مقدّمة الطبعة الثانية
كان أن تفضّلت مجلّة اللغة والأدب في جامعة الجزائر سنة ١٩٩٤ فرأت أن تطبع هذا الكتاب في عدد خاصّ من أعدادها ليكون كتابا مستقلا، وليس موضوعا من موضوعاتها كما قدّمته، وطبع الكتاب في ديوان المطبوعات الجامعية، ولكنّه لم يوزّع إلّا في الجزائر.
ومع هذا، بلغ خبره أسماع بعض المهتمين بتحقيق التراث العربي بفضل مجلة العرب التي يصدرها أستاذنا المرحوم العلّامة الشيخ حمد الجاسر.
وقلت: بفضل مجلّة العرب وأنا أعني أن نوّه به وبتحقيقه أستاذنا العلّامة في باب مكتبة العرب، فكان من أثر ذلك تفضّل عليّ قسم النشر والمخطوطات في المجمع الثقافيّ برغبته في إعادة طبعه؛ فرحّبت شاكرا.
وإذ يعاد طبعه اليوم أجدني قائلا إنّه كان فصل بين طبعته الأولى وطبعته هذه سبع سنين جدّت لديّ ملاحظات خلال قراءة هذي السنين السبع فأضفتها إلى هذه الطبعة؛ فحذفت أشياء، وأضفت أشياء، وعدّلت أشياء لعلّي أبلغ بما فعلت رضى الباحثين فيما خدمت به الكتاب.
ولكنّ هذا لا يعني أنّني أزعم أن بلغت هذا الرضى، أو كدت؛ ففوق كلّ ذي علم عليم، ولكنّني أزعم أنّني بذلت فيه غاية ما يستطيع باحث عربيّ يعيش تحت سماء بعيدة لا يكاد يرى فيها كتابا عربيّا أن يبذله من جهد.
1 / 5
لا أقول هذا تواضعا أو شكوى، فبحسب صدقي فيه أن تفضّل صديقي الأستاذ الكبير الدكتور أبو العيد دودو فوافاني بنسختين من هذا الكتاب؛ لأنّني لا أملك منه- وهو من كتبي التي أعتزّ بها- إلّا نسخة واحدة. فما بالك بكتب الآخرين من المؤلّفين الأفاضل، والمحقّقين؟
وحسب صدقي أن تفضّل الأستاذ الكريم الدكتور عبد المجيد الإسداوي فأهداني نسخته الشخصية من المنازل والديار، فألف شكر لهما على هذا الكرم الجمّ، وألف عرفان بالجميل.
وشكر مضاعف للمجمع الثقافي في دولة الإمارات العربية المتّحدة على عنايته بالكتاب ومحقّقه:
محمد حسين الأعرجى الأستاذ بجامعة آدم مسكيفج في بوزنان- بولندة بوزنان في ٥/٢/٢٠٠١ م
1 / 6
تقديم
كثيرون هم الذين أرّخوا لحياة الخوارزميّ من المعاصرين، فقد أرّخ له- على سبيل المثال- كارل بروكلمان في «تاريخ الأدب العربي» وجرجي زيدان في «تاريخ آداب اللغة العربية» والدكتور محمد مهدي البصير- ﵀ في «في الأدب العباسي»، والدكتور شوقي ضيف في «الفن ومذاهبه في النثر العربي» والدكتور مصطفى الشكعة في «بديع الزمان الهمذاني»، وأرّخ له سوى أولئك آخرون. ولكن أحدا ممن ذكرت لم يتجاوز في ترجمته الصورة التي رسمتها له المصادر العربية، وهي صورة إن لم تكن غامضة فهي أقرب ما تكون إلى الغموض.
ولقد أعلم أن السيد محمود صالح الضّمّور قد كتب عنه رسالة ما جيستير تقدّم بها إلى كلية الآداب من جامعة بغداد في السّبعينيات، ولكنني لم أقرأ الرسالة في حينها، ولم يتهيّأ لي الاطلاع عليها بعد ذلك الحين. والمظنون في رسالة جامعيّة أن تكون قد جلت صورته، وأنارت الجوانب الغامضة من حياته، ولكنني لم أطلع- كما قلت- عليها، ولو كنت فعلت، لربّما كانت أغنتني عن البحث في حياته. مما يضطرني أن أباشر هذه الحياة بنفسي فأقول:
هو أبوبكر محمد بن العبّاس الخوارزمي، لم يرق أحد المصادر أن يذكر اسم جدّه الأدنى. ولد لأسرة فارسيّة في سنة ٣٢٣ هـ «١» . أمّا مكان ولادته ففيه حديثان، أوّلهما ما قاله بعض من أرخوا لحياته من
1 / 7
القدماء، وثانيهما ما قاله هو نفسه في رسائله. فأمّا الذي قاله بعض مؤرخيه، فهو أنه ولد في طبرستان، وخصّص بعضهم هذا الميلاد فقال: إنه كان في مدينة آمل من طبرستان، ثم استشهد بما نسبه إلى الخوارزميّ نفسه من قوله:
بآمل مولدي وبنو جرير ... فأخوالي ويحكي المرء خاله [١]
وأمّا حديثه هو فشيء آخر، إذ وجدناه يقول في رسائله عن خوارزم: إنها عشّه الذي فيه درج، وبيته الذي منه خرج، وإنها مقطع سرّته [٢] .
