كلمة المؤلف
1 - الفنان النبيل
2 - الطموح
3 - الثورة
4 - في مدينة مرو
5 - إلى عروس المشرق
6 - مصير الفنان
7 - العرس
كلمة المؤلف
1 - الفنان النبيل
2 - الطموح
3 - الثورة
4 - في مدينة مرو
5 - إلى عروس المشرق
6 - مصير الفنان
7 - العرس
أمير قصر الذهب
أمير قصر الذهب
تأليف
طاهر الطناحي
كلمة المؤلف
أ
هذه القصة من قصص الحضارة العربية، أو قصص الحياة الذهبية في عصر الترف والذهب، والمتاع والطرب، ورخاء الفن والأدب ... وهي من صور السياسة والاجتماع، في زمن امتزجت فيه السياسة بنواحي الحياة العامة في شتى صورها؛ فكان للأدباء والعلماء، والفلاسفة والفقهاء، نصيب فيها وأي نصيب!
وقد ظهرت من هذه القصص الحلقة الأولى في كتاب «على ضفاف دجلة والفرات» حوى خمس عشرة قصة، صدرت منذ عامين، ولقيت من خاصة القراء وعامتهم تقديرا أعجز عن شكره، بل أخجل من ذكره.
أما هذه الحلقة فهي قصة واحدة تصور ألوانا من الحياة السياسية والفنية والاجتماعية، وتحلل شخصية من أهم شخصيات التاريخ، وأميرا من أشهر أمراء بني العباس. وقد سميتها «أمير قصر الذهب» وهو اسم براق؛ لأنه كان يسكن قصر جده أبي جعفر المنصور المعروف بقصر الذهب، وهو أحد القصور الشهيرة التي بناها في بغداد. ثم لأن عصره كان عصرا ذهبيا، فكان الذهب من ألمع مفاخره وأكثرها تداولا وزخرفا: في وجوه الدنانير التي كانت تعد بمئات الألوف، وفي نفائس الحلي والمقتنيات، وفي الأثاث والرياش، وبدائع القصور.
على أن الفن والثورة هما أبرز خصائص هذا الأمير الفنان؛ فقد كانت حياته مزيجا من الفن والسياسة، والقديم والجديد، واللهو والجد، والزهد في أبهة الملك والطمع فيه. وكانت له آمال وأحلام جسام، وجمع إلى فن الأدب فن الطرب، وكان شاعرا فقيها، وزعيما مجددا في الغناء والموسيقى. ثم أراد - إلى ذلك - أن يكون أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين، وملكا للعرب والعجم!
عاش «إبراهيم بن المهدي»
1
في عصر أخيه هارون الرشيد، ثم محمد الأمين، ثم عبد الله المأمون، ثم أبي إسحق المعتصم، وهو العصر الذي بلغ فيه الغناء والموسيقى العربية أعلى مكان من الإتقان والإبداع، وظهر فيهما فطاحل المغنين والمطربين: كإسماعيل بن جامع، وإبراهيم الموصلي، وإسحق الموصلي، وغيرهم. ولكنه كان - بما وهب من جمال الصوت والنبوغ الفني - في المقدمة بينهم. وقد تزعم حركة لم يتزعمها أحد قبله، وهي حركة التجديد، فابتدع لنفسه مذهبا، وابتكر ألوانا من الأنغام والألحان سجلها له تاريخ هذا الفن على الرغم مما وقع بينه وبين إسحق الموصلي من معارك.
وكان الخليفة المأمون في أوج مجده وذروة سلطانه يوم ثار عليه إبراهيم وخلعه، وبايع لنفسه بالخلافة في العراق، وجلس على أريكة الملك، وحشد الجيوش لمحاربة ابن أخيه، ولم يخش بأسه وما كان عليه من تأييد الخراسانيين له وضخامة قوتهم حوله، وما أصاب من عدة ومال ورجال؛ لأن طموحه كان يدفعه إلى تحقيق أحلامه في العرش، وكانت تلك الأحلام تساوره منذ مات الرشيد. ولم يكن الغناء يعيبه؛ لأنه لم يتخذه حرفة وتكسبا، بل تعاطاه تلذذا ومتاعا.
ب
وفن الغناء والموسيقى من الفنون الرفيعة، وهو محبوب في الإسلام. وقد كان بعض الخلفاء والأمراء يمارسونه ويدرسونه ويقربون أهله، ويقيمون المسابقات بين المغنين، ويجزلون لهم العطاء. وبلغ من إكرام الوليد بن اليزيد للفنان الشهير «معبد» أنه لما مرض آواه في قصره وتعهده بحسن رعايته، حتى مات فشيع جنازته هو وأخوه «الغمر» إلى مقره الأخير.
وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لعائشة: «أهديت الفتاة إلى بعلها؟» قالت: «نعم.» قال: «فبعثت معها من يغني؟» قالت: «لا.» فقال النبي: أوما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغناء؟ ألا بعثت معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا
ء لم نحلل بواديكم
وحدث أن النبي
صلى الله عليه وسلم
مر بجارية تغني:
هل علي ويحكم
إن لهوت من حرج
فابتسم النبي وقال: «لا حرج إن شاء الله.»
وحسب النبي العربي حبا للصوت الجميل وتقديرا له أنه اختار بلال بن رباح مؤذنا لمسجده، وكان يؤذن بصوت مؤثر، ويرتل الأذان بأنغام حلوة شجية.
ولما رجع النبي
صلى الله عليه وسلم
منتصرا من إحدى غزواته قالت له زوجه عائشة: لقد أقسمت شيرين، مولاة حسان بن ثابت ، إن رجعت منصورا من غزوتك أن تغني وتضرب بالرق في بيتنا، فماذا ترى؟
فابتسم النبي وأذن لها في الغناء والعزف في بيته، وجلس مع بعض أهله وصحابته ومنهم الصديق أبو بكر يستمعون لشيرين.
ذلك لأن الغناء هو لغة الحياة والوجدان ونشيد الوجود لكل موجود، فالطيور في خمائلها، والوحوش في مجاهلها، والدواب في أكنانها، والبلابل على أفنانها، تترجم عن حياتها، وتترنم بشعورها، كلما صفت نفسها وأحست بجمال الحياة، ونشوة الوجود. ولا شيء يعدل الغناء والموسيقى في تنبيه العواطف وإثارة الهمم، وتهيئة النفوس لقبول الكمالات، وتوجيهها توجيها حسنا صالحا. قال أفلاطون:
من حزن فليستمع إلى الأصوات الجميلة؛ فإن النفس إذا حزنت خمد نورها، فإذا استمعت لما يطربها اشتعل منها ما خمد وتحرك فيها ما جمد.
وقد كان بإسبارطة فتنة خطيرة شملت أنحاء المدينة، وانتظمت جميع سكانها، واستحال على ولاة الأمور إخمادها، ففكر بعضهم في جمع الموسيقيين وتوزيعهم بين المتنازعين - وفعلوا - فأشاعوا بينهم الأنغام والألحان، فصفت نفوسهم، وطابت قلوبهم، وهدأت أعصابهم، وزالت عنهم أسباب الخصام.
وروى أبو بكر الدينوري حادثة شاهدها فقال:
كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منها وأدخلني خباءه، فرأيت فيه عبدا أسود مقيدا بقيد، ورأيت قبالته جمالا قد ماتت، وبقي منها جمل ناحل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: «أنت ضيف مولاي اليوم ولك أن تشفع لي عنده، فإنه مكرم ضيفه ولا يرد شفاعتك.»
فلما حضر الطعام قلت: «والله لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد.»
فقال: «إن هذا العبد أفقرني، وأهلك جميع مالي.»
قلت: «ماذا فعل؟» قال: «إن له صوتا جميلا، وإني أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالا ثقالا، وأخذ يحدو لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمه، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل. ولكن أنت ضيفي، فلكرامتك وهبته لك.»
فأحببت أن أسمع صوته، وأصبحنا، فأمره أن يحدو بي على جمل قوي ليستقي الماء من بئر هناك. فلما رفع صوته هام الجمل على وجهه فوقعت على الأرض ، وما أظن أني سمعت قط صوتا أحسن منه!
والغناء والموسيقى وسيلة من وسائل التربية وعلاج النفس والجسم من الأمراض،
2
ومقياس لتقدم الشعوب ورقي أفرادها. وأنت تستطيع أن تحكم على الحالة الاجتماعية لكل أمة بنوع موسيقاها وما تتغنى به من أشعار وأقوال، فإن كانت من ذوات الهمم العالية أو كانت من الأمم الذليلة المستضعفة بدا ذلك واضحا في قوة غنائها وارتقائه أو في ضعفه وانحطاطه.
ولهذا نستطيع أن نحكم على حياة العباسيين في العصر الذي عاش فيه إبراهيم بن المهدي بغنائه؛ فقد كان غناء يشيع فيه تمجيد البطولة وصفات الكرم والشمم والإباء، ولكنه شاع فيه أيضا طابع العصر من الميل إلى اللهو والترف، والتحرر من بعض النواهي، والإغراق في الملاذ.
ج
وقد كانت الحقبة التي وقعت فيها حوادث هذه القصة حقبة اضطراب وفتن سياسية، غير أنها من الوجهة الاجتماعية حافظت على الطابع العام لذلك العصر الذي ساد فيه الرخاء بالعراق، وكانت الأموال تنصب فيه على بغداد انصبابا؛ فكان البذخ والتأنق في المأكل والملبس والمسكن لا يقتصران على الخلفاء والأمراء، بل يتعديانهم إلى الكثيرين من السكان. وقد تنافسوا في ضروب من اللهو وألوان المتاع، وتسابقوا في بناء القصور، وتجميل المنازل وتنسيق البساتين، واقتناء الأثاث والرياش الثمين، والتحلي بالجواهر النفيسة، والاستكثار من الجواري الحسان ولطيف الخدم والغلمان.
وأدى رخاء هذا العصر وغضارة العيش فيه إلى تفنن أهله في الملاذ، والإقبال على شرب الخمور بين الأثرياء والأدباء، وكان النبيذ أكثرها شيوعا في العراق، وكان الخلفاء يستحلونه على أنه غير مسكر، وصار شربه عادة مألوفة في مجالس الغناء والموسيقى.
وأدخل العباسيون أسباب الأبهة والفخامة التي كانت للأكاسرة في قصورهم ومجالسهم وسائر أحوالهم، فاتخذوا المقاعد المطعمة والطنافس المطرزة، والوسائد الموشاة، والستور المحلاة بالنقوش البديعة، وزينوا السقوف والجدران بالرسوم الذهبية والفضية الممثلة لما في البر والبحر والجو من حيوان وأشجار وأطيار ومدن وأنهار، وربما حلوا ستائرهم بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية ومأثور الحكم والأشعار.
وقد أقام الخلفاء الحجاب، ونظموا المقابلات بالاستئذان لغير الأمراء. وكانت التحية على الخليفة «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»، وقد يقبلون الأرض أمامه، أو يقبلون يده على حسب الأقدار.
وكانت الأفضلية في الجلوس بين يدي الخليفة في ذلك العهد لبني هاشم: فيجلس الخليفة على السرير أو السدة، ويجلس بنو هاشم على الكراسي عن يمينه، والوزراء على الكراسي أو الوسائد عن يساره، ويليهم سائر الطبقات.
ولا ينصرف أحد من مجلس الخليفة إلا إذا نهض أو أذن له بالانصراف، ولا يبدأ أحد بمحادثة الخليفة إلا إذا بدأه. وقد أباح الخليفة المأمون الكلام في مجالسه للمناظرة في العلم والأدب. وكانت مجالسه لا تخلو من ذوي الظرف والخفة والفكاهة. وكان الحديث يجري باللغة العربية الفصحى، كما أن الغناء كان بهذه اللغة، ولم يقتصروا فيه على أشعار الحب والهيام، بل تناولوا كثيرا من الأغراض حتى الرثاء.
وكان الخليفة إذا أراد أن يصرف جلساءه قال لهم: «إذا شئتم.» أو «على بركة الله.» أو غير ذلك حسب الأحوال. ومن انصرف من حضرة الخليفة مشى القهقرى، ووجهه نحو الخليفة حتى يتوارى.
وكان التطيب بأنواع الطيب من دلائل النبل عندهم. ومن أقوالهم: «ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكبا، ورجل سمعته يعرب كلامه، ورجل شممت منه طيبا.» وكانوا لاقتباسهم من حضارة الفرس يقلدونهم في الملابس، وبخاصة الملوك والأمراء ورجال الحكومة وأهل الثراء، فلبسوا الأقبية والطيالسة والخفاف والجوارب، مع بقاء العامة على ألبسة العرب. ثم اختصت كل طبقة بزي خاص: فالفقهاء والعلماء كانوا يلبسون عمامة سوداء ومبطنة وطيلسانا أسود، والقضاة يلبسون القلانس الطوال والطيالسة الرقاق. وأما غيرهم من الطبقات فاختلفت ملابسهم باختلاف أحوالهم.
وكانت بغداد في ذلك الزمان عروس الشرق والغرب، وعاصمة الحضارة العربية بما جمعت من علم وأدب وثروة وطرب، وما حوت من فن وافتنان وأنس وجمال، فلا عجب أن يظهر فيها من رجال الدين والدنيا من برزوا في العلوم، ونبغوا في الفنون، وكانوا أئمة خالدين، وقادة مجددين، ونوابغ ثائرين، كالأمير الفنان والثائر الألمعي إبراهيم بن المهدي.
طاهر الطناحي
الفصل الأول
الفنان النبيل
أشرقت الشمس على ربوع بغداد في موكب حافل بالجلال والبهجة والجمال، وكان اليوم باسما حلوا نديا، وكان في روائه وطيبه مونقا صفوا زكيا. كان من أيام الربيع الضاحك الطروب، الرائع في بهاء طلعته، المختال بسحر فتنته، الشادي بأنغام الحياة وألحان الوجود.
وجلس إبراهيم بن المهدي بين مباهج هذا اليوم الوسيم على سرير من الأبنوس في شرفة قصر الذهب - قصر جده المنصور - وعليه قبة فوقها طارمة
1
ديباج أزهر، وهو يتأمل مجالس الطبيعة الحسناء، وينظر في نهر دجلة إلى انسياب الماء في الغضيرة
2
الخضراء، وبين يديه وصائف حسان، كأنهن الياقوت والمرجان، وحوله غلمان كالدنانير.
وكان القصر فخما فاتنا يتألق، قد أبدع فيه صانعه، فحلى جدرانه بصفائح الذهب والفضة والجواهر النفيسة، والألوان الجذابة، والنقوش الدقيقة. وله قبة خضراء تسمو متلألئة في السماء إلى ثمانين ذراعا، كأن الثريا عرست فيها، أو كأن البدر شد في أعاليها.
وقد شاده المنصور في وسط بغداد بالقرب من دجلة بحيث يشرف على سائر أحياء المدينة، وأقام في منتهى قبته فارسا يحمل رمحا يتجه نحو مهب الريح أينما كانت. ثم بنى قصر الخلد، وجعله مقر الخلافة، وكان يسكنه هو وخلفاؤه من بعده. أما قصر الذهب فقد نزله إبراهيم بن المهدي بعد أبيه وجده. وكان إلى جمال بنائه وروعة زخارفه تحيط به الخمائل الغناء، والحدائق الفيحاء، وتعمره الجواري الحسان، وأنغام البلابل والغزلان.
ويعيش فيه إبراهيم في هناءة الحياة الذهبية السعيدة التي عاشها خلفاء بني العباس وأمراؤهم في أوج مجدهم وذروة عظمتهم وضخامة ثروتهم، وكأنما كانوا يحيون في غرف الجنان.
وكان إبراهيم بن المهدي رفيع المنزلة، نبيه الذكر، شريف القدر، زانه الشباب فزاده حسنا وإحسانا. وبسط الله له في جمال الجسم، وحلاوة الصوت، وعذوبة النفس، ودقة الحس، والنبوغ في فني الأدب والطرب، وكان له طلعة سمراء جذابة تتهلل بالملاحة والظرف والنبالة. •••
مكث إبراهيم في شرفة القصر يتأمل ساعة من الزمان تأمل المفكر الفنان، ويستمتع بالرياض المنبسطة في الحدائق الغناء وعلى ضفة النهر كأنما هي رياط
3
السندس أو مدنرات
4
الدمقس، والمياه تجري تحته كالفضة الذائبة، أو سبائك الذهب السائلة، والطيور تغرد على الأفنان بأعذب الألحان. وقد خفت الرياح حتى كادت أن تكون أرواحا تهبط لتتصاعد وتتصاعد لتهبط في طراوة ورشاقة، وفي طيب كأنها تحمل أنفاس العاشقين.
وأخذت الأمير الفنان نشوة الطرب من هذا الجمال الباهر فاهتز النغم في أطواء نفسه، ونهض فنادى جواريه وغلمانه ليقيموا له مجلسا من مجالس أنسه. وأقبلت شارية،
5
وريق، وصدوف، ومعمعة، ومكنونة، ووراءهن الراقصات وحاملو آلات الموسيقى، وانتظموا في صحن القصر، وجلس إبراهيم على سدته، وغنت شارية ثم ريق بعض أغانيه وألحانه على عزف الآلات. وكانت مكنونة تقدم الكأس لسيدها آنا بعد آن حتى ثمل بلذة الألحان، ونشوة بنت الحان، فقام من مجلسه وتناول العود من صدوف، وجلس معهن يعزف ويغني. وكان أجمل أهل عصره صوتا، وأدقهم ذوقا، وأشدهم حبا للابتكار والتجديد، لا يميل إلى المحاكاة والتقليد، ويعيب على «إسحق
6
الموصلي» تعصبه للقديم، مع علو مكانته ونبوغه في صناعته.
وعلا صوت إبراهيم، وانسابت تغاريده في أجواز الفضاء، فهزت كل من سمعها وملكت عليه نفسه، فجلس الناس على شاطئ دجلة وفي البساتين القريبة يستمعون ويطربون، وسكرت الجواري والغلمان بعذوبة ما ابتكر هذا الفنان النابغ من أصوات وأوزان، وسقط الإبريق والكأس من يد مكنونة، وسالت الخمر وهي لا تدري لما نابها من نشوة الطرب والأنغام. •••
نهض إبراهيم بعد ما استوفى تغريدا وتطريبا. وفي المساء خرج إلى قصر أخته علية
7
بنت المهدي بالرصافة، وكان قصرا فخما جميلا بناه أبو جعفر المنصور لوالدها حينما كان وليا للعهد. وكانت كأخيها فنانة أديبة بارعة، بل هي أميرة في نسبها، أميرة في فنها وأدبها، مليحة الوجه واسعة الجبهة اتساعا كانت تتخذ لأجله العصائب المزدانة بالذهب والفضة والجواهر النفيسة، ويقلدها نساء بغداد في زينتها وزيها، ويأخذن عن ذوقها الجميل.
وأقبل إبراهيم على أخته فوجدها جالسة على أريكة من العاج فوق سدة مزدانة بالوشي والديباج، وقد تزيت بزي أميرات بني العباس في ذلك الزمان الناعم النضير، ووقفت خلفها جاريتها الحسناء «خلوب» في رشاقة وظرف، ممسكة بمذبة أنيقة لتذب عنها كعادة بنات الأشراف وسيدات القصور. فحياها وحيته مرحبة مهللة، وقبلت كتفه وقبل رأسها ثم جلس، فقال لها في تجمل ولطف: كيف أنت يا أختي؟ جعلني الله فداءك.
فقالت في رقة وعطف: بحمد الله يا أخي وفضله ورعايته ...
قال لها: وكيف صحة جسمك، وحال نفسك؟
فقالت: صحة سابغة، وعافية كاملة، ونفس مطمئنة، وعيشة راضية.
ونظر إبراهيم إلى «خلوب» وتشاغل بالنظر إليها، فلاحظت علية هذه النظرات، وتنبه لهذه الملاحظة فاستحيا، وخفض رأسه ثم رفعه وقال: وكيف هناؤك في حياتك يا أختي؟ - هناء عظيم أشكر الله عليه، لا ينقصني فيه شيء ولا يشغلني عنه شاغل. - وكيف أوقاتك ومجالس أنسك؟ - إنها طيبة سارة لا حظ للشيطان فيها. - وكيف أنت يا أختي؟ جعلي الله فداءك.
وجذبه النظر إلى «خلوب» فلاحظت أخته، فغض في استحياء ثم عاد يقول: وكيف هناؤك في حياتك يا أختي ... وكيف أوقاتك ومجالس أنسك ... وكيف صحة جسمك وحال نفسك؟
فنظرت إليه في عتاب وقالت: سبحان الله، أليس هذا قد مضى أمره وأجبنا عنه؟!
فازداد خجل إبراهيم وهم لينصرف مستأذنا، فضحكت أخته وقالت: لا بأس عليك يا أخي، اجلس، فوالله إني لمشوقة إلى أنسك، ولن أتركك حتى تسمع ما عندي وأسمع ما عندك!
قال إبراهيم: هات يا علية.
