التصوف، فكان أحد أصدقاء أبي، «عم حسن سمك»، الذي استمرت صلتي به بعد وفاة والدي وحتى بعد رحيلنا إلى القاهرة، كان كلما أتى إلى القاهرة زارني في الجامعة. «عم حسن» فلاح، شاعر، وقارئ لشعر التصوف، زائر رحال للأضرحة تبركا ومجاورة لأهل البيت بالقاهرة. في يوم كان مضطربا أشد الاضطراب، يحمل جبلا على ظهره، أحاول أن أعرف سبب هذا الإعياء على وجهه، لكنه صامت متعذبا. قلت له: ما لك يا عم حسن؟ ألست محل ثقتك؟ - والله يا نصر أنت ابني وأعز من أولادي، أنت الحبيب ابن الحبيب رحمه الله.
دمعة ساكنة تترقرق في عينيه، يحاول أن يمسك بها فتأبى، استجمع عزمه وقال: «يا نصر يا ابني، لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام .»
وفرت الدمعة من عينيه تجري على خديه، ونشيجه يعلو: «رأيته والله العظيم.» فقلت له: «أحبك يا رسول الله.» فرد علي: «وأنا أحبك يا حسن.» كانت عملية فهمي وإدراكي لتجربة وشعور عم «حسن» صعبة، فحاولت أن أهدئ من مشاعره، وسألته: أي عقاب يمكن أن يحدث من إفشائك أمر رؤياك لي؟ - يا ابني أخاف أن يهجرني رسول الله فلا يأتيني مرة أخرى، فلا عقاب أشد من الهجر.
قرر عم «حسن» في نفس العام أن يبيع قطعة الأرض التي يملكها ويقوم بالحج إلى بيت الله الحرام رغم معارضة أبنائه. لم أفهم تجربة عم «حسن سمك»، لكني كنت شغوفا أن أدرس التصوف للمعرفة، وفهم تجربة أمثال عم «حسن سمك».
لم تنفع الساعتان اللتان أوفرهما كل يوم للجلوس إلى كتابات الشيخ؛ ف «ابن عربي» يريد منك التفرغ له حتى تستطيع أن تنال بعضا من جوانبه. عاما كاملا وأنا لا أستطيع عمل شيء. قامت مظاهرات الخبز التي أطلق عليها «السادات» «انتفاضة الحرامية»، ومظاهرات الطلبة داخل الجامعة، فتم تعديل لائحة اتحادات الطلاب بالجامعة التي أطلق عليها «اللائحة المشبوهة»؛ لتجعل الاتحادات تحت سيطرة إدارة الجامعة، وكذلك إقامة الأسوار حول الجامعة، وسيطرة الأمن على أبوابها، وأصبح هناك مكتب للأمن بكل كلية، ومكتب عام للأمن بالجامعة؛ ليصبح وجود أمن وزارة الداخلية وجودا رسميا بالجامعة. الحياة الفكرية داخل الجامعة تختنق يوما بعد يوم. لم يكن لي عزاء في هذه الحياة الجامعية غير التواصل مع الأجيال الجديدة من خلال التدريس والتعامل مع البراعم الفكرية الجديدة، وهي سعادة ما بعدها سعادة. أتت إلى قسم اللغة العربية منحة عامين للدراسة بجامعة «بنسلفانيا» بأمريكا، ولم يتقدم إليها أحد. أردت أن أذهب إلى دولة تتحدث الإنجليزية، فوجدتها فرصة للذهاب، لكن من شروط المنحة أن يكون المتقدم حاصلا على الدكتوراه، والمنحة لدراسة الفولكلور والعمل الميداني، وأنا لم أحصل على الدكتوراه بعد. وحضر الأستاذ من جامعة «بنسلفانيا»، وحاولت أن أقنعه بصلة موضوع التصوف الذي أعد رسالتي للدكتوراه فيه وبين الفولكلور، مثل الموسيقى الصوفية والأناشيد والأوراد والأذكار والاحتفالات الصوفية الشعبية. وسألني الأستاذ: وكيف نضمن أن تعود ولا تمكث في أمريكا؟ وكأنها جنة الله على الأرض. فقلت له: تأكد تماما أني أفضل وجودي هنا في مدرج ثمانية عشر مع طلابي عن أي مكان في الدنيا، كل ما أريده هو العلم والمعرفة لخدمة هذا الوطن. وافقت اللجنة على حصولي على المنحة، ولكن بشروط أقل؛ لأني لست حاصلا على الدكتوراه، وتحدد موعد سفري أنا والدكتور «أحمد مرسي» المتخصص في الأدب الشعبي بقسمنا.
من غرب لشرق
1
وصلت أنا ود. «أحمد مرسي» إلى مطار كنيدي بنيويورك، وفي انتظار الطائرة التي ستأخذنا إلى مدينة «فيلادلفيا» بولاية «بنسلفانيا»، فتحدثت إلي إحدى السيدات المنتظرات في الصالة. ولم أفهم من كلامها شيئا، فأصابني ذعر، على ما درسته بالجامعة الأمريكية. حاول «أحمد» أن يخفف من ذعري، فقال إنه لم يفهم من كلامها شيئا، وقال إن لهجتها غريبة عليه هو أيضا وقد زار أمريكا من قبل. بالجامعة التقينا الدكتور «توماس نيف»؛ أمريكي من أصل لبناني، وهو المشرف على المنحة من قسم دراسات الشرق الأوسط بالجامعة، والذي أخبرني أن أحصل على دورة لغة إنجليزية بالجامعة، فذهبت ودفعت خمسمائة دولار من جيبي للدورة، ولم أستفد شيئا، كلها مبادئ عامة أعرفها، فطلبت مستوى أعلى. أخبرني المحاضر أن هذا أعلى مستوى للغة الإنجليزية كلغة ثانية. فطلبت أن ترد إلي نقودي؛ فلن أسمح لأحد أن يخدعني في بلاد «العم سام». رفض المحاضر؛ لأن الدورة بدأت وفات موعد استرجاع الاشتراك. شعرت أنني يغرر بي، فذهبت إلى د. «توماس نيف» وقلت له: أنت أخبرتني أن آخذ هذه الدورة، وأنت الأستاذ المشرف، فيجب عليك أن ترد لي نقودي. فقال: أنا تصورت أنك تحتاج إلى الدورة ككل الطلبة، فلماذا أدفع النقود؟ تدخلت زوجته «جين» في الحوار ووجدتها تقول له: «توماس»، هو عنده حق، أنت الذي نصحته بهذا وأنت المشرف، وكلامك يؤثر، فيجب أن تدفع له النقود من جيبك الخاص. ودفع لي الخمسمائة دولار، فشعرت أنني في مجتمع لا يضيع فيه حق إذا سعيت وراءه.
অজানা পৃষ্ঠা