والآن، أيّ الحديثين نقبل؟ أنقبل حديث بعض مؤرخيه مشفوعا بشعره أم حديث رسائله؟ ويغلب على ظنّي أنّ ما قاله عن خوارزم في رسائله من أنّها مكان مولده أصدق، وأقرب إلى الحقيقة التاريخيّة، فليس قليل الدّلالة أن يفتتح الثعالبيّ باب فضلاء خوارزم من «يتيمة الدهر» به، ثم لا يكتفي بذلك فيشفعه بقوله: «أصله من طبرستان، ومولده، ومنشؤه خوارزم [٣] وقول الثعالبيّ أصدق من سواه، إذ ليس هو من معاصريه فحسب، وإنما هو من ملازميه الذين يعرفونه، وتلاميذه الذين يشافهونه، سمع منه، وأخذ عنه، وقرأ عليه.
_________
[١] معجم البلدان ١: ٧٥؛ وينظر الوافي بالوفيات ٣: ١٩٥، ولم يتطرّق المعاصرون السالفو الذكر إلى هذا النصّ.
[٢] ينظر رسائل الخوارزمي: ٢٢٩.
[٣] اليتيمة ٤: ٢٠٤.
1 / 8
وتقول: ما الشأن في قوله الذي سبق: «بآمل مولدي ...»؟ فأقول:
إنّ الذي يغلب على ظنيّ أن البيت موضوع على أبي بكر منسوب إليه، لا لضعف تركيبه النحويّ في قوله: «... وبنو جرير فأخوالي» إذ أنه ليس من موجب لهذه الفاء إلا أن تكون فاء الزّينة، وإنما لشيء آخر هو أن واضع البيت لم يكن يريد أن يقرّر مكان مولده، وإنما كان يريد تقرير مذهبه ليصل من ورائه إلى تقرير مذهب محمد بن جرير الطبريّ، فقد ورد بعده:
فها أنا رافضي عن تراث ... وغيري رافضي عن كلاله
ولست أستبعد أن يكون أحد الحنابلة هو الذي نحل أبابكر هذين البيتين، ونسبهما إليه، غرضه من ذلك أن يثبت دعوى الحنابلة على الطبريّ أنّه شيعي. أما صلة أبي بكر به فقد درجت المصادر أن تقول عنه: إنّه ابن أخت الطبريّ صاحب التاريخ والتفسير [٤] . وإذا، فليس أبلغ في إثبات الدعوى من أن يشهد ابن أخته على صحّتها، فليس أحد أعلم من أبي بكر بمذهب خاله، وذلك أنّه كان للطبريّ «... مذهب في الفقه اختاره لنفسه» [٥]، ولم يكن الحنابلة- بوجه خاص- ليرضوا عن هذا المذهب، حتى إنّه يوم توفي- وهو ما هو
_________
[٤] ينظر الأنساب: ٢١٠ و؛ ووفيات الأعيان ٤: ١٩٢؛ وبغية الوعاة ١: ١٢٥؛ وشذرات الذهب ٣: ١٠٥. وتابع هذا القول من المعاصرين مصطفى الشكعة في «بديع الزمان»: ٨٢؛ وشوقي ضيف في «الفن ومذاهبه في النثر العربي»: ٢٣٠ وبرو كلمان في «تاريخ الأدب العربي» ٢: ١١٠؛ وزيدان في «تاريخ آداب اللغة العربية» ١: ٥٨٢.
[٥] الفهرست: ٢٩١.
1 / 9
علما وتدينا- «دفن ليلا خوفا من العامّة» [٦] . ومن هنا كان من مصلحة ذلك الحنبليّ أن يضع ذينك البيتين- كما قلت- على لسان أبي بكر، ولمّا لم يكن يعرف مكان ولادة أبي بكر، فقد قاسه على مكان ميلاد خاله، إذ إن الطبريّ من مواليد آمل [٧] .
