المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمّد وآله
رأيت في أوّل نسخة الشيخ الإمام أبي بكر محمّد بن الأنباري اللغوي، وهي التي قرأها على أبي العباس أحمد الأحوال اللغوي ما صورته: " وهي مكتوبة بخط علي بن عبد العزيز كاتب أبي عبيد وراويته " وقال علي بن عبد العزيز كاتب أبي عبيد القاسم بن سلام: كتبت هذا الكتاب من نسخة أبي عبيد من خطه بيده، وعارضت بها حرفًا حرفًا، ثم قرأناه على أبي محمّد سلمة بن عاصم النحوي، صاحب الفراء، فزادنا فيه أشياء ألحقتها في حواشي الكتاب، ثم قرأته على أبي عبد الله الزبير بن بكار، وهو قاضي أهل مكة، فكتبت أيضًا ما زادنا فيه، ونسبت ذلك
1 / 33
إليه، فوجدت خط أبي عبيد هذا كتاب الأمثال، وهي حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حولت من حاجتها في المنطق، بكناية غير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاثة خلال، إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه. وقد ألفناها في كتابنا هذا على منازلها، ولخصنا صنوفها، وذكرنا المواضع التي يتكلم بها فيها، وتضرب عندها، وإسنادها إلى علمائها، واستشهدنا بنوادر الشعر عليها، أو على ما أمكن منها. وكان مما دعانا إلى تأليف هذا الكتاب وحثنا عليه ما روينا من الأحاديث المأثورة عن النبي ﷺ إنّه قد ضربها وتمثل بها هو ومن بعده من السلف. وقد ذكرنا بعض ذلك ليكون حجة لمذهبنا. فكان مما حفظ عنه ﷺ منها المثل الذي ضربه للإسلام والقرآن، وهو قوله ﷺ: ضرب الله مثلا صراطا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سور فيه أبواب مفتوحة، وعلى تلك الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داعٍ يقول: أدخلوا الصراط ولا تعوجوا ".
قال: فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي: القرآن.
ومن الأمثال أيضًا: قوله ﷺ:
1 / 34
مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح مرة ههنا، ومرة ههنا، ومثال الكافر كمثل الازرة المجذية على الأرض حتى يكون انعجافها مرة ".
ومنها قوله حين ذكر الفتن والحوادث التي تكون في آخر الزمان، فقال حذيفة بن اليمان: ابعد هذا الشر خير؟ فقال: هدنة على دخنٍ، وجماعة على أقذاءٍ. فقيل له: وما هو؟ فقال: " لا ترجع قلوب قوم على ما كانت ".
قال أبو عبيد: فقد علم إنَّ الأقذاء إنّما تكون العين أو في الشراب، وإنَّ الدخن إنّما هو مأخوذ عن الدخان، فجعل ذلك رسول الله ﷺ مثلا لنغل القلوب وما فيها من الضغائن والأحقاد.
ومنها حديثه ﷺ حين ذكر الدنيا وزينتها فقال: وإنَّ ما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم فأراد ﷺ إنّها، وإنَّ كانت ذات زهرة وجمال، فقد تؤول بصاحبها، إذا سلك بها غير القاصد، إلى سوء المغبة، كما أنَّ آكلة الخضر من الماشية إذا لم تقصد في مراعيها آل ذلك بها إلى أنَّ تستوبله حتى تحبط عنه بطونها فتهلك. ومنها قوله ﵇ لأبي سفيان بن حرب: أنت يا أبا سفيان كما قيل: كل الصيد في جوف الفرا. أي انك في الرجال كالفرأ
1 / 35
في الصيد، وهو الحمار الوحشي، قال له ذلك يتألفه على الإسلام. ومنها قوله حين ذكر الضرائر فقال: ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها فقد علم إنّه لم يرد الصفحة الخاصة، إنّما جعلها مثلًا لحظها من زوجها، يقول: إنّه إذا طلقها لقول هذه كانت قد أمالت نصيب صاحبها إلى نفسها.
ومنها قوله ﷺ حين ذكر الغلو في العبادة فقال: إنَّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى يقول: إنَّ هذا إذا كلف نفسه فوق طاقتها من العبادة بقي حسيرا، كالذي أفرط في إغذاذ السير حتى عطبت راحلته، ولم يقض سفره.