فنادت جواريها وغلمانها، واستدعت أخاها يعقوب بن المهدي وكان يحسن النفخ بالمزمار، وعقدت مجلسا بهيجا مؤنسا وغنت من شعرها:
تحبب فإن الحب داعية الحب
وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصر فإن حدثت أن أخا هوى
نجا سالما، فارج النجاة من الحب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب
وكان إبراهيم يهتز طربا كلما تغنت بمقطع من مقاطع هذه الأغنية، حتى إذا انتهت ناولته العود فأمسك به وغنى من شعره:
أجن بليلى وهي غير سخية
وتبخل ليلى بالهوى وأجود
فطربت علية طربا شديدا، وناولته كأسا من النبيذ وقالت: وحياتي لتغنين.
فعزف إبراهيم، وغنى من شعره:
جدد الحب بلايا
أمرها ليس يسيرا
كبر الحب وقد ما
كان إذ حل صغيرا
ذلل الحب رقابا
كان أدناها عسيرا
ليس لي من حب إلفي
غير حرماني السرورا
فطربت علية، وقامت فعانقته وقبلته في فمه، وقالت بارك الله لك يا أخي، وبارك لنا فيك، ولا فض فوك، وبعد شانئوك.
ثم جعلت تتحدث معه وتروي له من الأدب والشعر ويروي لها كذلك، حتى امتد الحديث إلى ذكر أخيهما هارون الرشيد وأيامه، فقال إبراهيم: حججت مرة مع الرشيد، فبينا نحن في الطريق وقد انفردت وحدي وأنا على دابتي إذ حملتني عيناي، فسلكت بي الدابة غير الطريق، فانتبهت وأنا على غير الجادة، فاشتد بي الحر فعطشت عطشا شديدا، فارتفع لي خباء فقصدته، فإذا بقبة وبجانبها بئر ماء بقرب مزرعة، وذلك بين مكة والمدينة، فاطلعت في القبة، فإذا أنا بأسود نائم، فأحس بي ففتح عينيه ثم استوى جالسا، فإذا هو بشع الصورة، فقلت: يا أسود، اسقني من هذا الماء، فقال محاكيا: يا أسود اسقني من هذا الماء! ثم قال: إن كنت عطشان فانزل واشرب. وكان تحتي برذون خبيث نفور فخشيت أن أنزل عنه فينفر، فضربت رأس البرذون. وما نفعني يا علية الغناء قط كما نفعني في ذلك اليوم.
فقالت علية: «وكيف كان ذلك؟»
قال إبراهيم: لما أجابني الأسود بهذا الجواب سرت ورفعت عقيرتي وغنيت، فلحق بي، وقال: أيما أحب إليك: أن أسقيك ماء وحده، أو ماء وسويقا؟
قلت: الماء والسويق.
فأخرج قعبا له، فصب السويق في القدح، فسقاني، وأقبل يضرب بيده على رأسه وصدره ويقول: «وا حر قلباه يا مولاي، زدني وأنا أزيدك.» وشربت السويق والماء، ثم قال: «يا مولاي إن بينك وبين الطريق أميالا، ولست آمن عليك العطش، لكني أملأ قربتي هذه، وأحملها قدامك.» فقلت له: «افعل.» فملأ قربته وسار قدامي وهو يحجل في مشيته غير خارج عن الإيقاع، فإذا أمسكت لأستريح أقبل علي فقال: «يا مولاي عطشت.» فأغنيه، إلى أن أوقفني على الجادة من الطريق، ثم قال: «سر رعاك الله ولا سلبك ما كساك من هذه النعم.» فلحقت بالقافلة، والرشيد قد فقدني، وبث الخيل في البر لطلبي، فسر بي حين رآني، فأتيته فقصصت عليه الأمر، فقال: «علي بالأسود.» فما كان إلا يسير حتى مثل بين يديه، فقال له: ويلك ما حر قلبك؟
فقال: «يا مولاي، ميمونة.» قال: «ومن ميمونة؟» قال: «حبشية يا مولاي.» فأمر من يستفهمه، فإذا هي أمة لبعض أولاد الحسن بن علي، فاشتراها له، فأبى مواليها إلا أن تكون هدية للرشيد، فوهبها له.
فقالت علية لإبراهيم: رحم الله أخي الرشيد، فقد كان نبيل النفس، عظيم المروءة. لقد فعلها معي، فهذا «طل» الغلام وهبني إياه ليكون في خدمتي وركابي.
فقال إبراهيم:
فإن لم يصبها وابل فطل !
8
فضحكت علية. ثم نهض وودعته أخته، وانصرف إلى قصره، وكان الليل قد انتصف، فأوى إبراهيم إلى مخدعه في سلام.
في ليالي القمر
كانت الليلة التالية ليلة وضاءة صافية من ليالي القمر، وما أدراك ما هذه الليالي الضاحكة القمراء في بغداد عروس المشرق في ذلك الحين؛ فقد كان الناس يخرجون فيها للتزاور وشهود مجالس الأنس والطرب والشراب إلى وقت أخير من الليل، فيأخذون من اللهو ومتاع الدنيا ما شاءت لهم الحياة الرغدة الباسمة التي زخرت بأنواع اللذائذ والسرور على شواطئ الرافدين.
وكان إبراهيم بن المهدي قد اعتاد أن يخرج في هذه الليالي زائرا لبعض آله، أو مؤانسا لأحد أصدقائه، أو مناظرا لخصومه في أغانيه وألحانه. وقد مضى حين من الزمان لم تعكر الأحداث صفو بغداد وما يظلها من سعادة وهناءة عدا مقتل «الأمين»
9
فقد هز هذا الحادث جوانب المدينة، بل جوانب العراق، هزا أليما. وكادت تحدث من أجله فتنة لولا ما كان عليه المأمون من قوة وعزم، وما له من سلطان بين العرب والعجم، فعادت إلى بغداد حياتها الناعمة وحظها السعيد.
وخرج «إبراهيم» في المساء إلى بيت صديقه مخارق المغني في زي العامة من العرب، وقد خلع ملابس الأمراء، فمر في طريقه بدار رشيقة متقنة البناء ينم ظرفها وجمال مرآها على أنها لثري كبير من الأثرياء. وكان هذا الثري يدعى «أبا عبد الله» وهو من كبار تجار العراق الذين امتدت تجارتهم إلى الهند وفارس واليمن وبلاد الأحباش، وقد دعا نخبة من أصدقائه التجار بعد أوبة من أسفاره ليحيي معهم ليلة ساهرة عامرة بالغناء والموسيقى والشراب ورقص الجواري الحسان، وكانت أمثال هذه الليلة تفتن عشاق الطرب من الأمراء والأعيان وأهل الفنون يغشونها سواء أكانوا من المدعوين أم من الهواة المتلذذين. فنظر «إبراهيم» إلى الدار فإذا كف ومعصم لحسناء قد خرجا من إحدى نوافذها، ثم إذا وجه فاتن كأنما هو وجه القمر يطل من هذه النافذة ثم يختفي كالبرق. فاستهواه ما رأى واستثار فؤاده، وهو الشاب الأديب الفنان المملوء حياة وشبابا، وشعورا رقيقا مرهفا، فوقف واجما مفكرا فيمن عسى أن تكون هذه الجارية الفاتنة، وفيما عسى أن يكون في هذه الدار من الأنس والمتاع، ثم إذا بتاجرين من المدعوين قد أقبلا، وسلما عليه، فسلم عليهما، ودخلا الدار، فدخل هو بينهما، وهما يظنانه من أصدقاء صاحب الدار؛ فلم يكن لهما عهد برؤية إبراهيم بن المهدي ومعرفته عن كثب، وكذلك كان أبو عبد الله، فإنه لم يعرفه، ورحب به عند قدومه عليه وظن أنه صديق صاحبيه أتى معهما تفضلا ورغبة منه في المؤانسة والمجالسة، وسماع الغناء مع سائر الأهل والأصحاب.
وجلس إبراهيم معهم متنكرا، وانتهى الطعام وأقبلت جارية حسناء تدعى «خالدة» كانت صاحبة الوجه الفاتن والكف والمعصم، جمعت بين القمر نورا والغصن لينا، وهي كما قال بشار:
بنت عشر وثمان قسمت
بين غصن وكثيب وقمر
وكانت تتهادى في استحياء وتمشي في دلال وتثن كأنما تمشي على عواطفها فتذيب القلوب وتسحر الألباب. ووراء هذه الجارية موكب من الجواري الحسان وملاح الغلمان يحملون آلات العزف والطرب، ثم جلسوا جميعا على تخت بالقرب من فسقية جميلة وفي وسطهم خالدة وغنت لبشار بن برد:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
نفسي يا عبد عني واعلمي
أنني يا عبد من لحم ودم
إن في بردي جسما ناحلا
لو توكأت عليه لانهدم
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجت بالصمت عن لا ونعم
ختم الحب لها في عنقي
موضع الخاتم من أهل الذمم
فما كادت تنتهي حتى امتلك القوم الشجو والطرب، واستعادوها فأعادت الغناء. ثم قال لها إبراهيم: أسمعينا يا خالدة من العباس بن الأحنف. فغنت:
خليلي ما للعاشقين قلوب
ولا للعيون الناظرات ذنوب
ويا معشر العشاق ما أوجع الهوى
إذا كان لا يلقى المحب حبيب
أموت لحيني والهوى لي مطاوع
كذاك منايا العاشقين ضروب
عدمت فؤادي كيف عذبه الهوى
أما لفؤادي من هواه نصيب
فاشتد طرب القوم، وقال إبراهيم: أحسنت والله يا جارية، ولكن بقي عليك شيء! فعز عليها أن ينقدها وقامت نافرة وضربت بعودها الأرض، وصاحت: متى كنتم تحضرون مجالسكم من لا يحسن السماع؟!
وخرجت، فقام إبراهيم في هدوء وثبات، وأخذ العود فأصلحه واندفع يغني بتلحينه:
أسرى بخالدة الخيال ولا أرى
شيئا ألذ من الخيال الطارق
إن البلية من تمل حديثه
فانقع فؤادك من حديث الوامق
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل
مذ بنت قلبي كالجناح الخافق
شوقا إليك ولم تجاز مودتي
ليس المكذب بالحبيب الصادق
وما كاد ينتهي منها حتى خرجت الجارية، فأخذت بيده وجعلت تقبلها وهي تقول: المعذرة يا سيدي، والله ما سمعت أحدا يغني هذا مثلك!
فقال إبراهيم: جعلت فداءك يا خالدة، وما سمعت والله معتذرة أجمل منك! وقام مولاها أبو عبد الله ففعل مثلما فعلت وقال مثلما قالت ورجاه أن يغني صوتا آخر، فغنى من شعر بشار:
أيها الساقيان صبا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الظما وإن دوائي
رشفة من رضاب ثغر برود
ولها مبسم كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل
ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقائي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد
فتأوه جميع السامعين وهتفوا معجبين مكبرين وقالوا: هذا والله الغناء ... هذا والله الغناء!
وجاء من طرب القوم ما كاد يذهلهم، وناشدوا إبراهيم أن يزيدهم، فغنى:
هذا محبك مطوي على كمده
صعب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته
مما به ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفا مستهترا أسفا
كانت منيته في عينه ويده
فطربوا طربا شديدا، وغنى إبراهيم أصواتا أخرى حتى منتصف الليل، ثم انفض المجلس، ونهض الحاضرون للخروج وساروا مودعين من أبي عبد الله، ما عدا إبراهيم فقد رجاه أن يبقى ملاوة
10
من الوقت، فمكث حتى انصرف القوم، فقال له أبو عبد الله: ذهب والله ما خلا من أيامي باطلا إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يرحمك الله؟
فأبى إبراهيم أن يعرفه نفسه، فألح عليه كثيرا حتى أخبره، فبهت الرجل وقال: «الله أكبر، سليل الهاشم، وحفيد العباس، وأمير الغناء عندي ...»
قال إبراهيم: لا تفضحني يا عم يرحمك الله ... فما كان ينبغي أن أغشى دارك في هذه الحال!
فقال أبو عبد الله: لا بأس عليك يا سيدي فإن الدار دارك.
قال إبراهيم: أحمد إليك الله أبا عبد الله ... وأتمنى لك حياة طيبة!
ونهض ليخرج، فقال أبو عبد الله: لا والله حتى تقبل مني «خالدة» جارية لك، فإنك أكرمتني بأنسك، وشرفتني بضيافتك.
فاغتبط إبراهيم بهذه الهدية الحسناء.
الفصل الثاني
الطموح
كان إبراهيم بن المهدي من أنبغ رجال عصره في الغناء والموسيقى، وكان مجددا مبتكرا، ممتازا بطرائق التجديد والابتكار، ينتقد القديم وأنصاره، ويندد بزعمائه وفي رأسهم إسحق الموصلي. ومع أن أمه «شكلة» - بكسر الشين وسكون الكاف - من أب أعجمي يدعى «شاه افرند.» فقد كان إبراهيم أديبا عربيا صميما، خطيبا مصقعا، شاعرا راوية. ولم يكن في لهوه وترفه مستهترا متبذلا. وكان يناظر إسحق في فن الغناء، ويأخذ عليه تعصبه للقديم، فإذا حاجه إسحق في بعض مستحدثاته قال: أنا ملك أغني كما أشتهي!
وقد بقيت الخصومة بينه وبين إسحق في عهود الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم. وكان إبراهيم زعيم المجددين، بينما كان إسحق زعيم المحافظين، وعرفت طريقة الأول بالغناء الحديث، وطريقة الثاني بالغناء القديم.
وكان إسحق الموصلي زعيما في فنه وابن زعيم فيه، وهو إبراهيم الموصلي، وقد اختصا بآل عباس. وكان إسحق يكنى «أبا محمد» ثم كناه الرشيد «أبا صفوان.» وأمه أعجمية من أهل الري تدعى «شاهك».
1
وقد درس علوم اللغة والأدب على الكسائي والأصمعي وأبي عبيدة وغيرهم. وكان فن الغناء - على علو مكانته فيه - أقل ميزاته. وقد وضع أربعمائة لحن من أجود الألحان.
ومات هارون الرشيد وقام النزاع بين الأمين والمأمون على الخلافة، فلم يزج إسحق بنفسه في هذا الخلاف، بل بقي في «بغداد» لخدمة الفن والأدب.
غير أن إبراهيم بن المهدي كانت تنازعه ثورة نفسية منذ مات أخوه الرشيد؛ فكان يرى أنه أحق بالخلافة من الأمين والمأمون، وما دام أبو جعفر المنصور تولى الخلافة بعد أخيه أبي العباس، وما دام الرشيد تولى الخلافة كذلك بعد أخيه الهادي، فلماذا لا يتولاها هو بعد أخيه الرشيد؟ وبأي حق يعهد الرشيد لابنيه بالخلافة من بعده وهما لا يمتازان عنه في شيء؟ بل كان يرى أنه يمتاز عنهما في كل شيء - كان يمتاز عنهما في الأدب واللغة والفن وعلوم الدين، ويمتاز عن الأمين بالفقه والرواية والفصاحة، ولم يكن مغرقا مثله في اللهو مسرفا في اللذائذ والشراب. فكان يتمنى الخلافة ويشعر بثورة في نفسه من أجلها، ولكن التمني والكفاية ليستا طريق الملك والسلطان، بل إن لهما سبلا أخرى. وقد صار لكل من الأمين والمأمون قواد وجنود وأموال، أما هو فليست له هذه القوى، فليبتعد حينا من الزمان وليكبت طموحه عن كل إنسان، وليخف ثورة نفسه حتى تسنح الفرصة ويحين الأوان.
ودخل عليه نديمه وصديقه محمد بن أمية، وكان كاتبا شاعرا ظريفا، فأخذ يسر إليه ما في نفسه. وبينما هما يتساران إذ دخل عليهما أبو العتاهية، وقد عاد إلى التنسك ولبس الصوف وترك قول الشعر إلا في الزهد، فرفعه إبراهيم وسر به، وأقبل عليه بوجهه، فقال أبو العتاهية: أيها الأمير، بلغني خبر فتى في ناحيتك ومن مواليك يعرف بابن أمية يقول الشعر، وأنشدت له شعرا فأعجبني، فما فعل؟ فضحك إبراهيم وقال: «لعله أقرب الحاضرين مجلسا منك.» فالتفت أبو العتاهية إلى ابن أمية وقال: «أنت هو؟» فقال: «نعم، جعلت فداءك. أما الشعر فإنما أنا شاب أعبث بالبيت والبيتين والثلاثة كما يعبث الشبان.» فقال أبو العتاهية: «ذاك والله زمان الشعر. وما قيل فيه فهو غرره وعيوبه.» ثم التفت إلى إبراهيم بن المهدي وقال: إن رأى أمير المؤمنين - أكرمه الله - أن يأمره بإنشادي ما حضره من الشعر. فقال إبراهيم: أنشده يا محمد ...
فأنشده:
رب وعد منك لا أنساه لي
أوجب الشكر وإن لم تفعل
أقطع الدهر بظن حسن
وأجلي غمرة ما تنجلي
كلما أملت يوما صالحا
عرض المكروه لي في أملي
وأرى الأيام لا تدني الذي
أرتجي منك وتدني أجلي
فطرب أبو العتاهية، وقال إبراهيم: «أحسنت يا بن أمية.» وجعل يردد هذه الأبيات! •••
وكان الأمين قد تولى الخلافة بعد أبيه، وكان للمأمون إمارة خراسان وما يليها من شرق الدولة العباسية كعهد الرشيد، فقد قسم الدولة بينهما عند وفاته إلى قسمين: قسم يليه الأمين وهو العراق والشام وما بعدهما إلى بلاد المغرب، وقسم يليه المأمون وهو خراسان وسائر بلاد المشرق، على أن تكون الخلافة للأمين. ولم يلبث أن وقع الخلاف بينهما، وطمع كل منهما في الآخر، وانتهى الأمر بقتل الأمين ببغداد، والمبايعة بالخلافة للمأمون.
وكان المأمون وقتئذ في «مرو» فأحدث قتل الأمين أثرا سيئا في نفوس بني العباس خاصة، ونفوس العرب عامة؛ فقد كان أول حادث من نوعه في الأسرة العباسية، واعتبره العرب خذلانا لهم وانتصارا للفرس أخوال المأمون
2
وأنصاره.
وكان الفرس يتشيعون للعلويين، وإن كانوا يناصرون العباسيين، وقد تربى «المأمون» فيهم ونشأ على احترام العلويين وحبهم خلافا لأسلافه. ولما تولى الخلافة زاد في احترامهم وتقريبهم، واتخذ إمامهم «علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي» زوجا لابنته «أم حبيب.» وكان يحبه ويقدمه لتقواه وورعه، وقد سماه «الرضا من آل محمد.» ثم بايع له بولاية العهد من بعده دون ابنه العباس. وكان لوزيره الشيعي الفضل بن سهل دور أصيل في هذه المبايعة،
3
وبلغت أنباؤها بني العباس بالعراق، وشيعتهم من العرب، فهالهم الأمر لأن الخلافة بذلك ستنتقل إلى العلويين.
وكان إبراهيم بن المهدي وقتئذ كبير آل العباس ببغداد، فخرج من عزلته الفنية إلى السياسة، واضطربت الحال في بغداد، وكان يتنازع العباسيين عاملان: عامل الولاء للخليفة الجديد، وعامل الثورة عليه، خصوصا بعد ما وصلهم أن المأمون قد أبدل بالملابس السوداء (شعار العباسيين) الملابس الخضراء (شعار العلويين)، وأحرق الأولى في ملأ من الناس!
إذن كانت الفرصة سانحة لإبراهيم ليحقق آماله في الخلافة ويطلق ما في نفسه من طموح إلى الملك والسلطان. وإذن فليدع الفن فترة من الزمان، أو إلى آخر الزمان إذا صحت الأحلام!
في الحانة
لم تفقد بغداد في ظلام هذه الفتنة شيئا من نورها وجمال العيش فيها وطيب الحياة بين أبنائها؛ فقد كانت هذه الأحداث تمر بها دون أن يعصف بها عاصف شديد؛ إذ كان النضال مقصورا على رجال السياسة، وأطماعهم في النفوذ والجاه والسلطان. وكانت بغداد عروس الشرق، وعاصمة الحضارة، وزعيمة البلدان، وكانت الأموال تنصب فيها انصبابا، فكثرت فيها مجالس الأنس والأدب والطرب.
وجلس جماعة من الأدباء والمغنين في حانة لرجل رومي في طرف من أطراف المدينة، وكانت تحيط بالحانة أغراس وبساتين، وفي جدرانها كوى كالجيوب فيها دنان الخمر، وفوق الكوى رفوف عليها أباريق وأقداح من الزجاج والخشب، وفي صدر الحانة بعض المعازف والأعواد والآلات. وأخذ هؤلاء الأدباء والمغنون يتسامرون ويحتسون كئوس الخمر، يدور بها السقاة من الغلمان الحسان.
