9
بدأنا ندرس قضايا ومشكلات معاصرة مع أساتذة تجديديين حداثيين، بخلاف أساتذة التقليد. الجامعة نظمت لي قراءاتي، والحوار والجدل داخلها، والخلافات السياسية والاجتماعية، والتظاهر ضد حالة اللاحرب واللاسلم التي اتبعها الرئيس السادات. في هذه المرحلة بدأت أدرس الخطاب الديني التقليدي، وبالتحديد العلاقة بين الأدب والدراسات الإسلامية في صورة أوسع، وبدأت أدرك البعد السياسي في دعوة الإخوان المسلمين والتيار الديني. البعد السياسي كان على الهامش في الماضي، والحث على العمل والعدل الاجتماعي كان هو المتن، لكن تغيرت الأوضاع، وتحولت النظرة إلى الإسلام من عقيدة وشريعة - بما تحويه من عبادات ومعاملات - إلى أن أصبح الإسلام دينا ودولة. ومع هزيمة يونيو بدأت أدرك أن أفكار «سيد قطب» في كتابه «معالم على الطريق» لم تكن طارئة من تجربة السجن أو التعذيب في المعتقل، إنما هي موجودة في خطابه منذ البداية، لكنها كانت على الهامش، وكان متن الخطاب ومحتواه العدالة الاجتماعية والإسلام والسلام العالمي، ومع انكسار العهد مع ضباط يوليو أصبح - شعار «الإسلام دين ودولة» - هو المتن، وانتقلت العدالة الاجتماعية إلى الهامش. واتسعت قراءاتي في الفلسفات من الماركسية إلى الوجودية، ولم أتخل عن منظوري الإسلامي العام، والرغبة في تحقيق عدالة اجتماعية، لكن وصلت إلى قناعة أنه لا يتقدم مجتمع أو يتأخر لأنه مجتمع مسلم أو غير مسلم، بل يتقدم أو يتأخر طبقا لقوانين تدرس في علوم أخرى؛ العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، والنظر في بنية المجتمع في تعقيداتها، والعلاقات بين الطبقات ووسائل الإنتاج، والعلاقة بين وسائل الإنتاج وأنماط الإنتاج. نحتاج إلى وسائل وآليات أخرى لبناء مجتمع متقدم.
بدأت تتسع نظرتي للتأثير الأدبي والفني للقرآن أوسع من اهتمامات «سيد ومحمد قطب» التي تعتمد على الانطباعية. بدأت صلتي تتوثق بفكر الشيخ «أمين الخولي»، ومدرسته التي تعود بذور لها إلى فكر الإمام «محمد عبده»؛ من أن القرآن كتاب هداية للبشر، وليس كتابا في التاريخ أو العلوم، الهدف الأول له هو هداية البشر إلى الطريق المستقيم، ويستخدم القرآن اللغة العربية لتوصيل رسالته إلى المؤمنين، والشيخ «أمين الخولي» رأيه أن القرآن الكريم هو كتاب العربية الأكبر، وقبل أن نستخرج منه أحكاما قانونية أو فقهية أو جمالية يجب أن يدرس أدبيا. وبدأت أقرأ في جهود «محمد عبده» والشيخ «علي عبد الرازق» وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، و«طه حسين» وكتابه «في الشعر الجاهلي»، والقضية التي أثيرت حولهما، وكتابات الشيخ «أمين الخولي»، ومحنة مدرسته في نفس قسم اللغة العربية منذ عشرين عاما، حين تقدم تلميذه «محمد أحمد خلف الله» تحت إشرافه برسالة دكتوراه عن «الفن القصصي في القرآن الكريم»، بعد رسالته للماجستير التي كان موضوعها «الجدل في القرآن الكريم»، وصارت ضجة حول رسالة الدكتوراه عام سبعة وأربعين، واضطر «خلف الله» إلى أن يسحب الرسالة ويكتب رسالة أخرى في أشهر قليلة عن صاحب كتاب «الأغاني»، حصل بها على الدكتوراه وفصل من الجامعة. وحرم الشيخ «أمين الخولي» من الإشراف على رسائل في الدراسات الإسلامية، مع الاكتفاء بتدريس البلاغة والنقد الأدبي، حتى أخرج من الجامعة مع قرارات حكومة ثورة يوليو سنة أربع وخمسين، برفت أكثر من خمسين أستاذا. وكان على تلميذ الشيخ «أمين الخولي» الآخر أستاذي «شكري عياد» أن يختار تخصصا آخر غير الدراسات الإسلامية والقرآنية حتى يستطيع الاستمرار بجامعة القاهرة، فاختار موضوع الدكتوراه عن «تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية» بعد أن درس في الماجستير «تحليل مشاهد يوم القيامة في القرآن تحليلا أسلوبيا»، وتم القضاء على مدرسة التفسير الأدبي للقرآن بكلية الآداب جامعة القاهرة، ولم يعد هناك متخصص في الدراسات الإسلامية بالكلية، وأصبح تدريس الدراسات القرآنية وعلوم الحديث نوعا من البركة، كما رأيت خلال دراستي لعلوم القرآن في الفرقة الأولى، وعلوم الحديث في الفرقة الثانية. اقتربت من فكر «أمين الخولي» الذي أظن أني أتبعه وإن لم أقابله مرة في حياتي.