ومنها قوله ﷺ: وإياكم وخضراء الدمن. قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: " المرأة الحسناء في منبت السوء ". ومنها قوله ﷺ حين ذكر كثرة الربا في آخر الزمان فقال: من لم يأكله أصابه من غباره. فقد علم إنّه ليس ثم غبار، وإنّما هذا مثل لمّا ينال الناس منه. ومنها قوله ﷺ:
1 / 36
الإيمان قيد الفتك. فقد علم إنّه ليس هناك قيد. ولكنه جعل منع الإيمان إياه تقييدًا. ثم قال:
الحرب خدعة " قال علي: قال أبو محمّد سلمة: من قال: الحرب خدعة فمعناه إنّه من خدع فيها خدعة فزلت قدمه وعطب فليس له إقالة، ومن قال خدعة أي إنّها تخدع أهلها، ومن قال: الحرب خدعة بضم الخاء وتسكين الدال فهي تخدع أحد الفريقين صاحبه فكأنما خدعت هي. قال أبو عبد الله الزبير بن بكار القاضي: هي عندنا خدعة قال الزبير: حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله ﷺ: " الحرب خدعة " قال علي: فقلت للزبير: أتراها محكية؟ قال: نعم " وقال في فرس ركبه: وجدته بحرًا. وقال أيضًا: إنَّ من البيان لسحرًا. وقال في أهل الإسلام وأهل الشرك:
1 / 37
لا تراءى نارهما. وقال: للعاهر الحجر. وقال: لا ترفع عصاك عن اهلك. فقد علم إنّه لم يرد ضربهم بالعصا، إنّما هو الأدب، وكذلك الحجر، إنّما معناه إنّه لا حق له في نسب الولد. وقوله ﷺ: لا يلسع المؤمن من جحرٍ مرتين. وفي أشياء كثيرة لا تحصى، من الأمثال عنه ﷺ، ثم جاءت عمن بعده من الصحابة وغيرهم، وقد ذكرنا ذلك عنهم في مواضعه ووجوهه مفسرًا. وهذا:
1 / 38
بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أبواب الأمثال في وصف المنطق
باب المثل في حفظ اللسان وما يؤمر به منه للتقوى وسلامة الدين مع الموعظة فيه.
قال أبو عبيد: وجدنا من الأمثال في حفظ اللسان والحض عليه قول عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره ما على الأرض شيء أحق بطول سجن لسان.
فجعل عبد الله الفم للسان سجنا يمنعه من الجهل والزلل، كما يحبس أهل الدعارة في السجون.
ومنها قول انس بن مالك: ما اتقى الله أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه.
فجعل الفم للسان خزانة، كما جعل أبن مسعود له سجنًا.
ومنها قول شداد بن أوس الأنصاري: ما تكلمت بكلمة منذ كذا وكذا حتى أخطمها وأزمها.
1 / 39
قال أبو عبيد: فقد علم إنّه ليس هناك خطام ولا زمام، وإنّما جعل هذا مثلا لمنعه لسانه من بوادر الفلتات والخطأ.
ومنها قول شريح بن الحارث قاضي الكوفة لرجل سمعه يتكلم
امسك عليك نفقتك
قال أبو عبيدك فجعل النفقة التي يخرجها من ماله مثلًا لكلامه. وقد جاءنا في بعض الحديث إنّه قال: " ما صداقة الفضل من صداقةٍ من قول ".
ومنها قول عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم.
قال أبو عبيد: فقد علم إنّه ليس هناك لجام، إنّما هو كنحو ما ذكرناه من سجن اللسان وخزنه وحفظه وخطمه وزمه ويقال في نحو من هذا: من أغتاب خرق، ومن استغفر رقع.
ويقال: " رفأ " وكذلك قولهم: من صدق الله نجا.
وفي حديث آخر مرفوع " وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم ".
1 / 40
باب حفظ اللسان لمّا يخاف على أهله من عقوبات الدنيا
قال: أبو عبيد: من أمثالهم في هذا مقالة أكثم بن صيفي التميمي: مقتل الرجل بين فكيه.
يعني لسانه. والفكان: اللحيان. وقال بعض العرب لرجل وهو يعظه في حفظ اللسان: إياك أنَّ يضرب لسانك عنقك.
ومنه قول الشاعر:
رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا
ومنه قول أكثم بن صيفي أيضًا: رب قولٍ أشد من صولٍ.
وقد يوضع هذا المثل أيضًا فيما يتقى من العار. ومن كلام أكثم أيضًا في حفظ اللسان من خطأ القول وهذره: ولكل ساقطة لاقطة.
قال أبو عبيد: وهذا تحذير من سقط الكلام، يقول: إنَّ في الناس من يلتقطه فينميه ويشيعه حتى يورط قائله، فأحذره.