وتسألني عمّا جعلني أظنّ هذا الظنّ فأقول: إنّه لو كان أبوبكر قالها لما نعت نفسه بالرافضيّ، وذلك أن أبابكر شيعي إماميّ [٨]، وأنّ الزيدية هم أوّل من استحدث مصطلح الرفض يطلقونه على خصومهم من الشيعه الإمامية، ثم لمّا تقادم الزمن بالمصطلح ونسي أصله، صار الآخرون من أتباع الفرق الإسلاميّة الأخرى ينبزون به الشيعة بصورة عامّة. أفيظنّ أحد- بعد ذلك- أن ينبز أبوبكر نفسه بأنّه رافضي دون أن يستفزّه أحد أو مناظر؟
هذه واحدة، وأما الثانية فهي أنّه لم يرد ذكر في رسائل الخوارزميّ، أو في أحد كتب تلميذه الثعالبيّ عن شيء من خؤولة محمد بن جرير الطبريّ لأبي بكر، وعند سواه، مما يجعلني أقرّر أن في نفسي شيئا من أمر هذه الخؤولة أريد أن أجلوه فأقول:
معروف أن الطبريّ ولد سنة ٢٢٤ هـ، فإذا افترضنا أن أخته المزعومة- التي هي أمّ أبي بكر- تصغره بأربعين سنة- وهو احتمال ضعيف
_________
[٦] معجم الأدباء ١٨: ٤٠، وينظر العيون والحدائق ق ١، ٤: ٢١٩- ٢٢٠.
[٧] ينظر معجم البلدان ١: ٥٧ والوفيات ٤: ١٩٢.
[٨] ينظر كتابه إلى جماعة الشيعة في نيسابور في رسائله: ١٦٠- ١٧٢.
1 / 10
جدا- فمعنى هذا أنّها ولدت سنة ٢٦٤ هـ، وأنّها بلغت سن اليأس- وهي في الخمسين من عمرها وليس في الخامسة والأربعين- سنة ٣١٤ هـ، أي: قبل أن يولد أبوبكر بتسع سنوات، فإذا جارينا المؤرخين في إصرارهم على أنّ أمّ صاحبنا هي أخت الطبريّ قلنا: إنّها ولدته وعمرها تسع وخمسون سنة، على افتراض أنه ولدها البكر، إن لم يكن عمرها ستين، فأيّ عاقل يقبل هذا؟! فإذا افترضنا أنها أخت الطبريّ من أمّ أخرى، وأن جرير بن يزيد- أبا الطبري- قد تزوّج زواجه الأول وهو في العشرين من عمره، ثم تزوّج زواجه الآخر الذي أنجب منه أمّ الخوارزمي، فمعنى ذلك أنّه يكون قد أنجبها وله من العمر أربع وتسعون سنة- هذا إذا تزوجت وهي ابنة تسع وعشرين-، أو أنجبها وقد جاوز المائة إذا كانت قد تزوجت وهي ابنة عشرين أو تزيد قليلا، فأي عاقل يقبل هذا؟! وإذا، ليس من المعقول أن يستغفل الناس أبو بكر ببيتين يزعم فيهما أن الطبريّ خاله، وأنّه ورث التشيّع عنه، ثم يعرض عن لفظ التشيّع إلى الرفض، ثم لا يكون عنده أو عند تلميذه الثعالبيّ شيء من هذا أو مما هو قريب منه.
وإذا صحّ هذا الذي قرّرته، فمعناه أنني أنفي عنه هذه الخؤولة جملة وتفصيلا، فلم يكن أبو بكر ابنا لأخت من أخوات محمد بن جرير الطبري.
وإذا فقد ولد في خوازرم لعائلة أصلها من طبرستان، فكان يلقّب
1 / 11
نفسه بالطبريّ مرّة [٩]، وبالطبريّ الخوازرمي مرّة أخري [١٠]، وجمع له بعضهم في عصره- على ما يظهر- نسبتين في لقب واحد على سبيل النحت فلقّب بالطّبرخزي [١١] . ولكن بقي الخوازرميّ لقبه الأشهر الذي به يعرف [١٢] .
وينبغي لي أن أقف الآن عند نطق العرب لقبه: الخوارزميّ، فأقول:
اعتاد كثيرّ منهم أن يلفظوه بنطق الواو منه، على حين أن خوارزم- كما يقول ياقوت في معجم البلدان ٢: ٣٩٥- «أوّله بين الضمّة والفتحة، والألف مسترقة مختلسة، ليست بألف صحيحة ...» ويؤيد قول ياقوت أن قواعد اللغة الفارسية تهمل نطق الواو الواقعة بين الخاء والألف، فيقال في الخوانساري: الخانساري: وفي الخوارزمي: الخارزمي وعلى الخاء حركة بين الضمّة والفتحة، وهكذا. ومن مصاديق هذا النطق قول الخليل بن أحمد السّجزي يرد على هجاء أبي بكر إياه:
_________
[٩] ينظر رسائله: ٤٧، ٥٦، وقد وصف عقله بأنه طبريّ. وعلّل السمعاني في الأنساب: ٢١٠ ونسبته هذه بخؤولة الطبريّ له، وهو وهم كما رأينا، وانفرد السراج بقوله في مصارع العشاق ١: ٩٠ إنه من طبرية الشام، وهو وهم لأن النسبة إلى طبريّة: طبراني.
[١٠] رسائله: ٦٥.
