التقمتها الكتب الكبار، فضاعت فى غمارها، وطويت فى لجّتها، وحين جاء أصحاب الموسوعات النحوية شغل بعضهم بما انتهى إليهم من هذه الكتب الكبار، فنسبوا الآراء إلى أصحاب هذه الكتب، ثم نسج على نولهم من جاء بعدهم.
على أنّى فى ذكر آراء ابن الشجرىّ لم أحاول أن أضعه فى غير موضعه، أو أرتفع به على من سبقوه، فإن من آفات البحث العلمىّ العصبيّة الطائشة للشخصية المدروسة. فقد جاء ابن الشجرىّ وقد استوى النحو العربىّ على سوقه أو كاد، فقد فرغ النحاة الأوائل من وضع الأصول وتمهيد الفروع، ولم يكد أبو الفتح بن جنى يضع قلمه المبدع بعد هذه التصانيف الجياد التى نفذ بها إلى أسرار العربية، حتى كان هذا إيذانا ببدء مرحلة جديدة من التصنيف النحوى، يعكف فيها النحاة على هذا الموروث العظيم الذى آل إليهم: كشفا عن أسراره، ونفاذا إلى دقائقه، وتنبيها على غوامضه، واستدراكا لفائته.
ونعم كان للجيل الذى تلا ابن جنى آراء مبتكرة، والعربية فسيحة الأرجاء، متراحبة الأطراف، وقد يفتح الله على الأواخر بما لم يفتح به على الأوائل، ولكن يظلّ الفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما ترى من الفرق بين الجدول الصغير والبحر الزخّار، ولو أتيح لكل مصنّفات الأوائل أن تذيع وتنتشر-وخاصة تصانيف أبى على الفارسى -لظهر لك صدق هذا الكلام.
وابن الشجرىّ واحد من هذا النّفر الكريم الذين عرفوا للغتهم حقّها من دقّة النظر، وحسن الفقه، وكريم الرعاية. ولقد عكف على ذلك الحصاد الطيب الذى سبق به الأوائل: شارحا ومفسّرا، ومتعقّبا وناقدا، ومضيفا ومستدركا.
وقد جمعت له أربعة وستّين رأيا، ذكرتها وأوردت ما قيل حولها من آراء النحاة، استحسانا أو نقدا، وناقشته وناقشتهم فى بعضها.
وقد وقفت عند ظاهرتين غلبتا على أمالى ابن الشجرىّ، ولم يكد يخلو منهما مجلس من مجالسه، وهما ظاهرة الإعراب وظاهرة الحذوف، وقد رأيت أن أفرد كلّ ظاهرة منهما بكلمة، إذ كان جمهور مسائل النحو راجعا إليهما ومبنيّا عليهما، ثم
المقدمة / 6