وكان بينهم الحسين بن الضحاك
4
وعمرو بن الوراق شاعرا الأمين، ودعبل بن علي الخزاعي،
5
وأبو دلف قاسم العجلي أحد الشعراء والفرسان وأمراء العرب في ذلك العصر، وعقيد وعلوية وزلزل من المغنين؛ وابن نهيك من قواد الجند العباسي. وكان البعض يلعب النرد والبعض يلعب الشطرنج، والبعض الآخر يشرب ويتحدث. فقال ابن الضحاك لصديقه عمرو بن الوراق: هيه يا عمرو، رحم الله الأمين، وأيام الأمين، وسلام على مجالس أنسه، ومطالع سعده. أين ليالي قصر الخلد والرصافة، وأين المباهج والسرور في حدائق المنصور، والدهر ساج ساكن، والعيش ناعم باسم؟! فقال عمرو: أجل يا بن الضحاك، وأين فتنة البساتين، والحور العين، وملاعب الفرسان، ومغاني القيان، وبدائع الحراقات
6
والجواري المنشآت تخطر فوق دجلة والفرات في فخامتها النادرة وزينتها الساحرة؟ أين سفينة «الأسد» تفتك بالعباب والزبد، وأين «العقاب» تسبق في سيرها السحاب، وأين سفينة «الفيل» في حجمها الضخم وروائها الجميل، وأين «الدلفين» سيدة البحار ومليكة السفين؟!
قال ابن الضحاك: وأين ما كان لنا من صحاب في مجالس الأنس والشراب؟ وأنعم بعهد الأمين، عهد الهوى والشباب.
فقال عمرو: ما زلت - والله يا بن الضحاك - أتمثل جمال هذا العهد كلما ذكرت أبا نواس وهو ينشد الأمين على إحدى تلك الحراقات، ونحن نأنس بالرياضة معه على مياه دجلة في شباب الربيع، والأمين فرح طروب:
سخر الله للأمين المطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا
سار في الماء راكبا ليث غاب «أسدا» باسطا ذراعيه يهوي
أهوب الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو
ط ولا غمز رجله بالركاب
عجب الناس إذ رأوك على صو
رة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور
7
ومنسر وجناحي
ن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما اس
تعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمين وأبقا
ه وأبقى له رداء الشباب
قال الحسين بن الضحاك: أسفا فقد ذهب الأمين وشباب الأمين.
ابن الوراق:
ذهبت بهجة بغدا
د، وكانت ذات بهجة
فلها في كل يوم
رجة من بعد رجة
ابن الضحاك:
لا يرجع الماضي إلى ال
باقي طوال الأبد
هيهات لا تبصر مم
ن قد مضى من أحد
وما كادا يصلان إلى ذلك حتى ترك «دعبل بن علي» لعبة الشطرنج، وكان يلعبها مع زلزل، وقال: ما هذه الذكريات لأمور عفى عليها الزمان ... هونا عليكما، خليفة أتى وخليفة ذهب، وما يبالي الناس فالدنيا لمن غلب.
فقال زلزل:
رب ركب قد أناخوا عندنا
يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا
وكذاك الدهر حالا بعد حال
فقال علوية: صدقت، وصدق والله عدي بن زيد، دعونا من الخلافة والخلفاء وحدثونا من أخبار العشاق والأدباء.
قال دعبل: إني محدثكم عن حادث ظريف وقع لي مع صريع الغواني مسلم بن الوليد قاتله الله ...
كنت مارا بباب الكرخ،
8
فاحتوى الفكر على قلبي، وأخذتني نشوة، فقلت شيئا من الشعر ما وعيته من قبل، وهو:
دموع عيني لها انبساط
ونوم عيني به انقباض
فإذا أنا بجارية رائعة، لها وجه زاهر، ومطلع باهر، وهي تسمع هذا البيت، فاعترضتني وقالت:
هذا قليل لمن دهته
بلحظها الأعين المراض
فأجبتها:
فهل لمولاي عطف قلب
فالود في ديننا قراض
9
ثم شعرت كأني أخاطب حورية هبطت من الجنة؛ فقد كانت تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهب الألباب برخيم نغمها، مع رشاقة قد واعتدال، فحار والله البصر فيها، وتلجلج اللسان، ثم ثاب لي عقلي وراجعتني شجاعتي، فقلت:
أترى الزمان يسرنا بتلاقي
ويضم مشتاقا إلى مشتاق
فأجابت:
ما للزمان يقال فيه وإنما
أنت الزمان فسرنا بتلاقي
ثم سرت وتبعتني - وذلك في أيام إملاقي - فقلت ما لي إلا منزل مسلم بن الوليد، فسرت بها إلى بابه، فخرج، فقلت له: «أكمل الخير معي، وجه صبيح يعدل الدنيا بما فيها، وقد وقع بي ضيق وعسر.» فقال: «والله لا أملك غير هذا المنديل.» فقلت: «هو البغية» وتناولته. فقال: «خذه فاشتر لنا بثمنه شيئا.» فتركت الجارية عنده، وذهبت فبعته واشتريت لحما وخبزا ونبيذا، وصرت إليه فوجدتها تتساقط معه حديثا كأنه الزهر الممطور، فقال: «ما صنعت؟» فأخبرته، قال: «كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه جميل بلا ريحان وطيب، اذهب فأحضر لنا شيئا من ذلك.» وأخرج نصف دينار، فأخذته وذهبت، ثم عدت إليهما فوجدت باب الدار مفتوحا وليس لهما من أثر ...!
فضحك علوية وصاحباه وقالوا: والله إنك لأحمق البشر ...!
وقهقهوا قهقهة عالية ملأت الحانة وأغرقوا في الضحك! •••
وهنا دخل أبو المهنأ مخارق المغني وهو يترنم بهذه الأبيات:
يا حانة الشط قد أكرمت مثوانا
عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تفقدينا دعابات الحياة ولا
طيب البطالة إسرارا وإعلانا
سقيا لحسنك من حسن خصصت به
دون الدساكر من لذات دنيانا
حفت رياضك جنات مجاورة
في كل مخترق نهرا وبستانا
لا زلت آهلة الأوطان عامرة
بأكرم الناس أعراقا وأغصانا
فقال زلزل المغني: مرحبا أبا المهنأ. اجلس وزدنا من أنسك ولطفك.
ونادى زلزل الساقي فناول مخارقا كأسا فشربها وهو يقول:
يومنا يوم رذاذ
واصطباح والتذاذ
ليس للمرء من الدن
يا سواها من ملاذ
فسمعه أبو دلف قاسم العجلي، فنفر قائلا: كلا ... كلا ... فإن في الدنيا ألذ منها.
لسل السيوف وشق الصفوف
ونقض التراب وضرب القلل
ولبس العجاجة
10
والخانقات
تريك المنايا برأس الجبل
ألذ وأشهى من المسمعات
وشرب المدامة في يوم طل «فهذه والله لذتي، وإن استلذ أحد شيئا من المعاقرة ملت إلى المقاومة والمبادرة، ولا أستلذ غيرهما.»
فضحك دعبل في تهكم وقال: ما صدقت والله يا قاسم ... وإذا كانت لذة الحرب لذتك وخوض المنايا غرامك، فلماذا قلت:
بنفسي يا جنان وأنت مني
مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان نفسي
خشيت عليك بادرة الزمان
فقال أبو دلف: ذلك كان في متقدم العمر وأيام الصبا، وهل أنا أحسن ممن قال:
أذم لك الأيام في ذات بيننا
وما لليالي في الذي بيننا عذر
فقال عقيد المغني: لمن هذا البيت الجميل؟
أجاب أبو دلف: سمعته من المأمون في مجلس ضمنا للشعر والغناء.
قال عقيد: كلام الملوك، ملك الكلام، ورائحة المسك تنم عليه ...
فاعترض الحسين بن الضحاك وقال: ألم تقولوا دعونا من الخلافة والخلفاء؟!
فقال دعبل: ويحك يا حسين ... الدنيا دول ...
فاخط مع الدهر إذا ما خطا
واجر مع الدهر كما يجري
ابن الضحاك: كلا ... كلا ... لا أم لي إن بقيت في بغداد بعد مقتل أمير المؤمنين الأمين. هيا بنا يا عمرو.
عمرو بن الوراق:
ولست بتارك بغداد يوما
ترحل من ترحل أو أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا
نبالي بعد من كان الإماما
وخرج الحسين بن الضحاك - وقد اعتزم أن يغادر بغداد - وترك أصحابه وهم يلهون ...
الفصل الثالث
الثورة
كان إسحق الموصلي يعقد مجالس الغناء والأدب والمناظرة في قصره. وكان قصرا بديعا يعيش فيه عيشة الأمراء والعظماء مما أفاء الله عليه وعلى أبيه إبراهيم الموصلي من عطايا هارون الرشيد. وقد كان يقول: «لو بقي لنا الرشيد لبنينا جدران بيوتنا بالذهب والفضة.»
وكان أكثر ما يكون الحديث عنده عن إبراهيم بن المهدي ومستحدثاته ومبتكراته في الغناء والموسيقى، وكان ينكر عليه إسحق وينتقده انتقادا مرا.
وزاره أبو دلف قاسم العجلي، ومخارق، وعمرو بن الوراق، مع جمع من الأصدقاء وجلسوا يشربون ويتحدثون.
وكانت بغداد في هذه الآونة قد زخرت بأنباء المأمون وإحراقه الملابس السوداء (شعار العباسيين) واستبدال الملابس الخضراء بها (شعار العلويين)، وما كان من مبايعته بولاية العهد من بعده لعلي بن موسى الرضا زعيمهم، مما أحدث ثورة في نفوس بني العباس والعرب ببغداد والعراق.
وأخذت الفتنة تزحف من القصور إلى الدور، ومن صدور الخاصة إلى أفواه العامة.
وجلس الأدباء والمغنون في قصر إسحق الموصلي يتذاكرون ويتشاورون، ويروي بعضهم لبعض ما سمعه من أنباء المأمون وشيعة العلويين في «مرو» وخراسان.
فقال أبو دلف: وهل استشار المأمون الفقهاء فيما فعل واستحدث من هذا الأمر؟
فقهقه عمرو بن الوراق وقال: أجل ... أجل ... إني محدثكم ما سمعته من صديق جاء من «مرو» منذ أيام: فقد روى أنه لما اعتزم المأمون تولية علي بن موسى الرضا عهد الخلافة، خلع الملابس السوداء، وجمع فقهاء المدينة عنده وأخذ يسألهم رأيهم، فكان والله كلما قال قولا قال الفقهاء: «كلنا نقول بقول أمير المؤمنين، وكلنا نرى رأي أمير المؤمنين.» حتى لو كان قد قال لهم إن الوحي نزل على أبي نواس لقالوا: «كلنا نقول بقول أمير المؤمنين، وكلنا نرى رأي أمير المؤمنين!»
فضحك جميع الحاضرين وقهقهوا قهقهة عالية، وقال إسحق الموصلي: ... اتق الله يا عمرو ... اتق الله ... ودع عنك هذا التشنيع!
قال عمرو: والله ما حدثتكم كذبا، ولا رويت لكم إلا ما سمعت من شاهد صادق.
فقال أبو دلف: سمعت الناس في بغداد يتحدثون عن خلع المأمون، والنداء بغيره خليفة للمسلمين، فمن يكون يا ترى يصلح للخلافة من بعده، ومن يا ترى يكون أمير المؤمنين الجديد؟!
قال إسحق الموصلي: وهل بعد المأمون من رجل رشيد يصلح لخلافة المسلمين ؟
فقال مخارق: إبراهيم بن المهدي، فهو أكبر أمراء بني العباس!
فصاح دعبل:
إن كان إبراهيم مضطلعا بها
فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل
ولتصلحن من بعده للمارق
قال إسحق: صدقت يا دعبل صدقت، وويل للخلافة يتقلدها مغن.
مخارق :
ما أصبت والله أبا محمد ... وأي بأس في أن يتولى إبراهيم الخلافة ... أليس هو ابن الخليفة المهدي، وأخا الخليفة هارون الرشيد وعم الخليفة المأمون؟ ثم أليس هو من تعرف علما وأدبا ونبلا وفضلا وملكا للغناء والموسيقى؟
إسحاق :
سبحان الله! تقول أي بأس أن يتولى مغن الخلافة؟ إني لا أرضى لنفسي أن أوصف بالغناء، ووددت أن أضرب كلما أراد مريد مني أن أغني، أو كلما قال قائل: «إسحق الموصلي المغني.» وتمنيت بدل هذا أن أقرع عشر مقارع لا أطيق غيرها، ولو أطقت أكثر منها لفضلتها على هذا الوصف ... فكيف أرضى أن يكون الخليفة مغنيا ...؟
مخارق (في دهشة) :
كيف هذا يا إسحق، أتضع من شأن الغناء؟ والله ما بلغت ما بلغته إلا به، ولا احترمك الناس إلا لأجله، ولا قدمك الخلفاء إلا بما صححت أجناسه وميزت طرائقه وما كان لك فيه من ألحان شتى، فكيف تحط من قدره الآن وقدر أهله؟!
إسحق :
لقد أفسد إبراهيم بن المهدي الغناء، فكيف أنسب نفسي إليه بعد ... ولو أنه تولى الخلافة لأفسدها.
مخارق :
ويحك ثم ويحك أبا محمد ... كيف ذلك؟! والله لقد سمعت أباك إبراهيم الموصلي يقول: «لو طلب إبراهيم بن المهدي بالغناء ما نطلب، لما أكلنا خبزا أبدا.» ثم لقد شهدت أنت له بالفضل، فقلت: «ما ولد العباس بن عبد المطلب بعد عبد الله بن العباس رجلا أفضل من إبراهيم بن المهدي.» ثم أنت تعيبه وتقول فيه ما تقول الآن؟!
إسحق :
لأنه تغير، فتغيرنا ...
مخارق :
عجبا! إذا تغيرت النفوس تغيرت الآراء في الرءوس. لقد كنت تشهد بكفايته وتعترف له في فنه بالدراية والرواية.
إسحق :
دعني ... دعني أبا المهنأ، فوالله ليست له دراية ولا رواية ولا كفاية. لقد عابنا في صناعتنا، وأحدث فيها وخرج علينا ، وثار على قواعدنا. وإني لأخشى أن يحدث بين المسلمين حدثا في دينهم كما أحدث بيننا أحداثا في دنيانا ... وإني أبغض صلفه وكبرياءه، وما طبع عليه من ثورة وفتون.
اسمعوا: كنت عند هارون الرشيد يوما في مجلس مؤنس، وكان عنده إبراهيم، فقال لي الرشيد: غن يا إسحق ...
فغنيت:
أعاذل قد نهيت فما انتهيت
وقد طال العتاب فما ارعويت
فأقبل إبراهيم، وقال لي أمام الرشيد: «ما أصبت يا إسحق ولا أحسنت.» فقلت له: ليس هذا مما تحسنه ولا تعرفه، وإن شئت فغنه، فإن لم أجد أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال!
ثم قلت للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي وصناعة أبي، وهي التي قربتنا منك، واستخدمتنا لك، وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعنا إياها منازع بلا علم لم نجد بدا من الإيضاح!
فقال الرشيد: لا غرو ولا لوم عليك يا إسحق. ثم قام الرشيد من المجلس لبعض شأنه، فقال لي إبراهيم: «ويلك يا إسحق تجترئ علي يا بن الفاعلة، وتقول ما قلت!»
فقلت له: «وأنت الآن تشتمني، وأنا لا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة، وأخو الخليفة، ولولا ذلك لكنت قلت لك مثل ما قلت. أترى أني لا أحسن أن أقول لك يا بن الفاعلة مثنى وثلاث ورباع ... ولكن قولي هذا ينصرف إلى خالك الأعلم ... ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه».
وكان خاله كما تعلمون بيطارا يعالج نعال الدواب، ثم قلت له: «أنت تظن أن الخلافة تصير إليك يوما ما، فلا تزال تهددني بذلك، وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك الرشيد حسدا له ولولده، وتستخف بأوليائه تشفيا، وإني أرجو الله ألا يخرج الخلافة من يد الرشيد وولده، فإن صارت إليك - والعياذ بالله - فحرام علي العيش يومئذ، والموت أطيب من الحياة معك!»
قال إسحق: وهنا عاد الرشيد، فوثب إبراهيم بين يديه يقول: «يا أمير المؤمنين، شتمني إسحق، وذكر خالي وأمي واستخف بي.» فتغير وجه الرشيد وقال لي: «ويلك ... ما تقول؟» فقلت: «سل من حضر.» فأقبل على خادمه مسرور وسأله عما حدث، فجعل مسرور يخبره فكان وجهه يربد ثم يربد إلى أن انتهى إلى ذكر الخلافة، فسري عن الرشيد، ورجع لونه، والتفت إلى إبراهيم وقال له: «لا ذنب له ... شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك. ارجع إلى موضعك، وأمسك عن هذا، وإياك أن تعود إليه!»
فقام إبراهيم منصرفا، ولما انقضى المجلس أمر الرشيد ألا أخرج فساء ظني، وأهمتني نفسي، ثم أقبل علي وقال لي أمام بعض الخدم: «ويلك يا إسحق، أتراني لم أفهم قولك ومرادك؟ قد والله شتمته ثلاث مرات ... ويلك لا تعد ... أخبرني، لو ضربك إبراهيم أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل ... أم ترى لو أمر غلمانه فقتلوك، أكنت أقتله بك؟»
فقلت للرشيد: «قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلني، وما أشك أنه سيبلغه!»
فصاح الرشيد بمسرور الخادم وقال: علي بإبراهيم الساعة.
فأحضره، وقال لي الرشيد: «قم يا إسحق فانصرف.» فقلت لجماعة من الخدم وكلهم كان لي محبا: «أخبروني بما يجري.» فأخبروني أنه لما جلس إبراهيم بين يدي الرشيد، وبخه وجهله، وقال له: «أتستخف بخادمي وصنيعتي، ونديمي وابن نديمي في مجلسي ... هاه ... هاه ... أتجترئ على هذا وأمثاله بحضرتي ... وأنت ما لك وللغناء حتى تتوهم أنك تبلغ مبلغ إسحق، ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه ... ألا تعلم ويلك أن هذا سوء أدب وقلة معرفة وعدم مبالاة! والله العظيم والله العظيم وحق رسول الله، وإلا أنا لست للمهدي، لئن أصابه أحد بسوء، أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من دابته فمات، أو سقط عليه سقف أو جدار، أو مات فجأة، لأقتلنك. قم الآن فانصرف ...!»
فخرج إبراهيم يتعثر وهو يكاد يموت ...! •••
سمعت الجماعة من إسحق هذه القصة، وكانت بغداد وقتئذ تضطرب بالفتنة، وكان بنو العباس ينادون بإبراهيم بن المهدي خليفة للمسلمين، وأميرا للمؤمنين، ويبايعون له، ويخلعون المأمون لأنه خرج على سنة آبائه وشعارهم وسياستهم في الملك والسلطان بما أتاحه للعلويين من نفوذ.
ودخل «بديح» غلام إسحق ينبئه أن الناس نادوا لإبراهيم ولقبوه «إبراهيم المبارك» و«أمير المؤمنين.» وما كاد ينتهي من كلامه حتى سمع إسحق وضيوفه النداء بخلافة إبراهيم على مآذن بغداد وفي أسواقها، فقال علوية: ما رأيك أبا محمد، لقد استعذت بالله من أن يصبح إبراهيم خليفة، وها هو ذا قد واتته الخلافة، فماذا أنت صانع؟
إسحق: لا عيش لي في بغداد، والموت أهون علي من هذا ...
مخارق: والله لم أر أفصح لسانا، ولا أحسن بيانا، ولا أجود شعرا، ولا أسد رأيا، ولا أبلغ في التصرف في الفقه وسائر الآداب الرفيعة من إبراهيم بن المهدي.
إسحق: أنفاق وتملق يا مخارق، ولما تمض على مبايعته ساعة ...؟!
ثم نهض إسحق ونهض الحاضرون، فخرجوا واستبقى منهم علوية، فأفضى إليه أنه راحل عن بغداد اليوم وأنه يوصي له بأمر أولاده وشئونه، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. فسأله علوية: إلى أين أبا محمد؟
قال إسحق: إلى خراسان، إلى مرو، إلى المأمون، فإنه مولاي وابن مولاي وهو بي أولى. •••
خرج إسحق متنكرا في زي أعرابي، وقد حلق لحيته، وكانت بغداد تهتز بالدعاء لإبراهيم ومبايعته والهتاف له وتزدحم بمواكب الهاتفين وهم ينادون: «إبراهيم ... إبراهيم أمير المؤمنين ... لا طاعة للمأمون ... لا طاعة للمأمون ...»