[١١] ينظر اليتيمة ٤: ٢٠٤، والوفيات ٤: ٤٠، والوافي ٣: ١٩١، وانفرد ابن العماد فى شذرات الذهب ٣: ١٠٥ فسماه: الطبرخي. وتعليل هذا اللقب فيها- ما عدا اليتيمة- أن أباه من خوارزم وأمه من طبرستان، ثم اضطرب عند ابن أيبك في الوافي فقال العكس. ويبدو لي أن اللقب جاء من كونه- كما قال الثعالبي- طبري الأصل خوارزمي المنشأ.
[١٢] ينظر اليتيمة ٤: ٢٠٤.
1 / 12
وعاو عوى من أهل خوارزم خيفة ... كذا الكلب عند الخوف مجتهدا يعوي
إذ أنّه ينكسر وزن صدر البيت بنطق الواو، ويستقيم بإهمالها.
لا نعرف عن أسرته الفارسية التي ولد فيها شيئا، إذ لم يذكر مؤرخوه حالها، ولكن رسائله تدلنا على أنّها كانت موسرة، فقد خلّف له أبوه من الإرث «ما لو خلّفه على أهل بلد لكفاهم» [١٣] . والمظنون بأب له مثل هذا الثراء أن يعنى بتأديب ابنه، رغم أننا لا نعرف من أدّبه في نيسابور، ولكننا نعرف أنه كان يوم فارق وطنه- وهو حدث- «قويّ المعرفة، قويم الأدب» [١٤] حتى إنّه زعم- ذات مرّة- أنّه فارق وطنه إلى العراق مفيدا لا مستفيدا [١٥] . على أن قريحته الشعريّة قد تفتّحت وهو في خوارزم [١٦] لم يجاوز اليفاعة، فقد تحكّك بشاعر عصره الهجّاء أبي الحسن اللحّام الحرّاني فهجاه [١٧] وهجا أبا القاسم أحمد بن أبي ضرغام «أحد شعراء خوارزم المفلقين المذكورين ...» [١٨] .
_________
[١٣] رسائله: ٢٢٩.
[١٤] اليتيمة ٤: ٢٠٤.
[١٥] ينظر رسائله: ١٥٦.
[١٦] ينظر اليتيمة ٤: ١٠٢.
[١٧] ينظر نفسه.
[١٨] ينظر السابق ٤: ٢٥٤.
1 / 13
وإذا، فقد كفلت له هذه الأسرة الموسرة- قبل أن تفقد يسارها [١٩]- من التعليم ما أطعمه بالاستزادة، فارتحل إلى العراق، وقصد بغداد، فتتلمذ لأبي عليّ إسماعيل بن محمّد الصفّار، وأقرانه [٢٠]، ونعرف عن أبي عليّ أنه عالم بغريب اللغة، وبالنحو، وأنّه محدّث ذكر له حاجي خليفة في كشف الظنون ١: ٥٨٦ جزءا من مرويّاته في الحديث النبويّ الشريف، ولا بدّ أن يكون صاحبنا قد سمعه منه. ولكننا لا نعرف من أقران الصفّار إلّا القاضي أبابكر أحمد بن كامل السنجريّ، إذ رويت عن الخوارزمي حكاية عنه، فلعلّه اتصل به في بغداد من جملة من اتّصل بهم، فإذا صحّ أنه وقع هذا الاتصال أدركنا ما يبحث عنه صاحبنا من علم في بغداد، فقد كان أبوبكر القاضي «من العلماء بالأحكام، وعلوم القرآن، والنحو، والشعر، وأيام الناس، وتواريخ أصحاب الحديث» [٢١] . على أنه من المحتمل ألّا يكون أبوبكر الخوارزمي قد عني بالفقه، وعلوم القرآن، وتواريخ أصحاب الحديث عنايته بالنحو، والشعر، وأيام الناس. فأما النحو والشعر فقد كانا من عدّته طيلة أيام حياته، وأمّا أيّام الناس فحسبنا ما سرده علينا
_________
[١٩] ينظر رسائله: ٢٢٩ وفيها ما يدلّ على أنه افتقر في خوارزم بعد غنى.
[٢٠] الأنساب: ٢١٠ و.
[٢١] تاريخ بغداد ٤: ٣٥٧. وقد قرّر الدكتور البصير- ﵀ في «في الأدب العباسي»: ٦٥ أنّه لا يعرف «لسوء الحظ أحدا من أساتذته»، ولم يقرر الشكعة ذلك لكنّه لم يذكر أحدا من أساتذته العراقيين، ينظر بديع الزمان: ٨١- ٩١، وكذلك فعل الآخرون فلم يذكر أيّ منهم أستاذا من أساتذته.
1 / 14
منها في هذا الكتاب. ولا بدّ أن تكون معرفة هذه الأيام تفرض عليه أن يلمّ بأنساب العرب، فبلغ من معرفته بها ما كان يحيّر بعض أقرانه من العلماء [٢٢]، وما جعله فيها إماما [٢٣] .