أنهيت الدراسة بالكلية سنة اثنتين وسبعين بتقدير «ممتاز»، وكنت الأول على كلية الآداب في جميع الأقسام، وكنت في لهفة لقرار تكليفي معيدا بقسم اللغة العربية. وجدت أمي في قمة السعادة، وقالت لي: «ربنا هيوفقك يا نصر، إنت تعبت، بس أنا مش عارفة إيه حكاية التعيين في الكلية دي، ما أنت مهندس أد الدنيا، وبتشتغل شغلة حلوة، على كل حال، أنا نذرت نذر للست العذراء إن اتعينت ونلت مرادك، وهي مش هتخذلني أبدا.» ابتسمت وقلت لها: «العذراء يا أمي عند الأقباط.» ردت علي بحدة: «ما أنا نذرت ودعيت عندهم كلهم السيدة نفيسة والسيدة زينب، والعذراء بركة.»
وصدر قرار الكلية بالتكليف، ولم يكن اسمي موجودا؛ فقد أخذ قسم اللغة الإنجليزية أربعة معيدين، حيث يرأسه د. «رشاد رشدي» صاحب النفوذ الذي ظل في رئاسة القسم عمرا. ذهبت إلى مجلس قسم اللغة العربية أشتكي، أخبرت أن هذا قرار مجلس كلية. وسدت الأبواب. كتبت شكوى لرئيس الجامعة عن الظلم الذي حدث، وختمتها بعبارة «متظلم بالباب»، وذهبت إلى مدير مكتبه الذي رفض أن أقابله مدعيا أن رئيس الجامعة مشغول، فافترشت الطرقة أمام باب مدير مكتب رئيس الجامعة متظلما بالباب، وعلى أثر الضوضاء خرج رئيس الجامعة الدكتور «حسن محمد إسماعيل»، واستعلم عن الأمر وقال: «هو انت المتظلم بالباب؟» إيه لغة الدواوين دي؟ تعال يا سيدي ادخل.» بالداخل قلت له: «أنا متظلم على باب سيادتك حتى تنظر في مظلمتي، أنا الأول على الكلية كلها ولم يصدر قرار بتكليفي معيدا.» قال: «تبقى شيوعي أو إخوان.» قلت له: «أنا لا شيوعي ولا إخوان، وبعدين هناك موافقة جهة الأمن هي تحدد ونعرف رأيها.» طلب لي كوبا من الماء، وطلب الأوراق من مدير مكتبه وتأكد من التقديرات، وقال: «دا كلام فارغ.» وفي دقائق كتب قرارا يعيد فيه قرارات تكليف المعيدين حسب القواعد والقانون، وإلغاء قرار مجلس الكلية. وصدر قرار تكليفي بوظيفة معيد في قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة و«أحمد زايد وفيصل يونس»، وكنت في الثلاثين من العمر.
10
تركت العمل كفني لا سلكي، وانتقلت للعمل كمعيد بقسم اللغة العربية، فقرر مجلس القسم أن يتخصص المعيد الجديد في الدراسات الإسلامية، في سابقة لم تحدث من قبل؛ فكل معيد يختار تخصصه. وفي ذهني ما حدث مع الشيخ «أمين الخولي» وتلاميذه منذ عقدين في نفس المكان. وفي اجتماع القسم التقى أساتذة قسم اللغة العربية، ولم أكن معيدا صغير السن بل في الثلاثين من عمري، وأعرف ما حدث من قبل، فعرضت تخوفاتي أن يحدث نفس الشيء مرة أخرى، فقال البعض إن ما حدث من عشرين سنة كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة وصراعات داخلية. وقال رئيس القسم: «بص يا نصر يا ابني إحنا عايزين متخصص في الدراسات الإسلامية، يكون من ولادنا من قسمنا، مش من الأزهر، والقسم محتاج متخصص، ووقع الاختيار عليك لهذه المهمة.» وقال أستاذ من التقليديين بعد أن تنحنح: «أنت خايف ليه، هو انت هتجيب شيء جديد، الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن من العلوم التي نضجت حتى احترقت .» فقلت بنوع من الانفعال: «يعني أنا هتخصص علشان أكرر نفس الكلام، أنتم علمتوني أن البحث العلمي لا بد أن يضيف إلى ما قدمه السابقون، وأن آتي بنتائج لم يصلوا إليها.» وقال اتجاه ثالث ما معناه: «إحنا لسنا الأزهر ولا كلية الحقوق ولا دار العلوم، أنت هتتعامل مع القرآن من منطلق بلاغي ونقدي، نوع النص الذي تدرسه ليس له علاقة بما تخشاه، أنت هتدرس البلاغة والنحو واللغة.» كنت متخوفا أيضا أن تخصص الدراسات الإسلامية سيجعلني أعمل مع أحد الأساتذة التقليديين الذين يسيطرون على القسم، وأنا أريد أن أعمل مع أحد الأساتذة الحداثيين التجديديين.
