وقد قدّمت لهذا التحقيق بدراسة أدرتها على ثلاثة أبواب:
تحدثت فى الباب الأول عن حياة ابن الشجرىّ وتقلّبه فى العالمين. ولم أسرف فى الحديث عن التحولات السياسيّة والاجتماعية التى طرأت على المجتمع البغدادىّ فى العصر الذى عاش فيه ابن الشجرىّ-وهو عصر السّلاجقة-إذ كان ذلك ممّا يلتمس من مظانّه من كتب التاريخ. ثم إنّى لم أحاول أيضا أن أتصيّد مظاهر علوّ لهذا العصر الذى عاشه ابن الشجرىّ، ذلك أن كثيرا من الدراسين يخطئون حين يسرفون فى تقسيم عصور الفكر العربى إلى عصور علوّ وعصور انحطاط. وإن المتتبّع لحركة الفكر العربى فى عصوره المختلفة يروعه هذا الحشد الهائل من العلماء وطلاب المعرفة، فلم يكد ينتصف القرن الثانى الهجرى، وأظلّ عصر التدوين والتسجيل حتى اندفع العلماء فى التنصيف والجمع، وعمرت حلقات الدّرس بالطلاب، وزخرت المكتبات بالمصنّفات فى شتّى فروع الثقافة. وقد شمل هذا النشاط العالم الإسلامىّ كلّه، مشرقه ومغربه، ولم يفضل عصر أو مصر سواهما إلاّ ما يكون من بعض الفروق الهيّنة التى تفرضها طبائع الزمان والمكان، أمّا حركة العقل العربىّ من حيث هى فلم تخمد جذوتها، ولم تسكن حدّتها، بتغيّر الحكّام وتبدّل الأيام، وإن أردت أن تعرف صدق ما أقول فانظر إلى ما اشتمل عليه القرنان السادس والسابع من كبار المفكّرين والعلماء، وأنت تعلم أن هذين القرنين قد شهدا أعنف هجوم تعرّضت له الأمة الإسلامية: الحروب الصليبية، والغزوة التّتريّة، وقد كان هذا الهجوم الكاسح كفيلا بالقضاء على هذه الأمة الإسلامية لولا دفع الله وصيانته، بما أودعه فى روح العقيدة الإسلامية من عوامل النماء والبقاء والازدهار.
أمّا ما تسمعه الآن من ثرثرة حول الحروب، وما تحدثه من إحباط وانكسار، فهو من التعلاّت الباطلة، والكذب على النفس، وكلّ أولئك مما يلجأ إليه الضّعفة ويحتمى به الكسالى، وإنما هو فساد الزمان وسقوط الهمم.
ودعك من الدراسات الحديثة التى تعكس وجهات نظر أصحابها، واصبر نفسك مع تلك الكتب التراثية الموسوعيّة فى فنّ التراجم-وليس كالتراجم كاشفا لتاريخنا الحضارىّ، ومسيرتنا الثقافية-مثل سير أعلام النبلاء، لأبى عبد الله الذهبىّ
المقدمة / 4