ويهمّني الآن أن أعرف متى ورد أبوبكر بغداد، إذ اكتفى مؤرّخو حياته أن يقولوا: إنه ورد العراق، دون أن ينص أحد منهم على تاريخ ذلك، بل إن أحدا منهم لم يذكر بغداد سوى الحاكم النيسابوري الذي لولاه لكنت ظننت أنّه ورد العراق سائحا لا طالب علم. ولقد نستعين على معرفة تاريخ رحلته بتاريخ وفاة أحد شيوخه أعني به أبا عليّ الصفار، فقد توفي سنة ٣٤١ هـ[٢٤] . فإذا كان الأمر كذلك فمعناه أنّ أبابكر قد ورد بغداد قبل هذا التاريخ، وأنّه لازم الصفّار مدّة أتاحت له أن «يذكر سماعه ...» [٢٥] منه.
ويمكنني أن أتخيّل أنه سمع- أثناء حياة الصفّار وبعدها- من القاضي أبي بكر السنجري مدّة لا أستطيع تحديدها، ولكنني أستطيع تخمينها بما لا يرقى إلى سنة ٣٤٦ هـ، فقد غادر بغداد قبل هذه السنة متّجها إلى حلب. وإنما نصصت على هذه السنة، لأنني أعرف أنّه التقى بالمتنبيّ في حلب، وزاره في بيته [٢٦]، وأعرف أن المتنبّي غادر
_________
[٢٢] ينظر قول الحاكم النيسابوري عنه في الأنساب: ٢١٠ و.
[٢٣] ينظر الشذرات ٣: ١٠٥
[٢٤] ينظر نزهة الألباء (ط حجرية): ٣٥٥.
[٢٥] الأنساب: ٢١٠ و.
[٢٦] ينظر اليتيمة ١: ١٣٦.
1 / 15
في تلك السنة حلب متّجها إلى مصر يمدح بها كافور الإخشيديّ.
واتجه صاحبنا إلى بلاد الشام قبل سنة ٣٤٦ هـ و«سكن بنواحي حلب» [٢٧] و«لقي سيف الدّولة وخدمه ...» [٢٨] . وكان أهمّ من لقاء سيف الدّولة- على ما يبدو- من حيث التأثير في حياته لقاؤه أركان حضرته من العلماء والأدباء والشعراء مثل ابن خالويه، وأبي الحسن الشمشاطيّ، وأبي الطيّب المتنبيّ، وأبي العبّاس الناميّ، وسواهم [٢٩] .
وقد أفاد من مجالسة هؤلاء ما فتق قلبه، وشحذ فهمه، وصقل ذهنه [٣٠] . وإذا كان أفاد من ابن خالويه علمه بالنحو واللغة، فقد يكون أفاد من أبي الحسن الشمشاطيّ صاحب «أخبار أبي نواس ...» [٣١]، ومختصر تاريخ الطبري [٣٢] علمه بشعر المحدثين وبالتاريخ. أما المتنبي فحسبك به جليسا وبشعره معلّما؛ مما يتيح لنا أن نعدّ هؤلاء جميعا في أساتذته وليس ابن خالويه وحده [٣٣] .
على أن أبابكر لم يكتف بمجالسة هؤلاء ممن هم في حضرة سيف الدولة يلازمونه، وإنما مدّ بصره إلى من هم خارج هذه الحضرة سواء
_________
[٢٧] الوفيات ٤: ٤٠١؛ والشذرات ٣: ١٠٥.
[٢٨] اليتيمة ٤: ٢٠٤.
[٢٩] ينظر السابق ١: ٢٦.
[٣٠] ينظر نفسه.
[٣١]) الفهرست: ١٨٢.
[٣٢] الفهرست: ٢٩٢.
[٣٣] في معجم الأدباء ٤: ٥ أنّ أبابكر كان من تلامذة ابن خالويه
1 / 16
أكانوا من ملازمي حضرة سيف الدولة أم لم يكونوا، وكانت حال شعراء الشام في ذلك عنده حال الشعراء الطارئين عليها، فلقي ابن الكاتب الشاميّ، وأبا الفرج العجليّ، وأبا الحسين الناشيء الأصغر، والخليع الشاميّ، وأبا طالب الرّقّي، وأبا الحسن عليّ بن أحمد التلّعفري [٣٤]، ينشدونه أشعارهم بعضهم [٣٥] . وكان من أثر كلّ ذلك في نفسه أن قال بعد أن صار إلى ما هو عليه شعرا وأدبا وعلما: وما «بلغ هذا المبلغ بي إلّا تلك الطرائف الشاميّة، واللطائف الحلبيّة التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي» [٣٦] .