ثم ينشدون:
يا بني العباس أنتم شفا
ء وضياء للقلوب ونور
أنتمو أهل الخلافة فينا
ولكم منبرها والسرير
لا يزال الملك فيكم مدى الده
ر مقيما ما أقام ثبير
وأبو إسحق
1
خير إمام
ما له في العالمين نظير
واضح الغرة للخير فيه
حين يبدو شاهد وبشير
زانه الله بعز وجلال
وجمال ووقار وخير
وشايعت بغداد الخليفة الجديد، وأقام بنو العباس في قصر الخلد - قصر الخلافة - حفلا فاخرا له رقصت فيه الجواري الحسان، وغنت فيه «خالدة» بشعر جرير:
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
إبراهيم المبارك
بلغت أنباء هذه الفتنة المأمون في «مرو» فاشتد عليه وتمثل له خطرها إن لم يسرع في إخمادها قبل أن تستفحل في دولته وتذهب بملكه، وأيقن أنه قد تجاوز الحكمة في التدبير وغفل عن السداد في الرأي والتقدير، فما كان ينبغي له أن يقدم على ما أقدم عليه فأغضب بني العباس وأثار العراق، ولم يكن من الكياسة أن يتسرع في تنفيذ رأي رآه قبل أن ينضجه التفكير الطويل.
رأى أن يعهد بولاية العهد لعلي بن موسى الكاظم لأنه في زمنه خير أبناء هاشم جميعا، ولم يجد أفضل منه يصلح للخلافة من بعده، ولعله كان ينظر في ذلك إلى مصلحة المسلمين وحدها، ولعله كان متأثرا باحترامه للعلويين منذ تربى في شيعتهم، بل من المؤكد أن مربيه الفضل بن سهل كان أكبر المؤثرين عليه في هذه الناحية، وأول المحبذين لهذا العمل، إذ كان علويا يخفي تشيعه كما كان البرامكة يفعلون.
ونظر المأمون في أولاد العباس وكان عددهم وقتئذ ثلاثة وثلاثين ألفا، فلم يجد بينهم من يصلح للخلافة إذا قورنوا بعلي بن موسى الرضا علما وتقى ودينا. وقد ولد علي سنة 153، وهو ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وكان هو أحد أئمة الشيعة الاثني عشر.
ولى المأمون عليا العهد من بعده، ولم يكن يتوقع أن يثور عليه الناس في العراق. بل لعله كان يتوقع، ولكنه لم يخش الثورة ولم يحفل بها وقد دان له المشرق والمغرب وأصبح لا ينازعه في السلطان منازع! •••
ثار العراق وقاد الثورة بنو العباس في بغداد، ونصبوا عمه إبراهيم بن المهدي خليفة للمسلمين، فرأى المأمون أن يعالج الحال بأحد أمرين: الأول أن يرسل جيشا لإخضاع إبراهيم وخلعه من الخلافة، والثاني أن يخلع عليا بن موسى من ولاية العهد فيرضي بني العباس ويرضي العرب.
ولكن العلاج الثاني قد يثير الفرس في خراسان وهم أنصار هذه البيعة لعلي، فلا بد من طريقة أخرى لا تثير الفريقين. ورأى المأمون أولا أن يخضع إبراهيم بن المهدي، فجند جيشا كبيرا بقيادة الحسن بن سهل وأمره أن يذهب إلى بغداد ويأتي بإبراهيم حيا أو ميتا ...!
وكان إبراهيم قد جمع الجموع، وألف جيشين: أحدهما بقيادة عيسى بن أبي خالد أحد القواد السابقين للمأمون، والثاني بقيادة إبراهيم بن عائشة. وخرج الجيشان فقابلا جيش الحسن بالقرب من بغداد، ودارت رحى القتال، فانهزم الحسن، وفر بمن معه إلى «سمر.» فطارداه حتى خرج إلى خراسان. •••
كتب النصر في أول الأمر لإبراهيم بن المهدي على المأمون، وكان نصرا مبينا زاد من إقبال الناس عليه ومبايعتهم له. وجلس إبراهيم على أريكة الرشيد ودعي «إبراهيم المبارك.» وسكن قصر الخلد ببغداد وتبوأ عرش آل العباس، وكان العرش من الذهب الخالص المرصع بالجواهر النفيسة، ووراءه حارسان بيد كل منهما سيف مسلول، وقد نصب العرش في صدر القاعة فوق سدة قائمة على أعمدة صغيرة من الأبنوس المنزل فيه العاج، وسقفها من الديباج الأسود المزركش برسوم فنية جميلة من الذهب، وازدانت حاشيتها من الأمام والجانبين بأهلة مدلاة فيها ورد ونجوم من الياقوت الأحمر والأصفر على نظام بديع. وقد لبس إبراهيم حلة الخلافة التي كان يلبسها الرشيد، وهي مؤلفة من ملابس سوداء وطيلسان أسود وقلنسوة قصيرة حولها عمامة سوداء من الحرير الموشى، وبين ثنايا العمامة عقود صغيرة من الجواهر، وفي مقدمتها طرة من أسلاك الذهب على هيئة عرف الطاووس.
ودخل عليه أخوه المنصور بن المهدي وابن أخيه صالح بن الرشيد، وابناه: هبة الله
2
وبقية الله، وبعض أمراء بني العباس، فجلسوا عن يمينه. ودخل عيسى بن أبي خالد قائد العسكر وبعض رجال الدولة الآخرين، فجلسوا عن يساره. وسأل إبراهيم أخاه المنصور: ما حال أعمامنا بالكوفة يا منصور، هل أجابوا إلى البيعة لنا وخلع المأمون؟
قال المنصور: نعم يا أمير المؤمنين، وقد وعدوا أن يحضروا غدا إلى بغداد.
فقال إبراهيم: حمدا لله على ما أنعم.
ثم التفت إلى عيسى بن أبي خالد، وقال: وكيف حال القوم يا عيسى؟
عيسى: إن أهل بغداد والعراق يدينون لك بالطاعة، وقد كشف الله عدوك، فإن أنت قويت هذا الأمر، حفظتض تراث آبائك، ولم تملكه العلويين وشيعتهم من الفرس، واحتفظت بمجد العرب.
فقال إبراهيم: لن يضيع هذا الأمر من يدي إن شاء الله!
ودخل إبراهيم بن عائشة فسلم وجلس خاشعا مطرقا، فقال له إبراهيم بن المهدي: أحسنت أبا علي، فتح الله عليك ونصر الحق على يدك.
فأجاب ابن عائشة: هذا من فضل الله وعون أمير المؤمنين.
فقال إبراهيم: وأين إسحق الموصلي؟ بعثت إليك أن أغلق في وجهه السبل فلا تدعه يفر من العراق!
ابن عائشة: قاتله الله! لقد فر يا أمير المؤمنين ونحن مشغولون عنه بالحسن بن سهل، وقد تزيا بزي أعرابي وما عرفته الشرطة.
فقال إبراهيم بن المهدي في غيظ: ويل لهذا المارق! يقول عني ويل للخلافة يتقلدها إبراهيم كأنما لست أهلا لها، والله إني لأحق بالخلافة بعد أخي الرشيد من الأمين والمأمون!
قاتله الله! إنه خصم لدود حقود. لقد استعاذ بالله أن أكون حيث أنا الآن، ولكن الله خيب رجاءه. وكان يعيبني بالغناء وهو يعلم أني في العلم مناظر، وفي الغناء متلذذ، وأني ملك وابن ملك!
فقال عيسى بن أبي خالد: والله يا أمير المؤمنين إن سيفي لظمآن إلى هذا المارق ووددت لو رأيته فأقتله أينما كان! •••
ودخل الحاجب فقطع كلام عيسى بقوله: رسول يا مولاي جاء من عبد الله المأمون.
فأذن له إبراهيم فدخل وركع وسلم، ثم قدم له كتابا من المأمون فتناوله وفضه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من أمير المؤمنين عبد الله المأمون، السلام على أبي إسحق إبراهيم بن المهدي ورحمة الله.
أما بعد، فقد علمت أمر خروجك علينا، وادعاءك لنفسك الخلافة متجاوزا في ذلك حد الله فيما أعطيته من العهود والمواثيق أمام أمير المؤمنين الرشيد في البيعة لولده من بعده. وقد كنت عذرتك حين علمت بغضبك لمبايعتي لعلي بن موسى الرضا بولاية العهد، وعذرت بني العباس في ذلك، وقد شاء الله ولا راد لمشيئته أن يضع بيننا الخصومة في هذا الأمر، فاختار عليا - رضي الله عنه - إلى جواره وانتقل إلى جنة الخلد راضيا مرضيا.
فأنا أدعوك ومن معك إلى الطاعة، وعلي عهد الله أن أعطيك الأمان وسيكون لك من عفوي وقربي ما أنت به أهل إن شاء الله.
قرأ إبراهيم هذا الخطاب، وعجب لموت علي بن موسى الرضا في هذا الأوان، وسأل الرسول: أوهل مات حقا علي بن موسى؟
قال الرسول: إنه مات بطوس فجأة! - فجأة، وكيف كان ذلك؟ - خرج المأمون يوما من مرو إلى مدينة طوس لزيارة قبر الرشيد، ودعا عليا للزيارة معه، فلبى دعوته، وأقاما يومين في هذه المدينة، وبينما كانا يأكلان جاء الغلام بطبق من العنب فأكل علي منه كثيرا فمات! - وهل مات من العنب؟ - بلى، قد مات ...
فقال أحد الحاضرين: والله يا أمير المؤمنين ما مات علي بن موسى إلا مسموما!
فقال صالح بن الرشيد: عجبا! كان المأمون يحب عليا ويحترمه ويجله.
فسكت إبراهيم بن المهدي ساعة، وكأنما كان يفكر في هذا الحادث وكيف أن السياسة وأطماع الملك والسلطان لا قلب لها ولا نبل فيها، إلا لمن عصم الله، وهم قليل من قليل. ثم التفت إلى رسول المأمون وقال: بلغ مولاك أني قرأت كتابه ولكل كتاب جواب! •••
انصرف الرسول والتفت إبراهيم إلى من حوله وقال: ماذا تقولون في كتاب المأمون؟ - إنه خداع، وما نظنه صادقا في قوله يا أمير المؤمنين.
إبراهيم: صدقتم.
ثم التفت إلى ابنه «هبة الله» وأملى عليه الكتاب الآتي إلى المأمون:
بسم الله الرحمن الرحيم
من أمير المؤمنين إبراهيم بن المهدي إلى عبد الله المأمون.
أما بعد، فقد جاءني كتابك، فعجبت من خطابك فيه، وما اجترأت علي به من وصفي بالخروج والثورة عليك، وقد علمت أني لم أخلعك وحدي لكن الناس في العراق خلعوك وخرجوا عليك لخروجك عن سنة آبائك وشعار آلك، وتفريطك في أمرهم، تريد أن تنقله من ولد العباس إلى ولد علي. وقد أقمناه نحن بالسيوف، وسقيناه بالدماء، وألزمناهم الحجة بالطاعة لنا منذ اختارنا الله فيه دونهم وفتح الله بنا على المسلمين.
ثم تزعم أني نقضت العهود والمواثيق، فأيها كانت علي في أمرك؟ لقد عهد أبوك بالخلافة للأمين دونك وولاك أمر خراسان تحت ولايته، فطمعت فيه واغتصبت حقه ناقضا ما قطعته على نفسك أمام الله وأمام الرشيد والناس، ولم تحفظ عهده ولم ترع قرابته ولم تخش الله فيه فسلطت عليه صعاليك الجند يذبحونه كما تذبح الشاة في ظلام الليل وهو يصيح في جزع: ويحكم ويحكم، أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون الرشيد، الله الله في دمي. فلم يتقوا الله فيه أو تأخذهم رأفة به. ثم صلبوه على باب الأنبار ومثلوا بجثته تمثيلا، وفصلوا رأسه وأتوا بها إليك محمولة في ترس كما تحمل رءوس الكفار، فأينا كان أحفظ للعهود والمواثيق؟ وأينا كان بارا بقرابته رءوفا بذوي رحمه وآله؟
لقد والله أتيت أمرا نكرا، وأحدثت في بني العباس ما لم يسبقك إليه غيرك، فقتلت أخاك ومثلت به، وخلعت شعار آلك وأردت أن تسلبهم حقهم في الولاية على المسلمين، فأي حق علينا في الطاعة لك؟! ونحن أحق بها منك، والسلام.
ثم طوى الكتاب وبعث به إلى المأمون ...
الفصل الرابع
في مدينة مرو
ما زال المأمون بمرو عاصمة خراسان لم يبرحها، وكان الخراسانيون أشد أنصاره قوة، وأعظمهم عدة، وأكثرهم عددا، فلما بلغته ثورة إبراهيم بن المهدي ببغداد، وكل إلى وزيره الأكبر الفضل بن سهل في إطفائها، فبعث بجيش يقوده أخوه الحسن بن سهل لمحاربة إبراهيم والقضاء على ثورته والقبض عليه وتشتيت شمله، ولكن هذا الجيش لم يكتب له النجاح، وفر الحسن بمن معه إلى سمر، ثم إلى خراسان.
وأراد المأمون أن يعالج إبراهيم بالسياسة، فبعث إليه بكتابه يؤمنه ويفسح له عنده من عفوه ورعايته، فرد عليه إبراهيم بكتابه السابق.
قرأ المأمون الكتاب وهو يتميز غيظا ثم طواه وهو يقول: قاتل الله إبراهيم ... لست من الرشيد ولا الرشيد مني إن لم أثرها عليه حربا شعواء تأكله وتأكل أصحابه!
وجمع وزراءه وقواده وشاورهم في الأمر، فانتهوا إلى إرسال جيش آخر بقيادة «حميد بن عبد الحميد» أحد كبار القواد، على أن يكون هذا الجيش أكثر عددا وأشد جندا. فخرج الجيش يقوده حميد، وخرج معه المأمون بموكبه إلى الصحراء فودعه. •••
عاد المأمون وهو واثق من نجاح قائده وفوز جيشه هذه المرة، ودخل قاعة العرش ومعه أخوه أبو إسحق المعتصم وبعض الأمراء والوزراء وجلس على أريكة الملك. وإنه لكذلك إذا بحاجبه «فتح» يدخل ويقول: يا أمير المؤمنين، مولاكم ابن البواب
1
يستأذن.
فأذن له، فدخل محييا راكعا، فقال له المأمون: ماذا وراءك يابن البواب؟
فأخرج ابن البواب ورقة وقال: إن أذن أمير المؤمنين أنشدته هذا الشعر.
قال المأمون: هات ما عندك.
فشرع ابن البواب ينشد:
أجزني فإني قد ظمئت إلى الوعد
متى تنجز الوعد المؤكد بالعهد
أعيذك من خلف الملوك وقد بدا
تقطع أنفاسي عليك من الوجد
أيبخل فرد الحسن عني بنائل
قليل وقد أفردته بهوى فرد
فقال المأمون: أحسنت ... أحسنت.
قال ابن البواب:
رأى الله عبد الله خير عباده
فملكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة
مميزة بين الضلالة والرشد
المأمون :
أحسنت والله، وأجدت يا بن البواب.
ابن البواب :
يا أمير المؤمنين، إنما أحسن وأجاد قائلها.
المأمون :
أولست أنت القائل؟
ابن البواب :
نعم يا أمير المؤمنين لست هو، بل عبدك «الحسين بن الضحاك»
فاحمر وجه المأمون غضبا وقال: لا حيا الله من ذكرت ولا بياه، ولا أقر به عينا ... أليس هو القائل حينما قتل أخي «الأمين»:
أعيني جودا وابكيا لي محمدا
ولا تذخرا دمعا عليه وأسعدا
فلا تمت الأشياء بعد محمد
ولا زال شمل الملك فيه مبددا
ولا فرح «المأمون» بالملك بعده
ولا زال في الدنيا طريدا مشردا
هذا بذاك، ولا شيء له عندنا ...!
ابن البواب :
وأين فضل إحسان أمير المؤمنين وسعة حلمه؟
المأمون :
لا أحسن الله إليه، ولا وسعه حلم حليم!
ابن البواب :
وأين عادة أمير المؤمنين في العفو والكرم؟
فسكت المأمون برهة ثم قال: وأين من ذكرت، أببغداد هو أم بمرو؟
ابن البواب :
هو الساعة بباب أمير المؤمنين.
فنادى المأمون حاجبه وأمره أن يأتي بابن الضحاك، فدخل الحسين، فركع وقبل الأرض، وقال: السلام على مولاي أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
المأمون :
لا سلمك الله يا هذا، ولا رحمك ولا بارك لك. هيه يابن الضحاك، تهجوني ثم تقصد اليوم بابي؟
ابن الضحاك :
ذاك لكرم علمته فيك، وحلم اشتهر عنك يا أمير المؤمنين.
المأمون :
أخبرني ... ويلك ... هل رأيت يوم مقتل أخي الأمين أن هاشمية قتلت أو هتكت، أو نبذت صارخة في الطريق؟
ابن الضحاك :
لا يا أمير المؤمنين ...
المأمون :
إذن ففيم قولك:
هتكوا بحرمتك التي هتكت
حرم الرسول ودونها السجف
تركوا حريم أبيهمو نفلا
والمحصنات صوارخ هتف
هيهات بعدك أن يدوم لهم
عز وأن يبقى لهم شرف
ابن الضحاك :
أستغفر الله، وأستغفر أمير المؤمنين، فما حدث ذلك.
المأمون :
وهل رأيت نساء بني هاشم في بغداد يندبن كنساء العامة؟
ابن الضحاك :
لا يا أمير المؤمنين، وحاشا لهن أن يفعلن.
المأمون :
إذن فما معنى قولك:
وسرب ظباء من ذؤابة هاشم
هتفن بدعوى خير حي وميت
أرد يدا مني إذا ما ذكرته
على كبد حرى وقلب مفتت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة
ولا بلغت آمالهم ما تمنت
ابن الضحاك :
أنشدك الله يا مولاي!
المأمون :
وهل تركنا الدين ولم نصن حرمته فعاد عندنا مطروحا مهينا، وذهبت بشاشة كل شيء في هذه الدنيا؟
ابن الضحاك :
لا - جعلت فداءك - فقد اعتز الدين والدنيا بك يا أمير المؤمنين.
المأمون :
إذن ففيم قولك في «الأمين»:
هو الجبل الذي هوت المعالي
لهدته وريع الصالحونا
ستندب بعدك الدنيا جوارا
ونندب بعدك الدين المصونا
فقد ذهبت بشاشة كل شيء
وعاد الدين مطروحا مهينا
ابن الضحاك :
يا أمير المؤمنين ... لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة حرمتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك!
المأمون :
يا بن الضحاك جعلت عقوبتك امتناعي عن استخدامك، وقد عفوت عنك وأمرت بإدرار رزقك وإعطائك ما فات منها ...
ابن الضحاك :
أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وحفظه للدين والدنيا!
وأذن له المأمون فانصرف، وما كاد يغيب حتى أقبل قاضي القضاة «يحيى بن أكثم»
2
واستأذن لإسحق الموصلي ودخلا معا، وكان إسحق قد وصل إلى «مرو» بعد ما فر من وجه إبراهيم بن المهدي. فسلم كل منهما على أمير المؤمنين، وجلسا ، فقال المأمون: خبرني يا يحيى، أكان علينا بأس فيما أخذناه من اللباس الأخضر دون الأسود؟
فقال يحيى: حاشا يا أمير المؤمنين، بل حسنا فعلت، فإن الأخضر خير من الأسود، والخضرة رخاء وخصب، والسواد ظلام وجدب، أرأيت كيف تخضر الأرض في الربيع ويهتز رباها. والملابس الخضراء ملابس بيت الحسين بن علي، وهي ملابس أهل الجنة يلبسون من سندس خضر وإستبرق ...!
قال المأمون: وهل كان من بأس إذ بايعت لعلي بن موسى الرضا - رحمه الله - بولاية العهد من بعدي، وهو أفضل بني هاشم في هذا الزمان؟
فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين لقد كان أصح الناس بعدك دينا، وأكثرهم ورعا.
فقال إسحق الموصلي: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أبا نواس - رحمه الله - ترك معنى من المعاني إلا قال فيه شعرا. وقد ذكرته يوما بذلك وقلت له: «يا أبا نواس قلت ما قلت في كل شيء، وهذا علي بن موسى لم تقل فيه شيئا.» فقال: «والله يا إسحق ما تركت ذلك إلا إعظاما لمقامه، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله شعرا.» ثم سكت قليلا وأنشد:
قيل لي أنت أحسن الناس طرا
في فنون من الكلام النبيه
لك من جيد القريض مديح
يثمر الدر في يدي مجتنيه
فلماذا تركت مدح ابن موسى
والخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أستطيع مدح إمام
كان جبريل خادما لأبيه
قال المأمون: صدق والله الحسن بن هانئ.
ثم التفت إلى إسحق وقال: وأين كنت يا إسحق بعد فرارك من بغداد؟
قال إسحق: خرجت يا أمير المؤمنين من بغداد متنكرا فلم يظفر بي إبراهيم، فضربت في الصحراء حتى أتيت مدينة «الرقة» وقد حمي النهار، فوقفت أستريح في فناء بيت رحب، فما لبثت أن مر بي خادم يقود حمارا فارها
3
عليه جارية حسناء، تحتها منديل مصري، وعليها من اللباس الفاخر ما ليس وراءه غاية، فدخلت البيت الذي كنت واقفا بجواره.