1 / 41
وقال الأصمعي واسمه عبد الملك بن قريب: من أمثالهم في التحفظ: ربما أعلم فأذر.
يريد إني قد أدع ذكر الشيء وأنا به عالم لمّا أحاذر من غبه. قال أبو عبيد: ومن جناية اللسان على صاحبه قولهم: محا السيف ما قال ابن داره أجمعا وهو سالم بن دارة بني عبد الله بن غطفان، وكان هجا بعض بني فزارة فأغتاله الفزاري حتى ضربه بسيفه. قال أبو عبد الله الزبير بن بكار القاضي: هو سالم بن دارة، وكان اسم دارة مسافعا. ضربه زميل بن أبي أبرد الفزاري ثم المازني، وكان يعرف بأمه أم دينار، قال: فأخبرني محمّد بن الضحاك عن أبيه قال: مسافع أبو سالم لزميل بعد أن أمن: ويحك يا زميل، لم قتلت سالمًا؟ فقال: أحرقني بالهجاء، قال: أنت أشعر الناس حين تقول:
أجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق
قال: أبو عبيد: وأخبرني الأصمعي عن أبي الأشهب العطاري قال: كان يقال: إذا وقي الرجل الشر لقلقه وقبقبة وذبذبه فقد وقي.
قال: فاللقلق: اللسان،
1 / 42
والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج. وفي بعض الأحاديث " إنَّ أبن آدم إذا أصبح كفَّرت أعضاؤه للسان فتقول له: أتق الله فأنك إنَّ استقمت استقمنا، وإنَّ اعوججت أعوججنا " ومن أمثالهم المعروفة في هذا: " من صدق الله ﷿ نجا " يكون في القول والعمل جميعا.
ويروى عن يونس بن عبيد إنّه قال: ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل وهي أحرى أنَّ تكون جامعة لأنواع الخير كلها فيه حفظ اللسان.
باب الاقتصاد في المنطق وما يتقى فيه من الإكثار والهذر
قال أبو عبيد واسمه معمر بن المثنى: من أمثالهم في هذا: من أكثر أهجر.
قال أبو عبيد: يعني أنَّ المكثر ربما خرج إلى الهجر، وهو الكلام القبيح. وقال أكثم بن صيفي: المكثار كحاطب الليل.
قال أبو عبيد: وإنّما شبهه بحاطب الليل لأنه ربما نهشته الحية أو لسبته العقرب في احتطابه ليلا، قال: فكذلك هذا المهذار ربما أصابه في إكثاره بعض ما يكره وقال أكثم أيضًا: الصمت يكسب أهله المحبة وقال غيره من الحكماء
1 / 43
الندم على السكوت خير من الندم على القول. وقال الثالث: عيي صامت خير من عيي ناطق. وقال بعض أشياخنا: كان ربيعة الرأي مكثارًا، فسمعا أعرابي يومًا يتكلم، فلما كان عند انقضاء مجلسه سأله رجل: ما تعدون العي عندكم بالبادية؟ فقال الأعرابي: ما هذا فيه منذ اليوم، يعني إكثار ربيعة. ويروى في الحديث عن لقلمان الحكيم إنّه قال: الصمت حكم وقيل فاعله وقال علقمة بن علاثة الجعفري، وكان من حكماء العرب.
أول العي الاختلاط وأسوء القول الإفراط
باب القصد في المدح وما يؤمر به من ذلك
قال أبو عبيدة: من أمثالهم في هذا:
1 / 44
من حفنا أورافنا فليقصد. ويقول: من مدحنا فلا يغلون في ذلك. ولكن ليتكلم بالحق منه. قال أبو عبيد: ومنه حديث مرفوع " أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ فقال: أنت أفضل قريش قولًا، وأعظمها طولًا. فقال النبي ﵇: يا أيّها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان ". وروينا عن علي بن أبي طالب ﵁ " إنَّ رجلًا أثنى عليه في وجهه فقال له علي: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.
قال أبو عبيد: ترى معناه إنّه أتهمه بأنه يصفه بخلاف ما في قلبه وكان مورج العجلي يقول: من أمثالهم في إفراط المادح أنَّ يقولوا: شاكه أبا فلانٍ.