وينبغي لنا ألّا نتصور أن إقامة أبي بكر- وهو في عنفوان شبابه- في العراق والشام كانت جدّا كلها، فقد غشي مجالس المغنين، واختلط بالشطّار والعيّارين، وداخل مجتمعيهما مداخله أهّلته أن يؤلّف- فيما بعد- هذا الكتاب الذي قال عنه إنه «التقط من أفواه الشطار والعيّارين، جمع في مجالس المغنّين والمضحكين ... وسمع أكثر ما فيه من أفواه السؤّال والسّابلة» [٣٧] .
وينبغي لنا أيضا ألا نتصور أن أبابكر قد حظي من المكانة في الشام بما يغريه أن يقيم فيها، إذ لم تكن سنّة أو شعره أو أدبه مما يؤهّله
_________
[٣٤] ينظر اليتيمة ١: ١٢٠، ١٢٢، ٢٤٨، ٢٨٧، ٢٩٨، ٣٠٠.
[٣٥] كان ينفرد برواية أشعار أبي طالب الرّقي- ينظر السابق ١: ٢٩٨.
[٣٦] السابق ١: ٢٦.
[٣٧] مقدّمة الأمثال: ٢.
1 / 17
لهذه المكانة، لا سيما أن أساتذته مقيمون فيها وهم ما هم علما وأدبا وشعرا. على أن هذا لا يعني أنه تأخّر فيها، بل كان أمره فيها في حيث لا يؤخّر عن رتبة يبلغها أقرانه الذين هم في منزلته [٣٨] .
ومهما يكن من أمر، فإن إقامته في الشام- على ما يبدو- لم تطل كثيرا أيضا، فقد فارقها وقد قاربت شخصيته الأدبية الاكتمال إن لم تكن قد اكتملت [٣٩]، إذ نحن لا نجد بعد مغادرته الشام أحدا من العلماء يمكن أن يقال عنه: إنه كان أستاذا له، وإنه أخذ عنه.
أما السنة التي غادر فيها الشام فنحن لا نعرفها على وجه التحديد، ولكننا نستطيع أن نقرّر أن رحلته كانت قبل حلول سنة ٣٥٣ هـ. إذ أننا نعرف أنّه اتصل بوالي سجستان أبي الحسين طاهر بن محمد [٤٠]، وأن طاهرا هذا كان واليها في تلك السنة بعد أن استخلفه عليها خلف ابن أحمد أثناء حجّة فاستبدّ بها دونه [٤١] .
وإذا، فقد غادر الشام قبل سنة ٣٥٣ هـ- كما قلت- ميمّما وجهه شطر بخارى وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره وإن يكن قد قاربها. وكان عليها يوم قصدها الأمير منصور بن نوح، وكان وزيره- على ما يظهر-
_________
[٣٨] ينظر رسائله: ٤٣.
[٣٩] ينظر اليتيمة ٤: ٢٠٤.
[٤٠] ينظر السابق ٤: ٢٠٥.
[٤١] ينظر الكامل ٧: ١٤- ١٥ وفيه أنّ والي سجستان هو أبو الحسين طاهر بن الحسين، على حين أنه في اليتيمة: أبو الحسين طاهر بن محمد، وقد مات طاهر هذا سنة ٣٥٤ هـ.
1 / 18
أبو عليّ البلعميّ، فاتصل بهذا الوزير وصحبه «فلم يحمد صحبته» [٤٢] . ولا يبعد أن يكون الخوارزمي قد تأفّف من هذه الصّحبة أمام من سعى بقوله إلى البلعمّي، فخرج توقيعه بتقريع أبي بكر ولومه، فكتب إليه أبوبكر يعاتبه: «ذكر الشيخ أني تنقّلت بعرضه المصون، وتمندلت بقدره المكنون المخزون، وقد كنت أحسب الشيخ أمنع على السعادة جانبا ...» [٤٣] . فما أجدى العتاب، بل كثرت- على ما يظهر- رقاع البلعمّي إليه بما هو أكثر من التقريع الأوّل حتى بدا صاحبنا حائرا لا يعرف كيف يداري ما هو فيه [٤٤] .
على أنه حاول أن يلاين البلعميّ، وأن يستعيد ودّه، إلّا أنه لم ينجح في ذلك فقرّر أن يفارق حضرته إلى نيسابور، وفعل، فلما أن وردها كتب منها إليه كتابا يقرّعه فيه، ويشرح أسباب الخلاف بينهما، فقد كان يرغب البلعميّ أن يعامله صاحبه على أنه وزير، وشاء الخوارزميّ أن يعامله- وقد طالت العشرة- على أنه نظير [٤٥] .
وينبغي لنا أن نحمل حديث أبي بكر عن طول العشرة، وعن أنّه خرج عن حدّ الشبيبة في هذا الكتاب على محمل المبالغة التي من شأنها أن تثبت له حقّا على الوزير.
_________
[٤٢] اليتيمة ٤: ٢٠٤، وينظر نصّ بروكلمان في تاريخه ٢: ١١٠ على أنّ البلعميّ «وزير آل سامان» .
[٤٣]: ١١٩. و«تنقّلت ... وتمندلت ...» كناية عن الغيبة.