4
ثم لم ألبث أن جاء شابان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما، فدخلت أنا معهما، فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن صاحب الدار أني معهما. فجلسنا وأتي بالطعام فأكلنا، وبالشراب فوضع بين أيدينا، وخرجت الجارية الحسناء، وفي يدها عود فغنت لذي الرمة:
ألم تعلمي يا مي أني وبيننا
مهاو
5
لطرف العين فيهن مطرح
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن
6
أمام المطايا تشرئب وتسنح
وشربنا يا أمير المؤمنين على هذا الغناء الجميل ساعة، واهتزت أعطافي، وسأل صاحب الدار الشابين عني فأخبراه أنهما لا يعرفانني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملوا عشرته.
وغنت الجارية بعد ذلك ثلاثة أدوار كلها من أدواري فأخطأت في الدور الثالث، فاستعدته منها لأصححه فغضبت، فقال أحد الشابين: «ما رأيت طفيليا أصفق منك وجها، لم ترض بالتطفيل حتى تريد تصحيح الغناء.» فأطرقت ولم أجبه، ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلا فأخذت عود الجارية فشددته وضبطته ضبطا محكما وعدت إلى موضعي فصليت، وعادوا فأخذت الجارية العود فمسته فعرفت أن أحدا مسه، فقالت: «من مس عودي؟» قالوا: «ما مسه أحد.» قالت: «بلى والله لقد مسه حاذق متقدم في الغناء.» قلت: «أنا أصلحته.» قالت: «فبالله خذه واضرب به.» فأخذته وضربت، فما بقي أحد في المجلس إلا وثب على قدميه وهز عطفيه، ثم قالوا: «بالله يا سيدي من أنت؟» قلت: «أنا إسحق الموصلي.» فأقبلوا علي يا أمير المؤمنين، وغنيت الأدوار التي غنتها الجارية، فقال صاحب الدار: «هل لك أن تقيم عندي شهرا والجارية والحمار لك مع ما عليهما من الحلي.» قلت: «نعم.» فأقمت عنده شهرا لا يدري أحد أين أنا، وها أنا ذا جئت إليك يا أمير المؤمنين.»
فضحك المأمون وقال: قاتلك الله ... كنت أبحث عنك طويلا، حتى حسبت أن إبراهيم بن المهدي قد احتجزك.
قال إسحق: الحمد لله الذي نجاني من المارق. •••
ودخل «فتح» الحاجب فقال: كلثوم العتابي
7
يا أمير المؤمنين.
فأذن له المأمون، فدخل وحياه فقال: حيا الله أمير المؤمنين وبياه، وبارك عهده.
قال المأمون: حياك الله وبياك يا عتابي، بلغتنا وفاتك فغمتنا، ثم انتهت إلينا وفادتك فسرتنا.
كلثوم :
أحمد الله على الموت والحياة ما دمت في رعاية أمير المؤمنين.
المأمون :
وكيف حالك يا عتابي؟ - حال رجل لا يطمع في الدنيا إلا في رضا أمير المؤمنين.
فاستظرفه المأمون وأراد أن يمزح معه، فقد كانت له أطوار غريبة، فقال له: وكيف شأنك يا عتابي؟
فأجاب: في خير إن شاء الله.
فسكت المأمون وتشاغل بشيء ثم عاد فقال: وكيف حالك يا عتابي؟
فقال كلثوم: أتهزأ بي يا أمير المؤمنين ... إن الإيناس
8
قبل الإبساس.
قال إسحق الموصلي: وما هو الإبساس يا شيخ؟
فقال كلثوم: ومن أنت أيها الوسواس؟
قال إسحق: أنا من بعض الناس.
كلثوم :
وما اسمك يا هذا؟
إسحق :
اسمي «كل بصل!»
كلثوم :
هذا اسم منكر مستنكر. وما «كل بصل» في الأسماء؟
إسحق :
ما أقل إنصافك يا شيخ، وما اسمك أنت؟
كلثوم :
اسمي كما سمعت «كلثوم».
إسحق :
وما «كل ثوم» بين الأسماء، والبصل خير من الثوم؟!
فضحك المأمون حتى استلقى، وضحك من بالمجلس، فقال كلثوم: قاتلك الله ما أملحك ... ولكن ما رأيت كالبصل حرارة.
قال إسحق: وما رأيت كالثوم رائحة.
فقال كلثوم: غلبني والله يا أمير المؤمنين.
إسحق :
ما دمت أقررت بأني غلبتك فمن أكون؟
كلثوم :
لعلك الشيخ الذي تناهت إلينا أخباره بالكوفة ويعرف بإسحق الموصلي.
إسحق :
هو من قلت ... وقد سرتني رؤيتك.
وما كاد ينتهي إسحق حتى استأذن «فتح» الحاجب لرئيس الشرطة دينار بن عبد الله، فأذن له المأمون ودخل، وحيا الخليفة، فسأله عما جاء به، فقال دينار: جئت يا مولاي برجل يدعي أنه النبي «إبراهيم الخليل» عليه السلام. فابتسم المأمون وقال متهكما: أدخله نستمع لوحيه.
فذهب دينار وأتى بالرجل.
فقال له المأمون: هل أنت إبراهيم الخليل؟
قال الرجل: نعم ... نعم ... يا عبد الله.
فغاظت المأمون جرأته، فقال يحيى بن أكثم: هل يأذن أمير المؤمنين أن أناقشه؟
قال المأمون: دونك وإياه ...
فقال يحيى: يا هذا، إن إبراهيم الخليل كانت له براهين.
قال الرجل: وما هي براهينه؟
يحيى :
أضرمت له النار وألقي فيها، فكانت عليه بردا وسلاما! فنحن نضرم لك النار، ونطرحك فيها، فإن كانت عليك بردا وسلاما آمنا بك وصدقناك.
الرجل :
هذا برهان عسير ، فاسألني برهانا آخر.
يحيى :
وكان من براهين موسى أن ألقى العصا فإذا هي حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق، فافعل بعصاك مثله.
الرجل :
هذا برهان صعب، وما لنا وللعصا وللحية يا صاح ولسنا أمام فرعون، بل أمام المأمون!
يحيى :
وكانت براهين عيسى عليه السلام إبراء المرضى، وإحياء الموتى، فافعل مثل ما فعل.
الرجل :
جئت بالطامة الكبرى، ما لي وللمرضى والأطباء كثيرون، ثم ما لي وللموتى وقد بعثت للأحياء ...؟!
فضحك المأمون والحاضرون وقال للرجل: لا بد لك من براهين وإلا ضربنا عنقك ...!
قال الرجل: ما معي شيء مما تطلبون، ولقد قلت لجبريل حين أرسلت بالرسالة: إنكم ترسلونني إلى قوم فيهم أمير المؤمنين المأمون وفيهم قاضي القضاة يحيى بن أكثم، فأعطوني برهانا أذهب به إليهم. فغضب جبريل وقال: «اذهب أولا وانظر ما يقول لك القوم، ثم نعطيك ما يطلبون.»
فأغرق المأمون في الضحك، وقال: هذا نبي يصلح للمنادمة!
ثم أمر بإطلاقه وانفض المجلس، وخرج المأمون ليقضي وقتا في الرياضة وصيد الثعالب والظباء ليخفف عن نفسه متاعب الملك، وهموم التفكير في ثورة العراق، وفي الثائر إبراهيم بن المهدي ...!
ساحر ومسحور
عاد المأمون من الصيد بعد ما قضى فيه ثلاثة أيام، وقد أصاب من الثعالب والغزلان عددا، وقنص فيما قنص نمرا مخططا ثائرا أتى به حيا، فسماه «إبراهيم المبارك» تفاؤلا بأنه سيتغلب على إبراهيم ويقبض عليه ويطفئ ثورته ويأتي إليه مقيدا ذليلا، كما قنص هذا النمر وقيده وأضعف قوته وأذل كبرياءه. وكان المأمون لا ينفك مهتما بثورة إبراهيم وخروجه عليه، وزاد في همه ما علمه من انضمام بني العباس إليه في الكوفة والأنبار وبغداد وسائر العراق والشام، وقد شايعوه وبايعوه أميرا للمؤمنين. ولكنه منذ بعث «حميد بن عبد الحميد» بجيشه وما حوى من عدة ضخمة وعدد غفير، وما زوده به هو وجنوده من الوصايا والوعود بالعطايا الجزيلة، كان مطمئنا إلى أن قائده سيبلغ ما يريد، ويحقق له ما يتمنى.
وكان الفضل بن سهل وزيره الأكبر يزيده اطمئنانا وأملا بما يهون عليه من شأن إبراهيم ، ويخفي عنه بعض ما يحدث في العراق من خطر هذه الثورة ونقمة الناس على المأمون، شأن بطانة الملوك ووزرائهم يخفون عنهم حقيقة ما يجري بين الشعب. ولكن المأمون كانت له عيون ينظر بها غير عيون الفضل بن سهل، وكان يتابع أنباء جيش «حميد» على الدوام. وجلس المأمون في ديوانه وهو في «مرو» يعالج شئون خراسان، وكانت هناك طائفة من الزنادقة اهتم بالقضاء عليهم وعلى دعوتهم بين الناس، وكانوا من الزنادقة المانوية أتباع «ماني»: وهو ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في عهد ملك الفرس سابور بن أزدشير بعد ظهور المسيحية. وقد ابتدع دينا بين المسيحية والمجوسية، وكان ينفي نبوة موسى، ويعترف بنبوة المسيح. وقد زعم أن العالم مركب من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأن النور جوهره حسن فاضل كريم صاف نقي طيب الريح جميل المنظر، وأن الظلمة جوهر قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر.
وأن للنور خمسة أجناس: أربعة منها أبدان والخامس روحها، فالأبدان هي: النار والنور والريح والماء، وروحها النسيم. وللظلمة خمسة أجناس كذلك: منها أربعة أبدان وهي الحريق والظلام والسموم والضباب، وروحها الدخان وهي تدعى الهمامة وتتحرك في هذه الأبدان.
وكان لماني اعتقاد في بعض الشرائع دون البعض الآخر، وله في ذلك مذهب وأتباع طالما حاربهم المأمون.
واستأذن دينار رئيس العسكر في الدخول، فأذن له المأمون فدخل وسأله عن شأنه وما أتى به، فأنبأه أنه قبض على عشرة من الزنادقة المانوية، فأمر بإحضارهم فسألهم: أنتم الزنادقة؟
فقال أحدهم: أنا لست زنديقا يا أمير المؤمنين.
قال المأمون: وما خبرك يا هذا، ولماذا جئت معهم؟ - امرأتي طالق يا أمير المؤمنين إن كنت والله أعرف هؤلاء أو أعرف من أمرهم شيئا، وإنما أنا رجل طفيلي.
المأمون (ضاحكا) :
طفيلي ...
الرجل :
نعم طفيلي. رأيت هؤلاء قد اجتمعوا، فقلت ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فدخلت في وسطهم ومضيت معهم، فأركبهم الموكلون بهم سفينة، فرأيت فرشا ممهدا وخبزا وسلالا مملوءة، فقلت: «نزهة لطيفة يمضون بها إلى بعض البساتين والقصور، وهذا يوم سار.» وبشرت نفسي، ولكن لم أر نزهة ولا بستانا. وبينما نحن كذلك إذا جاء الشرطة، فقيدوهم وقيدوني معهم وأنا لا أدري شيئا، فقلت لهم: «إيش أنتم؟» فقالوا: «بل إيش أنت؟ ومن أنت، أمن إخواننا؟» قلت: «كلا، بل أنا طفيلي أحببت ألا تتركوني دون هذه النزهة الجميلة، والوليمة المباركة.» فتبسم القوم ونظر بعضهم إلى بعض وضحكوا، ثم قالوا: «لقد حصلت معنا في الإحصاء، وأوثقت في الحديد. أما نحن فزنادقة مانوية أمر المأمون بالقبض علينا.» ووالله يا أمير المؤمنين ما أدري من هو «ماني.» وهل هو رجل أو امرأة، وهل هو إنسان أو شيطان!
فقهقه المأمون قهقهة عالية وقال: يا دينار، فك قيود هذا الرجل.
فقال الطفيلي: أحمد الله إلى أمير المؤمنين ... أأنطلق؟
المأمون :
لا بل انتظر ها هنا ...
وأشار إلى ناحية المجلس. ثم التفت المأمون إلى الزنادقة، وقال: وأنتم ماذا تقولون عن العالم؟
أحدهم :
نقول ما قاله «ماني.» إنه نشأ من النور والظلام.
المأمون (لباقيهم) :
وأنتم تقولون هذا القول؟
الجميع :
نعم ... نعم ...!
المأمون (لدينار) :
يا دينار، اذهب بهم إلى أحد أصلي العالم ... اذهب بهم إلى ظلام السجن أعماهم الله.
وأراد بعضهم أن يتكلموا فعاجلهم المأمون قائلا: اخسئوا قاتلكم الله.
ودفعهم الجنود إلى السجن، ثم التفت إلى الطفيلي وقال: وأنت يا هذا تطفلت، فغامرت، والله لأكاد أن أقذف بك معهم!
الطفيلي :
عفوا يا أمير المؤمنين، وليسعني حلمك، فقد جاءوا بي إليك وهي مغامرة كانت خيرا وبركة وبردا وسلاما، وهي عندي خير من ثلاث ولائم!
فضحك المأمون وقال: قاتلك الله، إن فيك لظرفا ... انصرف وعفوت عنك! •••
انصرف الطفيلي ... وما كاد يغيب عن المجلس حتى سمعت ضجة في الخارج، فإذا بالوزير الأكبر الفضل قادما محمولا كعادته على كرسي مجنح، وكان المأمون قد أجاز له ذلك تكريما له، وسماه ذا الرياستين!
وأقبل الفضل في هذه الهيئة، حتى إذا كان على مرأى من المأمون نزل وترجل، وسلم على أمير المؤمنين وجلس عن يساره، فقال المأمون: كيف حال العراق يا فضل ؟ - إنها حال تسر أمير المؤمنين، وتكبت أعداءه ... إن العراقيين يلتفون حولك ويخلصون لمولاي الحب والولاء. - وما شأن إبراهيم بن المهدي فيهم؟ - إنه مخذول منبوذ في طائفة قليلة من رعاع القوم.
فسكت المأمون مليا وقال: ولكن الوافدين من بغداد يقولون غير ذلك.
فقال الفضل في غير تريث: وهل دخلت على أمير المؤمنين يوما بكذب، أو حدثته بغير ما أعلم، أو مالأت أحدا عليه؟ وإذا كان أمير المؤمنين قد شرفني بثقته ورفعني إلى موضع أمانته وسره، فكيف يقول لي هذا القول؟! - لا والله يا فضل ما علمت عنك سوءا. ولكن إذا كانت الحال على ما تصف، فكيف أنباء جيش حميد بن عبد الحميد؟ - إنه على ما يحب أمير المؤمنين، قد انتصر منذ الساعة الأولى. - ولكني علمت أنه خسر الجولة الأولى بين جيشه وجيش إبراهيم!
وهنا دخل الحاجب يستأذن لهرثمة بن أعين أحد قواد العباسيين القدماء، وأكبرهم في عهد المهدي والرشيد، وكان بينه وبين الفضل بن سهل ضغينة ولم يكن راضيا عن سياسته. فأذن له ودخل، فقال: السلام على مولاي أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
المأمون :
وعلى هرثمة السلام والبركات. لماذا تجشمت كل هذا السفر يا أبا حاتم؟
9
هرثمة :
تجشمت ذلك، لأقضي حق الله في طاعة أمير المؤمنين وأنبهه إلى أمره وأقوم بالنصح له.
المأمون (وقد أدرك مراده) :
يا أبا حاتم ليست بك حاجة إلى هذا، وأنت شيخ مريض تعب، فانصرف إلى منزلك تسترح.
هرثمة :
لا يا أمير المؤمنين، ما تجشمت طول السفر ووعثاء الطريق لأنصرف إلى منزلي!
المأمون :
بلى يا أبا الحاتم، أحب أن تنصرف لتستريح، ودع ذكر ما لا نحتاج إليه، وما أنت عنه في غنى.
هرثمة :
كلا يا أمير المؤمنين، حتى أقضي الحق في نصحك، فإني لا آمن أن يحدث علي في هذه الساعة حادث، فألقى ربي مقصرا في حق إمامي.
ثم التفت هرثمة إلى الفضل بن سهل وقال مشيرا إليه في تهكم: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي لم يمتني حتى رأيت هذا المجوسي يحمل إلى مجلسك في كرسي مجنح، ويجلس بين يديك على كرسي كأمراء بني العباس!
فقال المأمون متجهما: دع ما لا يعنيك يا هرثمة لما يعنيك. ولا شأن لك بالفضل بن سهل.
هرثمة :
يا أمير المؤمنين، ما لمسرور وسلام خادمي أبيك الرشيد يحبسان بغير ذنب، ويأخذ هذا المجوسي أمتعتهما فيمزقها ويحرقها. ألأنهما أعانا أباك الرشيد في الفتك بجعفر البرمكي وآله، فيأتي هذا وينتقم من الأحياء للأموات؟
المأمون (غاضبا) :
يا هرثمة ما لك وذكر ما لا نحتاج إليه!
وهنا نهض الفضل في غضب وحقد وقال لهرثمة: وما أنت وهذا يا سفيه، يأمرك أمير المؤمنين أن تمسك عن الكلام، ولا تتعرض لما لا يعنيك، فتأبى، وتقول ما تقول غير مكترث بحقه، ولا سامع لقوله، ولا محترم لطاعته! أو تظن أنك تكرهه على أن يسمع منك لغوا، ويصدق منك كذبا، ويأخذني بما سولت نفسك البغيضة حسدا منك لأوليائه وتطاولا على خاصة رجاله؟ ويلك! وأين لك هذه المنزلة؟ تقول لأمير المؤمنين إنك تنبهه إلى أمره، وتقوم له بالنصح، وكأنه نزل منك حيث ينزل الولي من المولى، وقد ردك في ذلك ردا لطيفا، وأجابك جوابا لينا، فما ارعويت، ولا استحييت، بل كنت تجيب بالقول الجريء والكلام البذيء. أكان حلم أمير المؤمنين أعزه الله يسع منك أكثر ما وسع، وقد أتاه ما كان من سعيك لإبراهيم بن المهدي وثنائك عليه، وخيانتك ليلة خلع الأمين، لولا أن طاهرا بن الحسين
10
فطن لما دبرت وكشف ما عليه تآمرت، فأوقعك الله وأوقع المخلوع، فخرجت من نهر دجلة تزعم أنك كنت تريد أسره والذهاب به إلى الخليفة، وتسليمه بردة الخلافة والخاتم والقضيب، فما صدقتك ولا سمعت لك وأبعدتك عن نعماء أمير المؤمنين، فرحت تشيع الأباطيل، وظننت يا جاهل بسوء تدبيرك، أنك لو أتيت أمير المؤمنين، فلغوت بما لغوت، واجترأت بما اجترأت، صدقك وأحلك محل الناصح الأمين، ولكنك ما كدت تفتح شفتيك بما افتريت حتى استبان سوء قصدك، وعرف سبيل غيك، فأوقفك عند حدك وردك إلى شأنك، فما انتبهت ولا ارعويت. «أرأيت لو أن أمير المؤمنين بطش بك الساعة أكان لك منه معاذ؟ والله لأكاد أركلك برجلي ركلة تذهب بك إلى نار جهنم. اذهب. اخسأ. لا رحمك الله.»
ثم نادى الفضل دينارا وجنده قائلا: خذوا برجل هذا الجاهل السفيه وجروه على وجهه إلى السجن!
ففعل الجند ما أمر الفضل، وسكت المأمون ثم قال له: أحسنت يا فضل، والله لو لم تقل له ما قلت لكنت قلته، ولو لم تفعل ما فعلت لأمرت الساعة أن يقتل.
ثم نهض المأمون، وأذن للفضل والحاضرين بالانصراف، لكنه استبقى كاتبه عمرو بن مسعدة. •••
انصرف القوم ثم التفت المأمون إلى عمرو وقال: أرأيت يا عمرو ما فعل الفضل بن سهل بالشيخ هرثمة في مجلسي مع بلائه في هذه الدولة، وهو قائدي وقائد أبي وجدي، والله إني لهممت أن أقتل الفضل بن سهل الساعة.
ابن مسعدة: والله يا أمير المؤمنين ما تكلم الشيخ هرثمة إلا حقا، ولقد ستر الفضل عنك كثيرا وأغضب منك أهل العراق حتى قالوا عنه: «إنه ساحر وإنك مسحور به!»
المأمون: عجبا، أهكذا يقولون؟!
ثم أطرق المأمون في تفكير عميق!
عمرو بن مسعدة
كان عمرو بن مسعدة - ويكنى أبا الفضل
11 - من أصل تركي، أبيض الوجه في احمرار. وجده «صول بن صول» كان رجلا تركيا تولى إمارة جرجان، وتشبه بالفرس في عاداتهم وأخلاقهم. وكلمة «صول» كانت لقبا لحاكم دهستان، كما يطلق لقب كسرى على الساسانيين من ملوك الفرس.
وقد تولى عمرو الكتابة للمأمون، فأحبه وآثره وقدمه على سائر كتابه، وولاه ديوان الرسائل وديوان الخاتم والتوقيع والأزقة، ثم تولى حكم فارس وكرمان. وكان المأمون يعجب ببلاغته، ويسند إليه الكتابة في مهام دولته.
