جاء قوم من بني سعد بن زيد مناة بت تميم إلى دعفل النسَّابة، فسلَّموا عليه وهو مولِّي ظهرة الشمس في مشرقه له، فردَّ عليهم من غير أن يلتفت إليهم، ثم قال لهم: من القوم؟ قالوا: نحن سادة مضر. قال: أنتم إذًا قريش الحرم، أهل العزِّ والقدم، والفضل والكرم، والرأي في البهم؛ قالوا: لسنا منهم، قال: لا؟ قالوا: لا. قال: فأنتم إذًا سُليم فوارس عضاضها، ومناع أعراضها؛ قالوا: لسنا بهم. قال: لا؟ قالوا: لا. قال: فأنت إذًا بنو حنظلة أكرمها جدودًا وأسهلها خدودًا وألينا جلودًا، قالوا لسنا بهم، قال: لا؟ قالوا: لا قال: فلا أراكم إِلاَّ من زمعات مضر، وأنتم تأبون إِلاَّ أن تترقَّوا في الغلاضم منهم، اذهبوا لا كثَّر الله بكم من قلة، ولا أعزَّ بكم من ذلة.
أخبرنا أبو عبد الله المرزباني، قال: حدثني أبو عبد الله الحكيمي، قال: حدثني يموت بن المزرَّع، قال: حدثني أبو زينب علي بن ثابت، قال: قال الأصمعيُّ: تصرفت في الأسباب عن باب الرشيد مَؤَملًا للظفر به، والوصول إليه، حتى إذا صرتُ إلى بعض حرسه خَدِينًا، فإني في ليلة قد نثرتِ السعادة والتوفيق فيها الأَرَقَ بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أبا لحضرة أحد يُنشد الشعر؟ فقلت: الله أكبر! رُبَّ قيد مضيقةٍ قد حلَّه التيسير، فقال لي الخادم: ادخل، فلعلَّها أن تكون ليلة تُعَرِّس في صباحها بالغنى، إن فُزْت بالحضوة عند أمير المؤمنين، فدخلتُ، فواجهتُ الرشيد في بهوه، والفضل بن يحيى إلى جانبه، فوقف الخادم بي بحيث يسمع التسليم، فردَّ السلام، ثم قال: يا غلام، أرِحْهُ قليلًا يُفرح روعه؛ إن كان قد وجد للروعة حِسًا، فدنوتُ قليلًا، ثم قلتُ: يا أمير المؤمنين، إضاءة مجدك، وبهاء كرمك، مجيران لمن نظر إليك عن اعتراض أذيَّة؛ فقال: ادْنُ، فدنوتُ، فقال: أساعر أم راوية؟ فقلتُ: راوية لكلِّ ذي جدٍ وهزلٍ، بعد أن يكون مُحسنًا. فقال: تالله ما رأيتُ ادِّعاءً أعمَّ! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين، فقال: " وقد أنصفَ القارةَ مَن راماها "؛ ثم قال: ما معنى هذه الكلمة بِدئًا؟ قلتُ: فيها قولان، القارةُ هي الحرَّةُ من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماةً للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو حسّان، فواقف عسكره عسكرًا للسغدِ، فخرج فارس من السغد، وقد وضع سهمه في كبد قوسه فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: أنصف القارة مَن راماها، فقال لي الرشيد: أصبْتَ، ثم قال: أتروي لرؤبة بن العجاج، والعجاج شيئًا؟ فقلتُ: هما شاهدان لك بالقوافي، وإن غُيِّبا عن بصرك بالأشخاص؛ فأخرج من ثِنْيِ فرشِهِ رقعة، ثم قال: أنشدني " من الزجر "
أرَّقني طارقُ هَمٍّ أرَقا
فمضيت فيها مضيّ الجواد في متن ميدانه، تهدر بي أشداقي، فلما صرتُ إلى مديحه لبني أُميَّة ثنيتُ لساني إلى امتداحه للمنصور في قوله:
قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ
فلما رآني قد عدلتُ من أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرةْ أم عن عمدٍ؟ قلت: عن عمدٍ تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده، فقال الفضل: أحسنت بارك الله عليك! مثلك يؤهل لمصل هذا المجلس، فلما أتيت على آخرها، قال لي الرشيد: أتروي كلمة عديّ بن الرقاع: " من الكامل "
عَرَفَ الديارَ تَوَهُّمًا فاعْتادَها
قلتُ: نعم، قال: هات، فمضيتُ فيها حتى إذا صرتُ إلى وصفه الجمل قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعتنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جملٍ أجْرَب، فقال الرشيد: اسكت، فالإبل هي التي أخرجتك عن دارك، واستلبتْ تاج ملكك، ثم ماتت وعُملتْ جلودها سياطًا ضُربتَ بها أنت وقومك، فقال الفضل: لقد عوقب على غير ذنبٍ، والحمد لله! فقال الرشيد: أخطأتَ، الحمد لله على النِّعم، ولو قلت. وأستغفر الله لكنتَ مُصيبًا، ثم قال لي: امض في أمرك، فأنشدتُهُ حتى إذا بلغتُ إلى قوله:
تُزْجى أغَنَّ كَأَنَّ إبرةَ رَوْقِهِ
استوى جالسًا وقال: أتحفظ في هذا ذكرًا؟ قلتُ: نعم، ذكرت الرواة أنَّ الفرزدق قال: كنتُ في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدئ عديُّ في قصيدته قلت لجرير مُسرًّا إليه: هلُمَّ نسخر من هذا الشاميّ، فلما ذُقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال:
تُزجي أغنّ كأنّ إبرةَ روقِهِ
1 / 18