7
كنت أعيش فترة من الوحدة والمشقة بعد انتقالي للعمل بالقاهرة، أرسل راتبي لأسرتي في المحلة، وأحاول أن أعيش بأقل القليل، أوفق بين العمل والدراسة في الجامعة. وبينما أنا في وردية الليل بقسم العجوزة، أتأمل وحدتي وأفكر في ديوان «أحمد عبد المعطي حجازي» «مدينة بلا قلب»، الذي يصور شعوري تجاه القاهرة:
بلا نقود، جائع حتى العياء،
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة؛
فلم يعره العابرون في الطريق
حتى الرثاء.
دخلت قسم الشرطة امرأة بلا ملامح من غزارة الدم المسفوح على وجهها، تشتكي زوجها لأنه «ضربها ضربا شديد الإيذاء»، فأهملها العسكري «النبطشي». وظلت تنتظر وهي مجروحة ضعيفة قليلة الحيلة، فتحدثت إلى العسكري الذي قال بكل برود: «هو انت غضبان ليه؟! هو انت تعرفها؟!» قلت: «وده يغير إيه في الموضوع؟ أنت مفروض عليك تأخذها للمستشفى تتعالج وتبعت تجيب زوجها هنا تستجوبه.» كنت أحاول بلطف التدخل حتى تستطيع المرأة أن تأخذ حقها؛ لمعرفتي بأقسام الشرطة، فخففت من نبرة الحدة، وذهبت أنا بها إلى المستشفى حتى عولجت، وأخذت التقرير الطبي وأودعته القسم. بعد يومين أحضرت الشرطة زوجها، لكني لم أتدخل في شيء. في نفس اليوم حضرت المرأة إلى القسم تحمل لي وجبة ساخنة أعدتها، فقلت لها: «يا ستي أنا أشكرك جدا ودا ذوق منك، لكن لا أستطيع أن أقبل دا ولا آكل في العمل.» قالت ببراءة: «خده معك للبيت، اعتبرها هدية من أختك، والنبي قبل الهدية.» فلم أرد أن أخجلها. بعد يومين أتت تسحب البلاغ ضد زوجها، وأخبرتني أنها كانت تريد من الشرطة أن تلفت نظره، وفي النهاية هو والد أبنائها. سألتها: «إنت بتحبيه؟» وكأنها لم تفهم ماذا أعني، قالت: «أبو عيالي.» قلت: «بيضربك باستمرار؟» أجابت: «لا أبدا هو كان غضبان جدا؛ لأنه بياع سريح، يبيع فاكهة في الشارع والجو الحار تلف له البضاعة.» أردت أن أسألها إن كانت زيارة مني لزوجها يمكن أن تساعد، فقالت: «أنت تشرف وتزدنا نور .» قلت لها آتي بشرط موافقة زوجك. زرتهم وأحضرت بعض الفاكهة. كانت حالتهم «عدم»، عندهم ثلاثة أطفال، وزوجها إنسان محترم، وقد أخبرته عن أخذي لها للمستشفى، بل وعنفته أنه كان عليه أن يأخذها للمستشفى.
ندرس في السنة الأولى تاريخ الأدب العربي القديم، ويدرسه الأساتذة التقليديون بشرح الظروف العامة، السياسية والاجتماعية، «شرحا سرديا بغير تحليل»، ثم بعد ذلك يتحدث عن السيرة الذاتية للشاعر، وتحليل بعض النصوص وقراءتها قراءة تجزيئية بيتا بيتا دون قراءة وحدة كاملة. حصلت على تقدير «جيد» في السنة الأولى وبكيت؛ لأني كنت أريد «جيد جدا» وما تأتي به من بعض مكافآت التفوق. الحياة في القاهرة كانت صعبة جدا. نقل الأسرة والعيش على «اثني عشر جنيها راتبا»، وأخي «محمد» مجند بالجيش، «وكريمة وأسامة وآيات» في مدارسهم. عدت يوما متأخرا وغضبت على الأكل الذي طبخته أمي ولم آكل، فجاءت بيني وبينها وقالت: «يا نصر، لما تغضب على الأكل قدام اخواتك يتعودوا على كدا ويعملوا زيك وأرمي الأكل في الزبالة، وكله من فلوسك، فشوف أنت عايز تصرف فلوسك ازاي.» كنت أحاول تدبير الأمور بقدر الإمكان فأحدد نفقات كل شيء؛ السجائر ثلاث كل يوم، مصاريف الأتوبيس والإفطار. وشعرت بألم الجوع والحاجة مرات، لكن سعيت بإصرار لتحقيق حلمي.
في السنة الثانية بالجامعة، بعد ما رأيت من محاضرات اللغة العربية والفلسفة، كنت أفكر في قسم اللغة الإنجليزية، ولكني نجحت في الإنجليزية بالكاد، فاخترت قسم اللغة العربية، والظروف بدأت تتغير فأصبحنا ما بين ثلاثين إلى خمسة وثلاثين طالبا في المحاضرة، واكتشفت د. «شوقي ضيف» آخر؛ ففي محاضرته يناقش ويسمح بالاختلاف ويطلب عمل أبحاث. طلب منا بعض أساتذة الأدب العربي القديم أن نعمل بحثا لأعمال السنة، فقدمت بحثا بعنوان «ظاهرة الغزل في العصر الأموي، ثلاثة مناهج في دراستها»، قارنت بين منهج كل من «طه حسين والعقاد وشوقي ضيف». وكان غضب الأستاذ علي جما؛ لوصفي منهج د. «شوقي ضيف» مقارنة بمنهجي «العقاد وطه حسين» أنه منهج تقليدي، لكني فوجئت بالدكتور «شوقي ضيف» يثني على البحث ويعلن موافقته على أن منهجه تقليدي، بل وأكثر من ذلك يعلن أمام الطلاب جميعا: «ما الفائدة إذا لم تنقدوا أساتذتكم؟ كيف يتقدم البحث العلمي إذا ظل الخلف يردد كلام السلف؟» وبدأت أظهر كطالب مجد ومجتهد، ويعرفني أساتذة قسم اللغة العربية، وحصلت على تقدير عام «جيد جدا»، وفزت بالمركز الثالث في الشعر للسنة الثانية. وبدأت تتوثق علاقتي ب «زين العابدين فؤاد» الذي حصل على الجائزة الأولى في الشعر، ولكن لأننا متقاربان في السن نكبر بقية الطلبة بثماني سنوات، وكان قد حول من كلية الهندسة إلى كلية الآداب بعد أن قضى بها ست سنوات. وكنا نمزح حين نذهب لزيارة «جابر عصفور» الذي يستعد لمناقشة رسالته للماجستير، فنسميه ابننا «جابر»؛ لأننا نكبره في السن. وكان شبه منقطع عن العالم الخارجي من أجل الرسالة والانتهاء منها.
অজানা পৃষ্ঠা