[٤٤] السابق: ١٢٠.
[٤٥] السابق: ٤٢- ٤٤.
1 / 19
ولم يكتف أبوبكر بإثبات رأيه في الوزير البلعميّ نثرا، وإنما هجاه بشعر له [٤٦]، على أنّه لم يكن وحيدا في هجائه، فقد هجاه من هو أسنّ منه أعني اللحام الحرّاني متّهما إياه في وزارته، بأنه:
لم يرع للأولياء حرمتهم ... فيها، ولا للوجوه والكتبه [٤٧]
مما يوحي أن أبابكر لم يكن بطرا يوم فارقه، وأنه صادق في خوفه من أن يذلّ في حضرته.
واتصل- وهو في نيسابور- «بالأمير أبي نصر أحمد بن عليّ الميكاليّ، واستكثر من مدحه ... ونادم كثير بن أحمد» [٤٨] الذي هو ابن الأمير أبي نصر. على أن مدّته لم تطل في نيسابور- إذ فارقها سنة ٣٥٣ إلى سجستان- إلّا أنها تركت ثلاثة أشياء في حياته، أولها أنّه أحبّ هذه المدينة، وأحلّها في نفسه محلّة خاصة جعلته يتخذها- فيما بعد- دارا يأمن بها على أهله وولده [٤٩]، وثانيها أنّه بقيت له علاقة طيّبة بالأمير أبي نصر- بعد مفارقته- يدلنا عليها أنه شفّعه في اصطناع أحد الفقهاء من تلاميذه [٥٠]، وأنه بعث إليه بقصيدة من حبسه في سجستان [٥١]، وثالثها أنّه اتخّذ من كثير بن الأمير أبي نصر
_________
[٤٦] ينظر هجاؤه في اليتيمة ٤: ٢٠٤- ٢٠٥.
[٤٧] اليتيمة ٤: ١٠٨.
[٤٨] السابق ٤: ٢٠٥.
[٤٩] ينظر رسائله: ١٥٦.
[٥٠] ينظر السابق: ١٤٧- ١٤٩.
[٥١] تنظر قصيدته في اليتيمة ٤: ٢٠٥- ٢٠٦.
1 / 20
الميكالي نديما وصديقا [٥٢] .
وفارق نيسابور- كما قلت- سنة ٣٥٣- هـ إلى سجستان «وتمكّن من واليها أبي الحسين طاهر بن محمّد وأخذ صلته» [٥٣]، ولكنّه انقلب على طاهر، وهجاه لسبب لا نعلمه ممّا جعل طاهرا يسجنه [٥٤] .
وعلى أننا وجدنا الثعالبيّ يقول: إن طاهرا «أطال سجنه» [٥٥]، إلّا أنه لابد أن يكون قد خرج من السجن قبل وفاة أبي الحسين طاهر سنة ٣٥٤ هـ فاتّصل بعد خروجه من الحبس بصاحب طبرستان نوح بن منصور، وعلى أننا لا نعلم كم لزمه إلّا أننا نعلم أن حاله معه لم تكن في طبرستان بأفضل منها في سجستان [٥٦] . ولا بدّ أنه فارق طبرستان قبل سنة ٣٥٦ هـ، إذ إن نوح بن نصر قد توفي في هذه السنة [٥٧] .
وعاد صاحبنا مرّة أخرى إلى نيسابور قبل سنة ٣٥٦ هـ، كما قلت، فكانت له علاقة- على ما يبدو- بمدينة كرمان وأبي عليّ بن إلياس،
_________
[٥٢] ينظر رسائله: ١٦- ١٧، ١٥٦- ١٥٧ وفي الرسالة الثانية عتاب شديد، ٢٥٧- ٢٥٨.
[٥٣] اليتيمة ٤: ٢٠٥.
[٥٤] ينظر نفسه.
[٥٥] نفسه.
[٥٦] ينظر السابق ٤: ٢٠٦.
[٥٧] ينظر الكامل ٧: ٢٣، ولم يذكر أحد من القدماء أو المحدثين الذين ذكرت نوح بن نصر هذا، وإنما اكتفوا بأنه صاحب طبرستان.
1 / 21
فقد رأيناه يكتب إلى وزيره يعزّيه بوفاة ابن له [٥٨] . ولا بدّ أن يكون ذلك قد حدث- كما قلت- قبل السنة المذكورة، لأن أبا علي بن إلياس كان قد فرّ من كرمان إلى بخارى- حاضرة ملك السامانيين- ولأن عضد الدولة استولى على كرمان سنة ٣٥٧ هـ وأقطعها ولده أبا الفوارس الملقّب- بعد ذلك- بشرف الدولة [٥٩] .