ودخل أحمد بن يوسف الكاتب على المأمون يوما، فرأى بيده كتابا من عمرو، وهو يتأمل فيه مدة، فوقف حتى انتهى منه والتفت إلى أحمد، فقال له: «إن في هذا الكتاب كلاما نظير ما سمعت من الرشيد عن البلاغة من أنها التباعد عن الإطالة، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على ذلك حتى جاءني هذا الكتاب من عمرو فإذا فيه: «كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قواده ورؤساء أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، فأخلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم.» «وإن استحساني هذا الكتاب بعثني على أن أمرت للجند بأعطيتهم لسبعة أشهر. لله عمرو ما أبلغه، ألا ترى كيف أومأ إلى وجه المسألة في الإخبار، وإعفاءه سلطانه من الإكثار.» وكان عمرو ذا ثروة واسعة مما أقطعه إياه المأمون ومما نزل عنه من خراج بعض الولايات كما كان خلفاء ذلك العهد الذهبي يفعلون لخاصتهم، حتى قيل إنه مات عن ثمانية ملايين دينار بعد ما عاش عيشة البذخ والترف وبذل ما بذل من كثير الأموال للعلماء والشعراء وغيرهم. ولا غرو فقد كان ملك العباسيين أكبر من قارة أوروبا، وكانت الضرائب تجبى من كل مكان إلى بغداد!
وقد كان لعمرو فرس أدهم أغر لم يكن للمأمون مثله، فرآه واستحسنه فبادر عمرو بإهدائه إليه مع كتاب فيه هذه الأبيات:
يا إماما لا يدا
نيه إذا عد إمام
فضل الناس كما يف
ضل نقصانا تمام
قد بعثنا بجواد
مثله ليس يرام
فرس يزهى به لل
حسن سرج ولجام
دونه الخيل كما دو
نك في الفضل الأنام
وجهه صبح ولكن
سائر الجسم ظلام
والذي يصلح للمو
لى على العبد حرام
كانت هذه منزلة عمرو عند المأمون، فليس غريبا أن يستبقيه، ويصرف من حضر في المجلس، وفيهم الفضل بن سهل كبير وزرائه وعظيم دولته. وقد كان بين عمرو وفضل ما بين الوزراء والنظراء ورجال السلطان من تنافس ودسائس وإيثار للنفس بالحظوة والولاء. •••
فلما أفضى المأمون بما في نفسه لعمرو حين رأى الشيخ هرثمة بن أعين يفعل به الفضل بن سهل ما فعل بمجلسه، أجاب الخليفة بما أجاب به، وقال له: إن الفضل ستر عنك كثيرا، وأغضب أهل العراق حتى قالوا: «إنه ساحر وإنك به مسحور!»
فقال المأمون لعمرو: ومن يعلم هذا غيرك من رجالي يا أبا الفضل؟
فأجاب: يعلمه خلف المصري، وعلي بن سعيد، وعلي بن هشام.
فبعث المأمون من أتى بهؤلاء الثلاثة في اليوم التالي.
حضروا وسلموا وركعوا، وقبلوا الأرض ثم رفعوا رءوسهم، فقال لهم المأمون: ماذا تقولون في الفضل بن سهل، هل هو يغشني؟
فالتفت بعضهم إلى بعض، ولم يتكلموا، فأعاد المأمون سؤاله، فسكتوا، ثم قال خلف المصري: لا نقول شيئا يا مولاي حتى تعطينا الأمان من الفضل!
المأمون :
قولوا وأنتم آمنون.
خلف المصري :
إنه والله يا أمير المؤمنين ما صدقك الفضل بن سهل حين حدثك عن بغداد والعراق وإبراهيم بن المهدي، وإن بغداد اليوم تتأجج بفتنة شعواء، فإن لم يتداركها أمير المؤمنين ذهبت بسلطانه.
علي بن هشام :
نعم يا أمير المؤمنين، وإن أمر إبراهيم بن المهدي لفي صعود وإقبال، وقد صار العراقيون في كل مكان يهتفون به وينادونه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين.
علي بن سعيد :
وقد غشك الفضل بن سهل في أمر هرثمة. والله يا أمير المؤمنين ما كذب هرثمة، ولا خانك في أمر ولا ائتمر بك يوم حصار الأمين ببغداد، وما أراد له أن يفر من وجهك وإنما كان كل همه أن يحفظ حياته، وأن يأتي به حيا؛ لأنه يعلم أنك كنت تحب لأخيك الحياة، ولكن الفضل سلط عليه طاهر بن الحسين وهذا سلط عليه صعاليك الجند فذبحوه كما تذبح الشاة، وكان ما كان من لوم الناس وغضب بني العباس.
خلف المصري :
والله يا أمير المؤمنين لقد نصحك الفضل فغشك، وأنبأك فكذبك، وما تجشم الشيخ هرثمة ما تجشم من السفر والتعب وهو شيخ طاعن السن واهن القوى إلا ليؤدي حق الله في طاعتك، وحق ولائه لأهل بيتك، ولكنه أخذ من مجلسك على ما رأيت وألقي في السجن، وما خرج الفضل من عندك حتى بعث إليه من قتله!
المأمون :
أوقد قتله؟!
خلف المصري :
نعم، قتل غلام الفضل الشيخ هرثمة في السجن منذ ساعة!
فدمدم المأمون بكلام ثم قال: أهكذا يفعل بأوليائي؟ والله ليلقين جزاءه!
عمرو بن مسعدة :
يا أمير المؤمنين، لقد رفعت الفضل بن سهل، وأحللته الغاية من حظوتك، وجعلت له الرياستين: رياسة الحرب ورياسة التدبير، تفضلا منك ونعمة، فظن من سوء رأيه أنه نظير نفسك، وأنه إن نزلت عن مكانك صار له عرشك وسلطانك. وكان يقال: «إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في الرأي والمنزلة والهيبة والمال والتبع، فليصرعه، فإن لم يفعل كان هو المصروع.»
ثم ما عرف يا أمير المؤمنين فضلك عليه، ولا شكر نعماءك، بل اتخذها حربا لأوليائك، واستغلها لمآرب أعدائك، وقد رأيت ما فعله بهرثمة في مجلسك اجتراء منه عليك، واستخفافا بحقك، ولو كان قد وضع نفسه موضعها لما فعل ما فعل بحضرتك، ولما تولى ذلك عن أمير المؤمنين، وهو أعلم بالأمور!
المأمون :
يا عمرو، حقا لقد رفعته على الناس، وأحللته عندي محل بني العباس، وأقطعته وأعطيته، وجعلت له مرتبة من يقول في كل شيء فيسمع منه ولا يرد، ولا يتقدم غيره عليه في المراتب.
ولكن خل شأنه، فله يوم آخر. وانظر ماذا ترى في أمر الفتنة بالعراق.
ابن مسعدة :
أرى الرأي أن يأمر أمير المؤمنين فنخرج ويخرج معنا إلى بغداد، فإن الناس قد فتنوا هناك بإبراهيم بن المهدي، ولو رآك البغداديون بينهم لهدأت ثائرتهم وانطفأت فتنتهم واغتبطوا بمقدم أمير المؤمنين وهرعوا إليه بالطاعة والولاء، فإنهم يحبونه ويعظمونه منذ كان صبيا معروفا بينهم بالنجابة والفصاحة والتقوى.
يا أمير المؤمنين، إن النفاق من أخلاق الجماهير، وأنت في حكمة تدبيرك، وبراعة سياستك، وفصاحة لسانك، وعظيم كياستك، أقدر على أن ترد الأمر إلى نصابه، وقد ميزك الله بالعلم وفضلك بالسداد ووفقك إلى ما أنت به أهل وما أنت به جدير، وأرادك حافظا لتراث الرشيد في ولده وأن تكون للدين والدنيا خير إمام.
المأمون :
أحسنت يا عمرو، نعم الرأي ما رأيت. ولنذهب إلى بغداد. هيا بنا إلى دار السلام.
الفصل الخامس
إلى عروس المشرق
برح المأمون «مرو» إلى بغداد
1
دار السلام، لإطفاء الفتنة، والقضاء على دعوة إبراهيم بن المهدي، وتوطيد دعائم خلافته، وتثبيت وطائد ملكه، وتشييد أركانه، والتقرب من العرب وتقريبهم، والجمع بالمودة بينهم وبين أنصاره الخراسانيين.
وقد مات علي بن موسى الرضا وانتهى أمر ولاية العهد التي ولاه إياها المأمون فأغضبت بني العباس والعرب في العراق، ولكن هل يرضى العرب ذهاب الموت بهذه الولاية دون شعار العلويين الأخضر الذي ما زال يتمسك به المأمون ويلبسه هو ورجاله؟ وهل يرضى العرب في العراق أن يتعاونوا مع الفضل بن سهل وزيره، وهو من هو في تعصبه للفرس والشيعة العلوية، ومحاربته سرا وجهرا لقادة العرب والقضاء على نفوذهم في الدولة؟
لا بد إذن من الرجوع إلى شعار العباسيين وسنتهم وأوضاعهم، وله في ذلك مندوحة أي مندوحة ليطفئ هذه الفتنة الشعواء وليعيد الأمور إلى نصابها بعد ما اضطرب حبلها ومثل خطرها. •••
رجع المأمون إلى شعار آبائه فخلع الملابس الخضراء ولبس الملابس السوداء، وقلده في ذلك وزراؤه وقواده ورجال دولته. ولم ير الفرس في ذلك غضاضة؛ لأنهم يحبونه ويثقون بمحبته لهم، واحترامه لكبارهم، وهم أخواله وأنصاره.
أما الفضل بن سهل فقد رأى المأمون ألا يصحبه إلى العراق في موكبه وفي هذه الفتنة التي يعتبره العراقيون عاملها الأول، ولولا أعماله ما وقع ما وقع، ولولاه ما فكر المأمون فيما فكر فيه ولما أقدم على ما أقدم عليه من الخروج على سنة آبائه والميل إلى ولاء العلويين.
خرج المأمون في موكبه الضخم إلى العراق وأشار على الفضل أن يذهب إلى مسقط رأسه «سرخس» وأن يقيم فيها مدة حتى تهدأ الحال وتستتب الأمور فيبعث إليه بالحضور إلى بغداد. واستصحب المأمون أخاه أبا إسحق المعتصم، وابنه العباس، وكاتبه عمرو بن مسعدة، وقاضي القضاة يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي خالد الأحول، وإسحق الموصلي، وغيرهم من خاصة رجاله وحاشيته وأعيان دولته.
وسافر الفضل بن سهل إلى «سرخس» وكان له فيها قصر كبير أقام به أياما، وبينما كان جالسا في وقت الغروب يلعب الشطرنج مع بعض أهله إذ فاجأه أربعة رجال يحملون السيوف، فهم إليهم بسيفه فدافعهم، ودافعوه حتى ضعف عن مقاومتهم فلجأ إلى الحمام وأغلقه عليه، فاقتحموا بابه، وتعاوروه بالسيوف حتى قتلوه، وكان يصيح : قتلني غلمان أمير المؤمنين. قتلني غلمان المأمون!
وكان هؤلاء الغلمان: غالب السعودي، وفرخ الديلمي، وقسطنطين العربي، وموفق الصقلبي.
زواج سياسي
وصل موكب المأمون إلى «الرقة» في طريقه إلى بغداد فأقام بعض الوقت ليستريح، فجاءه من سرخس فارس ينبئه بمقتل الفضل بن سهل بأيدي غلمانه الأربعة، فتظاهر بالحزن والأسى، وقال عمرو بن مسعدة: أرى أن يقتل هؤلاء الغلمان، فإنهم إن بقوا سلوا على أمير المؤمنين ألسنة الناس، ولا نأمن أن يسلوا عليه سيوف خراسان.
فقال المأمون: نعم الرأي ما رأيت.
وأمر بقتلهم فقتلوا. ثم بعث إلى الحسن بن سهل، وكان وقتئذ في «واسط» فحضر وأقامه في الوزارة مقام أخيه حتى لا يغضب الخراسانيون. وكان الحسن بن سهل قبل أن يلي الوزارة من أكبر قواد المأمون، وكان أديبا فصيحا، ذا رأي وحزم ورجاحة عقل، غير متعصب تعصب أخيه للعلويين، وإن كان متشيعا لهم كغيره من الفرس. وقد قاد الجيوش وحارب إبراهيم بن المهدي وأصيب أثناء ذلك بمرض السوداء «النورستانيا» فتغير عقله حتى شد في الحديد وحبس في بيته زمنا وخلفه على العسكر أحد قواده ثم شفي، فاستدعاه المأمون بعد مقتل أخيه وشمله برعايته وعطفه وأعلى مكانه في دولته، ووهب له أموالا كثيرة، وأقطعه «فم الصلح!»
وأراد أن يزيد في إكرامه فخطب ابنته خديجة المسماة «بوران»
2
سنة 203ه، وكانت وقتئذ في الحادية عشرة من عمرها، فأجل البناء بها. وهي من أجمل نساء عصرها وأكثرهن ذكاء وفصاحة وفتونا.
وكذلك أراد المأمون أن يرضي الفرس والعرب معا وأن يجمع حوله الفريقين. وما كاد موكبه يبرح «الرقة» إلى بغداد حتى جاءته الأنباء بنصر قائده حميد بن عبد الحميد على إبراهيم بن المهدي وفراره من بغداد.
في بغداد
اغتبط المأمون بهذه البشرى وتفاءل برحيله إلى بغداد ظافرا منصورا، وشد رحاله مسرعا إلى عاصمة الدولة، وعروس المشرق، ودخلها في موكب فخم يحف به القواد والفرسان، ويتقدمه الجنود بالأعلام والطبول، ومن ورائه طوائف الفرس والعرب في مشهد رائع بديع.
ووصل الموكب إلى «قصر الخلد» - قصر الخلافة - وكان مشيدا على الشاطئ الغربي من دجلة، وأقيمت فيه أريكة
3
فخمة جلس عليها المأمون بملابسه السوداء، وعليه بردة الخلافة وبيده الخاتم والقضيب، وعلى رأسه عمامة سوداء في مقدمتها طرة من أسلاك الذهب كعرف الطاووس. ووقف وراءه وحوله الحراس يحملون السيوف والنشاب، وجلس على يمينه أخوه أبو إسحق المعتصم، وابنه أبو العباس، وعن يساره الحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأحمد بن أبي خالد، وغيرهم من الوزراء والقواد.
ودخل عليه أخوه صالح بن الرشيد فحياه وهنأه وقال:
حمدنا الله شكرا إذ حبانا
بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقا
جمعت سماحة وجمعت دينا
فقال المأمون: أحسنت يا صالح، لمن هذان البيتان؟
صالح: للحسين بن الضحاك.
المأمون: لقد أحسن وأجاد، ولكن لا شيء له عندنا. أنبئني يا صالح كيف رأيت الناس في بغداد؟
صالح: رأيتهم يا أمير المؤمنين في كل مكان يتسابقون إلى موكبك، ويتقاتلون على رؤيتك، ويتنافسون في تقبيل يدك، ويهتفون في حماسة باسمك ويقولون: «المأمون أمير المؤمنين، لا طاعة لإبراهيم!»
فهز المأمون رأسه وقال: هذه نعمة جليلة أحمد الله عليها، ولكن لا يغرنك ما ترى من نفاق الناس وتملقهم، فطالما نافقوا الغالب وانفضوا عن المغلوب. أولم يكونوا بالأمس يهتفون لإبراهيم بن المهدي وينادونه بالخلافة ويسندون له كل فضل ويلقبونه «المبارك»؟ «ولكن هكذا الدنيا يا صالح، وهكذا الناس.»
صالح: صدقت يا أمير المؤمنين. •••
واستأذن دينار بن عبد الله على المأمون فسأله المأمون: ما وراءك يا دينار، هل قبضت على إبراهيم بن المهدي؟
دينار: لن يفلت أبدا من جنود أمير المؤمنين، وقد بعثت وراءه من يقبض عليه في العراق والشام.
المأمون: سوف لا يفلت إن شاء الله، وأرجو أن تأتوني به حيا ولا تقتلوه ولا تمسوه بسوء!
دينار: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين.
فقال العباس بن المأمون: يا أمير المؤمنين، إن إبراهيم خائن لك، وقد طمع فيك وخلعك، والرأي عندي أن يقتل أينما وجد!
المأمون: هون عليك يا عباس.
العباس: لست تأمن يا أمير المؤمنين أن يعود إبراهيم لمثل ما فعل، فيسبب لك المتاعب.
المأمون : صدقت يا بني، ولكن من أراد الملك فليوطد نفسه على المتاعب.
زبيدة
وبينما هم في المجلس إذ دخل الحاجب «فتح» يقول: أم جعفر زبيدة يا أمير المؤمنين.
فقام المأمون إجلالا لزوجة الرشيد وحفيدة أبي جعفر المنصور، وصرف من حوله من الوزراء والرجال وبقي أخواه المعتصم وصالح وابنه العباس.
ودخلت زبيدة وبصحبتها علية بنت المهدي عمة المأمون. وكانت منذ قتل ابنها الأمين معتكفة في قصرها «دار القرار» على شاطئ دجلة، حتى إذا أقبل المأمون جاءت لتحييه وتفضي إليه بما في نفسها. فلما دخلت قال المأمون: حياك الله يا أماه، كيف حالك؟
زبيدة :
حيا الله أمير المؤمنين، وأبقاه للدين والدنيا.
المأمون :
رحم الله أبي وأخي وأبقاك يا أماه، فوالله ما كنت أرجو أن يقتل الأمين، فعلها طاهر بن الحسين قاتله الله ففجعنا فيه، وسل علينا سيوف الناس وألسنتهم. وما أمرناه إلا أن يبعث به أسيرا، فبعث به عقيرا.
زبيدة :
ما علمت عنك سوءا يا أمير المؤمنين، ولقد كنت أعرف حبك لأخيك وبرك به. وقد فعلها «ابن الحسين» حقا وما كان يبالي بتضرعي وشفاعتي عنده، وأعرض عني.
وأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا
وأنهب أموالي وأحرق آدري
المأمون :
هذا قضاء الله نفذ ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وإني لك في البر بالمحل الذي كان فيه الأمين.
زبيدة :
وقلت لريب الدهر إن هلكت يد
فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لي، فالرشيد لي
ولي جعفر
4
لم يفقدا ومحمد
المأمون :
أبقاك الله يا أماه، وإنك عندي بالمنزلة التي كانت عند أبي وجدي، فسلي ما شئت.
زبيدة :
يا أمير المؤمنين، نحن عرب، وللعرب رحم ونسب، فانظر إلى عرب العراق والشام كما نظرت إلى عجم خراسان.
المأمون :
والله يا أماه ما نزلت قيس عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد. وأما اليمن فما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فإن سادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من الشيعة، وأما ربيعة فساخطة على الله عز وجل منذ بعث نبيه من مضر .
زبيدة :
يا أمير المؤمنين، قد عرفت بالحكمة والكياسة والعدل، وقد مات الرشيد وما مات حتى كان العرب راضين عنه، فانظر إلى ما يرضي العرب كما نظرت إلى العجم.
المأمون :
أفعل إن شاء الله.
وتناولت زبيدة حلة الخلافة التي كان يلبسها الرشيد في حياته، وكانت تحملها إحدى وصيفاتها، فقدمتها للمأمون هدية وتذكارا جميلا، فتناولها مسرورا وشكر لها هذه الهدية النفيسة، واستأذنت وخرجت مع علية مودعتين منه أجمل وداع. وما كادتا تبعدان حتى بعث المأمون في طلب عمرو بن مسعدة، فأقبل مسرعا، فأراه حلة الرشيد، وحدثه عما جرى بينه وبين زبيدة، فقال عمرو: لقد نصحت أم جعفر والله يا أمير المؤمنين، ومثلك فوق نصح الناصحين.
قال المأمون: وفقني الله. وكيف حال بغداد اليوم يا بن مسعدة؟
عمرو:
أصبحت الأمة في غبطة
من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى
خير بني حواء مأمونها
على شفا كانت فلما وفت
تخلصت من سوء تحيينها
ألا تراها كيف بعد الردى
وفقها الله لتزيينها
قال المأمون: أحسنت يا بن مسعدة، وبارك الله لك.
الفشل
فشل إبراهيم بن المهدي وفر من بغداد بعد هزيمته أمام جيش المأمون بقيادة حميد بن عبد الحميد، وقد ضيق عليه حميد منافذ السبل وبعث وراءه الجنود في كل مكان، وبث دينار بن عبد الله العيون في الصحاري والبلدان. فلم يستطع أن يبرح العراق إلى بلد آخر، فاختفى بالمدائن
5
في ألوان وطرق شتى من الاختفاء. وذات يوم ضاقت به الحال، وكان يوما صائفا شديد القيظ، فسار متنكرا إلى زقاق لا منفذ فيه فصادف رجلا أسود واقفا على باب دار له، فالتفت إليه وهو خائف يترقب وقال: أعندك موضع أقيم فيه ساعة؟
فنظر الأسود إليه نظرة فاحصة، وقال: نعم، وعلى الرحب والسعة.
