ولم ينس صالح أن يرسل خطابات منتظمة إلى كريمة، لتبلغ نازك عن كل صغيرة وكبيرة في حياة نادر وحياته هو أيضا.
وكانت الأنباء التي تصله من زوجته تطمئنه أن الباشا وفى بوعده؛ فهو يرعى أسرته رعاية كاملة، ولكنه مع ذلك مشوق إلى زوجته وإلى هذه الأحاديث التي كانت تجري بينهما والتي كان يجد فيها راحته؛ فقد كانت هذه الأحاديث هي الأنة الوحيدة التي يستطيع أن يطلقها في غير خوف ولا قلق.
وكان مشوقا إلى ابنه وإلى ابنته، ولم يكن يجد أحدا يستطيع أن يقول له إنه مشوق إلى بيته.
عاد إلى أصدقائه القدامى وكان يقضي معهم الأوقات التي يقضيها نادر في الدراسة، ولكن الفراغ مع ذلك كان يحيط به من كل جانب.
ومرت الأيام، وكانت توافيهم الإجازات الدراسية فيهيئ صالح لثلاثتهم أماكن مختلفة يقضون فيها أيام الإجازة.
ولكن نادر كان يحس دائما أنه في سجن، وأن القيد حوله جميعا.
وأحس نعيم ما يختلج في نفس نادر: وبعد؟ - إنها أوامر أبي. - ومن ينفذها؟ - صالح. - وهل تعتقد أنني أجهل هذه الإجابة. - إذن فماذا تريد أن تقول؟ ••• - صالح بك. - نعم. - بعد أيام ستكون إجازة رأس السنة. - وقد أعددت لك برنامجا رائعا. - بل أريد أن أقضيها وحدي. - وحدك؟ - أنا ونعيم. - وأنا؟ - تستطيع أن تقضيها وحدك أنت أيضا. - وحدي؟ - تستمتع بها. - ومن أدراك أنني لا أستمتع بإجازتي معك؟ - إنك معي تعمل، وإني أشفق عليك من العمل الدائم. - ولكنني أستمتع بصحبتك. - وأنا أيضا، إلا أنني أريد أن أحس بحريتي. - وهل أمنعك عن شيء؟ - عن كل شيء. - لا تنس أنني ... - أعرف أنك تنفذ أوامر أبي. - فماذا تريد إذن؟ - أن تنسى هذه الأوامر على الأقل في أيام الإجازات. - ضميري ... - لا بد أن يسمح. - أستطيع أن أسافر وتصنع أنت ما تشاء. - بل لا تستطيع. - أتمنعني؟ - اسمح لي أن أقول نعم. - اكتب إلي. - ولا هذا. ما سر هذا العداء؟ - إنها مطالبة بالحرية وليست عداء. - وواجبي؟ - واجبك أن تطيعني. - بل واجبي أن أطيع الباشا. - الواقع أن واجبك هو أن تطيع ناظر الوقف. - أليس الباشا هو ناظر الوقف؟ - طبعا، ولكن سيأتي يوم أصبح أنا فيه ناظر الوقف.
ولم يكن صالح يعني هذا من أول الحديث، ولكنه ظل يتمنى ألا يذكر نادر هذه الحقيقة، فخابت أمانيه وذكرها نادر في صراحة الحقيقة وبساطتها. - ولعله من الأوفق لك أن يكون ناظر الوقف راضيا عنك دائما، سواء في ذلك ناظر الوقف الحالي أو ناظر الوقف في المستقبل.
لو كانت خديجة هنا لكان هناك حديث جديد بيننا. وأطرق، ولم ينتظر نادر أكثر من ذلك وغادر الحجرة.
ومنذ ذلك اليوم عاد نادر إلى الحياة التي عرفها في القاهرة على يد إلهام. وإن كان هناك يخشى رقابة أبيه أو أقوال الناس فإنه هنا لا يخشى شيئا، ولكنه بذكائه يعرف أن هناك مصدرا آخر يرسل المعلومات المدرسية إلى أبيه غير صالح، إنها المدرسة نفسها وشهادته التي ترصد درجاته، فاستطاع أن يرضي المدرسة وألا يهمل دروسه وأن يعربد ما شاء أن يعربد بعد ذلك. وأصبح صالح منذ ذلك اليوم مطيعا في رضوخ، لا يشترك معه ولكن يصمت، ويتمنى أن يرى زوجته ليضيف إلى أحاديثه السابقة أحاديث جديدة عن اضطراره إلى السير في طريق لم يتصور في يوم من الأيام أنه سائر فيه، ولكن ماذا تنفعه زوجته وماذا تجديه الأحاديث؟ إن الصراع - إن كان ثمة صراع - باق بين نفسه ونفسه، بين ما كان يتمنى أن يكون وبين ما صار إليه فعلا.
অজানা পৃষ্ঠা