وبعد جدال طويل على هذا النمط تغلب عامل الحب على عامل الشهامة، فصمم على أن يحضر الأسلحة إلى داره ويخفيها فيها ويسد المغارة ويطمس معالمها، فاستدعى الرجلين وأمرهما أن يأتياه بكل ما يمكنهما حمله من الأسلحة، ثم يسدا المغارة ولا يخبرا أحدا، وأعطى كلا منهما عشرة ريالات، فقبلا يده وذهبا وجعلا ينقلان الأسلحة في حالك الظلام، واكتفيا بنقل السيوف والخوذ، وأما الدروع فتركاها في مكانها، وسدا باب المغارة جيدا وغرسا شجرة أمام بابها تمنع الدخول إليها.
وفي تلك الليلة جاء كتاب إلى الأمير أحمد من الكولونل روز يدعوه فيه إلى بيروت، فود أن يطلع أولاد عمه عليه، ولكنه خاف من غيرتهم؛ لأنهم كانوا يغارون منه لمكاتبة القنصل له دونهم ، وكان يود أن يشركهم في المسئولية معه، فوقع بين نارين، ونام تلك الليلة وهو على أحر من جمر الغضا؛ لا يستطيع أن يخالف الوالي ولا أن يعادي القنصل، ولا يريد أن يقابل السر هنري؛ لئلا يسأله عما إذا كان قد عرف شيئا عن المغارة أو بلغه شيء عنها؛ لأنه كان قد وعده بمداومة البحث والتنقيب، وكانت الشرور قد تفاقمت، وعزم الناس عزما أكيدا على إيقاد نار الفتنة، وكانوا ينتظرون انقطاع المطر، وأهالي الساحل يودون أن ينتهوا من موسم الحرير قبلما يحدث شيء.
وقام في الشويفات في ذلك الحين شاب من النصارى اسمه كامل؛ جريء الفؤاد، قوي الساعد، لا يخطئ رصاصه من يسدده إليه، اجتمع عليه مرة ستة وحصروه في مطحنة، ففتك باثنين منهم ونجا من يدهم، وانتقل إلى المتن وجعل دأبه ربط الطرق وشن الغارات.
وكان النصارى يحسبون أن الفوز سيكون لهم حتما؛ لأنهم فازوا فوزا مبينا في الحركة الأولى في بيت مري التي حدثت في الصيف الماضي، وأتت الرجال من كسروان وهي بالسلاح الكامل، وأقامت في بعبدا تشجيعا لنصارى الساحل، فخشي الأمير أحمد أن يذهب بطريق الحدث، فيلتقي بكامل هذا أو بأحد من أتباعه، فيحدث ما لا تحمد عقباه، فاختار طريق البرج. ووصل إلى دار الكولونل روز نحو الساعة العاشرة صباحا على جاري عادته، فرحب به الكولونل وأجلسه إلى جانبه، ورحب به السر هنري أيضا، وكان الكولونل قد أرسل واستدعى اثنين آخرين من مشايخ الدروز الذين يثق بهم، فوصلا بعد وصول الأمير أحمد بنحو ربع ساعة، ولما استقر بهم المجلس وشربوا القهوة قال لهم الكولونل: لقد بلغني أن الوالي أبلغكم الأوامر التي وصلته من الأستانة، فأنا أؤكد لكم أن هذه الأوامر غير صحيحة، وأن الذين بعثوا بها إليه غير مسئولين عما يفعلون، أو هم جهلاء يعرفون مصلحتهم ومصلحة بلادهم؛ لأن الحركة التي أمركم بها ستعود عليكم بالوبال وتجر الشر على رءوسكم، فاسمعوا مني وأخبروا عقالكم لينصحوا جهالكم، وإلا فالخطب جلل.
فجعل الشيخان ينظر كل منهما إلى الآخر، أما الأمير أحمد فكان خالي الذهن؛ لأن الوالي لم يعد يأتمنه، فلم يطلعه على تلك الأوامر مع أنه أرسلها إلى أولاد عمه، لكن كبر عليه أن يتظاهر بجهلها أمام الشيخين، واستنتج ماهيتها من كلام الكولونل، فقال: لقد قلنا لسعادتكم قبلا إننا نحن لا نكون البادئين، ولكنهم إذا أحرجونا أخرجونا. فوافق الشيخان على كلامه.
ولحظ القنصل أن الأمير أحمد يتكلم وهو غير عالم بمفاد الأوامر، ولكنه لم يشأ أن يظهر ذلك أمام الشيخين، فقال لهم: إني أنذرتكم وبينت لكم وخامة العاقبة؛ حتى إذا تخلت عنكم دولة إنكلترا لا يكون عليها لوم.
وكان أحد الشيخين كبير السن وقور المنظر، فقال له: اسمع يا سعادة القنصل، نحن نعلم أن دولة إنكلترا تحبنا وتودنا وتدافع عن حقوقنا، ولكن ذلك كله يتوقف على رأي سفيرها في إسطانبول وقنصلها في بيروت، والسفراء والقناصل يتغيرون كل سنة أو كل بضع سنوات، وأما دولتنا فلا تتغير وسياستها معنا صارمة كما لا يخفى، فإذا لم نطع أوامرها أوقعتنا في ألف مهلك، ودولتكم أقوى منا، وكما منعت إبراهيم باشا المصري عن البقاء في هذه البلاد، يمكنها أن تمنع رجال دولتنا عن إلقاء الفتن فيها، فإذا كنتم تريدون أن توقفوا هذه الحركة فلا أسهل عليكم من أن تأتوا بمركبين حربيين وتهددوا بهما بيروت، وترسلوا فرقة من عساكرهما إلى الشام فيقف كل واحد عند حده، ولا يخفى على سعادتك أن الحركات التي تصير في لبنان أكثرها ليس منا، بل من غيرنا، فإذا أوصيتم كل أهالي الجبل حتى يلزموا السكينة، لم يحدث فيه شيء، ونحن قد نزلنا إلى بيروت خوفا من القلاقل، ونؤكد لسعادتك أن البلاد كلها منتظرة الشهر التالي، ولا بد من قومة عامة إذا كانت بقية القناصل لا توجب على النصارى أن يلزموا جانب السكون.
فقال القنصل: وما هي هذه الأوامر التي أطلعكم الوالي عليها؟
فقال أحدهما: يصعب علينا أن نجيب سعادتك على هذا السؤال، ولكن لا بد ما يكون سفيركم في إسطانبول قد وقف عليها كلها.
ولم يكن السفير عارفا بها ولا مهتما بالوقوف عليها، واستحى الكولونل أن يخبرهم بذلك، وكان واثقا أن الأمير أحمد لا يعلم بها والشيخين لا يفشيان سرا اؤتمنا عليه، فلم يلج عليهما، لكنه فهم من مغزى كلامهما أن الأوامر ذات شأن خطير كما قيل له، ورجا أن يأتيه من يخبره بها حرفيا؛ لأنه كان يقول إن السياسة تقضي على المرء أن يعرف مقاصد خصمه بكل واسطة، حتى يتلافى الضرر قبل الوقوع فيه، إلا أنه ود أن يعرفها ذلك اليوم؛ ليكتب مع البريد يخبر وزارة الخارجية، ورأى أن الشيخ مصيب في طلب مركبين حربيين، وعزم أن يكتب بذلك إلى حكومته، ولو وقف على الأوامر السرية التي بلغه خبرها لفعل ذلك حتما.
অজানা পৃষ্ঠা