وفي هذه المرحلة من حياته- وقد امتحن صحبة رجال الدولة السامانيّة- بدأ يمدّ بصره إلى صحبة البويهيين، فقد اتصل- على ما يبدو- بركن الدولة البويهيّ، فرأيناه يكتب رسالة إلى حاجبه بالريّ مرّة [٦٠]، وإلى كاتبه أبي قاسم بعد عزله مرّة أخرى [٦١] . ثم رأيناه يرثي ركن الدولة نفسه بعد وفاته سنة ٣٦٦ هـ[٦٢] . ولعل ابن كاملة- وهو ابن أخت ركن الدولة-[٦٣] هو الذي أوصله إلى خاله، فقد وصفه أبوبكر- بأنّه صديق شبيبة [٦٤] .
ولعلّ من آثار علاقته بركن الدولة البويهيّ أن كانت له علاقة
_________
[٥٨] ينظر رسائله: ٢٠٥- ٢٠٦.
[٥٩] ينظر الكامل ٧: ٢٧- ٢٨.
[٦٠] ينظر رسائله: ٩٧.
[٦١] ينظر السابق: ١١٦- ١١٧.
[٦٢] تنظر قصيدته في اليتيمة ٤: ٢٢٦- ٢٢٧.
[٦٣] ينظر تجارب الأمم ٦: ١٧٦.
[٦٤] ينظر رسائله: ٢٠٣ وفيها أنه نادمه وهو مقتبل الشباب، حدث الأتراب.
1 / 22
بوزيره أبي الفتح ابن العميد فوجدناه يرثيه [٦٥] بعد قتله سنة ٣٦٦ هـ.
ولعّل من آثارها أيضا ما كتبه إلى مسكويه وقد تزوّجت أمّه [٦٦]، فمسكويه هذا كان يخدم أبا الفضل بن العميد وزير ركن الدولة قبل ابنه أبي الفتح [٦٧] .
ثم اتّصل بعد وفاة ركن الدولة البويهيّ، واستيلاء ابنه عضد الدولة على الملك بعده، بالصاحب بن عبّاد في أصبهان، وكان من المعقول أن يتشوّف الصاحب إلى هذه الزيارة وأن يكون وراء هذا التشوّف أكثر من وجه، فمن هذه الوجوه أنه لا بدّ أن يكون قد سمع بأبي بكر وهو في حضرة ركن الدولة، ولا بدّ أن يكون أيضا قد شعر بشيء من عدم الرّضا وهو يراه على صلة بمنافسه أبي الفتح بن العميد [٦٨]، وأن يكون مما يسرّه أن يرى شاعر منافسه في حضرته، هذا إلى أنّ أبابكر قد بلغ من الشهرة- قبل أن يقصد الصاحب- ما يجعل حضرة مثل حضرة الصاحب تفرح بمقدمه، فقد رويت عن أبي بكر أكثر من رواية تدلّ على هذه الشهرة منها ما يدل على سعة حفظه. ويمكن أن نمثّل على سعة الحفظ بما رواه ابن خلّكان، فقد قال: إنه لما ورد حضرة الصاحب قال لأحد حجّابه: «قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن
_________
[٦٥] تنظر قصيدته في اليتيمة ٤: ٢٢٦- ٢٢٧.
[٦٦] ينظر رسائله: ٢١٣- ٢١٤.
[٦٧] ينظر عن هذه الخدمة- على سبيل المثال- تجارب الأمم ٦: ٢٢٩.
[٦٨] ينظر في أمر هذه المنافسة الوفيات ٥: ١١١
1 / 23
في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب، قل له:
لقد ألزمت نفسي ألّا يدخل عليّ من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: إرجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرّجال أم من شعر النساء؟
فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يريد أن يكون أبابكر الخوارزميّ، فأذن له في الدخول، فدخل عليه فعرفه وانبسط له» [٦٩] . وعلى أن هذه الرواية «ظاهرة التكلّف والافتعال» [٧٠] إلّا أن دلالتها على سعة حفظ أبي بكر تبقى قائمة، فقد كان أبوبكر يحفظ في هجاء المغنين وحدهم «ما يقارب ألف بيت» [٧١] .
ومن روايات شهرته ما يدلّ على سعة علمه باللغة، فقد قيل إنّه دخل «على الصاحب في أوّل لقائه إياه فارتفع على الحاضرين في مجلسه من العلماء والأدباء- والجماعة لا تعرفه- فتساءلوا عنه وغاظهم ما رأوا منه، وقال أحدهم: من ذا الكلب؟ - قولا سمعه أبوبكر- فالتفت إليه، وقال: الكلب من لا يعرف للكلب مائة اسم، ويحفظ في مدحه مائة مقطوعة وفي ذمّه مثلها. فقال الصاحب: فأنت أبوبكر
_________
[٦٩] الوفيات ٤: ٤٠١، وينظر الشذرات ٣: ١٠٥.
[٧٠] في الأدب العباسي: ٥٩، وقد سبق الدكتور زكي مبارك إلى شيء من هذا الرأي في النثر الفني ٢: ١٦٠.
[٧١] خاص الخاص: ٦٤.
1 / 24