أختي «كريمة» التي تعمل في سكرتارية جامعة القاهرة. كانت منذ الخامسة عشرة تظهر كأنها بنت العشرين، ناضجة الجسم، جميلة، الأنظار تترصدها، حينما وجدنا أنا وأمي خطابات لها من أحد الشبان. وفي يوم من الأيام أتى أحد الأثرياء في مدينة المحلة يحمل العديد من الهدايا، يطلب يد كريمة لابنه الذي أنهى دراسته وسيذهب لتأدية الخدمة العسكرية، لم أكن محبذا لهذه الخطبة؛ فلا بد أن تكمل دراستها، وتعيش تجربة الحياة باتساعها. كانت أمي لا ترى عيبا في الشاب. اتفقنا على أنه بعد أن تتم تعليمها يأتي ابنه «سيد» وسيكون الاختيار لها. لم تتوقف العلاقة بين «سيد» و«كريمة» حتى انتقلنا إلى القاهرة، وكانت أول من انتقل من أسرتي إلى القاهرة بعدي، فقضيت أنا وهي فترة جميلة؛ كنا نذهب معا إلى السينما والمسرح. وفي يوم من الأيام الأخيرة لي بالخدمة في البوليس دخل علي «سيد» وطلب مني أن أفي بوعدي له. لم أكن أتوقعه بعد خمس سنوات. رحبت به، وقلت له: «يا «سيد» سنذهب معا إلى البيت ونسأل «كريمة» عن رأيها، لكن عليك أن تعدني بأن تتقبل قرارها.»
أخذته وعدنا إلى الشقة. كنت أسمع نبضات قلبي بقوة ونحن نصعد سلم البيت، فتحت «كريمة» الباب، وشحب وجهها. جلسنا، وقلت ل «كريمة» عن طلب «سيد»، ونريد أن نعرف رأيها. كانت لحظات وكأنها الدهر، ازدادت طرقات قلبي حدة إلى أن قالت له: «اسمع يا «سيد» إحنا كنا صغيرين، شبه أطفال.» لم يتركها تكمل وهب واقفا قائلا: «كفاية.» وطالبا منا أن نسمح له بالذهاب. خرجت معه إلى محطة الأتوبيس أريد أن أخفف عنه، فقال: «أنت وفيت بوعدك، وليس هناك نصيب.» حينما عدت إلى الشقة وجدت «كريمة» منخرطة في البكاء، فحاولت أن أخفف عنها بقدر الإمكان، فقلت: أنت أخذت قرارا كان صعبا، ودا شيء كويس. - كان لنا ذكريات جميلة. - الذكريات دي جزء من حياتك وتكوينك وستظل موجودة. - هل أنا ظلمته؟ - والله يا كريمة لا أعرف إن كان ارتباطك به سيسعدك، حياتك أمامك.
درست السنة التمهيدية للماجستير في مناهج البحث. اخترت أن أعمل في البلاغة حتى أعمل مع أستاذ تجديدي. وكان رئيس القسم د. «حسين نصار» وسطا بين أهل التجديد والتقليد في القسم، ولكني أريد أن أعمل مع الدكتور «عبد العزيز الأهواني»، وقد أقاله نظام «عبد الناصر». كان يدرس متبرعا بمكافأته لاتحاد الطلاب، وهو متخصص في الدراسات الأندلسية، يجيد أكثر من ست لغات، وسوف يفيدني كثيرا في المنهج العلمي، ولكن كيف أخبر د. «حسين نصار» بذلك دون أن يغضب. دخلت عليه مكتبه، وقلت له: «يا دكتور حسين، أنت دايما تقول لنا إن المعيد ابن القسم كله وليس تلميذ أستاذه، وأنا عايز أستفيد من كل الأساتذة، فبطلب من حضرتك تساعدني في إقناع الدكتور «عبد العزيز الأهواني» أنه يقبل الإشراف على الرسالة، وأنا مع حضرتك كل يوم في القسم هستفيد من توجيهاتك، لكن الاستفادة الوحيدة من الدكتور «عبد العزيز» هتكون لو أشرف على الرسالة.» وقد كان، وقبل الدكتور «عبد العزيز الأهواني» الإشراف على رسالة الماجستير.
অজানা পৃষ্ঠা