قال: وأصل هذا إنَّ رجلا كان يعرض فرسا له، فقال له رجل: أهذه فرسك التي كنت تصيد عليها الوحش؟ فقال له رب الفرس: شاكه أي قارب في المدح، والمشاكهة للشيء هو الذي يشبهه أو يدنو من شبهه. قال أبو عبيد: والعامة تقول في هذا المثل: دون ذا ينفق الحمار وكلام العرب هو الأول. ومن هذا قولهم:
1 / 45
لا تهرف بما لا تعرف والهرف هو الإطناب وفي الثناء والمدح، ويروى عن وهب بن منبه إنّه قال: إذا سمعت الرجل يقول فيه من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أنَّ يقول فيك من الشر ما ليس فيك.
باب الحض على صدق الحديث والنهي عن الكذب
وقال أبو عبيد من أمثالهم فيما يحثون عليه من الصدق قولهم: سبني وأصدق يقول إني لا أبالي إنَّ تسبني بما أعرفه من نفسي بعد أنَّ تجانب الكذب. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم: إنَّ خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوء.
حكي هذا عن عمر بن عبد العزيز يضرب للرجل يكذب ليتعذر من شيء فعله. قال أبو عبيد: وهذا كالمثل الذي تتكلم به العامة: عذره أشد من جرمه وقال بعضهم: دع الكذب حيث ترى إنّه ينفعك فانه يضرك وعليك بالصدق حيث ترى إنّه يضرك فانه ينفعك. وقال: رجل من الحكماء: لا تكذبن ولا تشبهن بالكذب وروينا عن أبن العباس وعائشة انهما قالا:
1 / 46
الحدث حدثان، وحدث من فيك وحدث من فرجك وقال بعض العلماء لقوم: أعيدوا الوضوء فأن بعض ما تذكرون شر من الحدث.
باب الرجل يعرف بالكذب حتى يرد صدقه لذلك
الأصمعي أو غيره قال: من هذا المثل قولهم: إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح.
قال: وأصله أنَّ اليقين بالبادية ينتقل في مياههم، ويقيم بالموضع أياما فيكسد عليه عمله، ثم يقول لأهل الماء: إني راحل عنكم الليلة، وإنَّ لم يرد ذلك، ولكنه يشيعه ليستعمله من يريد استعماله فكثر ذلك من قوله حتى صار لا يصدق. يضرب به للرجل يعرفه الناس بالكذب فلا يقبل قوله وإنَّ كان صادقا: قال نشهل بن حري الدارمي:
وعهد الغانيات كعهد قين ... ونت عنه الجعال مستذاق
وقال أبو عبيد: ومنه المثل السائر في العامة: من عرف بالصدق جاز كذبه ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
قال: أبو عبيد ومما يحقق هذا المثل حكم الله ﵎ في الشهادة إنّها مردودة من أهل الفسوق، ولعلهم قد شهدوا بحق. وقال بعض الحكماء:
1 / 47
الصد عز والكذب خضوع وقال آخر: لو لم يترك العاقل الكذب إلاّ مروءة لقد كان حقيقًا بذلك، فكيف وفيه المأثم والعار. وحكي الكسائي عن لسان العرب: إنَّ المرء ليكذب حتى يصدق فما يقبل منه.
باب الانتفاع بالصدق والمخافة من عاقبة الكذب
قال أبو عبيد: من أمثالهم فيما يخاف من مغبة الكذب قولهم: ليس لمكذوب رأي.
وكان المفضل بن محمّد الضبي، فيما بلغني عنه، يحدث إنَّ صاحب هذا المثل هو العنبر بن عمرو بن تميم بن مر، وقاله لأبنته الهيجمانة، وذلك إنَّ عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها، فنهاه قومه عن ذلك، فأبى حتى وقعت الحرب بين قومه وبين قومها، فأغار عليهم عبد شمس في حيشه، فعلمت به الهيجمانة فأخبرت أباها، قال: وقد كانوا يعرفون إعجاب الهيجمانة به كإعجابه بها. فلما قالت هذه المقالة لأبيها قال مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: حنت ولا تهنت وأني لك مقروع.
1 / 48
قال: ومقروع هو عبد شمس بن سعد بن زيد مناة، كان يلقب به، فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنية اصدقيني، أكذلك هو فأنه لا رأي لمكذوب فقالت: ثكلتك إنَّ لم أكن صدقتك
فانج ولا إخالك ناجيًا
فذهبت كلمته وكلمه وكلمتها وكلمة مازن أمثالا. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم فيما يخاف من غب الكذب قولهم: لا يكذب الرائد أهله.
وهو الذي يقدمونه ليرتاد لهم كلأ أو منزلا أو ماء أو موضع حرز يلجؤون إليه من عدو يطالبهم، فإنَّ كذبهم أو غرهم صار تبذيرهم على خلاف الصواب، فكانت فيه هلكتهم. قال أبو عبيد: ومثل العامة في هذا قولهم: الكذب داء والصدق شفاء.