وفتح الباب ووسع له، فدخل إبراهيم إلى بيت فيه حصير نظيف ووسادة وحشية جلد نظيفتان، فجلس عليها ولكن الأسود لم يجلس.
فدعاه إبراهيم للجلوس فأبى، وقال: إني خارج لبعض شأني، ولينتظر سيدي قليلا.
وتركه وخرج وأغلق الباب عليه، فأوجس إبراهيم في نفسه خيفة، وأيقن أنه يمكر به وأنه ذاهب ليدل عليه العسكر ليفوز بجائزة المأمون، فقد جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم! وما كان باستطاعة إبراهيم أن يفر من هذه الدار؛ فقد أغلق الأسود الباب إغلاقا محكما وأخذ معه مفتاحها، فزاد خوف إبراهيم. ومضت مدة يسيرة، ولكنها كانت طويلة بما فيها من فزع وأوهام.
وأقبل الأسود يحمل طبقا فوقه كل ما يشتهي من خبز ولحم، وقد جلب معه قدرا جديدة، وجرة وكيزانا نظيفة، وقال لإبراهيم: جعلني الله فداءك يا سيدي. إنني رجل حجام، وأعلم أنك تتقزز مما أتولاه من الحجامة، فشأنك بما لم أمسسه أو تقع عليه يدي لتصنع به طعامك.
فدهش إبراهيم لكرم هذا الرجل ومروءته، وقام فطهى طعامه، وكانت به حاجة إليه شديدة، وتناول منه ما اشتهى حتى إذا فرغ تقدم الأسود فقال له: هل لك ياسيدي في شيء من النبيذ؟
قال إبراهيم: ما أكره ذلك، جزيت خيرا.
فأتى بآنية نظيفة، وكأس نظيفة، وقدم له نبيذا حسنا، ثم انتحى ناحية أخرى وأتى بنبيذ آخر وقال: أتأذن لي يا سيدي - جعلني الله فداءك - أن أقعد ناحية منك فأشرب مسرورا بك؟!
فعجب الرجل من رقته وأدبه، وأجاب: نعم، وهنيئا لك، وطبت نفسا.
فأخذا يشربان، حتى إذا تناول الأسود ثلاثا قام فأخرج من خزانته عودا، وقال لإبراهيم: يا سيدي، ليس من قدري أن أسألك أن تغني، ولكن قد وجبت عليك حرمتي، فإن رأيت أن تشرف عبدك بأن تغنيه فعلت.
فبهت إبراهيم وقال له: وكيف توهمت أني أحسن الغناء؟
فابتسم الأسود وقال: يا سبحان الله، أهذا مبلغ ظنك بي؟ أفلم أعرفك يا سيدي إبراهيم، وأنت القمر لا يخفى على رائيه، والمسك لا يغيب شذاه عن عارفيه؟
فأسقط في يد إبراهيم بن المهدي وقال: وهل تبغي أن تبيع مروءتك معي بعرض الدنيا؟ - أستغفر الله وأستغفرك يا سيدي إن كنت قد قصرت في حقك أو أردت بك سوءا، ولكني ما توهمت يوما أن تشرفني في منزل وتسعدني بهذه الضيافة، فإذا شئت زدتني من كرمك، وأسمعتني شيئا من جميل غنائك، فإني رجل أعشق الغناء، وأعجب بك.
فتناول إبراهيم العود، وقال: حبا وكرامة. لك ما طلبت!
وما كاد يعزف إبراهيم على العود حتى قال الأسود: أتأذن لي يا سيدي أن تغني ما أقترحه عليك؟
فقال إبراهيم: هات ما شئت.
فاقترح ثلاثة أدوار من أصوات إبراهيم، فقال له: ومن أين عرفت هذه الأصوات؟
قال الأسود: كنت أخدم إبراهيم الموصلي، فسمعته يثني عليك، ويذكرك بهذه الأصوات ذكرا طيبا.
فابتسم إبراهيم مغتبطا وشرع يغني هذه الأدوار. حتى انتهى منها، فقال الأسود: بحياتك عندي يا سيدي إلا غنيت شيئا من شعر مجنون ليلى.
فسكت إبراهيم برهة ثم بدا عليه الشجو والأسى فأنشد:
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى
وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه
يكون بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
فيا سكنى أكناف نخلة كلكم
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
أظل غريب الدار في أرض عامر
إلى كل مهجور هناك غريب
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر
حبيبا ولم يطرق إليك حبيب
ومكث مع صاحبه في شرب وغناء إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم أراد أن يخرج من عنده، وكان يحمل معه «خريطة» فيها دنانير، فقال للأسود: «خذها فاصرفها في بعض شأنك، ولك عندنا مزيد إن شاء الله.»
فقال الأسود: ما أعجب هذا، والله يا سيدي لقد هممت أن أعرض عليك جملة ما عندي من مال، وأسألك أن تقبلها تفضلا منك وكرما، ثم أجللتك عن ذلك!
فخجل إبراهيم وقال: قتلتني والله كرما وأدبا ومروءة.
وخرج من عنده مودعا وهو يتمنى له أحسن ما يتمنى من أمن وسلام. •••
وكان إبراهيم يتنكر بألوان شتى من التنكر حتى لا يعرفه عيون المأمون المنبثون في كل سبيل، فما كاد يبرح دار الأسود حتى اشتبه فيه جندي من الشرطة فسار وراءه، وشعر إبراهيم بهذا الجندي، فسار حتى دخل الدار التي يختبئ بها فدخلها، وأغلق بابها، وكانت لرجل نبطي من أنباط المدائن كان يعرفه إبراهيم منذ عهد الرشيد، فلما لجأ إليه وسعه بمروءته وأخفى أمره عن الناس.
وقف الجندي يرقب الدار، ورأى إبراهيم أن الرجل يريد أن يوقع به ويدل عليه حيث يقيم، فانتظر حتى انشق النهار فأراد أن يفر من الدار، ولكنه وجد الجندي ما يزال يرقبه ويتربص له، ويفحص كل من خرج منها، فتزيا بزي النساء وخرج مع امرأتين من دار النبطي.
سار إبراهيم بهذا الزي وسط هاتين المرأتين، فرآهن الجندي فسار وراءهن حتى بعدن عن الدار ثم تقدم منهن وقال: من أنتن، ومن أين جئتن، وإلى أين تذهبن؟
فتكلمت إحدى المرأتين بكلام تعللت فيه بعلات، ثم تكلمت الأخرى بكلام مثله، ثم سأل الجندي إبراهيم فبدا من صوته أنه صوت رجل، فسأله الجندي واشتد في سؤاله، فأخرج إبراهيم خاتما ثمينا وأعطاه إياه. فزادت ريبة الجندي وقال: هذا خاتم رجل له شأن!
فأخذه وأمر الثلاث أن يسرن معه إلى رئيس العسكر، فلما وصلن أمر كلا منهن بالسفور، فسفرت المرأتان وأبى إبراهيم أن يسفر عن وجهه، فجذب حجابه رئيس العسكر فبدت لحيته، وعرف أنه «إبراهيم بن المهدي!»
فقبض عليه وقيده بالأغلال وبعث إلى دينار بن عبد الله يخبره ذلك! •••
أقبل دينار في غبطة مسرعا، فوجد إبراهيم مقبوضا عليه مقيدا بالأغلال، فساقه إلى ديوان المأمون ودخل مستأذنا فأذن له، فركع وحيا أمير المؤمنين، ثم قال: بشراك أمير المؤمنين، فقد قبضنا على «ابن شكلة» إبراهيم بن المهدي.
المأمون: حسنا، أين هو؟
دينار: هو مقيد ببابك يا أمير المؤمنين.
المأمون: حمدا لله الذي أظفرني به. أدخله يا دينار.
فخرج دينار ليحضره، فقال المعتصم: أرى يا أمير المؤمنين أن يقتل جزاء خروجه عليك وعصيانه أمرك.
وقال العباس: نعم يا أمير المؤمنين،
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، وقد خرج إبراهيم على الله ورسوله بالخروج عليك.
وهنا جاء دينار بإبراهيم بن المهدي يحجل في قيوده وحوله الجنود شاهرين السيوف، فلما رآه المأمون قال له: هيه يا إبراهيم، هيه يا إبراهيم!
فقال إبراهيم: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
المأمون :
لا سلم الله عليك يا هذا.
إبراهيم :
حفظك الله يا أمير المؤمنين ورعاك برعايته وكلأك بعنايته.
المأمون :
لا حفظك الله يا إبراهيم ولا رعاك ولا كلأك ولا أنزلك منزلا حسنا. لقد والله وقعت وأوقعك شر عملك وسوء تدبيرك.
إبراهيم :
يا أمير المؤمنين، أنشدك الله، فإن لي أطفالا صغارا، وفراخا ضعافا، وأنا أولى عندك بالرحمة!
المأمون :
لا رحمك الله يا إبراهيم، تذهب بين الناس فتعصي أمري وتخرج على طاعتي، وتثيرها فتنة عمياء، وحربا شعواء، وتزعم أنك أحق بالخلافة من ولد الرشيد. والله لأكاد أهم بقتلك!
إبراهيم :
يا أمير المؤمنين، قد أصبحت ولي ثأري، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مد له الغرور في الأمل لم يأمن عادية الدهر. وقد جعلك الله فوق كل ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك.
المأمون :
هيهات يا إبراهيم. هذا كلام سبقك به فحل بني العاص ابن أمية وقارحهم «سعيد بن العاص» وهو يخاطب معاوية في العفو عنه!
إبراهيم :
مه يا بن أخي. وأنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بني حرب وقارحهم إلى العفو «معاوية بن أبي سفيان» فلا تكن حالي عندك في ذلك أبعد من حال سعيد عند معاوية. فإنك أشرف منه، وأنا أشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإن أعظم الهجنة
6
أن تسبق «أمية» هاشما
7
إلى مكرمة!
المأمون :
صدقت يا عم، ولكن المعتصم والعباس أشارا علي بقتلك.
إبراهيم :
أما حقيقة الرأي في السياسة وتدبير الملك فقد أشارا به عليك يا أمير المؤمنين، وما غشاك إذ كان ما كان مني. ولكن الله عودك العفو، وجنبك وضيع الانتقام.
المأمون :
نعم، وعفوت عنك، ولكنك تذهب في ذمة وزيري أحمد بن أبي خالد الأحول.
وأمر بفك أغلاله، ونادى المأمون أحمد، فقال له: خذه يا أحمد عندك، فهو صديقك، وأنت أولى به.
قال أحمد: وما تغني صداقتي عنه وأمير المؤمنين ساخط عليه، وإن كنت لا أمتنع من قول الحق فيه.
فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إن قتلتني فقد قتلت الملوك قبلك أقل جرما مني، وإن عفوت عني عفوت عمن لم يعف ملك قبلك عن مثله.
فسكت المأمون ثم تمثل:
فلئن عفوت لأعفون جللا
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
قومي همو قتلوا أميم أخي
فإذا رميت أصابني سهمي
خذه يا أحمد عندك مكرما. وقد عفوت عنه إلا أن يحدث حدثا، فراقبه وامنعه أن يأتي شرا.
بشرى
خرج إبراهيم بن المهدي مع أحمد بن أبي خالد. وبعد هنيهة دخل «فتح» حاجب المأمون يخبره أن رسولا من مصر يدعى «سالم بن بلمه» أرسله القائد عبد الله
8
بن طاهر يحمل بشرى دخوله مصر واستيلائه عليها.
فأذن له المأمون، فدخل فحيا الخليفة، فقال له: كيف حال ابن طاهر يا سالم؟ - حال طيبة كما يحب أمير المؤمنين ويرضى، فقد دخل مصر واستولى عليها. - وهل قبض على واليها عبد الله بن الحكم؟ - نعم يا مولاي، وكان ابن طاهر قد حمل عليه حملة قاضية، فتفرقت جنوده، ووهنته جهوده، وتشتت شمله، فلجأ إلى الفسطاط فأغلق بابها عليه وعلى من بقي من رجاله، فحاصره قائدك عبد الله أياما فبعث إليه ابن الحكم بهدية!
فاحمر وجه المأمون وحملق في وجه سالم وقال في غير تريث: وهل قبل الهدية؟ - حاشا لعبد الله يا أمير المؤمنين وهو وليك وقائدك، فقد جاءه رسول ابن الحكم بألف وصيف وألف وصيفة، ومع كل منهم ألف دينار، فأرسل إليه ابن طاهر يقول: «لو كنت قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا، بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون.» فلما بلغ ذلك ابن الحكم بعث يطلب الأمان فأعطاه إياه، وخرج مستسلما!
المأمون وقد التفت إلى وزرائه: لله ابن طاهر وليا مخلصا، وقائدا مظفرا، وأخا وفيا، والله لو كان مكانه عيسى
9
بن أبي خالد - قاتله الله - لنقض عهدي كما فعل بي عند إبراهيم بن المهدي: فقد ذهب بخراجي وفيئي، وزينت له الدنيا، فأجلس إبراهيم خليفة، وحارب دونه، ودعاه مع الداعين «إبراهيم المبارك، وأمير المؤمنين!»
ثم أعطى الرسول كتابا يهنئ فيه عبد الله بهذا الفتح ويوليه مصر والشام والجزيرة، وكتب له في أسفله:
أخي أنت ومولاي
ومن أشكر نعماه
فما أحببت من شيء
فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء
فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك
لك الله لك الله
وكان صالح بن الرشيد جالسا فقال: لقد والله صح رأيك في عبد الله، وفي وفائه لك وإخلاصه لأمرك، فقد ذهب إليه رجل يدعو بالخلافة للقاسم
10
بن إبراهيم بن طباطبا العلوي، ويذكر مناقبه وعلمه، فقال له عبد الله: أتنصفني أيها الرجل؟
قال: نعم!
فقال: هل يجب شكر الله على العباد؟
قال: نعم!
فقال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟
قال: نعم!
فقال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى: لي خاتم في المشرق جائز، وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع وقولي مقبول، ثم ما ألتفت يميني وشمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم أكان الله يحب أن أغدر به وأكفر إحسانه ومنته وأنكث بيعته؟
فسكت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الله: أما أنه قد بلغني شأنك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك، وما آمن من ذلك عليك، كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.
فقال المأمون: يا صالح، ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب نفسي. وما أشك يوما فيما عهدته فيه من حب وولاء.
الفصل السادس
مصير الفنان
أعد أحمد بن أبي خالد الأحول دارا أنيقة لإبراهيم بن المهدي ليقيم فيها كما أمر المأمون، وليكون في رعايته وتحت رقابته . فأقام بها موفور الراحة والتكريم، وأقامت معه جواريه: شارية، وريق، ومكنونة، وخالدة، وصدوف، ومعمعة، وبعض غلمانه. وكان يزوره ابناه هبة الله وبقية الله وبعض أصدقائه، ويقضي وقته في الأدب والغناء ثم في التفكير في مصيره بعد أن قضى عليه المأمون وأودعه عند أحمد بن أبي خالد كالمسجون، وإن كانت له الحرية في الخروج إلى فناء الدار وحديقتها والاجتماع بالناس.
وقد كان يرهقه هذا التفكير وكان الخوف من المأمون يقلقه ويتشاءم من نفسه، ويرى أن اسم «إبراهيم» مشئوم، فما سمي به أحد إلا ناله من الشؤم نصيب: فإبراهيم الخليل لقي من نمروز ما لقي وطرح في النار، وإبراهيم بن محمد
صلى الله عليه وسلم
مات طفلا صغيرا ولم يعمر، وإبراهيم الإمام قتله مروان بن محمد خنقا في سجن حران، وإبراهيم بن الوليد خلع، وإبراهيم بن عبد الله بن الحسين العلوي قتله المنصور، وعمه إبراهيم بن الحسين سقط عليه السجن فمات، ثم هو قد خلع من الخلافة وفشل في ثورته وهزم أمام المأمون وقبض عليه وقيد بالأغلال واعتقل. فأي مصير مشئوم ينتظره إلا أن يكون الموت مهما تعلل بالآمال.
وجلس يائسا مبتئسا، ثم دخلت عليه جاريته خالدة فرأته واجما حزينا، فسألته عما به فلم يجبها، فخرجت مشفقة عليه فناداها أن تأتي له بالعود، فذهبت وعادت تحمله فأخذه الشجو وجعل يغني:
ذهبت من الدنيا وقد ذهبت مني
هوى الدهر بي عنها وولى بها عني
فإن أبك نفسي أبك نفسا نفيسة
وإن أحتسبها أحتسبها على ضن
وأفلتني «عيسى»
1
وكانت خديعة
حللت بها ملكي وفلت بها سني
وزاره أحمد بن يوسف أحد كتاب المأمون وصديق إبراهيم، وكان أديبا راوية محدثا، فجعل إبراهيم يحدثه ومن حضر عنده حديثا من الشعر والغناء، ويروي لهم طرائف بعضها يضحك وبعضها يعظ، وأحمد بن يوسف ساكت حتى طال المجلس فقال أحد الحاضرين لابن يوسف: ما لك لا تنبح يا كلب الروم، قد كنت نباحا فما لك اليوم.
فتبسم إبراهيم بن المهدي وقال: لو كنت رأيتني أنا في حضرة جعفر بن يحيى البرمكي لرحمتني كما رحمت أحمد مني! •••
وبينما هم كذلك إذا بمخارق المغني يدخل وهو يترنم، فدعاه إبراهيم للغناء، فأبى وأبى الحاضرون إلا أن يسمعوا أمير الغناء إبراهيم، فنادى جاريته فأحضرت آلات الموسيقى، وجلس إبراهيم وحوله بعض جواريه يغني في قول أبي العتاهية:
قال لي أحمد ولم يدر ما بي
أتحب الغداة عتبة حقا
فتنفست ثم قلت نعم حب
جرى في العروق عرقا فعرقا
فطرب الحاضرون حتى خيل لهم أن الدار تهتز طربا، وأن الإيوان يسير بهم سيرا، فلما فرغ تقدم منه مخارق وقبل يده وقال: جعلني الله فداءك يا سيدي، هذا هو الغناء، فأين أنا منك؟
فقال إبراهيم: لولا أني أرفع نفسي عن هذه الصناعة لأظهرت فيها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا مثلي.
ونهض القوم، وانفض المجلس، ودخل إبراهيم إلى مخدعه. وكان أحمد بن أبي خالد قد وكل به كبرى جواريه لتوفيه حقه في الخدمة والإعظام، وكانت تدعى «ميمونة»، وهي من خيرة الجواري الحسان، فأقبلت تسأله في رشاقة ولطف هل من حاجة لسيدها، كما تفعل كل يوم، فقد عنيت بخدمته وراحته واطمئنانه حتى جل مقدارها عنده وأحبها. فقال لها: نعم لي حاجة أيتها المليحة الحسناء.
قالت في استحياء: وما هي يا سيدي؟
قال: أن تناوليني هذه الكأس.
فذهبت في رفق وتقدمت تناوله، وما كادت تقترب منه حتى خطف يدها فقبلها.
فاحمر وجهها خجلا وتأخرت وقبلت الأرض بين يديه احتراما، وخرجت مسرعة، فقال إبراهيم:
يا غزالا لي إليه
شافع من مقلتيه
والذي أجللت خديه
فقبلت يديه
بأبي وجهك ما
أكثر حسادي عليه
وأنا ضيف وجزاء
الضيف إحسان إليه
وجعل يترنم بهذه الأبيات! •••
مكث «إبراهيم» مدة في دار أحمد بن أبي خالد يقضي وقته على هذه الحال، وكان المأمون يسأل أحمد عنه ويتتبع أنباءه، ويبعث إليه من يحادثه ويناظره حتى يقف على أغراضه وسريرة نفسه.
وذات ليلة خرج المأمون ومعه إسحق الموصلي، فمر بالدار التي يقيم فيها فسمعا فيها غناء، فوقفا تحت جناحها فإذا إبراهيم يغني في حنان وشجن :
يا مشرع الماء قد شدت موارده
أما إليك سبيل غير مسدود
لحائم حام حتى لا حياة به
مشرد عن طريق الماء مطرود
فقال المأمون لإسحاق: إن صوت إبراهيم ليهزني ويطربني، وما أريد أن يحبس عني.
قال إسحق: يا أمير المؤمنين، إن إبراهيم يتمثل بما لم يقله، ويغني ما ليس له.
المأمون :
ولمن هذا القول؟
إسحاق :
لعبدك إسحاق يا مولاي.
المأمون :
أحسنت القول وأحسن هو الغناء، والله يا إسحاق إنه لأعذب منك صوتا، وأجمل منك صنعة.
إسحاق (في غيظ يخفيه) :
صدق أمير المؤمنين، وإن إبراهيم لأحسن الإنس والجن والطير صوتا، وحسبه هذا!