وذلك إنَّ المصدوق يعمل على تقدير يكون فيه مصيبا، وإنَّ المكذوب على ضد ذلك
باب تصديق الرجل صاحبه عند إخباره إياه
قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا: صدقني سن بكره.
قال الأصمعي: وأصله أن رجلًا ساوم رجلا في بكرٍ أراد شراءه، فسأل البائع عن سنه فأخبره بالحق، فقال المشتري: صدقني سن بكره فذهبت مثلا. قال أبو عبيد: وهذا المثل نرويه عن على بن أي طالب ﵁، إنّه أتي فقيل له: إنَّ بني فلان وبني فلان اقتتلوا
1 / 49
فغلب بني فلان، فأنكر ذلك، ثم أتاه آخر فقال: بل غلب بنو فلان " للقبيلة الأخرى " فقال علي: " صدقني سن بكره " وقد روي هذا المثل عن الأحنف بن قيس أيضًا إنّه خرج من عند معاوية وهو يقول: " صدقني سن بكره " وذلك لكلامٍ كان معاوية كامه به. قال أبو عبيدة: ومن أمثالهم في التصديق قولهم: القول ما قالت حذام.
قال أبو عبيدة: وسمعت أبي عبيدة وأحسبه أبن الكلبي، يقول: إنَّ هذا المثل للجيم بن صعب والد حنيفة وعجل أبني لجيم، وكانت حذام امرأة، فقال فيها زوجها لجيم:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإنَّ القول ما قالت حذامِ
هكذا ينشد بالخفض، مثل: رقاش وقطامِ ونحو ذلك، وهو موضع رفع. ومن التصديق حديث لبي بكر ﵀ حين قالت له قريش: هذا صاحبك يخبر أنه سرى في ليلة إلى بيت المقدس وانصرف، فقال: إن كان قاله فقد صدق، فسمي بذلك الصديق.
باب الرجل المعروف بالكذب تكون منه الصدقة الواحدة أحيانًا
قال أبو عبيدة: من أمثالهم في هذا: إنَّ الكذوب قد يصدق.
قال أبو عبيدة: وهذا المثل قد يضرب أيضًا للرجل تكون الإساءة هي الغالبة عليه، ثم تكون منه الهنة من الإحسان. قال أبو عبيدة: ومثله قولهم: مع الخواطئ سهم صائب.
وهذا نحو قول العامة.
1 / 50
رُبَّ رميةٍ من غير رامٍ
باب الرجل المعروف بالإصابة والصدق تكون منه الزلة والسقطة
قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا:
لا يعدم الحسناء ذمًا قال أبو عبيد: والذم: هو العيب وفيه لغتان ذم وذيم. ومنه قولهم: لكل جوادٍ كبوة، ولكل صارمٍ نبوة ولكل عالمٍ هفوة.
ومثل العامة في هذا.
إنَّ الجواد قد يعثر
قال أبو عبيد: وقد يضرب هذا المثل في غير المنطق أيضًا، وذلك كالرجل يكون الغالب عليه أفعال الأمور الجميلة، ثم تكون منه الهفوة والزلة. ومثله قول أبي الدرداء الأنصاري: من لك بأخيك كله.
وكذلك قولهم: أيُّ الرجال المهذب.
ومنه قول النابغة الذبياني:
ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه ... على شعثٍ أيُّ الرجال المهذبُ
قال أبو عبيد: معاني هذه الأمثال كلها أنه ليس أحد يخلو من عيب يكون فيه، فإذا كان الغالب على الرجل الإحسان اغتفرت سقطته. ومنه الحديث المرفوع:
1 / 51
أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.
وكذلك مقالة أبي عبيدة بن الجراح لعمر: ما سمعت منك فهةً في الإسلام قبلها.
وكان عمر قد قال له: " ابسط يدك أبايعك ".
باب إصابة الرجل في منطقه مرة وأخطائه مرة
قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا أن يقال: شخبٌ في الإناء وشخبٌ في الأرض.
قال: واصله الحالب يحلب فيصيب مرة فيسكب في إنائه، ويخطئ مرة فيحلب في الأرض. يضرب للرجل يخطئ ويصيب. قال الأصمعي: هو يشوب ويروب.
قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم: يشج مرةً ويأسو مرةً.
أي يفسد أحيانًا، ويصلح أحيانًا. وقال الأحمر: ويقال في نحو هذا:
1 / 52