وعاد المأمون إلى قصر الخلد، حتى إذا انبلج الصبح وارتفع النهار وجلس في ديوانه، أقبل رسول من إبراهيم إلى المأمون يحمل قصيدة من نظمه يستعطف فيها المأمون، فلما قرأها قال: إن من الكلام ما يفوق الدرر ويغلب السحر، وإن كلام عمي منه. أطلقوا عمي وردوا إليه ماله وائتوني به مكرما.
فذهب أحمد بن أبي خالد غير متريث إلى إبراهيم وجاءه بالبشرى وطلب إليه أن يسير معه إلى المأمون، فنهض ولبس وتطيب، ودخل عليه فسلم وقبل البساط، فأجابه المأمون جوابا حسنا وقال: يا عم صر إلى المنادمة وارجع إلى الأنس، فلن ترى مني أبدا إلا ما تحب.
فقال إبراهيم:
رددت مالي ولم تمنن علي به
وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به
فلا عدمناك من عاف ومنتقم
فبؤت منك، وقد كافأتها بيد
هي الحياتان من موت ومن عدم
قال المأمون: اجلس يا عم آمنا مطمئنا فلن ترى مني ما تكره إلا أن تحدث حدثا أو تتغير عن طاعة، وأرجو ألا يكون ذلك منك إن شاء الله. •••
عاد إبراهيم إلى حريته الأولى، وعاد إلى حياته الفنية، إلى حياة الأنس والطرب، وقربه المأمون ووثق به. ودخل على المأمون ذات يوم مبتذلا في ثياب المغنين وزيهم، فلما رآه المأمون ضحك وقال: نزع عمي ثياب الكبر عن منكبيه!
وكان مخارق المغني حاضرا المجلس فأذن له المأمون أن يغني بحضرة إبراهيم فغنى أحد الأدوار، فقال إبراهيم: أسأت وأخطأت يا مخارق.
قال المأمون: يا عم إن كان أساء وأخطأ، فأحسن أنت.
فقام إبراهيم وجلس للغناء وغنى الدور حتى فرغ منه، فقال المأمون: أحسنت والله يا عم.
فقال إبراهيم لمخارق: أعده الآن يا مخارق.
فأعاده فأحسن، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، كم بين الصوت الآن وبينه في أول الأمر؟
قال المأمون: ما أبعد ما بينهما!
فالتفت إبراهيم إلى مخارق وقال: إنما مثلك يا مخارق مثل الثوب الوشي الفاخر إذا تغافل عنه أهله سقط عليه الغبار فحال لونه، فإذا نفض عاد إلى جوهره.
فابتسم المأمون وقال لإبراهيم: حدثني يا عم.
قال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، قد رأيت في منامي بالأمس رؤيا عجبا.
فقال المأمون: وما هي؟
قال: رأيت علي بن أبي طالب في النوم، فمشينا حتى جئنا قنطرة، فذهب يتقدمني، فأمسكت به، وقلت له: «إنما أنت رجل تدعي هذا الحق بامرأة، ونحن أحق به منك.» فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يوصف عنه.
فقال المأمون: وأي شيء قال لك؟
قال: ما زادني يا أمير المؤمنين على أن قال «سلاما سلاما!»
فضحك المأمون وقال: قد والله أجابك أبلغ جواب.
فقال إبراهيم: وكيف ذلك؟
قال المأمون: عرفك أنك جاهل لا يجاوب مثلك. فقد قال الله عز وجل:
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . فخجل إبراهيم وسكت. وكذلك لم يفقد المأمون ميله للعلويين ورأيه فيهم على الرغم مما وقع من أحداث كادت تذهب بملكه، وعلى الرغم مما شرعه من تدبير وسياسة جديدة منذ بارح «مرو» ووصل إلى بغداد، فقد كانت سياسة أراد بها أن يرضي العرب، ولكنها في الوقت نفسه لا تغضب الفرس. وكان الفرس يعرفون ميله للشيعة العلوية، وإن كان قد قتل عميدهم الفضل بن سهل، فقد رفع أخاه الحسن بن سهل وأكرمه وخطب ابنته «بوران» فأعلى نسبه وشرفه، وضاعف له من التكريم والتمجيد بين الناس، وهو تكريم للفرس بين العرب.
الفصل السابع
العرس
مضت على خطبة المأمون لبوران خديجة بنت الحسن بن سهل سبع سنوات ، وكانت سنة 210ه فبلغت الثامنة عشرة من عمرها، واكتملت أنوثتها، وتجلت غضارتها تجلي الأزهار في نضارتها، وتهادت في موكب من الفتنة والشباب، واختالت بها أيامه الساحرة، وأعراسه الراقصة الباهرة.
وكان الحسن بن سهل قد بلغ عند المأمون من المكانة والكرامة وعلو الشأن وسعة الجاه ما لم يبلغه أحد من وزرائه وخاصة رجاله وذوي سلطانه.
وكان الحسين بن الضحاك الشاعر ما زال منبوذا من المأمون طريدا من مجالسه، فلما رأى الدنيا تقبل ضاحكة على الحسن بن سهل، جعل يتزلف إليه، فيزجي إليه المديح بعد المديح في القصيد تلو القصيد، ويقول له فيما يقول:
أرى الآمال غير معرجات
على أحد سوى الحسن بن سهل
يباري يومه غده سماحا
كلا اليومين بان بكل فضل
أرى حسنا تقدم مستبدا
ببعد من رياسته وقبل
سليل مزارب برعوا حلوما
وراح صغيرهم بسداد كهل
ليهنك أن ما أرجأت رشد
وما أمضيت من قول وفعل
فقربه الحسن ودعاه ووصله، ووعده بإصلاح ما بينه وبين المأمون. وصار ابن الضحاك أنيس مجالسه وأخا أدبه وفراغه ولذائذه.
وجالسه الحسن يوما فقال له: يا حسين ماذا عنيت بقولك:
يا خلي الذرع
1
من شجني
إنما أشكو لترحمني
فقال ابن الضحاك: قد بينته فقلت:
منعك الميسور يؤنسني
وقليل اليأس يقتلني
فقال الحسن: إنك لتضيع بالخلاعة ما أعطيته من البراعة!
فسكت ابن الضحاك ولم يتكلم، قال الحسن: ما لك يا حسين!
ابن الضحاك: لا شيء يا سيدي، وإنما أفكر في براعة أضاعتها الخلاعة، رحمها الله.
فضحك الحسن. وكان اليوم من أيام الخريف وقد أقبل وسمي من المطر فرش رشا خفيفا، وكان الحسن متفائلا فجلس في إيوان قصره، وحوله الوصيفات يقمن على خدمته، ووقف وراءه غلام حسن نضير، فنظر ابن الضحاك إلى ذلك وأنشأ يقول:
ألست ترى ديمة تهطل
وهذا صباحك مستقبل
فقال الحسن بن سهل: بلى.
قال ابن الضحاك:
وتلك المدام وقد شاقنا
بطلعته الشادن الأكحل
فقال الحسن: صدقت!
ابن الضحاك:
وقد أشكل العيش في يومنا
فيا حبذا عيشنا المشكل
فقال الحسن: «العيش مشكل .» فما ترى ؟
قال ابن الضحاك: مبادرة القصف، وتقريب الإلف.
قال الحسن: على أن تقيم معنا وتبيت عندنا!
فقال ابن الضحاك: لك الوفاء، وعليك مثله من الشرط.
قال: ما هو؟
فقال ابن الضحاك: أن يسقيني هذا الغلام الواقف على رأسك.
فضحك الحسن وقال: ذلك لك.
ودعا بالطعام فأكلا وبالشراب فشربا أقداحا، فلما ثمل ابن الضحاك قال:
وا بأبي أبيض في صفرة
كأنه تبر من الفضة
صفاته فاتنة كلها
فبعضه يذكرني بعضه
يا ليته زودني قبلة
أو لا، فمن وجنته عضة
فقال الحسن: قد عمل فيك النبيذ يا ابن الضحاك!
ابن الضحاك: لا وحياتك.
الحسن: هذا شر من ذلك، قد وهبت لك الغلام خذه لا بارك الله لك فيه.
وأقام الحسين بن الضحاك على ولائه للحسن بن سهل، وقد حاول أن يصلح أمره عند المأمون فلم يستطع لسوء رأيه فيه وانصراف هواه عنه. •••
وكان المأمون قد أقام الحسن على مدينة «فم الصلح»
2
وما يليها من فارس الأهواز، فلما أراد البناء ببوران سنة 210ه بارح بغداد إلى هذه المدينة.
وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه، فوصل ظهرا بركبه إلى «فم الصلح» فتلقاه الحسن خارج عسكره في موضع على شاطئ دجلة قد بنى فيه جوسقا. فلما رآه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف الحسن ألا يفعل وقال: بحق أمير المؤمنين لا تنزل.
واعتنقه وهو راكب، وأنزله وجلس في الجوسق ساعة هو ومن معه، وقدم له غلمان الحسن شراب الفاكهة، ثم قدم له الحسن بن سهل دابته فركبها وركب خلفه حتى وصل الركب إلى القصر.
وفي وقت الغروب خرج الحسن وحوله حاشيته وفرسانه وجنوده ليستقبلوا أمير المؤمنين. وكان قد خرج من بغداد في موكب فخم تتقدمه الطبول والموسيقى، وحوله الفرسان بسيوفهم المشروعة وملابسهم الحريرية المزركشة وخيلهم المحلى بالديباج، وأعلامهم العباسية السوداء الموشاة، وخلفه الجنود يحملون الحراب. وقد اصطحب معه أخاه أبو إسحاق المعتصم، وعمه إبراهيم بن المهدي، وأم جعفر زبيدة زوجة الرشيد، وعمته علية بنت المهدي، وأخته حمدونة بنت الرشيد، وطائفة من الأميرات والأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة . وكان الحسن قد أقام مضارب فاخرة خارج العسكر بها أنوار تتلألأ وزينات باهرة. ووصل الموكب فركع الحسن بن سهل ورجاله بين يدي الخليفة ثم تقدموا فحملوه إلى أن أجلسوه في الجوسق، وتوافد كبراء المدينة وأعيانها يحيون أمير المؤمنين ويؤكدون له الطاعة والولاء.
ثم سار الموكب إلى قصر فخم من قصور الحسن أعده لضيافة المأمون فنزله، فرأى فيه ما شاء الله أن يرى من الأثاث والرياش والمتاع ما لا يباريه في فخامته وأبهته ما كان في إيوان كسرى أنوشروان من عظمة وجمال، وألوان من زخارف النبات والحيوان. •••
وقد حوى القصر مئات من الوجوه الحسان، والحور والولدان، وجلست إحداهن وتدعى «جنان» مع زميلات لها في إحدى المقصورات وقد تحجبن عن الأنظار، فقالت: طوبى لبوران هذا الحظ الميمون، ما أسعدها تتزوج أمير المؤمنين المأمون!
فقالت الثانية وتدعى «جوهرة»: وهل لسيدتي بوران كفء غير أمير المؤمنين يا جنان، فهي أجمل فتيات خراسان.
ليس فيها ما يقال له
كملت لو أن ذا كملا
كل جزء من ملاحتها
كائن من حسنها مثلا
قالت الثالثة وتدعى «خلوب»: أصبت يا جوهرة، فالجمال يسبي القلوب.
فقالت الرابعة وهي «خالصة»: وهل في ذلك شك يا خلوب.
جنان :
على رسلك يا خالصة، إن بوران جميلة ولكنها ناقصة. فهي غادة من غادات الأعاجم، وليست من كرائم بني هاشم.
جوهرة :
وهل يعيبها ذلك يا جنان، إن لم تكن لهاشم فهي لكسرى أنوشروان.
جنان :
ما أجهلك يا جوهرة، إن في الجواري غفلة مستنكرة، فوالله ما هذا الزواج إلا أمرا مدبرا وثمنا مقدرا.
جوهرة :
كفى كفى. لماذا يا ترى؟
جنان :
لرأس الفضل بن سهل.
خالصة :
صه، صه، إن غلمان أمير المؤمنين عن كثب! •••
وهنا مر إبراهيم بن المهدي، وكان وافدا لمقابلة أمير المؤمنين في القصر استجابة لدعوته، فأجفلت الجواري وهن يظننه أمير المؤمنين، فلمحته جنان وعرفته، فعادت ونادت زميلاتها، فأقبلن عليه وهن يقلن: حياك الله يا أبا إسحاق، ماذا أتى بك إلينا كأننا على ميعاد!
فقال إبراهيم: حياكن الله وبياكن أيتها الجواري الحسان، ماذا تفعلن ؟
وأخذ يداعبهن وأخذن يداعبنه، فقال لجنان: كأني بأبي نواس يقول فيك ما قاله يوم كنت جارية لآل الثقفي ورآك في عرس فقال:
شهدت جلوة العروس جنان
فاستمالت بحسنها النظارة
حسبوها العروس حين رأوها
ما دهانا بها سواك عمارة
3
فقالت جنان: رحم الله أبا نواس، كان لي محبا وكنت عليه قاسية. لقد بعث إلي رسوله فقلت له: «لا برح الهجران ربعك ولا بلغت أملك ممن أحببت.»
فضحك إبراهيم وقال: ولقد استجاب الله دعاءك.
ثم التفت إلى خالصة، وكان معها ثلاثة نرجسات قد زينت بها صدرها، فداعبها بيده وقال:
ثلاث عيون من النرجس
على قائم أخضر أملس
تذكرني طيب ريا الحبيب
فتمنعني لذة المجلس
وضحك إبراهيم وتضاحك الجواري، ثم بارحهن إلى داخل القصر، وبقين في مكانهن صامتات، فقالت جوهرة: ما أجمل إبراهيم، له عينان خلابتان وقامة كغصن البان. ما أحلاه يا جنان.
جنان: اسكتي يا ألعبان يا صنيعة الشيطان.
وبينما هن كذلك إذ سمعن أصوات الغلمان يقولون: أمير المؤمنين المأمون.
وكان المأمون يمر بالقصر، فأجفلن، ودخلن إلى الغرف مسرعات!
الزفاف
وكانت ليلة الزفاف ليلة عامرة باهرة «كأن كل سرور حاضر فيها.» فازدانت مدينة فم الصلح زينة لم تر الدنيا مثلها، وزهت قصور الحسن بن سهل بأنواع المسرات والزخارف والأنوار. وقام على خدمة هذا العرس ثلاثة آلاف وستمائة خادم وملاح. وبدا القصر الذي نزله المأمون في لألائه وبهائه، كأنه الثريا في سمائها، والنجوم نزلت من عليائها، وقد فرشت بالبسط الموشاة بالذهب والجواهر النفيسة، وأضيئت في جوانب الدار شموع من العنبر والند والمسك المعجون، ووضعت في قاعة الزفاف شمعة من العنبر وزنها 280 مثقالا (أي اثنتان وأربعون أقة).
وفرشت هذه القاعة ببساط ذهبي بديع ونثرت عليه الدرر، ودخل المأمون مع عروسه، وحولهما بنو هاشم وبنو الحسن بن سهل والأعيان والقواد وكرائم الفتيات والنساء. ولما رأى المأمون هذا البساط وما عليه من درر منثورة قال: رحم الله أبا نواس كأنه قد رأى هذا حيث يقول:
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها
حصباء در على أرض من الذهب
وقد نثر الحسن بن سهل في ذلك العرس من الأموال ما لم ينثره ملك في جاهلية ولا إسلام، كما نثر على الحاضرات والحاضرين بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات جياد وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد أحدهم فتحها فقرأ ما فيها فيجد على قدر حظه، فيمضي إلى الوكيل الذي نصب لذلك فيقول له: «ضيعة يقال لها كذا.» أو «جارية يقال لها فلانة.» أو «جواد يقال له كذا.» ثم نثر على سائر طبقات الناس آلاف الدراهم والدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر، عدا ما أنفقه المأمون على القواد والأجناد، وسائر أهل المدينة. وقد بلغت نفقات هذا العرس خمسة ملايين درهم (أي نحو مائة ألف جنيه مصري). •••
وجلس المأمون مع عروسه على عرش منصوب في صدر القاعة صنع من الأبنوس والديباج والحرير الموشى وحلي بالجواهر النفيسة. ثم أقبل إبراهيم بن المهدي ووراءه عدد من العازفين والعازفات من الغلمان والجواري الحسان، وجلس على منصة في وسط القاعة وأخذ يغني:
يا خير من ذملت يمانية به
بعد الرسول لآيس أو طامع
وأبر من عبد الإله على الهدى
نفسا وأحكمه بحق صارع
أحياك من ولاك أطول مدة
ورمى عدوك في الوتين بقاطع
إن الذي قسم الفضائل حازها
في صلب آدم للإمام السابع
4
فقال المأمون: أحسنت يا عم، وأحييت لي طربا، وزدتني هناء، بارك الله لك.
ثم وقف الشاعر إبراهيم بن العباس الصولي وهنأ الحسن بن سهل بما حاز من شرف لمصاهرة الخليفة المأمون فقال:
ليهنك أصهار أذلت بعزها
خدودا وجدعت الأنوف الرواغما
جمعت بها الشملين من آل هاشم
وحزت بها للأكرمين المكارما
بنوك غدوا آل النبي ووارثو ال
خلافة والحاوون كسرى وهاشما
فقال الحسن: أحسن الله جزاءك أبا إسحاق، فما الكثير من فعلنا بجزاء لليسير من حقك!
ثم قام محمد بن حازم الباهلي فقال:
بارك الله للحسن
ولبوران في الختن
يا بن هارون قد ظفر
ت ولكن ببنت من
فقال المأمون: والله ما ندري خيرا أراد أم شرا .
ثم قامت الراقصات فرقصن على عزف الموسيقى وهن ينشدن من شعر بشار:
يا ليلتي تزداد بشرا
من حب من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إل
يك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت عل
يه ثيابها ذهبا وعطرا
وبعد أن انتهت الراقصات عاد إبراهيم بن المهدي فغنى لمروان بن أبي حفصة هذه الأبيات:
طرقتك زائرة فحي خيالها
بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها
قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
هل تطمسون من السماء نجومها
بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة من ربكم
جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية
5
بتراثهم فأردتم إبطالها
فأجاد إبراهيم الغناء، وكان المأمون يحب إنشادها وغناءها فقال له: أحسنت يا عم ما لم يحسنه سواك.
وبقي العرس عامرا بألوان الزينة والطرب ولذائذ الحياة التي لم تر الدنيا مثلها، حتى انتهى، وترك وراءه ذكرا خالدا لأروع عرس في هذا العصر الذهبي العجيب!
استمر إبراهيم مخلصا للخليفة المأمون مواليا له، وكان يحبه وينزله عنده منزلا رفيعا، وكانت أيام إبراهيم في ذلك الحين أعراسا للفن والأنس والإبداع. •••
ومرض المأمون وتوفي سنة 218ه فحزن عليه إبراهيم حزنا شديدا، ولم يعمر بعده طويلا إذ مرض بعد سبع سنين من وفاته بمدينة «سر من رأى» فلما تداعت حياته وأشرفت على النهاية جعل يتندم ويذكر ما سلف من شرابه ولذاته وغنائه ولهوه، فقيل له: تب يا إبراهيم وأحرق دفاتر الغناء!
فحرك رأسه وهو على فراشه وقال: يا مجانين، هبوا أني أحرقت دفاتر الغناء كلها، ريق إيش أعمل بها، هل أقتلها وهي تحفظ لي كل شيء في دفاتر الغناء؟!
وقد مات
6
إبراهيم، فحسب الناس أنه لم يمت لمكانته في نفوسهم، ولما أحدث في أذهانهم وآذانهم من ثورة غنائية لا تفنى ولا يمحى صداها حتى كانوا يقولون: «إن إبراهيم لم يمت، وإنما دعي إلى الجنة لأن بالجنة عرسا.»
لقد بدأ إبراهيم أميرا وفنانا، وانتهى أميرا وفنانا، وكان بين ذلك فنانا ثائرا، ومحاربا ثائرا: ثار على الفن وللفن، وثار على الخلافة وللخلافة، وتزعم ثورة التجديد في الغناء والموسيقى، وقاد ثورة العراق على المأمون، وارتدى بردة الخلافة وتبوأ عرش الملك، وقدر له أن يجلس فترة من الزمان على أريكة هارون الرشيد. ولكن هذا العرش لم يدم له طويلا؛ لأنه عرش صنعته السياسة، وصنعته الأحداث، ولعبت به الأهواء.
أما عرش الفن، فهو أقوى مكانا، وأرسخ بنيانا، وأثبت على الأيام أساسا، تبوأه إبراهيم، فلم تزعزعه سخائم الخصوم، ولم يعمل فيه حسد الحاسدين، بل بقي له وبقي هو سيدا عليه طول الزمان. وكان كما قال يغني كما يشاء، ويبدع ما يشاء، فاعتزت به دولة الموسيقى والغناء. وخلد ذكره بين الخالدين من أهل الفن والأدب، وأعلام الأنس والطرب. وعاش حياته أميرا في فنه، أميرا في نسبه، أميرا في متاعه، أميرا في ترفعه وعزة نفسه، حتى فارق هذه الحياة وأطفأ الموت نوره، وكأنما أطفأ أنوار عرس من الأعراس.
অজানা পৃষ্ঠা